تفسير سورة النبأ ايه رقم واحد==31
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة النبأ ايه رقم واحد==31
تفسير سورة النبأ
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( 1 ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( 2 ) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( 3 ) كَلا سَيَعْلَمُونَ ( 4 ) ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ ( 5 ) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا ( 6 ) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ( 7 ) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ( 8 ) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ( 9 ) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ( 10 ) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ( 11 ) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ( 12 ) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ( 13 ) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ( 14 ) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ( 15 ) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ( 16 )
يقول تعالى منكرًا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارًا لوقوعها: ( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) أي: عن أي شيء يتساءلون؟ من أمر القيامة، وهو النبأ العظيم، يعني: الخبر الهائل المفظع الباهر.
قال قتادة، وابن زيد: النبأ العظيم: البعث بعد الموت. وقال مجاهد: هو القرآن. والأظهر الأول لقوله: ( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) يعني: الناس فيه على قولين: مؤمن به وكافر.
ثم قال تعالى متوعدًا لمنكري القيامة: ( كَلا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ ) وهذا تهديدٌ شديد ووعيد أكيد.
ثم شرع تعالى يُبَيّن قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة، الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره، فقال: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا ) ؟ أي: ممهدة للخلائق ذَلُولا لهم، قارّةً ساكنة ثابتة ، ( وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) أي: جعلها لها أوتادًا أرساها بها وثبتها وقرّرها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها.
ثم قال: ( وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ) يعني: ذكرًا وأنثى، يستمتع كل منهما بالآخر، ويحصل التناسل بذلك، كقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم : 21] .
وقوله: ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ) أي: قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة "الفرقان" .
( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ) أي: يغشى الناس ظلامه وسواده، كما قال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس : 4] وقال الشاعر :
فَلَمَّـا لَبِسْـنَ اللَّيْـلَ , أو حِينَ نَصَّبتْ
لـه مِـن خَـذا آذانِهـا وَهْـوَ جَـانِحُ
وقال قتادة في قوله: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ) أي: سكنًا.
وقوله: ( وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ) أي: جعلناه مشرقا مُنيرًا مضيئًا، ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات، وغير ذلك.
وقوله: ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ) يعني: السموات السبع، في اتساعها وارتفاعها وإحكامها وإتقانها، وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات؛ ولهذا قال: ( وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ) يعني: الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلهم.
وقوله: ( وَأَنـزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ) قال العوفي، عن ابن عباس: ( الْمُعْصِرَاتِ ) الريح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا أبو داود الحَفَري عن سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَأَنـزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) قال: الرياح. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل، والكلبي، وزيد بن أسلم: وابنه عبد الرحمن: إنها الرياح. ومعنى هذا القول أنها تستدر المطر من السحاب.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) أي: من السحاب. وكذا قال عكرمة أيضا، وأبو العالية، والضحاك، والحسن، والربيع بن أنس، والثوري. واختاره ابن جرير.
وقال الفراء: هي السحاب التي تَتَحَلَّب بالمطر ولم تُمطر بعدُ، كما يقال امرأة معصر، إذا دنا حيضها ولم تحض.
وعن الحسن، وقتادة: ( مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) يعني: السموات. وهذا قول غريب.
الأظهر أن المراد بالمعصرات: السحاب، كما قال [الله] تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الروم : 48] أي: من بينه.
وقوله: ( مَاءً ثَجَّاجًا ) قال مجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس: ( ثَجَّاجًا ) منصبا. وقال الثوري: متتابعًا. وقال ابن زيد: كثيرا.
قال ابن جرير: ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج، وإنما الثج: الصب المتتابع. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الحجّ العجّ والثجّ". يعني: صَبّ دماء البُدْن اضغط هنا . هكذا قال . قلت: وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنعت لك الكُرسُفَ" -يعني: أن تحتشي بالقطن-: قالت : يا رسول الله، هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجًا اضغط هنا . وهذا فيه دَلالة على استعمال الثَّج في الصبّ المتتابع الكثير، والله أعلم.
وقوله: ( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ) أي: لنخرجَ بهذا الماء الكثير الطيب النافع المُبَارَك ( حَبًّا ) يدخر للأناسي والأنعام، ( وَنَبَاتًا ) أي: خضرًا يؤكل رطبا، ( وَجَنَّاتٍ ) أي: بساتين وحدائقَ من ثمرات متنوعة، وألوان مختلفة، وطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذهلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعًا؛ ولهذا قال: ( وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ) قال ابن عباس، وغيره: ( أَلْفَافًا ) مجتمعة. وهذه كقوله تعالى: وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ الآية [الرعد :4] .
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ( 17 ) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ( 18 ) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ( 19 ) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ( 20 ) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ( 21 ) لِلطَّاغِينَ مَآبًا ( 22 ) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ( 23 ) لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا ( 24 ) إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ( 25 ) جَزَاءً وِفَاقًا ( 26 ) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا ( 27 ) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ( 28 ) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ( 29 ) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا ( 30 )
يقول تعالى مخبرًا عن يوم الفصل، وهو يوم القيامة، أنه مؤقت بأجل معدود، لا يزاد عليه ولا ينقص منه، ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عز وجل، كما قال: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود :104] .
( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ) قال مجاهد: زُمَرًا . قال ابن جرير: يعني تأتي كل أمة مع رسولها، كقوله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء :71] .
وقال البخاري: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ) حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين النفختين أربعون".
قالوا: أربعون يومًا؟ قال: "أبيتُ". قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: "أبيت". قالوا: أربعون سنة؟ قال: "أبيت". قال: "ثم يُنـزلُ الله من السماء ماء فينبتُونَ كما ينبتُ البقلُ ، ليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبلَى، إلا عظمًا واحدا، وهو عَجْبُ الذنَب، ومنه يُرَكَّبُ الخَلْقُ يومَ القيامة" .
( وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ) أي: طرقا ومسالك لنـزول الملائكة ، ( وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ) كقوله: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل :88] وكقوله: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة :5] .
وقال هاهنا: ( فَكَانَتْ سَرَابًا ) أي: يخيل إلى الناظر أنها شيء، وليست بشيء، بعد هذا تَذهب بالكلية، فلا عين ولا أثر، كما قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه :105 -107] وقال: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف :47].
وقوله: ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ) أي: مرصدة مُعَدّة، ( للِطَّاغِينَ ) وهم: المَرَدة العصاة المخالفون للرسل، ( مَآبًا ) أي: مرجعا ومنقلبا ومصيرا ونـزلا. وقال الحسن، وقتادة في قوله: ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ) يعني: أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار، فإن كان معه جواز نجا، وإلا احتبس. وقال سفيان الثوري: عليها ثلاث قناطر.
وقوله: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) أي: ماكثين فيها أحقابا، وهي جمع "حقُب"، وهو: المدة من الزمان. وقد اختلفوا في مقداره. فقال ابن جرير، عن ابن حميد، عن مِهْران، عن سفيان الثوري، عن عَمَّار الدّهنِي، عن سالم بن أبي الجعد قال: قال علي بن أبي طالب لهلال الهَجَري: ما تجدونَ الحُقْبَ في كتاب الله المنـزل؟ قال: نجده ثمانين سنة، كل سنة اثنا عشر شهرا، كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة .
وهكذا رُويَ عن أبي هُرَيرة، وعبد الله بن عَمرو، وابن عباس، وسعيد بن جُبَير، وعَمرو بن ميمون، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والضحاك. وعن الحسن والسّدي أيضا: سبعون سنة كذلك. وعن عبد الله بن عمرو: الحُقبُ أربعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون. رواهما ابن أبي حاتم.
وقال بُشَير بن كعب: ذُكِر لي أن الحُقب الواحد ثلاثمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا ، كل يوم منها كألف سنة. رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
ثم قال ابن أبي حاتم: ذكر عن عُمَر بن علي بن أبي بكر الأسْفَذْنيّ : حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاري، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) قال: فالحقب [ألف] شهر، الشهر ثلاثون يوما، والسنة اثنا عشر شهرا، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة اضغط هنا . وهذا حديثٌ منكر جدًا، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك.
وقال البزار: حدثنا محمد بن مِرْدَاس، حدثنا سليمان بن مسلم أبو المُعَلَّى قال: سألت سليمان التيمي: هل يخرج من النار أحد؟ فقال حدثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا". قال: والحُقْب: بضع وثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون اضغط هنا .
ثم قال: سليمان بن مسلم بصري مشهور.
وقال السّدي: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) سبعمائة حُقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا، كل يوم كألف سنة مما تعدون.
وقد قال مقاتل بن حَيّان: إن هذه الآية منسوخة بقوله: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نـزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا )
وقال خالد بن مَعْدان: هذه الآية وقوله: إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود :107] في أهل التوحيد. رواهما ابن جرير.
ثم قال: ويحتمل أن يكون قوله: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) متعلقًا بقوله: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا ) ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر. ثم قال: والصحيح أنها لا انقضاء لها، كما قال قتادة والربيع بن أنس. وقد قال قبل ذلك.
حدثني محمد بن عبد الرحيم البَرْقِي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير، عن سالم: سمعت الحسن يسأل عن قوله: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) قال: أما الأحقاب فليس لها عِدّة إلا الخلود في النار، ولكن ذكروا أن الحُقبَ سبعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون.
وقال سعيد، عن قتادة: قال الله تعالى: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) وهو: ما لا انقطاع له، كلما مضى حُقب جاء حقب بعده، وذكر لنا أن الحُقْب ثمانون سنة.
وقال الربيع بن أنس: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله، ولكن الحُقْب الواحد ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم كألف سنة مما تعدون. رواهما أيضا ابن جرير .
وقوله: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا ) أي: لا يجدون في جَهنَّم بردًا لقلوبهم، ولا شرابا طيبا يتغذون به. ولهذا قال: ( إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ) قال أبو العالية: استثنى من البرد الحميم ومن الشراب الغساق. وكذا قال الربيع بن أنس. فأما الحميم: فهو الحار الذي قد انتهى حره وحُموه. والغَسَّاق: هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم، فهو بارد لا يستطاع من برده، ولا يواجه من نتنه. وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة "ص" بما أغنى عن إعادته، أجارنا الله من ذلك، بمنه وكرمه.
قال ابن جرير: وقيل: المراد بقوله: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ) يعني: النوم، كما قال الكندي:
بَــرَدت مَرَاشــفها عَـلَيّ فصـدّني
عنهــا وَعَــنْ قُبُلاتهــا, الــبَرْدُ
يعني بالبرد: النعاس والنوم هكذا ذكره ولم يَعزُه إلى أحد. وقد رواه ابن أبي حاتم، من طريق السدي، عن مرة الطيب. ونقله عن مجاهد أيضا. وحكاه البغوي عن أبي عُبَيدة، والكسائي أيضا.
وقوله: ( جَزَاءً وِفَاقًا ) أي: هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وَفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا. قاله مجاهد، وقتادة، وغير واحد.
ثم قال: ( إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا ) أي: لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارًا يجازون فيها ويحاسبون، ( وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ) أي: وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنـزلها على رسله، فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة.
وقوله: ( كِذَّابًا ) أي: تكذيبا، وهو مصدر من غير الفعل. قالوا: وقد سُمع أعرابي يستفتي الفَرّاءَ على المروة: الحلقُ أحبّ إليك أو القِصار؟ وأنشد بعضهم :
لَقَـد طـالَ مـا ثَبَّطتنِي عَن صَحَابَتِي
وعـن حـوج قضاؤهـا مِـن شفَائيا
وقوله: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ) أي: وقد عَلِمنا أعمالَ العباد كلهم، وكتبناهم عليهم، وسنجزيهم على ذلك، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
وقوله: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نـزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا ) أي: يقال لأهل النار: ذوقوا ما أنتم فيه، فلن نـزيدكم إلا عذابًا من جنسهِ، ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) [ص :58] .
قال قتادة: عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو قال: لم ينـزل على أهل النار آية أشد من هذه: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نـزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا ) قال: فهم في مزيد من العذاب أبدا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري، حدثنا خالد بن عبد الرحمن، حدثنا جَسر بن فَرقد، عن الحسن قال: سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار. قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نـزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا ) فقال: "هلك القوم بمعاصيهم الله عَزّ وجل" اضغط هنا .
جسرُ بن فَرقد: ضعيف الحديث بالكلية.
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( 1 ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( 2 ) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( 3 ) كَلا سَيَعْلَمُونَ ( 4 ) ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ ( 5 ) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا ( 6 ) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ( 7 ) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ( 8 ) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ( 9 ) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ( 10 ) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ( 11 ) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ( 12 ) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ( 13 ) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ( 14 ) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ( 15 ) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ( 16 )
يقول تعالى منكرًا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارًا لوقوعها: ( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) أي: عن أي شيء يتساءلون؟ من أمر القيامة، وهو النبأ العظيم، يعني: الخبر الهائل المفظع الباهر.
قال قتادة، وابن زيد: النبأ العظيم: البعث بعد الموت. وقال مجاهد: هو القرآن. والأظهر الأول لقوله: ( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) يعني: الناس فيه على قولين: مؤمن به وكافر.
ثم قال تعالى متوعدًا لمنكري القيامة: ( كَلا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ ) وهذا تهديدٌ شديد ووعيد أكيد.
ثم شرع تعالى يُبَيّن قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة، الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره، فقال: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا ) ؟ أي: ممهدة للخلائق ذَلُولا لهم، قارّةً ساكنة ثابتة ، ( وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) أي: جعلها لها أوتادًا أرساها بها وثبتها وقرّرها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها.
ثم قال: ( وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ) يعني: ذكرًا وأنثى، يستمتع كل منهما بالآخر، ويحصل التناسل بذلك، كقوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم : 21] .
وقوله: ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ) أي: قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة "الفرقان" .
( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ) أي: يغشى الناس ظلامه وسواده، كما قال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس : 4] وقال الشاعر :
فَلَمَّـا لَبِسْـنَ اللَّيْـلَ , أو حِينَ نَصَّبتْ
لـه مِـن خَـذا آذانِهـا وَهْـوَ جَـانِحُ
وقال قتادة في قوله: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ) أي: سكنًا.
وقوله: ( وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ) أي: جعلناه مشرقا مُنيرًا مضيئًا، ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات، وغير ذلك.
وقوله: ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ) يعني: السموات السبع، في اتساعها وارتفاعها وإحكامها وإتقانها، وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات؛ ولهذا قال: ( وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ) يعني: الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلهم.
وقوله: ( وَأَنـزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ) قال العوفي، عن ابن عباس: ( الْمُعْصِرَاتِ ) الريح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا أبو داود الحَفَري عن سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَأَنـزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) قال: الرياح. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل، والكلبي، وزيد بن أسلم: وابنه عبد الرحمن: إنها الرياح. ومعنى هذا القول أنها تستدر المطر من السحاب.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) أي: من السحاب. وكذا قال عكرمة أيضا، وأبو العالية، والضحاك، والحسن، والربيع بن أنس، والثوري. واختاره ابن جرير.
وقال الفراء: هي السحاب التي تَتَحَلَّب بالمطر ولم تُمطر بعدُ، كما يقال امرأة معصر، إذا دنا حيضها ولم تحض.
وعن الحسن، وقتادة: ( مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) يعني: السموات. وهذا قول غريب.
الأظهر أن المراد بالمعصرات: السحاب، كما قال [الله] تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الروم : 48] أي: من بينه.
وقوله: ( مَاءً ثَجَّاجًا ) قال مجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس: ( ثَجَّاجًا ) منصبا. وقال الثوري: متتابعًا. وقال ابن زيد: كثيرا.
قال ابن جرير: ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج، وإنما الثج: الصب المتتابع. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الحجّ العجّ والثجّ". يعني: صَبّ دماء البُدْن اضغط هنا . هكذا قال . قلت: وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنعت لك الكُرسُفَ" -يعني: أن تحتشي بالقطن-: قالت : يا رسول الله، هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجًا اضغط هنا . وهذا فيه دَلالة على استعمال الثَّج في الصبّ المتتابع الكثير، والله أعلم.
وقوله: ( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ) أي: لنخرجَ بهذا الماء الكثير الطيب النافع المُبَارَك ( حَبًّا ) يدخر للأناسي والأنعام، ( وَنَبَاتًا ) أي: خضرًا يؤكل رطبا، ( وَجَنَّاتٍ ) أي: بساتين وحدائقَ من ثمرات متنوعة، وألوان مختلفة، وطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذهلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعًا؛ ولهذا قال: ( وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ) قال ابن عباس، وغيره: ( أَلْفَافًا ) مجتمعة. وهذه كقوله تعالى: وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ الآية [الرعد :4] .
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ( 17 ) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ( 18 ) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ( 19 ) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ( 20 ) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ( 21 ) لِلطَّاغِينَ مَآبًا ( 22 ) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ( 23 ) لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا ( 24 ) إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ( 25 ) جَزَاءً وِفَاقًا ( 26 ) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا ( 27 ) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ( 28 ) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ( 29 ) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا ( 30 )
يقول تعالى مخبرًا عن يوم الفصل، وهو يوم القيامة، أنه مؤقت بأجل معدود، لا يزاد عليه ولا ينقص منه، ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عز وجل، كما قال: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود :104] .
( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ) قال مجاهد: زُمَرًا . قال ابن جرير: يعني تأتي كل أمة مع رسولها، كقوله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء :71] .
وقال البخاري: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ) حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين النفختين أربعون".
قالوا: أربعون يومًا؟ قال: "أبيتُ". قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: "أبيت". قالوا: أربعون سنة؟ قال: "أبيت". قال: "ثم يُنـزلُ الله من السماء ماء فينبتُونَ كما ينبتُ البقلُ ، ليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبلَى، إلا عظمًا واحدا، وهو عَجْبُ الذنَب، ومنه يُرَكَّبُ الخَلْقُ يومَ القيامة" .
( وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ) أي: طرقا ومسالك لنـزول الملائكة ، ( وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ) كقوله: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل :88] وكقوله: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة :5] .
وقال هاهنا: ( فَكَانَتْ سَرَابًا ) أي: يخيل إلى الناظر أنها شيء، وليست بشيء، بعد هذا تَذهب بالكلية، فلا عين ولا أثر، كما قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه :105 -107] وقال: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف :47].
وقوله: ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ) أي: مرصدة مُعَدّة، ( للِطَّاغِينَ ) وهم: المَرَدة العصاة المخالفون للرسل، ( مَآبًا ) أي: مرجعا ومنقلبا ومصيرا ونـزلا. وقال الحسن، وقتادة في قوله: ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ) يعني: أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار، فإن كان معه جواز نجا، وإلا احتبس. وقال سفيان الثوري: عليها ثلاث قناطر.
وقوله: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) أي: ماكثين فيها أحقابا، وهي جمع "حقُب"، وهو: المدة من الزمان. وقد اختلفوا في مقداره. فقال ابن جرير، عن ابن حميد، عن مِهْران، عن سفيان الثوري، عن عَمَّار الدّهنِي، عن سالم بن أبي الجعد قال: قال علي بن أبي طالب لهلال الهَجَري: ما تجدونَ الحُقْبَ في كتاب الله المنـزل؟ قال: نجده ثمانين سنة، كل سنة اثنا عشر شهرا، كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة .
وهكذا رُويَ عن أبي هُرَيرة، وعبد الله بن عَمرو، وابن عباس، وسعيد بن جُبَير، وعَمرو بن ميمون، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والضحاك. وعن الحسن والسّدي أيضا: سبعون سنة كذلك. وعن عبد الله بن عمرو: الحُقبُ أربعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون. رواهما ابن أبي حاتم.
وقال بُشَير بن كعب: ذُكِر لي أن الحُقب الواحد ثلاثمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا ، كل يوم منها كألف سنة. رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
ثم قال ابن أبي حاتم: ذكر عن عُمَر بن علي بن أبي بكر الأسْفَذْنيّ : حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاري، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) قال: فالحقب [ألف] شهر، الشهر ثلاثون يوما، والسنة اثنا عشر شهرا، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة اضغط هنا . وهذا حديثٌ منكر جدًا، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك.
وقال البزار: حدثنا محمد بن مِرْدَاس، حدثنا سليمان بن مسلم أبو المُعَلَّى قال: سألت سليمان التيمي: هل يخرج من النار أحد؟ فقال حدثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا". قال: والحُقْب: بضع وثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون اضغط هنا .
ثم قال: سليمان بن مسلم بصري مشهور.
وقال السّدي: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) سبعمائة حُقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا، كل يوم كألف سنة مما تعدون.
وقد قال مقاتل بن حَيّان: إن هذه الآية منسوخة بقوله: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نـزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا )
وقال خالد بن مَعْدان: هذه الآية وقوله: إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود :107] في أهل التوحيد. رواهما ابن جرير.
ثم قال: ويحتمل أن يكون قوله: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) متعلقًا بقوله: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا ) ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر. ثم قال: والصحيح أنها لا انقضاء لها، كما قال قتادة والربيع بن أنس. وقد قال قبل ذلك.
حدثني محمد بن عبد الرحيم البَرْقِي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير، عن سالم: سمعت الحسن يسأل عن قوله: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) قال: أما الأحقاب فليس لها عِدّة إلا الخلود في النار، ولكن ذكروا أن الحُقبَ سبعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون.
وقال سعيد، عن قتادة: قال الله تعالى: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) وهو: ما لا انقطاع له، كلما مضى حُقب جاء حقب بعده، وذكر لنا أن الحُقْب ثمانون سنة.
وقال الربيع بن أنس: ( لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله، ولكن الحُقْب الواحد ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم كألف سنة مما تعدون. رواهما أيضا ابن جرير .
وقوله: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا ) أي: لا يجدون في جَهنَّم بردًا لقلوبهم، ولا شرابا طيبا يتغذون به. ولهذا قال: ( إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ) قال أبو العالية: استثنى من البرد الحميم ومن الشراب الغساق. وكذا قال الربيع بن أنس. فأما الحميم: فهو الحار الذي قد انتهى حره وحُموه. والغَسَّاق: هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم، فهو بارد لا يستطاع من برده، ولا يواجه من نتنه. وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة "ص" بما أغنى عن إعادته، أجارنا الله من ذلك، بمنه وكرمه.
قال ابن جرير: وقيل: المراد بقوله: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ) يعني: النوم، كما قال الكندي:
بَــرَدت مَرَاشــفها عَـلَيّ فصـدّني
عنهــا وَعَــنْ قُبُلاتهــا, الــبَرْدُ
يعني بالبرد: النعاس والنوم هكذا ذكره ولم يَعزُه إلى أحد. وقد رواه ابن أبي حاتم، من طريق السدي، عن مرة الطيب. ونقله عن مجاهد أيضا. وحكاه البغوي عن أبي عُبَيدة، والكسائي أيضا.
وقوله: ( جَزَاءً وِفَاقًا ) أي: هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وَفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا. قاله مجاهد، وقتادة، وغير واحد.
ثم قال: ( إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا ) أي: لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارًا يجازون فيها ويحاسبون، ( وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ) أي: وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنـزلها على رسله، فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة.
وقوله: ( كِذَّابًا ) أي: تكذيبا، وهو مصدر من غير الفعل. قالوا: وقد سُمع أعرابي يستفتي الفَرّاءَ على المروة: الحلقُ أحبّ إليك أو القِصار؟ وأنشد بعضهم :
لَقَـد طـالَ مـا ثَبَّطتنِي عَن صَحَابَتِي
وعـن حـوج قضاؤهـا مِـن شفَائيا
وقوله: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ) أي: وقد عَلِمنا أعمالَ العباد كلهم، وكتبناهم عليهم، وسنجزيهم على ذلك، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
وقوله: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نـزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا ) أي: يقال لأهل النار: ذوقوا ما أنتم فيه، فلن نـزيدكم إلا عذابًا من جنسهِ، ( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) [ص :58] .
قال قتادة: عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو قال: لم ينـزل على أهل النار آية أشد من هذه: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نـزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا ) قال: فهم في مزيد من العذاب أبدا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري، حدثنا خالد بن عبد الرحمن، حدثنا جَسر بن فَرقد، عن الحسن قال: سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار. قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: ( فَذُوقُوا فَلَنْ نـزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا ) فقال: "هلك القوم بمعاصيهم الله عَزّ وجل" اضغط هنا .
جسرُ بن فَرقد: ضعيف الحديث بالكلية.
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة النبأ ايه واحد===31
» 78- تفسير سورة النبأ عدد آياتها 40 ( آية 1-40 ) وهي مكية
» تفسير سورة ص ايه رقم واحد----17
» تفسير سورة طه ايه رقم واحد\\\\\13
» تفسير سورة محمد ايه رفم واحد=====12
» 78- تفسير سورة النبأ عدد آياتها 40 ( آية 1-40 ) وهي مكية
» تفسير سورة ص ايه رقم واحد----17
» تفسير سورة طه ايه رقم واحد\\\\\13
» تفسير سورة محمد ايه رفم واحد=====12
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى