تفسير سورة طه من الاية 88 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة طه من الاية 88 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
من الاية 88 الى الاية 98
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)
من أرض الذل , وعكفوا على عجل الذهب ; وفي بلاهة فكر وبلادة روح قالوا: (هذا إلهكم وإله موسى)راح يبحث عنه على الجبل , هو هنا معنا . وقد نسي موسى الطريق إلى ربه وضل عنه !
وهي قولة تضيف إلى معنى البلادة والتفاهة اتهامهم لنبيهم الذي أنقذهم تحت عين الله وسمعه , وبتوجيهه وإرشاده . اتهامهم له بأنه غير موصول بربه , حتى ليضل الطريق إليه , فلا هو يهتدي ولا ربه يهديه !
ذلك فضلا على وضوح الخدعةأفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا , ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ?)والمقصود أنه حتى لم يكن عجلا حيا يسمع قولهم ويستجيب له على عادة العجول البقرية ! فهو في درجة أقل من درجة الحيوانية . وهو بطبيعة الحال لا يملك لهم ضرا ولا نفعا في أبسط صورة . فهو لا ينطح ولا يرفس ولا يدير طاحونة ولا ساقية !
وغير ذلك كله لقد نصح لهم هارون , وهو نبيهم كذلك , والنائب عن نبيهم المنقذ . ونبههم إلى أن هذا ابتلاء . قال: (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن)ونصحهم بإتباعه وطاعته كما تواعدوا مع موسى , وهو عائد إليهم بعد ميعاده مع ربه على الجبل . . ولكنهم بدلا من الاستجابة له التووا وتملصوا من نصحه , ومن عهدهم لنبيهم بطاعته , وقالوا: (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى). .
رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ; فسمع منهم حجتهم التي تكشف عن مدى ما أصاب نفوسهم من تخلخل , وأصاب تفكيرهم من فساد . فالتفت إلى أخيه وهو في فورة الغضب , يأخذ بشعر رأسه وبلحيته في انفعال وثورة:
(قال:يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن ? أفعصيت أمري ?).
يؤنبه على تركهم يعبدون العجل , دون أن يبطل عبادته , اتباعا لأمر موسى - عليه السلام - بألا يحدث أمرا بعده , ولا يسمح بإحداث أمر . ويستنكر عليه عدم تنفيذه , فهل كان ذلك عصيانا لأمره ?
وقد قرر السياق ما كان من موقف هارون . فهو يطلع أخاه عليه ; محاولا أن يهديء من غضبه , باستجاشة عاطفة الرحم في نفسه:
قال:با ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي . إني خشيت أن تقول:فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي . وهكذا نجد هارون أهدأ أعصابا وأملك لانفعاله من موسى , فهو يلمس في مشاعره نقطة حساسة . ويجيء له من ناحية الرحم وهي أشد حساسية , ويعرض له وجهة نظره في صورة الطاعة لأمره حسب تقديره ; وانه خشي إن هو عالج الأمر بالعنف أن يتفرق بنو إسرائيل شيعا , بعضها مع العجل , وبعضها مع نصيحة هارون . وقد أمره بأن يحافظ على بني إسرائيل ولا يحدث فيهم أمرا . فهي كذلك طاعة الأمر من ناحية أخرى . .
عندئذ يتجه موسى بغضبه وانفعاله إلى السامري صاحب الفتنة من أساسها . إنما لم يتوجه إليه منذ البدء , لأن القوم هم المسؤولون ألا يتبعوا كل ناعق , وهارون هو المسؤول أن يحول بينهم وبين اتباعه إذا هموا بذلك وهو قائدهم المؤتمن عليهم . فأما السامري فذنبه يجيء متأخرا لأنه لم يفتنهم بالقوة , ولم يضرب على عقولهم , إنما أغواهم فغووا , وكانوا يملكون أن يثبتوا على هدى نبيهم الأول ونصح نبيهم الثاني . فالتبعة عليهم أولا وعلى راعيهم بعد ذلك . ثم على صاحب الفتنة والغواية أخيرا .
اتجه موسى إلى السامري !
من الاية 99 الى الاية 134
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً (112) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134)
(قال:فما خطبك يا سامري ?). . أي ما شأنك وما قصتك . وهذه الصيغة تشير إلى جسامة الأمر , وعظم الفعلة .
(قال:بصرت بما لم يبصروا به , فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها . وكذلك سولت لي نفسي). .
وتتكاثر الروايات حول قول السامري هذا . فما هو الذي بصر به ? ومن هو الرسول الذي قبض قبضة من أثره فنبذها ? وما علاقة هذا بعجل الذهب الذي صنعه ? وما أثر هذه القبضة فيه ?
والذي يتردد كثيرا في هذه الروايات أنه رأى جبريل - عليه السلام - وهو في صورته التي ينزل بها إلى الأرض ; فقبض قبضة من تحت قدمه , أو من تحت حافر فرسه , فألقاها على عجل الذهب , فكان له هذا الخوار . أو إنها هي التي أحالت كوم الذهب عجلا له خوار .
والقرآن لا يقرر هنا حقيقة ما حدث , إنما هو يحكي قول السامري مجرد حكاية . . ونحن نميل إلى اعتبار هذا عذرا من السامري وتملصا من تبعة ما حدث . وأنه هو صنع العجل من الذهب الذي قذفه بنو إسرائيل من زينة المصريين التي أخذوها معهم , وأنه صنعه بطريقة تجعل الريح تصوت في فراغه فتحدث صوتا كالخوار . ثم قال حكاية أثر الرسول يبرر بها موقفه , ويرجع الأمر إلى فطنته إلى أثر الرسول !
وعلى أية حال فقد أعلنه موسى - عليه السلام - بالطرد من جماعة بني إسرائيل . مدة حياته . ووكل أمره بعد ذلك إلى الله . وواجهه بعنف في أمر إلهه الذي صنعه بيده . ليرى قومه بالدليل المادي أنه ليس إلها فهو لا يحمي صانعه , ولا يدفع عن نفسه:
(قال:فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول:لا مساس . وإن لك موعدا لن تخلفه . وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا , لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا). .
اذهب مطرودا لا يمسك أحد لا بسوء ولا بخير ولا تمس أحدا - وكانت هذه إحدى العقوبات في ديانة موسى . عقوبة العزل , وإعلان الدنس المدنس فلا يقربه أحد ولا يقرب أحدا -
أما الموعد الآخر فهو موعد العقوبة والجزاء عند الله . . وفي حنق وعنف أمر أن يهوى على عجل الذهب , فيحرق وينسف ويلقى في الماء . والعنف إحدى سمات موسى - عليه السلام - وهو هنا غضبة لله ولدين الله , حيث يستحب العنف وتحسن الشدة .
وعلى مشهد الإله المزيف يحرق وينسف , يعلن موسى - عليه السلام - حقيقة العقيدة .
(إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو . وسع كل شيء علما).
وينتهي بهذا الإعلان هذا القدر من قصة موسى في هذه السورة . تتجلى فيه رحمة الله ورعايته بحملة دعوته وعباده . حتى عندما يبتلون فيخطئون . ولا يزيد السياق شيئا من مراحل القصة بعد هذا , لأنه بعد ذلك يقع العذاب على بني إسرائيل بما يرتكبون من آثام وفساد وطغيان . وجو السورة هو جو الرحمة والرعاية بالمختارين . فلا حاجة إلى عرض مشاهد أخرى من القصة في هذا الجو الظليل .
الوحدة الثانية:99 - 135 الموضوع:من مشاهد القيامة وقصة آدم مواساة الرسول عليه السلام مقدمة الوحدة
بدأت السورة بالحديث عن القرآن , وأنه لم ينزل على الرسول [ ص ] ليشقى به أو بسببه . ومن القرآن قصة موسى - عليه السلام - وما يبدو فيها من رعاية الله وعنايته بموسى وأخيه وقومه .
فالآن يعقب السياق على القصة بالعودة إلى القرآن ووظيفته , وعاقبة من يعرض عنه . ويرسم هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة , تتضاءل فيه أيام الحياة الدنيا ; وتتكشف الأرض من جبالها وتعرى , وتخشع الأصوات للرحمن , وتعنو الوجوه للحي القيوم . لعل هذا المشهد وما في القرآن من وعيد يثير مشاعر التقوى في النفوس , ويذكرها بالله ويصلها به . . وينتهي هذا المقطع بإراحة بال الرسول [ ص ] من القلق من ناحية القرآن الذي ينزل عليه , فلا يعجل في ترديده خوف أن ينساه , ولا يشقى بذلك فالله ميسره وحافظه . إنما يطلب من ربه أن يزيده علما .
وبمناسبة حرص الرسول [ ص ] على أن يردد ما يوحي إليه قبل انتهاء الوحي خشية النسيان , يعرض السياق نسيان آدم لعهد الله . وينتهي بإعلان العداوة بينه وبين إبليس , وعاقبة من يتذكرون عهد الله ومن يعرضون عنه من ولد آدم . ويرسم هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة كأنما هو نهاية الرحلة التي بدأت في الملأ الأعلى , ثم تنتهي إلى هناك مرة أخرى .
وتختم السورة بتسلية الرسول [ ص ] عن إعراض المعرضين وتكذيب المكذبين فلا يشقى بهم , فلهم أجل معلوم . ولا يحفل بما أوتوه من متاع في الحياة الدنيا فهو فتنة لهم . وينصرف إلى عبادة الله وذكره فترضى نفسه وتطمئن . ولقد هلكت القرون من قبلهم , وشاء الله أن يعذر إليهم بالرسول الأخير , فلينفض يده من أمرهم ويكلهم إلى مصيرهم .
من الاية 135 الى آخر السورة
قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
(قل:كل متربص فتربصوا , فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى). .
الدرس الأول:99 - 114 من مشاهد القيامة وطبيعة هذا القرآن
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق , وقد آتيناك من لدنا ذكرا . من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا . خالدين فيه , وساء لهم يوم القيامة حملا يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا . يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا . نحن أعلم بما يقولون:إذ يقول أمثلهم طريقة:إن لبثتم إلا يوما . .
كذلك القصص الذي أوحينا إليك بشأن موسى نقص عليك من أنباء ما قد سبق . نقصه عليك في القرآن - ويسمى القرآن ذكرا , فهو ذكر لله ولآياته , وتذكير بما كان من هذه الآيات في القرون الأولى .
ويرسم للمعرضين عن هذا الذكر - ويسميهم المجرمين - مشهدا في يوم القيامة . فهؤلاء المجرمون يحملون أثقالهم كما يحمل المسافر أحماله . ويا لسوئها من أحمال ! فإذا نفخ في البوق للتجمع فالمجرمون يحشرون زرق الوجوه من الكدر والغم . يتخافتون بينهم بالحديث , لا يرفعون به صوتا من الرعب والهول , ومن الرهبة المخيمة على ساحة الحشر . وفيم يتخافتون ? إنهم يحدسون عما قضوا على الأرض من أيام . وقد تضاءلت الحياة الدنيا في حسهم , وقصرت أيامها في مشاعرهم , فليست في حسهم سوى أيام قلائل: (إن لبثتم إلا عشرا)فأما أرشدهم وأصوبهم رأيا فيحسونها أقصر وأقصر: (إن لبثتم إلا يوما). وهكذا تنزوي تلك الأعمار التي عاشوها على الأرض وتنطوي ; ويتضاءل متاع الحياة وهموم الحياة ; ويبدو ذلك كله فترة وجيزة في الزمان , وشيئا ضئيلا في القيمة . فما قيمة عشر ليال ولو حفلت باللذائذ كلها وبالمتاع ? وما قيمة ليلة ولو كانت دقائقها ولحظاتها مليئة بالسعادة والمسرة . ما قيمة هذه أو تلك إلى جانب الآماد التي لا نهاية لها , والتي تنتظرهم بعد الحشر وتمتد بهم بلا انقطاع ?!
ويزيد مشهد الهول بروزا , بالعودة إلى سؤال لهم يسألونه في الدنيا عن الجبال ما يكون من شأنها يومذاك . فإذا الجواب يصور درجة الهول الذي يواجهونه !
ويسألونك عن الجبال فقل:ينسفها ربي نسفا , فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا . يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له , وخشعت الأصوات للرحمن , فلا تسمع إلا همسا . يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا . يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما . وعنت الوجوه للحي القيوم , وقد خاب من حمل ظنا . ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما . .
ويتجلى المشهد الرهيب فإذا الجبال الراسية الراسخة قد نسفت نسفا ; وإذا هي قاع بعد ارتفاع . قاع صفصف خال من كل نتوء ومن كل اعوجاج , فلقد سويت الأرض فلا علو فيها ولا انخفاض . .
وكأنما تسكن العاصفة بعد ذلك النسف والتسوية ; وتنصت الجموع المحشودة المحشورة , وتخفت كل حركة وكل نأمة , ويستمعون الداعي إلى الموقف فيتبعون توجيهه كالقطيع صامتين مستسلمين , لا يتلفتون ولا يتخلفون - وقد كانوا يدعون إلى الهدى فيتخلفون ويعرضون - ويعبر عن استسلامهم بأنهم (يتبعون الداعي لا عوج له)تنسيقا لمشهد القلوب والأجسام مع مشهد الجبال التي لا عوج فيها ولا نتوء !
ثم يخيم الصمت الرهيب والسكون الغامر: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا). . (وعنت الوجوه للحي القيوم). .
وهكذا يخيم الجلال على الموقف كله , وتغمر الساحة التي لا يحدها البصر رهبة وصمت وخشوع . فالكلام همس . والسؤال تخافت . والخشوع ضاف . والوجوه عانية . وجلال الحي القيوم يغمر النفوس بالجلالالرزين . ولا شفاعة إلا لمن ارتضى الله قوله . والعلم كله لله . وهم لا يحيطون به علما . والظالمون يحملون ظلمهم فيلقون الخيبة . والذين آمنوا مطمئنون لا يخشون ظلما في الحساب ولا هضما لما عملوا من صالحات . إنه الجلال , يغمر الجو كله ويغشاه , في حضرة الرحمن .
(وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا). كذلك على هذا النسق نوعنا في القرآن من صور الوعيد ومواقفه ومشاهده لعله يستجيش في نفوس المكذبين شعور التقوى , أو يذكرهم بما سيلقون في الآخرة فينزجروا . . فذلك إذ يقول الله في أول السورة .(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى). .
ولقد كان الرسول [ ص ] يلاحق الوحي فيردد ألفاظ القرآن وآياته قبل أن ينتهي الوحي مخافة أن ينسى . وكان ذلك يشق عليه . فأراد ربه أن يطمئن قلبه على الأمانة التي يحملها .
(فتعالى الله الملك الحق . ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . وقل:رب زدني علما). .
فتعالى الله الملك الحق الذي تعنو له الوجوه ; ويخيب في حضرته الظالمون ويأمن في ظله المؤمنون الصالحون . . هو منزل هذا القرآن من عليائه , فلا يعجل به لسانك , فقد نزل القرآن لحكمة , ولن يضيعه . إنما عليك أن تدعو ربك ليزيدك من العلم , وأنت مطمئن إلى ما يعطيك , لا تخشى عليه الذهاب . وما العلم إلا ما يعلمه الله فهو الباقي الذي ينفع ولا يضيع . ويثمر ولا يخيب .
الدرس الثاني:115 - 127 قصة آدم وتعقيب عليها
ثم تجيء قصة آدم , وقد نسي ما عهد الله به إليه ; وضعف أمام الإغراء بالخلود , فاستمع لوسوسة الشيطان:وكان هذا ابتلاء من ربه له قبل أن يعهد إليه بخلافة الأرض ; ونموذجا من فعل إبليس يتخذ أبناء آدم منه عبرة . فلما تم الابتلاء تداركت آدم رحمة الله فاجتباه وهداه . .
والقصص القرآني يجيء في السياق متناسقا معه . وقصة آدم هنا تجيء بعد عجلة الرسول بالقرآن خوف النسيان , فيذكر في قصة آدم نقطة النسيان . وتجيء في السورة التي تكشف عن رحمة الله ورعايته لمن يجتبيهم من عباده , فيذكر في قصة آدم أن ربه اجتباه فتاب عليه وهداه . ثم يعقبها مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة الطائعين من أبنائه وعاقبة العصاة . وكأنما هي العودة من رحلة الأرض إلى المقر الاول ليجزى كل بما قدمت يداه .
فلنتبع القصة كما جاءت في السياق:
(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما). .
وعهد الله إلى آدم كان هو الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة , تمثل المحظور الذي لا بد منه لتربية الإرادة , وتأكيد الشخصية , والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عندما تريد ; فلا تستعبدها الرغائب وتقهرها . وهذا هو المقياس الذي لا يخطئ في قياس الرقي البشري . فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سلم الرقي البشري . وكلما ضعفت أمام الرغبة وتهاوت كانت أقرب إلى البهيمية وإلى المدارج الأولى .
من أجل ذلك شاءت العناية الإلهية التي ترعى هذا الكائن الإنساني أن تعده لخلافة الأرض باختبار إرادته , وتنبيه قوة المقاومة فيه , وفتح عينيه على ما ينتظره من صراع بين الرغائب التي يزينها الشيطان , وإرادتهوعهده للرحمن . وها هي ذي التجربة الأولى تعلن نتيجتها الأولى: (فنسي ولم نجد له عزما)ثم تعرض تفصيلاتها:
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى). .
هكذا في إجمال , يجيء هذا المشهد الذي يفصل في سور أخرى , لأن السياق هنا سياق النعمة والرعاية . . فيعجل بمظاهر النعمة في الرعاية:
(فقلنا:يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك , فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى , إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى , وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى). .
وكانت هذه رعاية من الله وعنايته أن ينبه آدم إلى عدوه ويحذره غدره , عقب نشوزه وعصيانه , والامتناع عن السجود لآدم كما أمره ربه . (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)فالشقاء بالكد والعمل والشرود والضلال والقلق والحيرة واللهفة والانتظار والألم والفقدان . . كلها تنتظر هناك خارج الجنة ; وأنت في حمى منها كلها ما دمت في رحاب الفردوس . .(إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى . وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى). . فهذا كله مضمون لك ما دمت في رحابها , والجوع والعري , يتقابلان مع الظمأ والضحوة . وهي في مجموعها تمثل متاعب الإنسان الأولى في الحصول على الطعام والكساء , والشراب والظلال .
ولكن آدم كان غفلا من التجارب . وهو يحمل الضعف البشري تجاه الرغبة في البقاء والرغبة في السلطان . ومن هذه الثغرة نفذ إليه الشيطان:
(فوسوس إليه الشيطان قال:يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ?)
لقد لمس في نفسه الموضع الحساس , فالعمر البشري محدود , والقوة البشرية محدودة . من هنا يتطلع إلى الحياة الطويلة وإلى الملك الطويل , ومن هاتين النافذتين يدخل عليه الشيطان , وآدم مخلوق بفطرة البشر وضعف البشر , لأمر مقدور وحكمة مخبوءة . . ومن ثم نسي العهد , وأقدم على المحظور:
(فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما , وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة . . وعصى آدم ربه فغوى). .
والظاهر أنها السوءات الحسية تبدت لهما وكانت عنهما مستورة , وأنها مواضع العفة في جسديهما . يرجح ذلك أنهما أخذا يسترانها بورق الجنة يشبكانه ليستر هذه المواضع . وقد يكون ذلك إيذانا باستيقاظ الدوافع الجنسية في كيانهما . فقبل يقظة هذه الدوافع لا يحس الإنسان بالخجل من كشف مواضع العفة ولا ينتبه إليها ولكنه ينتبه إلى العورات عند استيقاظ دوافع الجنس ويخجل من كشفها .
وربما كان حظر هذه الشجرة عليهما , لأن ثمارها مما يوقظ هذه الدوافع في الجسم تأجيلا لها فترة من الزمان كما يشاء الله . وربما كان نسيانهما عهد الله وعصيانهما له تبعه هبوط في عزيمتهما وانقطاع عن الصلة بخالقهما فسيطرت عليهما دوافع الجسد وتنبهت فيهما دوافع الجنس . وربما كانت الرغبة في الخلود تجسمت في استيقاظ الدوافع الجنسية للتناسل ; فهذه هي الوسيلة الميسرة للإنسان للامتداد وراء العمر الفردي المحدود . . كل هذه فروض لتفسير مصاحبة ظهور سوآتهما لهما للأكل من الشجرة . فهو لم يقل:فبدت سوآتهما . إنما قال:فبدت لهما سوآتهما . مما يؤذن أنها كانت محجوبة عنهما فظهرت لهما بدافع داخلي من إحساسهما . . وقد جاء في موضع آخر عن إبليس: (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما), وجاء (ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما)وقد يكون اللباس الذي نزعه الشيطان ليس لباسا ماديا إنما هو شعور ساتر , قد يكون هو شعور البراءة والطهارة والصلة بالله . وعلى أية حال فهي مجرد فروض كما أسلفنا لا نؤكدهاولا نرجح واحدا منها . إنما هي لتقرب صورة التجربة الأولى في حياة البشرية .
ثم أدركت آدم وزوجه رحمة الله , بعدما عصاه , فقد كانت هذه هي التجربة الأولى:
(ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى). .
بعدما استغفر آدم وندم واعتذر . ولا يذكر هذا هنا لتبدو رحمة الله في الجو وحدها . .
ثم صدر الأمر إلى الخصمين اللدودين أن يهبطا إلى أرض المعركة الطويلة بعد الجولة الأولى:
(قال:اهبطا منها جميعا , بعضكم لبعض عدو). .
وبذلك أعلنت الخصومة في الثقلين . فلم يعد هناك عذر لآدم وبنيه من بعده أن يقول أحد منهم إنما أخذت على غرة ومن حيث لا أدري . فقد درى وعلم ; وأعلن هذا الأمر العلوي في الوجود كله: (بعضكم لبعض عدو)!
ومع هذا الإعلان الذي دوت به السماوات والأرضون , وشهده الملائكة أجمعون . شاءت رحمة الله بعباده أن يرسل إليهم رسله بالهدى . قبل أن يأخذهم بما كسبت أيديهم . فأعلن لهم يوم أعلن الخصومة الكبرى بين آدم وإبليس , أنه آتيهم بهدى منه , فمجاز كلا منهم بعد ذلك حسبما ضل أو اهتدى:
(فإما يأتينكم مني هدى , فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا , ونحشره يوم القيامة أعمى . قال:رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ? قال::كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه , ولعذاب الآخرة أشد وأبقى). .
يجيء هذا المشهد بعد القصة كأنه جزء منها , فقد أعلن عنه في ختامها في الملأ الأعلى . فذلك أمر إذن قضي فيه منذ بعيد ولا رجعة فيه ولا تعديل .
(فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى). . فهو في أمان من الضلال والشقاء باتباع هدى الله . وهما ينتظران خارج عتبات الجنة . ولكن الله يقى منهما من اتبع هداه . والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقا في المتاع . فهذا المتاع ذاته شقوة . شقوة في الدنيا وشقوة في الآخرة . وما من متاع حرام , إلا وله غصة تعقبه وعقابيل تتبعه . وما يضل الإنسان عن هدى الله إلا ويتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف لا يستقر ولا يتوازن في خطاه . والشقاء قرين التخبط ولو كان في المرتع الممرع ! ثم الشقوة الكبرى في دار البقاء . ومن اتبع هدى الله فهو في نجوة من الضلال والشقاء في الأرض , وفي ذلك عوض عن الفردوس المفقود , حتى يؤوب إليه في اليوم الموعود .
(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة , ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع . إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه . ضنك الحيرة والقلق والشك . ضنك الحرص والحذر:الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت . ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت . وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله . وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . . إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة , والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان .
(ومن أعرض عن ذكري)وانقطع عن الاتصال بي (فإن له معيشة ضنكا). . (ونحشره يوم القيامة أعمى). . وذلك ضلال من نوع ضلاله في الدنيا . وذلك جزاء على إعراضه عن الذكر في الأولى . حتىإذا سال: (رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ?)كان الجواب: (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه . ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)!
ولقد أسرف من أعرض عن ذكر ربه . أسرف فألقى بالهدى من بين يديه وهو أنفس ثراء وذخر , وأسرف في إنفاق بصره في غير ما خلق له فلم يبصر من آيات الله شيئا . فلا جرم يعيش معيشة ضنكا ! ويحشر في يوم القيامة أعمى !
اتساق في التعبير . واتساق في التصوير . . هبوط من الجنة وشقاء وضلال , يقابله عودة إلى الجنة ونجوة من الشقاء والضلال . وفسحة في الحياة يقابلها الضنك , وهداية يقابلها العمى . . ويجيء هذا تعقيبا على قصة آدم - وهي قصة البشرية جميعا - فيبدأ الاستعراض في الجنة , وينتهي في الجنة , كما مر في سورة الأعراف , مع الاختلاف في الصور الداخلة في الاستعراض هنا وهناك حسب اختلاف السياق . .
الدرس الثالث:128 - 129 لفت الأنظار إلى مصارع السابقين
فإذا انتهت هذه الجولة بطرفيها أخذ السياق في جولة حول مصارع الغابرين ; وهي أقرب في الزمان من القيامة , وهي واقع تشهده العيون إن كانت القيامة غيبا لا تراه الأبصار:
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ? إن في ذلك لآيات لأولي النهي . ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى . .
وحين تجول العين والقلب في مصارع القرون . وحين تطالع العين آثارهم ومساكنهم عن كثب , وحين يتملى الخيال الدور وقد خلت من أهلها الأول ; ويتصور شخوصهم الذاهبة , وأشباحهم الهاربة , وحركاتهم وسكناتهم , وخواطرهم وأحلامهم , وهمومهم وآمالهم . . حين يتأمل هذا الحشد من الأشباح والصور والانفعالات والمشاعر . . ثم يفتح عينه فلا يرى من ذلك كله شيئا إلا الفراغ والخواء . . عندئذ يستيقظ للهوة التي تفغر فاها لتبتلع الحاضر كما ابتلعت الغابر . وعندئذ يدرك يد القدرة التي أخذت القرون الأولى وهي قادرة على أن تأخذ ما يليها . وعندئذ يعي معنى الإنذار , والعبرة أمامه معروضة للأنظار . فما لهؤلاء القوم لا يهتدون وفي مصارع القرون ما يهدي أولي الألباب ?: (إن في ذلك لآيات لأولي النهى)!
ولولا أن الله وعدهم ألا يستأصلهم بعذاب الدنيا , لحكمة عليا . لحل بهم ما حل بالقرون الأولى . ولكنها كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى أمهلهم إليهولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما , وأجل مسمى).
الدرس الرابع:130 - 132 زاد الطريق في الصلاة والذكر والتسبيح
وإذا كانوا مؤخرين إلى أجل , ممهلين لا مهملين , فلا عليك - يا محمد - منهم ولا مما أوتوه من زينة الحياة الدنيا ليكون ابتلاء لهم , فإنما هي الفتنة , وما أعطاكه الله إنعاما فهو خير مما أعطاهم ابتلاء:
فاصبر على ما يقولون , وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها , ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى . ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لتفتنهم فيه , ورزق ربك خير وأبقى . وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى . .
فاصبر على ما يقولون من كفر واستهزاء وجحود وإعراض , ولا يضق صدرك بهم , ولا تذهب نفسك عليهم حسرات . واتجه إلى ربك . سبح بحمده قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . في هدأة الصبح وهو يتنفس ويتفتح بالحياة ; وفي هدأة الغروب والشمس تودع , والكون يغمض أجفانه , وسبح بحمده فترات منالليل والنهار . . كن موصولا بالله على مدار اليوم . . (لعلك ترضى). .
إن التسبيح بالله اتصال . والنفس التي تتصل تطمئن وترضى . ترضى وهي في ذلك الجوار الرضي ; وتطمئن وهي في ذلك الحمى الآمن .
فالرضى ثمرة التسبيح والعبادة , وهو وحده جزاء حاضر ينبت من داخل النفس ويترعرع في حنايا القلب .
اتجه إلى ربك بالعبادة (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم)من عرض الحياة الدنيا , من زينة ومتاع ومال وأولاد وجاه وسلطان . (زهرة الحياة الدنيا)التي تطلعها كما يطلع النبات زهرته لامعة جذابة . والزهرة سريعة الذبول على ما بها من رواء وزواق . فإنما نمتعهم بها ابتلاء (لنفتنهم فيه)فنكشف عن معادنهم , بسلوكهم مع هذه النعمة وذلك المتاع . وهو متاع زائل كالزهرة سرعان ما تذبل (ورزق ربك خير وأبقى)وهو رزق للنعمة لا للفتنة . رزق طيب خير باق لا يذبل ولا يخدع ولا يفتن .
وما هي دعوة للزهد في طيبات الحياة , ولكنها دعوة إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية وبالصلة بالله والرضى به . فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء , ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا , وتبقى دائما تحس حرية الاستعلاء على الزخارف الباطلة التي تبهر الأنظار . .
(وأمر أهلك بالصلاة). . فأول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم ; وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي تصلهم معه بالله , فتوحد اتجاههم العلوي في الحياة . وما أروح الحياة في ظلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى الله .
(واصطبر عليها). . على إقامتها كاملة ; وعلى تحقيق آثارها . إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . وهذه هي آثارها الصحيحة . وهي في حاجة إلى اصطبار على البلوغ بالصلاة إلى الحد الذي تثمر فيه ثمارها هذه في المشاعر والسلوك . وإلا فما هي صلاة مقامة . إنما هي حركات وكلمات .
هذه الصلاة والعبادة والاتجاه إلى الله هي تكاليفك والله لا ينال منها شيئا . فالله غني عنك وعن عبادة العباد: (لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى)إنما هي العبادة تستجيش وجدان التقوى (والعاقبة للتقوى). فالإنسان هو الرابح بالعبادة في دنياه وأخراه . يعبد فيرضى ويطمئن ويستريح . ويعبد فيجزى بعد ذلك الجزاء الأوفى . والله غني عن العالمين .
الدرس الخامس:133 - 135 تفنيد طلبات الكفار في تبديل القرآن وتهديدهم
وقرب ختام السورة يعود بالحديث إلى أولئك الكبراء الممتعين المكذبين , الذين يطلبون إلى الرسول [ ص ] بعدما جاءهم بهذا القرآن أن يأتيهم بآية من ربه:هذا القرآن الذي يبين ويوضح ما جاءت به الرسالات قبله:
(وقالوا:لولا يأتينا بآية من ربه . أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ?). .
فليس إلا التعنت وإلا المكابرة والرغبة في الاقتراح هي التي تملي مثل هذا الاقتراح وإلا فآية القرآن كافية . وهو يصل حاضر الرسالة بماضيها , ويوحد طبيعتها واتجاهها , ويبين ويفصل ما أجمل في الصحف الأولى .
ولقد أعذر الله للمكذبين فأرسل إليهم خاتم المرسلين [ ص ]
(ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا:ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا , فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى). .
وهم لم يذلوا ولم يخزوا لحظة أن كان هذا النص يتلى عليهم . إنما هو تصوير لمصيرهم المحتوم . الذي يذلون فيه ويخزون:فلعلهم حينذاك قائلون: ا أرسلت إلينا رسولا . . .)فها هي ذي الحجة قد قطعت عليهم , فلم يعد لهم من عذر ولا عذير !
وعندما يصل السياق إلى تصوير المصير المحتوم الذي ينتظرهم يؤمر الرسول [ ص ] أن ينفض يده منهم , فلا يشقى بهم , ولا يكربه عدم إيمانهم , وأن يعلن إليهم أنه متربص بهم ذلك المصير , فليتربصوا هم كيف يشاءون:
(قل:كل متربص فتربصوا . فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى). .
بذلك تختم السورة التي بدأت بنفي إرادة الشقاء عن النبي [ ص ] من تنزيل القرآن , وحددت وظيفة القرآنإلا تذكرة لمن يخشى). . والختام يتناسق مع المطلع كل التناسق . فهو التذكرة الأخيرة لمن تنفعه التذكرة . وليس بعد البلاغ إلا انتظار العاقبة . والعاقبة بيد الله . .
انتهى الجزء السادس عشر و يليه الجزء السابع عشر
مبدوءاً بسورة الإنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
سورتا الإنبياء و الحج
الجزء السابع عشر
الانبياء
الوحدة الأولى:1 - 35 الموضوع:تقرير حقائق إعتقادية وإبطال مزاعم الكفار
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)
من أرض الذل , وعكفوا على عجل الذهب ; وفي بلاهة فكر وبلادة روح قالوا: (هذا إلهكم وإله موسى)راح يبحث عنه على الجبل , هو هنا معنا . وقد نسي موسى الطريق إلى ربه وضل عنه !
وهي قولة تضيف إلى معنى البلادة والتفاهة اتهامهم لنبيهم الذي أنقذهم تحت عين الله وسمعه , وبتوجيهه وإرشاده . اتهامهم له بأنه غير موصول بربه , حتى ليضل الطريق إليه , فلا هو يهتدي ولا ربه يهديه !
ذلك فضلا على وضوح الخدعةأفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا , ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ?)والمقصود أنه حتى لم يكن عجلا حيا يسمع قولهم ويستجيب له على عادة العجول البقرية ! فهو في درجة أقل من درجة الحيوانية . وهو بطبيعة الحال لا يملك لهم ضرا ولا نفعا في أبسط صورة . فهو لا ينطح ولا يرفس ولا يدير طاحونة ولا ساقية !
وغير ذلك كله لقد نصح لهم هارون , وهو نبيهم كذلك , والنائب عن نبيهم المنقذ . ونبههم إلى أن هذا ابتلاء . قال: (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن)ونصحهم بإتباعه وطاعته كما تواعدوا مع موسى , وهو عائد إليهم بعد ميعاده مع ربه على الجبل . . ولكنهم بدلا من الاستجابة له التووا وتملصوا من نصحه , ومن عهدهم لنبيهم بطاعته , وقالوا: (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى). .
رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ; فسمع منهم حجتهم التي تكشف عن مدى ما أصاب نفوسهم من تخلخل , وأصاب تفكيرهم من فساد . فالتفت إلى أخيه وهو في فورة الغضب , يأخذ بشعر رأسه وبلحيته في انفعال وثورة:
(قال:يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن ? أفعصيت أمري ?).
يؤنبه على تركهم يعبدون العجل , دون أن يبطل عبادته , اتباعا لأمر موسى - عليه السلام - بألا يحدث أمرا بعده , ولا يسمح بإحداث أمر . ويستنكر عليه عدم تنفيذه , فهل كان ذلك عصيانا لأمره ?
وقد قرر السياق ما كان من موقف هارون . فهو يطلع أخاه عليه ; محاولا أن يهديء من غضبه , باستجاشة عاطفة الرحم في نفسه:
قال:با ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي . إني خشيت أن تقول:فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي . وهكذا نجد هارون أهدأ أعصابا وأملك لانفعاله من موسى , فهو يلمس في مشاعره نقطة حساسة . ويجيء له من ناحية الرحم وهي أشد حساسية , ويعرض له وجهة نظره في صورة الطاعة لأمره حسب تقديره ; وانه خشي إن هو عالج الأمر بالعنف أن يتفرق بنو إسرائيل شيعا , بعضها مع العجل , وبعضها مع نصيحة هارون . وقد أمره بأن يحافظ على بني إسرائيل ولا يحدث فيهم أمرا . فهي كذلك طاعة الأمر من ناحية أخرى . .
عندئذ يتجه موسى بغضبه وانفعاله إلى السامري صاحب الفتنة من أساسها . إنما لم يتوجه إليه منذ البدء , لأن القوم هم المسؤولون ألا يتبعوا كل ناعق , وهارون هو المسؤول أن يحول بينهم وبين اتباعه إذا هموا بذلك وهو قائدهم المؤتمن عليهم . فأما السامري فذنبه يجيء متأخرا لأنه لم يفتنهم بالقوة , ولم يضرب على عقولهم , إنما أغواهم فغووا , وكانوا يملكون أن يثبتوا على هدى نبيهم الأول ونصح نبيهم الثاني . فالتبعة عليهم أولا وعلى راعيهم بعد ذلك . ثم على صاحب الفتنة والغواية أخيرا .
اتجه موسى إلى السامري !
من الاية 99 الى الاية 134
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً (112) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134)
(قال:فما خطبك يا سامري ?). . أي ما شأنك وما قصتك . وهذه الصيغة تشير إلى جسامة الأمر , وعظم الفعلة .
(قال:بصرت بما لم يبصروا به , فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها . وكذلك سولت لي نفسي). .
وتتكاثر الروايات حول قول السامري هذا . فما هو الذي بصر به ? ومن هو الرسول الذي قبض قبضة من أثره فنبذها ? وما علاقة هذا بعجل الذهب الذي صنعه ? وما أثر هذه القبضة فيه ?
والذي يتردد كثيرا في هذه الروايات أنه رأى جبريل - عليه السلام - وهو في صورته التي ينزل بها إلى الأرض ; فقبض قبضة من تحت قدمه , أو من تحت حافر فرسه , فألقاها على عجل الذهب , فكان له هذا الخوار . أو إنها هي التي أحالت كوم الذهب عجلا له خوار .
والقرآن لا يقرر هنا حقيقة ما حدث , إنما هو يحكي قول السامري مجرد حكاية . . ونحن نميل إلى اعتبار هذا عذرا من السامري وتملصا من تبعة ما حدث . وأنه هو صنع العجل من الذهب الذي قذفه بنو إسرائيل من زينة المصريين التي أخذوها معهم , وأنه صنعه بطريقة تجعل الريح تصوت في فراغه فتحدث صوتا كالخوار . ثم قال حكاية أثر الرسول يبرر بها موقفه , ويرجع الأمر إلى فطنته إلى أثر الرسول !
وعلى أية حال فقد أعلنه موسى - عليه السلام - بالطرد من جماعة بني إسرائيل . مدة حياته . ووكل أمره بعد ذلك إلى الله . وواجهه بعنف في أمر إلهه الذي صنعه بيده . ليرى قومه بالدليل المادي أنه ليس إلها فهو لا يحمي صانعه , ولا يدفع عن نفسه:
(قال:فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول:لا مساس . وإن لك موعدا لن تخلفه . وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا , لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا). .
اذهب مطرودا لا يمسك أحد لا بسوء ولا بخير ولا تمس أحدا - وكانت هذه إحدى العقوبات في ديانة موسى . عقوبة العزل , وإعلان الدنس المدنس فلا يقربه أحد ولا يقرب أحدا -
أما الموعد الآخر فهو موعد العقوبة والجزاء عند الله . . وفي حنق وعنف أمر أن يهوى على عجل الذهب , فيحرق وينسف ويلقى في الماء . والعنف إحدى سمات موسى - عليه السلام - وهو هنا غضبة لله ولدين الله , حيث يستحب العنف وتحسن الشدة .
وعلى مشهد الإله المزيف يحرق وينسف , يعلن موسى - عليه السلام - حقيقة العقيدة .
(إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو . وسع كل شيء علما).
وينتهي بهذا الإعلان هذا القدر من قصة موسى في هذه السورة . تتجلى فيه رحمة الله ورعايته بحملة دعوته وعباده . حتى عندما يبتلون فيخطئون . ولا يزيد السياق شيئا من مراحل القصة بعد هذا , لأنه بعد ذلك يقع العذاب على بني إسرائيل بما يرتكبون من آثام وفساد وطغيان . وجو السورة هو جو الرحمة والرعاية بالمختارين . فلا حاجة إلى عرض مشاهد أخرى من القصة في هذا الجو الظليل .
الوحدة الثانية:99 - 135 الموضوع:من مشاهد القيامة وقصة آدم مواساة الرسول عليه السلام مقدمة الوحدة
بدأت السورة بالحديث عن القرآن , وأنه لم ينزل على الرسول [ ص ] ليشقى به أو بسببه . ومن القرآن قصة موسى - عليه السلام - وما يبدو فيها من رعاية الله وعنايته بموسى وأخيه وقومه .
فالآن يعقب السياق على القصة بالعودة إلى القرآن ووظيفته , وعاقبة من يعرض عنه . ويرسم هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة , تتضاءل فيه أيام الحياة الدنيا ; وتتكشف الأرض من جبالها وتعرى , وتخشع الأصوات للرحمن , وتعنو الوجوه للحي القيوم . لعل هذا المشهد وما في القرآن من وعيد يثير مشاعر التقوى في النفوس , ويذكرها بالله ويصلها به . . وينتهي هذا المقطع بإراحة بال الرسول [ ص ] من القلق من ناحية القرآن الذي ينزل عليه , فلا يعجل في ترديده خوف أن ينساه , ولا يشقى بذلك فالله ميسره وحافظه . إنما يطلب من ربه أن يزيده علما .
وبمناسبة حرص الرسول [ ص ] على أن يردد ما يوحي إليه قبل انتهاء الوحي خشية النسيان , يعرض السياق نسيان آدم لعهد الله . وينتهي بإعلان العداوة بينه وبين إبليس , وعاقبة من يتذكرون عهد الله ومن يعرضون عنه من ولد آدم . ويرسم هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة كأنما هو نهاية الرحلة التي بدأت في الملأ الأعلى , ثم تنتهي إلى هناك مرة أخرى .
وتختم السورة بتسلية الرسول [ ص ] عن إعراض المعرضين وتكذيب المكذبين فلا يشقى بهم , فلهم أجل معلوم . ولا يحفل بما أوتوه من متاع في الحياة الدنيا فهو فتنة لهم . وينصرف إلى عبادة الله وذكره فترضى نفسه وتطمئن . ولقد هلكت القرون من قبلهم , وشاء الله أن يعذر إليهم بالرسول الأخير , فلينفض يده من أمرهم ويكلهم إلى مصيرهم .
من الاية 135 الى آخر السورة
قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
(قل:كل متربص فتربصوا , فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى). .
الدرس الأول:99 - 114 من مشاهد القيامة وطبيعة هذا القرآن
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق , وقد آتيناك من لدنا ذكرا . من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا . خالدين فيه , وساء لهم يوم القيامة حملا يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا . يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا . نحن أعلم بما يقولون:إذ يقول أمثلهم طريقة:إن لبثتم إلا يوما . .
كذلك القصص الذي أوحينا إليك بشأن موسى نقص عليك من أنباء ما قد سبق . نقصه عليك في القرآن - ويسمى القرآن ذكرا , فهو ذكر لله ولآياته , وتذكير بما كان من هذه الآيات في القرون الأولى .
ويرسم للمعرضين عن هذا الذكر - ويسميهم المجرمين - مشهدا في يوم القيامة . فهؤلاء المجرمون يحملون أثقالهم كما يحمل المسافر أحماله . ويا لسوئها من أحمال ! فإذا نفخ في البوق للتجمع فالمجرمون يحشرون زرق الوجوه من الكدر والغم . يتخافتون بينهم بالحديث , لا يرفعون به صوتا من الرعب والهول , ومن الرهبة المخيمة على ساحة الحشر . وفيم يتخافتون ? إنهم يحدسون عما قضوا على الأرض من أيام . وقد تضاءلت الحياة الدنيا في حسهم , وقصرت أيامها في مشاعرهم , فليست في حسهم سوى أيام قلائل: (إن لبثتم إلا عشرا)فأما أرشدهم وأصوبهم رأيا فيحسونها أقصر وأقصر: (إن لبثتم إلا يوما). وهكذا تنزوي تلك الأعمار التي عاشوها على الأرض وتنطوي ; ويتضاءل متاع الحياة وهموم الحياة ; ويبدو ذلك كله فترة وجيزة في الزمان , وشيئا ضئيلا في القيمة . فما قيمة عشر ليال ولو حفلت باللذائذ كلها وبالمتاع ? وما قيمة ليلة ولو كانت دقائقها ولحظاتها مليئة بالسعادة والمسرة . ما قيمة هذه أو تلك إلى جانب الآماد التي لا نهاية لها , والتي تنتظرهم بعد الحشر وتمتد بهم بلا انقطاع ?!
ويزيد مشهد الهول بروزا , بالعودة إلى سؤال لهم يسألونه في الدنيا عن الجبال ما يكون من شأنها يومذاك . فإذا الجواب يصور درجة الهول الذي يواجهونه !
ويسألونك عن الجبال فقل:ينسفها ربي نسفا , فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا . يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له , وخشعت الأصوات للرحمن , فلا تسمع إلا همسا . يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا . يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما . وعنت الوجوه للحي القيوم , وقد خاب من حمل ظنا . ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما . .
ويتجلى المشهد الرهيب فإذا الجبال الراسية الراسخة قد نسفت نسفا ; وإذا هي قاع بعد ارتفاع . قاع صفصف خال من كل نتوء ومن كل اعوجاج , فلقد سويت الأرض فلا علو فيها ولا انخفاض . .
وكأنما تسكن العاصفة بعد ذلك النسف والتسوية ; وتنصت الجموع المحشودة المحشورة , وتخفت كل حركة وكل نأمة , ويستمعون الداعي إلى الموقف فيتبعون توجيهه كالقطيع صامتين مستسلمين , لا يتلفتون ولا يتخلفون - وقد كانوا يدعون إلى الهدى فيتخلفون ويعرضون - ويعبر عن استسلامهم بأنهم (يتبعون الداعي لا عوج له)تنسيقا لمشهد القلوب والأجسام مع مشهد الجبال التي لا عوج فيها ولا نتوء !
ثم يخيم الصمت الرهيب والسكون الغامر: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا). . (وعنت الوجوه للحي القيوم). .
وهكذا يخيم الجلال على الموقف كله , وتغمر الساحة التي لا يحدها البصر رهبة وصمت وخشوع . فالكلام همس . والسؤال تخافت . والخشوع ضاف . والوجوه عانية . وجلال الحي القيوم يغمر النفوس بالجلالالرزين . ولا شفاعة إلا لمن ارتضى الله قوله . والعلم كله لله . وهم لا يحيطون به علما . والظالمون يحملون ظلمهم فيلقون الخيبة . والذين آمنوا مطمئنون لا يخشون ظلما في الحساب ولا هضما لما عملوا من صالحات . إنه الجلال , يغمر الجو كله ويغشاه , في حضرة الرحمن .
(وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا). كذلك على هذا النسق نوعنا في القرآن من صور الوعيد ومواقفه ومشاهده لعله يستجيش في نفوس المكذبين شعور التقوى , أو يذكرهم بما سيلقون في الآخرة فينزجروا . . فذلك إذ يقول الله في أول السورة .(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى). .
ولقد كان الرسول [ ص ] يلاحق الوحي فيردد ألفاظ القرآن وآياته قبل أن ينتهي الوحي مخافة أن ينسى . وكان ذلك يشق عليه . فأراد ربه أن يطمئن قلبه على الأمانة التي يحملها .
(فتعالى الله الملك الحق . ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . وقل:رب زدني علما). .
فتعالى الله الملك الحق الذي تعنو له الوجوه ; ويخيب في حضرته الظالمون ويأمن في ظله المؤمنون الصالحون . . هو منزل هذا القرآن من عليائه , فلا يعجل به لسانك , فقد نزل القرآن لحكمة , ولن يضيعه . إنما عليك أن تدعو ربك ليزيدك من العلم , وأنت مطمئن إلى ما يعطيك , لا تخشى عليه الذهاب . وما العلم إلا ما يعلمه الله فهو الباقي الذي ينفع ولا يضيع . ويثمر ولا يخيب .
الدرس الثاني:115 - 127 قصة آدم وتعقيب عليها
ثم تجيء قصة آدم , وقد نسي ما عهد الله به إليه ; وضعف أمام الإغراء بالخلود , فاستمع لوسوسة الشيطان:وكان هذا ابتلاء من ربه له قبل أن يعهد إليه بخلافة الأرض ; ونموذجا من فعل إبليس يتخذ أبناء آدم منه عبرة . فلما تم الابتلاء تداركت آدم رحمة الله فاجتباه وهداه . .
والقصص القرآني يجيء في السياق متناسقا معه . وقصة آدم هنا تجيء بعد عجلة الرسول بالقرآن خوف النسيان , فيذكر في قصة آدم نقطة النسيان . وتجيء في السورة التي تكشف عن رحمة الله ورعايته لمن يجتبيهم من عباده , فيذكر في قصة آدم أن ربه اجتباه فتاب عليه وهداه . ثم يعقبها مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة الطائعين من أبنائه وعاقبة العصاة . وكأنما هي العودة من رحلة الأرض إلى المقر الاول ليجزى كل بما قدمت يداه .
فلنتبع القصة كما جاءت في السياق:
(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما). .
وعهد الله إلى آدم كان هو الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة , تمثل المحظور الذي لا بد منه لتربية الإرادة , وتأكيد الشخصية , والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عندما تريد ; فلا تستعبدها الرغائب وتقهرها . وهذا هو المقياس الذي لا يخطئ في قياس الرقي البشري . فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سلم الرقي البشري . وكلما ضعفت أمام الرغبة وتهاوت كانت أقرب إلى البهيمية وإلى المدارج الأولى .
من أجل ذلك شاءت العناية الإلهية التي ترعى هذا الكائن الإنساني أن تعده لخلافة الأرض باختبار إرادته , وتنبيه قوة المقاومة فيه , وفتح عينيه على ما ينتظره من صراع بين الرغائب التي يزينها الشيطان , وإرادتهوعهده للرحمن . وها هي ذي التجربة الأولى تعلن نتيجتها الأولى: (فنسي ولم نجد له عزما)ثم تعرض تفصيلاتها:
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى). .
هكذا في إجمال , يجيء هذا المشهد الذي يفصل في سور أخرى , لأن السياق هنا سياق النعمة والرعاية . . فيعجل بمظاهر النعمة في الرعاية:
(فقلنا:يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك , فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى , إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى , وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى). .
وكانت هذه رعاية من الله وعنايته أن ينبه آدم إلى عدوه ويحذره غدره , عقب نشوزه وعصيانه , والامتناع عن السجود لآدم كما أمره ربه . (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)فالشقاء بالكد والعمل والشرود والضلال والقلق والحيرة واللهفة والانتظار والألم والفقدان . . كلها تنتظر هناك خارج الجنة ; وأنت في حمى منها كلها ما دمت في رحاب الفردوس . .(إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى . وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى). . فهذا كله مضمون لك ما دمت في رحابها , والجوع والعري , يتقابلان مع الظمأ والضحوة . وهي في مجموعها تمثل متاعب الإنسان الأولى في الحصول على الطعام والكساء , والشراب والظلال .
ولكن آدم كان غفلا من التجارب . وهو يحمل الضعف البشري تجاه الرغبة في البقاء والرغبة في السلطان . ومن هذه الثغرة نفذ إليه الشيطان:
(فوسوس إليه الشيطان قال:يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ?)
لقد لمس في نفسه الموضع الحساس , فالعمر البشري محدود , والقوة البشرية محدودة . من هنا يتطلع إلى الحياة الطويلة وإلى الملك الطويل , ومن هاتين النافذتين يدخل عليه الشيطان , وآدم مخلوق بفطرة البشر وضعف البشر , لأمر مقدور وحكمة مخبوءة . . ومن ثم نسي العهد , وأقدم على المحظور:
(فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما , وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة . . وعصى آدم ربه فغوى). .
والظاهر أنها السوءات الحسية تبدت لهما وكانت عنهما مستورة , وأنها مواضع العفة في جسديهما . يرجح ذلك أنهما أخذا يسترانها بورق الجنة يشبكانه ليستر هذه المواضع . وقد يكون ذلك إيذانا باستيقاظ الدوافع الجنسية في كيانهما . فقبل يقظة هذه الدوافع لا يحس الإنسان بالخجل من كشف مواضع العفة ولا ينتبه إليها ولكنه ينتبه إلى العورات عند استيقاظ دوافع الجنس ويخجل من كشفها .
وربما كان حظر هذه الشجرة عليهما , لأن ثمارها مما يوقظ هذه الدوافع في الجسم تأجيلا لها فترة من الزمان كما يشاء الله . وربما كان نسيانهما عهد الله وعصيانهما له تبعه هبوط في عزيمتهما وانقطاع عن الصلة بخالقهما فسيطرت عليهما دوافع الجسد وتنبهت فيهما دوافع الجنس . وربما كانت الرغبة في الخلود تجسمت في استيقاظ الدوافع الجنسية للتناسل ; فهذه هي الوسيلة الميسرة للإنسان للامتداد وراء العمر الفردي المحدود . . كل هذه فروض لتفسير مصاحبة ظهور سوآتهما لهما للأكل من الشجرة . فهو لم يقل:فبدت سوآتهما . إنما قال:فبدت لهما سوآتهما . مما يؤذن أنها كانت محجوبة عنهما فظهرت لهما بدافع داخلي من إحساسهما . . وقد جاء في موضع آخر عن إبليس: (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما), وجاء (ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما)وقد يكون اللباس الذي نزعه الشيطان ليس لباسا ماديا إنما هو شعور ساتر , قد يكون هو شعور البراءة والطهارة والصلة بالله . وعلى أية حال فهي مجرد فروض كما أسلفنا لا نؤكدهاولا نرجح واحدا منها . إنما هي لتقرب صورة التجربة الأولى في حياة البشرية .
ثم أدركت آدم وزوجه رحمة الله , بعدما عصاه , فقد كانت هذه هي التجربة الأولى:
(ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى). .
بعدما استغفر آدم وندم واعتذر . ولا يذكر هذا هنا لتبدو رحمة الله في الجو وحدها . .
ثم صدر الأمر إلى الخصمين اللدودين أن يهبطا إلى أرض المعركة الطويلة بعد الجولة الأولى:
(قال:اهبطا منها جميعا , بعضكم لبعض عدو). .
وبذلك أعلنت الخصومة في الثقلين . فلم يعد هناك عذر لآدم وبنيه من بعده أن يقول أحد منهم إنما أخذت على غرة ومن حيث لا أدري . فقد درى وعلم ; وأعلن هذا الأمر العلوي في الوجود كله: (بعضكم لبعض عدو)!
ومع هذا الإعلان الذي دوت به السماوات والأرضون , وشهده الملائكة أجمعون . شاءت رحمة الله بعباده أن يرسل إليهم رسله بالهدى . قبل أن يأخذهم بما كسبت أيديهم . فأعلن لهم يوم أعلن الخصومة الكبرى بين آدم وإبليس , أنه آتيهم بهدى منه , فمجاز كلا منهم بعد ذلك حسبما ضل أو اهتدى:
(فإما يأتينكم مني هدى , فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا , ونحشره يوم القيامة أعمى . قال:رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ? قال::كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه , ولعذاب الآخرة أشد وأبقى). .
يجيء هذا المشهد بعد القصة كأنه جزء منها , فقد أعلن عنه في ختامها في الملأ الأعلى . فذلك أمر إذن قضي فيه منذ بعيد ولا رجعة فيه ولا تعديل .
(فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى). . فهو في أمان من الضلال والشقاء باتباع هدى الله . وهما ينتظران خارج عتبات الجنة . ولكن الله يقى منهما من اتبع هداه . والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقا في المتاع . فهذا المتاع ذاته شقوة . شقوة في الدنيا وشقوة في الآخرة . وما من متاع حرام , إلا وله غصة تعقبه وعقابيل تتبعه . وما يضل الإنسان عن هدى الله إلا ويتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف لا يستقر ولا يتوازن في خطاه . والشقاء قرين التخبط ولو كان في المرتع الممرع ! ثم الشقوة الكبرى في دار البقاء . ومن اتبع هدى الله فهو في نجوة من الضلال والشقاء في الأرض , وفي ذلك عوض عن الفردوس المفقود , حتى يؤوب إليه في اليوم الموعود .
(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة , ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع . إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه . ضنك الحيرة والقلق والشك . ضنك الحرص والحذر:الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت . ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت . وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله . وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . . إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة , والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان .
(ومن أعرض عن ذكري)وانقطع عن الاتصال بي (فإن له معيشة ضنكا). . (ونحشره يوم القيامة أعمى). . وذلك ضلال من نوع ضلاله في الدنيا . وذلك جزاء على إعراضه عن الذكر في الأولى . حتىإذا سال: (رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ?)كان الجواب: (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه . ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)!
ولقد أسرف من أعرض عن ذكر ربه . أسرف فألقى بالهدى من بين يديه وهو أنفس ثراء وذخر , وأسرف في إنفاق بصره في غير ما خلق له فلم يبصر من آيات الله شيئا . فلا جرم يعيش معيشة ضنكا ! ويحشر في يوم القيامة أعمى !
اتساق في التعبير . واتساق في التصوير . . هبوط من الجنة وشقاء وضلال , يقابله عودة إلى الجنة ونجوة من الشقاء والضلال . وفسحة في الحياة يقابلها الضنك , وهداية يقابلها العمى . . ويجيء هذا تعقيبا على قصة آدم - وهي قصة البشرية جميعا - فيبدأ الاستعراض في الجنة , وينتهي في الجنة , كما مر في سورة الأعراف , مع الاختلاف في الصور الداخلة في الاستعراض هنا وهناك حسب اختلاف السياق . .
الدرس الثالث:128 - 129 لفت الأنظار إلى مصارع السابقين
فإذا انتهت هذه الجولة بطرفيها أخذ السياق في جولة حول مصارع الغابرين ; وهي أقرب في الزمان من القيامة , وهي واقع تشهده العيون إن كانت القيامة غيبا لا تراه الأبصار:
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ? إن في ذلك لآيات لأولي النهي . ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى . .
وحين تجول العين والقلب في مصارع القرون . وحين تطالع العين آثارهم ومساكنهم عن كثب , وحين يتملى الخيال الدور وقد خلت من أهلها الأول ; ويتصور شخوصهم الذاهبة , وأشباحهم الهاربة , وحركاتهم وسكناتهم , وخواطرهم وأحلامهم , وهمومهم وآمالهم . . حين يتأمل هذا الحشد من الأشباح والصور والانفعالات والمشاعر . . ثم يفتح عينه فلا يرى من ذلك كله شيئا إلا الفراغ والخواء . . عندئذ يستيقظ للهوة التي تفغر فاها لتبتلع الحاضر كما ابتلعت الغابر . وعندئذ يدرك يد القدرة التي أخذت القرون الأولى وهي قادرة على أن تأخذ ما يليها . وعندئذ يعي معنى الإنذار , والعبرة أمامه معروضة للأنظار . فما لهؤلاء القوم لا يهتدون وفي مصارع القرون ما يهدي أولي الألباب ?: (إن في ذلك لآيات لأولي النهى)!
ولولا أن الله وعدهم ألا يستأصلهم بعذاب الدنيا , لحكمة عليا . لحل بهم ما حل بالقرون الأولى . ولكنها كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى أمهلهم إليهولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما , وأجل مسمى).
الدرس الرابع:130 - 132 زاد الطريق في الصلاة والذكر والتسبيح
وإذا كانوا مؤخرين إلى أجل , ممهلين لا مهملين , فلا عليك - يا محمد - منهم ولا مما أوتوه من زينة الحياة الدنيا ليكون ابتلاء لهم , فإنما هي الفتنة , وما أعطاكه الله إنعاما فهو خير مما أعطاهم ابتلاء:
فاصبر على ما يقولون , وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها , ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى . ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لتفتنهم فيه , ورزق ربك خير وأبقى . وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى . .
فاصبر على ما يقولون من كفر واستهزاء وجحود وإعراض , ولا يضق صدرك بهم , ولا تذهب نفسك عليهم حسرات . واتجه إلى ربك . سبح بحمده قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . في هدأة الصبح وهو يتنفس ويتفتح بالحياة ; وفي هدأة الغروب والشمس تودع , والكون يغمض أجفانه , وسبح بحمده فترات منالليل والنهار . . كن موصولا بالله على مدار اليوم . . (لعلك ترضى). .
إن التسبيح بالله اتصال . والنفس التي تتصل تطمئن وترضى . ترضى وهي في ذلك الجوار الرضي ; وتطمئن وهي في ذلك الحمى الآمن .
فالرضى ثمرة التسبيح والعبادة , وهو وحده جزاء حاضر ينبت من داخل النفس ويترعرع في حنايا القلب .
اتجه إلى ربك بالعبادة (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم)من عرض الحياة الدنيا , من زينة ومتاع ومال وأولاد وجاه وسلطان . (زهرة الحياة الدنيا)التي تطلعها كما يطلع النبات زهرته لامعة جذابة . والزهرة سريعة الذبول على ما بها من رواء وزواق . فإنما نمتعهم بها ابتلاء (لنفتنهم فيه)فنكشف عن معادنهم , بسلوكهم مع هذه النعمة وذلك المتاع . وهو متاع زائل كالزهرة سرعان ما تذبل (ورزق ربك خير وأبقى)وهو رزق للنعمة لا للفتنة . رزق طيب خير باق لا يذبل ولا يخدع ولا يفتن .
وما هي دعوة للزهد في طيبات الحياة , ولكنها دعوة إلى الاعتزاز بالقيم الأصيلة الباقية وبالصلة بالله والرضى به . فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء , ولا تفقد اعتزازها بالقيم العليا , وتبقى دائما تحس حرية الاستعلاء على الزخارف الباطلة التي تبهر الأنظار . .
(وأمر أهلك بالصلاة). . فأول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم ; وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي تصلهم معه بالله , فتوحد اتجاههم العلوي في الحياة . وما أروح الحياة في ظلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى الله .
(واصطبر عليها). . على إقامتها كاملة ; وعلى تحقيق آثارها . إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . وهذه هي آثارها الصحيحة . وهي في حاجة إلى اصطبار على البلوغ بالصلاة إلى الحد الذي تثمر فيه ثمارها هذه في المشاعر والسلوك . وإلا فما هي صلاة مقامة . إنما هي حركات وكلمات .
هذه الصلاة والعبادة والاتجاه إلى الله هي تكاليفك والله لا ينال منها شيئا . فالله غني عنك وعن عبادة العباد: (لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى)إنما هي العبادة تستجيش وجدان التقوى (والعاقبة للتقوى). فالإنسان هو الرابح بالعبادة في دنياه وأخراه . يعبد فيرضى ويطمئن ويستريح . ويعبد فيجزى بعد ذلك الجزاء الأوفى . والله غني عن العالمين .
الدرس الخامس:133 - 135 تفنيد طلبات الكفار في تبديل القرآن وتهديدهم
وقرب ختام السورة يعود بالحديث إلى أولئك الكبراء الممتعين المكذبين , الذين يطلبون إلى الرسول [ ص ] بعدما جاءهم بهذا القرآن أن يأتيهم بآية من ربه:هذا القرآن الذي يبين ويوضح ما جاءت به الرسالات قبله:
(وقالوا:لولا يأتينا بآية من ربه . أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ?). .
فليس إلا التعنت وإلا المكابرة والرغبة في الاقتراح هي التي تملي مثل هذا الاقتراح وإلا فآية القرآن كافية . وهو يصل حاضر الرسالة بماضيها , ويوحد طبيعتها واتجاهها , ويبين ويفصل ما أجمل في الصحف الأولى .
ولقد أعذر الله للمكذبين فأرسل إليهم خاتم المرسلين [ ص ]
(ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا:ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا , فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى). .
وهم لم يذلوا ولم يخزوا لحظة أن كان هذا النص يتلى عليهم . إنما هو تصوير لمصيرهم المحتوم . الذي يذلون فيه ويخزون:فلعلهم حينذاك قائلون: ا أرسلت إلينا رسولا . . .)فها هي ذي الحجة قد قطعت عليهم , فلم يعد لهم من عذر ولا عذير !
وعندما يصل السياق إلى تصوير المصير المحتوم الذي ينتظرهم يؤمر الرسول [ ص ] أن ينفض يده منهم , فلا يشقى بهم , ولا يكربه عدم إيمانهم , وأن يعلن إليهم أنه متربص بهم ذلك المصير , فليتربصوا هم كيف يشاءون:
(قل:كل متربص فتربصوا . فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى). .
بذلك تختم السورة التي بدأت بنفي إرادة الشقاء عن النبي [ ص ] من تنزيل القرآن , وحددت وظيفة القرآنإلا تذكرة لمن يخشى). . والختام يتناسق مع المطلع كل التناسق . فهو التذكرة الأخيرة لمن تنفعه التذكرة . وليس بعد البلاغ إلا انتظار العاقبة . والعاقبة بيد الله . .
انتهى الجزء السادس عشر و يليه الجزء السابع عشر
مبدوءاً بسورة الإنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
سورتا الإنبياء و الحج
الجزء السابع عشر
الانبياء
الوحدة الأولى:1 - 35 الموضوع:تقرير حقائق إعتقادية وإبطال مزاعم الكفار
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الهمزة من الاية 1 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة قريش من الاية 1 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الماعون من الاية 1 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المؤمنون من الاية 79 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المسد من الاية 1 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة قريش من الاية 1 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الماعون من الاية 1 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المؤمنون من الاية 79 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المسد من الاية 1 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى