تفسير سورة الحجر ايه 71\\\\91
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الحجر ايه 71\\91
قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم، وما قد أحاط بهم من البلاء، وماذا يُصبحهم من العذاب المستقر؛ ولهذا قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) أقسم تعالى بحياة نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم، ومقام رفيع وجاه عريض.
قال عمرو بن مالك النُّكْري عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، أنه قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) [يقول: وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا " إنهم لفي سكرتهم يعمهون"] رواه ابن جرير.
وقال قتادة: ( فِي سَكْرَتِهِمْ ) أي: في ضلالتهم، ( يَعْمَهُونَ ) أي: يلعبون.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( لَعَمْرُكَ ) لعيشك، ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال: يتحيرون
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
يقول: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس، وهو طلوعها، وذلك مع رفع بلادهم إلى عَنان السماء ثم قلْبها، وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم. وقد تقدم الكلام على السجيل في [سورة] هود بما فيه كفاية.
وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) أي: إن آثار هذه النقم ظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسَّمه بعين بصره وبصيرته، كما قال مجاهد في قوله: ( لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال: المتفرسين.
وعن ابن عباس، والضحاك: للناظرين. وقال قتادة: للمعتبرين. وقال مالك عن بعض أهل المدينة: ( لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) للمتأملين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن كثير العَبْدي، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا فِرَاسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله". ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ )
رواه الترمذي، وابن جرير، من حديث عمرو بن قيس الملائي وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثني أحمد بن محمد الطوسي، حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الفرات بن السائب، حدثنا ميمون بن مِهْران، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فِرَاسَة المؤمن؛ فإن المؤمن ينظر بنور الله" اضغط هنا
وقال ابن جرير: حدثني أبو شرحبيل الحِمْصِيّ، حدثنا سليمان بن سلمة، حدثنا المُؤَمَّل بن سعيد بن يوسف الرحبي، حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي، حدثنا وهب بن مُنَبِّه، عن طاوس بن كَيْسَان، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احذروا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله" اضغط هنا
وقال أيضًا: حدثنا عبد الأعلى بن واصل، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا عبد الواحد بن واصل، حدثنا أبو بشر المزلق، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسم" اضغط هنا
ورواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا سهل بن بحر، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو بشر -يقال له: ابن المزلق، قال: وكان ثقة -عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسم"
وقوله: ( وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) أي: وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي، والقذف بالحجارة، حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة لبطريق مَهْيَع مسالكه مستمرة إلى اليوم، كما قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138]
وقال مجاهد، والضحاك: ( وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) قال: مُعَلَّم. وقال قتادة: بطريق واضح. وقال قتادة أيضًا: بصقع من الأرض واحد.
وقال السدي: بكتاب مبين، يعني كقوله: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12] ولكن ليس المعنى على ما قال هاهنا، والله أعلم.
وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي: إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله، لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله.
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
أصحاب الأيكة: هم قوم شعيب.
قال الضحاك، وقتادة، وغيرهما: الأيكة: الشجر الملتف.
وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان. فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة، وقد كانوا قريبًا من قوم لوط، بَعْدَهم في الزمان، ومسامتين لهم في المكان؛ ولهذا قال تعالى: ( وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) أي: طريق مبين.
قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: طريق ظاهر؛ ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم: وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
أصحاب الحجر هم: ثمود الذين كذبوا صالحا نبيهم، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين؛ ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين.
وذكر تعالى أنه آتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح، كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء فكانت تسرح في بلادهم، لها شرب ولهم شرب يوم معلوم. فلما عَتَوا وعقروها قال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: 65] وقال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17]
وذكر تعالى: أنهم ( كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ) أي: من غير خوف ولا احتياج إليها، بل أشرا وبطرا وعبثا، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر، الذي مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فَقَنَّع رأسه وأسرع دابته، وقال لأصحابه: "لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم" اضغط هنا
وقوله: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) أي: وقت الصباح من اليوم الرابع، ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي: ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضَنُّوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه، فما دفعت عنهم تلك الأموال، ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (86)
يقول تعالى: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ ) أي: بالعدل؛ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] وقال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 115-116]
ثم أخبر نبيه بقيام الساعة، وأنها كائنة لا محالة، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين، في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به، كما قال تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 89]
وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: كان هذا قبل القتال. وهو كما قالا فإن هذه مكية، والقتال إنما شرع بعد الهجرة.
وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق ما يشاء، وهو العليم بما تمزق من الأجساد، وتفرق في سائر أقطار الأرض، كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 81-83] .
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
يقول تعالى لنبيه: كما آتيناك القرآن العظيم، فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك، ومخالفتهم دينك. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] أي: ألِن لهم جانبك كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]
وقد اختلف في السبع المثاني: ما هي؟
فقال ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك وغير واحد: هي السبع الطُّوَل. يعنون: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، نص عليه ابن عباس، وسعيد بن جبير.
وقال سعيد: بيَّن فيهن الفرائض، والحدود، والقصص، والأحكام.
وقال ابن عباس: بين الأمثال والخَبَر والعِبَر
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان: ( الْمَثَانِي ) الْمُثَنَّى : البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال وبراءة سورة واحدة.
قال ابن عباس: ولم يُعْطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطي موسى منهن
ثنتين. رواه هُشَيْم، عن الحجاج، عن الوليد بن العيزار عن سعيد بن جبير عنه.
[و] قال الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أوتي النبي صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطُّوَل، وأوتي موسى، عليه السلام، ستًّا، فلما ألقى الألواح ارتفع اثنتان وبقيت أربع.
وقال مجاهد: هي السبع الطُوَل. ويقال: هي القرآن العظيم.
وقال خَصِيف، عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى: ( سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال: أعطيتك سبعة أجزاء: آمر، وأنهى، وأبشر وأنذر، وأضرب الأمثال، وأعدد النعم، وأنبئك بنبأ القرآن. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
والقول الثاني: أنها الفاتحة، وهي سبع آيات. رُوي ذلك عن عمر وعلي، وابن مسعود، وابن عباس. قال ابن عباس: والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصكم الله بها. وبه قال إبراهيم النخعي، وعبد الله بن عبيد بن عُمَيْر، وابن أبي مليكة، وشَهْر بن حَوْشَب، والحسن البصري، ومجاهد.
وقال قتادة: ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب، وأنهن يثنين في كل قراءة. وفي رواية: في كل ركعة مكتوبة أو تطوع.
واختاره ابن جرير، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد قدمناها في فضائل سورة "الفاتحة" في أول التفسير، ولله الحمد.
وقد أورد البخاري، رحمه الله، هاهنا حديثين:
أحدهما: قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدر، حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي، فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: "ما منعك أن تأتيني ؟". فقلت: كنت أصلي. فقال: "ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ [الأنفال: 24] ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ؟" فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته"
[و] الثاني: قال: حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أم القرآن هي: السبع المثاني والقرآن العظيم"
فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم، ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطُّوَل بذلك، لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضًا، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر: 23] فهو مثاني من وجه، ومتشابه من وجه، وهو القرآن العظيم
أيضًا، كما أنه، عليه السلام لما سُئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأشار إلى مسجده، والآية نـزلت في مسجد قُباء، فلا تنافي، فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة، والله أعلم.
وقوله: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) أي: استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية.
ومن هاهنا ذهب ابن عُيَيْنَة إلى تفسير الحديث الصحيح: "ليس منا من لم يتغَنَّ بالقرآن" إلى أنه يُستغنى به عما عداه، وهو تفسير صحيح، ولكن ليس هو المقصود من الحديث، كما تقدم في أول التفسير.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن وَكِيع بن الجراح، حدثنا موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي رافع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود: يقول لك محمد رسول الله: أسلفني دقيقا إلى هلال رجب. قال: لا إلا بِرَهْن. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم [فأخبرته] فقال: "أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه". فلما خرجت من عنده نـزلت هذه الآية: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) إلى آخر الآية. [طه: 131] كأنه يعزيه عن الدنيا اضغط هنا
وقال العوفي، عن ابن عباس: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) قال: نهي الرجل أن يتمنى مال صاحبه.
وقال مجاهد: ( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) هم الأغنياء.
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
يأمر تعالى نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، أن يقول للناس: إنه ( النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) البين النذارة، نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها، وما أنـزل الله عليهم من العذاب والانتقام.
وقوله: ( الْمُقْتَسِمِينَ ) أي: المتحالفين، أي: تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم، كما قال تعالى إخبارًا عن قوم صالح أنهم: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل: 49] أي: نقتلهم ليلا قال مجاهد: تقاسموا: تحالفوا.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم: 44] أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ [الأعراف: 49] فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه، فسموا مقتسمين.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقتسمون أصحاب صالح، الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله.
وفي الصحيحين، عن أبي موسى [الأشعري] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكَذب ما جئت به من الحق"
هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم، وما قد أحاط بهم من البلاء، وماذا يُصبحهم من العذاب المستقر؛ ولهذا قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) أقسم تعالى بحياة نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم، ومقام رفيع وجاه عريض.
قال عمرو بن مالك النُّكْري عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، أنه قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) [يقول: وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا " إنهم لفي سكرتهم يعمهون"] رواه ابن جرير.
وقال قتادة: ( فِي سَكْرَتِهِمْ ) أي: في ضلالتهم، ( يَعْمَهُونَ ) أي: يلعبون.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( لَعَمْرُكَ ) لعيشك، ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال: يتحيرون
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
يقول: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس، وهو طلوعها، وذلك مع رفع بلادهم إلى عَنان السماء ثم قلْبها، وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم. وقد تقدم الكلام على السجيل في [سورة] هود بما فيه كفاية.
وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) أي: إن آثار هذه النقم ظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسَّمه بعين بصره وبصيرته، كما قال مجاهد في قوله: ( لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال: المتفرسين.
وعن ابن عباس، والضحاك: للناظرين. وقال قتادة: للمعتبرين. وقال مالك عن بعض أهل المدينة: ( لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) للمتأملين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن كثير العَبْدي، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا فِرَاسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله". ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ )
رواه الترمذي، وابن جرير، من حديث عمرو بن قيس الملائي وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثني أحمد بن محمد الطوسي، حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الفرات بن السائب، حدثنا ميمون بن مِهْران، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فِرَاسَة المؤمن؛ فإن المؤمن ينظر بنور الله" اضغط هنا
وقال ابن جرير: حدثني أبو شرحبيل الحِمْصِيّ، حدثنا سليمان بن سلمة، حدثنا المُؤَمَّل بن سعيد بن يوسف الرحبي، حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي، حدثنا وهب بن مُنَبِّه، عن طاوس بن كَيْسَان، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احذروا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله" اضغط هنا
وقال أيضًا: حدثنا عبد الأعلى بن واصل، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا عبد الواحد بن واصل، حدثنا أبو بشر المزلق، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسم" اضغط هنا
ورواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا سهل بن بحر، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو بشر -يقال له: ابن المزلق، قال: وكان ثقة -عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسم"
وقوله: ( وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) أي: وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي، والقذف بالحجارة، حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة لبطريق مَهْيَع مسالكه مستمرة إلى اليوم، كما قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138]
وقال مجاهد، والضحاك: ( وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) قال: مُعَلَّم. وقال قتادة: بطريق واضح. وقال قتادة أيضًا: بصقع من الأرض واحد.
وقال السدي: بكتاب مبين، يعني كقوله: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12] ولكن ليس المعنى على ما قال هاهنا، والله أعلم.
وقوله: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي: إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله، لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله.
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
أصحاب الأيكة: هم قوم شعيب.
قال الضحاك، وقتادة، وغيرهما: الأيكة: الشجر الملتف.
وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان. فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة، وقد كانوا قريبًا من قوم لوط، بَعْدَهم في الزمان، ومسامتين لهم في المكان؛ ولهذا قال تعالى: ( وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ) أي: طريق مبين.
قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: طريق ظاهر؛ ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم: وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
أصحاب الحجر هم: ثمود الذين كذبوا صالحا نبيهم، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين؛ ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين.
وذكر تعالى أنه آتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح، كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء فكانت تسرح في بلادهم، لها شرب ولهم شرب يوم معلوم. فلما عَتَوا وعقروها قال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: 65] وقال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17]
وذكر تعالى: أنهم ( كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ ) أي: من غير خوف ولا احتياج إليها، بل أشرا وبطرا وعبثا، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر، الذي مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فَقَنَّع رأسه وأسرع دابته، وقال لأصحابه: "لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم" اضغط هنا
وقوله: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) أي: وقت الصباح من اليوم الرابع، ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي: ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضَنُّوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه، فما دفعت عنهم تلك الأموال، ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (86)
يقول تعالى: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ ) أي: بالعدل؛ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] وقال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 115-116]
ثم أخبر نبيه بقيام الساعة، وأنها كائنة لا محالة، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين، في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به، كما قال تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 89]
وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: كان هذا قبل القتال. وهو كما قالا فإن هذه مكية، والقتال إنما شرع بعد الهجرة.
وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق ما يشاء، وهو العليم بما تمزق من الأجساد، وتفرق في سائر أقطار الأرض، كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 81-83] .
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
يقول تعالى لنبيه: كما آتيناك القرآن العظيم، فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك، ومخالفتهم دينك. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] أي: ألِن لهم جانبك كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]
وقد اختلف في السبع المثاني: ما هي؟
فقال ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك وغير واحد: هي السبع الطُّوَل. يعنون: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، نص عليه ابن عباس، وسعيد بن جبير.
وقال سعيد: بيَّن فيهن الفرائض، والحدود، والقصص، والأحكام.
وقال ابن عباس: بين الأمثال والخَبَر والعِبَر
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان: ( الْمَثَانِي ) الْمُثَنَّى : البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال وبراءة سورة واحدة.
قال ابن عباس: ولم يُعْطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطي موسى منهن
ثنتين. رواه هُشَيْم، عن الحجاج، عن الوليد بن العيزار عن سعيد بن جبير عنه.
[و] قال الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أوتي النبي صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطُّوَل، وأوتي موسى، عليه السلام، ستًّا، فلما ألقى الألواح ارتفع اثنتان وبقيت أربع.
وقال مجاهد: هي السبع الطُوَل. ويقال: هي القرآن العظيم.
وقال خَصِيف، عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى: ( سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ) قال: أعطيتك سبعة أجزاء: آمر، وأنهى، وأبشر وأنذر، وأضرب الأمثال، وأعدد النعم، وأنبئك بنبأ القرآن. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
والقول الثاني: أنها الفاتحة، وهي سبع آيات. رُوي ذلك عن عمر وعلي، وابن مسعود، وابن عباس. قال ابن عباس: والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصكم الله بها. وبه قال إبراهيم النخعي، وعبد الله بن عبيد بن عُمَيْر، وابن أبي مليكة، وشَهْر بن حَوْشَب، والحسن البصري، ومجاهد.
وقال قتادة: ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب، وأنهن يثنين في كل قراءة. وفي رواية: في كل ركعة مكتوبة أو تطوع.
واختاره ابن جرير، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد قدمناها في فضائل سورة "الفاتحة" في أول التفسير، ولله الحمد.
وقد أورد البخاري، رحمه الله، هاهنا حديثين:
أحدهما: قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدر، حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي، فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: "ما منعك أن تأتيني ؟". فقلت: كنت أصلي. فقال: "ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ [الأنفال: 24] ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ؟" فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته"
[و] الثاني: قال: حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أم القرآن هي: السبع المثاني والقرآن العظيم"
فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم، ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطُّوَل بذلك، لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضًا، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر: 23] فهو مثاني من وجه، ومتشابه من وجه، وهو القرآن العظيم
أيضًا، كما أنه، عليه السلام لما سُئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأشار إلى مسجده، والآية نـزلت في مسجد قُباء، فلا تنافي، فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة، والله أعلم.
وقوله: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) أي: استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية.
ومن هاهنا ذهب ابن عُيَيْنَة إلى تفسير الحديث الصحيح: "ليس منا من لم يتغَنَّ بالقرآن" إلى أنه يُستغنى به عما عداه، وهو تفسير صحيح، ولكن ليس هو المقصود من الحديث، كما تقدم في أول التفسير.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن وَكِيع بن الجراح، حدثنا موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي رافع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود: يقول لك محمد رسول الله: أسلفني دقيقا إلى هلال رجب. قال: لا إلا بِرَهْن. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم [فأخبرته] فقال: "أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه". فلما خرجت من عنده نـزلت هذه الآية: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) إلى آخر الآية. [طه: 131] كأنه يعزيه عن الدنيا اضغط هنا
وقال العوفي، عن ابن عباس: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) قال: نهي الرجل أن يتمنى مال صاحبه.
وقال مجاهد: ( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) هم الأغنياء.
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
يأمر تعالى نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، أن يقول للناس: إنه ( النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) البين النذارة، نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها، وما أنـزل الله عليهم من العذاب والانتقام.
وقوله: ( الْمُقْتَسِمِينَ ) أي: المتحالفين، أي: تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم، كما قال تعالى إخبارًا عن قوم صالح أنهم: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل: 49] أي: نقتلهم ليلا قال مجاهد: تقاسموا: تحالفوا.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم: 44] أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ [الأعراف: 49] فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه، فسموا مقتسمين.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقتسمون أصحاب صالح، الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله.
وفي الصحيحين، عن أبي موسى [الأشعري] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكَذب ما جئت به من الحق"
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الحجر ايه رقم 1\\\\\\16
» تفسير سورة الحجر ايه 16\\\32
» تفسير سورة الحجر ايه 32\\\\52
» تفسير سورة الحجر ايه 52\\\\71
» تفسير سورة الحجر ايه رقم1 الى 13 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه 16\\\32
» تفسير سورة الحجر ايه 32\\\\52
» تفسير سورة الحجر ايه 52\\\\71
» تفسير سورة الحجر ايه رقم1 الى 13 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى