تفسير سورة الحج رقم 1\\\\\6
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الحج رقم 1\\6
تفسير سورة الحج
[وهي مكية] .
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) .
يقول تعالى آمرا عباده بتقواه، ومخبرا لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها. وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة: هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عَرصَات القيامة؟ أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم؟ كما قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [ الزلزلة: 1 ، 2 ] ، وقال تعالى: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [ الحاقة: 14 ، 15 ] ، وقال تعالى: إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [ الواقعة: 4 -6 ].
فقال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عَلْقَمَة في قوله: ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ، قال: قبل الساعة.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري، عن منصور والأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، فذكره. قال: وروي عن الشعبي، وإبراهيم، وعُبَيْد بن عُمَيْر، نحو ذلك.
وقال أبو كُدَيْنَةَ، عن عطاء، عن عامر الشعبي: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) الآية، قال: هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.
وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مُسْتَنَدَ مَنْ قال ذلك في حديث الصُّور، من رواية إسماعيل ابن رافع قاضي أهل المدينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصُّور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فِيه، شاخص ببصره إلى العَرش، ينتظر متى يؤمر". قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصور؟
قال: "قرن" قال: فكيف هو؟ قال: "قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصَّعْق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع. فيفزعُ أهل السموات وأهل الأرض، إلا من شاء الله، ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر، وهي التي يقول الله تعالى: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ [ ص: 15 ] فَيُسير الله الجبال، فتكون سرابا وتُرج الأرض بأهلها رجا، وهي التي يقول الله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [ النازعات: 6 -8 ]، فتكون الأرض، كالسفينة الموبقة في البحر، تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح.
فيمتد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل. ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة، حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله تعالى: يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [ غافر: 32 ، 33 ] فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فَرَأوا أمرا عظيما، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وخُسفَ قمرها، وانتثرت نجومها، ثم كُشِطت عنهم" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك" قال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [ النمل: 87 ] ؟ قال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول الله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .
وهذا الحديث قد رواه الطبراني، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغير واحد مطولا جدًا.
والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة، وأضيفت إلى الساعة لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة، ونحو ذلك، والله أعلم.
وقال آخرون: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال، كائن يوم القيامة في العرصات، بعد القيامة من القبور. واختار ذلك ابن جرير. واحتجوا بأحاديث:
الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن هشام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن عمران [ابن] حُصَين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) فلما سمع أصحابه بذلك حَثْوا المُطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما تأشهوا حوله قال: " أتدرون أي يوم ذاك؟ يوم ينادى آدم، عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل، فيقول: يا آدم، ابعث بعثك إلى النار فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة" . قال فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة، فلما رأى ذلك قال: "أبشروا واعملوا، فوالذي نفس محمد بيده، إنكم لمع خَليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس" قال: فسُرّي عنهم، ثم قال: اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو الرقمة في ذراع الدابة".
وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما، عن محمد بن بَشَّار، عن يحيى -وهو القَطَّان-عن هشام-وهو الدستوائي-عن قتادة، به بنحوه. وقال الترمذي: حسن صحيح.
طريق أخرى لهذا الحديث: قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا ابن جُدعان، عن الحسن، عن عمران بن حُصَيْن؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نـزلت: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) إلى قوله: ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) ، قال: أنـزلت عليه هذه، وهو في سفر، فقال: "أتدرون أي يوم ذلك؟" فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة" فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسَدِّدوا، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية" قال: "فيؤخذ العدد من الجاهلية، فإن تمت وإلا كُمّلت من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرَّقمة في ذراع الدابة، أو كالشامة في جنب البعير" ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" فكبروا ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" فكبروا، ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا، قال: ولا أدري أقال الثلثين أم لا؟
وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عُيَيْنَةَ ، ثم قال الترمذي أيضا: هذا حديث حسن صحيح.
وقد روي عن سعيد بن أبي عَرُوبة عن الحسن، عن عمران بن الحصين. وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي، عن عمران بن الحصين ، فذكره.
وهكذا روى ابن جرير عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن عوف، عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العُسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) وذكر الحديث ، فذكر نحو سياق ابن جُدْعَان، فالله أعلم.
الحديث الثاني: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن الطَبَّاع، حدثنا أبو سفيان -[يعني] المعمري-عن مَعْمَر، عن قتادة، عن أنس قال: نـزلت: ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) وذكر -يعني: نحو سياق الحسن عن عمران-غير أنه قال: "ومن هلك من كفرة الجن والإنس".
رواه ابن جرير بطوله، من حديث معمر .
الحديث الثالث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد -يعني: ابن العوام-حدثنا هلال بن خباب ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه، وقال فيه: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" ، ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" ففرحوا، وزاد أيضًا: "وإنما أنتم جزء من ألف جزء" اضغط هنا .
الحديث الرابع: قال البخاري عند هذه الآية: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف -أراه قال-تسعمائة وتسعة وتسعين . فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة". فكبرنا، ثم قال: "ثلث أهل الجنة" . فكبرنا، ثم قال: "شطر أهل الجنة" فكبرنا .
وقد رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع، ومسلم، والنسائي في تفسيره، من طرق، عن الأعمش، به .
الحديث الخامس: قال الإمام أحمد: حدثنا عمار بن محمد -ابن أخت سفيان الثوري-وعبيدة المعنى، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث يوم القيامة مناديا [ينادي] : يا آدم، إن الله يأمرك أن تبعث بعثًا من ذريتك إلى النار، فيقول آدم: يا رب، من هم؟ فيقال له: من كل مائة تسعة وتسعين" . فقال رجل من القوم: من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله؟ قال : "هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير" .
انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد.
الحديث السادس: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن حاتم بن أبي صغيرة، حدثنا ابن أبي مُلَيْكَةَ؛ أن القاسم بن محمد أخبره، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تحشرون يوم القيامة حُفاة عراة غرلا" . قالت عائشة: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: "يا عائشة، إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك" . أخرجاه في الصحيحين .
الحديث السابع: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن خالد بن أبي عِمْران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: "يا عائشة، أما عند ثلاث فلا أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف، فلا. وأما عند تطاير الكتب فإما يعطى بيمينه أو يعطى بشماله، فلا. وحين يخرج عُنُق من النار فينطوي عليهم، ويتغيظ عليهم، ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة: وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد" قال: "فينطوي عليهم، ويرميهم في غمرات، ولجهنم جسر أدق من الشعر وأحد من السيف، عليه كلاليب وحسك يأخُذْنَ من شاء الله، والناس عليه كالطرف وكالبرق وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، والملائكة يقولون: رب، سَلِّم، سَلِّم. فناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومكَوّر في النار على وجهه " .
والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جدا، لها موضع آخر، ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) أي: أمر كبير، وخطب جليل، وطارق مفظع، وحادث هائل، وكائن عجيب.
والزلزال : هو ما يحصل للنفوس من الفزع، والرعب كما قال تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا [ الأحزاب: 11 ].
ثم قال تعالى: ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا ) : هذا من باب ضمير الشأن؛ ولهذا قال مفسرًا له: ( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) أي: تشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها، والتي هي أشفق الناس عليه، تدهش عنه في حال إرضاعها له؛ ولهذا قال: ( كُلُّ مُرْضِعَةٍ ) ، ولم يقل: "مرضع" وقال: ( عَمَّا أَرْضَعَتْ ) أي: عن رضيعها قبل فطامه.
وقوله: ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) أي: قبل تمامه لشدة الهول، ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ) وقرئ: "سَكْرَى" أي: من شدة الأمر الذي [قد] صاروا فيه قد دهشت عقولهم، وغابت أذهانهم، فمن رآهم حسب أنهم سُكارى، ( وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) .
يقول تعالى ذامًا لمن كذب بالبعث، وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضا عما أنـزل الله على أنبيائه، متبعًا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد، من الإنس والجن، وهذا حال أهل الضلال والبدع، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنـزله الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رءوس الضلالة، الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ، أي: علم صحيح، ( وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ ) قال مجاهد: يعني الشيطان، يعني: كتب عليه كتابة قدرية ( أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ ) أي: اتبعه وقلده، ( فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) أي: يضله في الدنيا ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، وهو الحار المؤلم المزعج المقلق.
وقد قال السدي، عن أبي مالك: نـزلت هذه الآية في النضر بن الحارث. وكذلك قال ابن جريج.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن سلم البصري، حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة، حدثنا المعمر ، حدثنا أبو كعب المكي قال: قال خبيث من خُبثاء قريش: أخبرنا عن ربكم، من ذهب هو، أو من فضة هو، أو من نحاس هو؟ فقعقعت السماء قعقعة -والقعقعة في كلام العرب: الرعد-فإذا قِحْف رأسه ساقط بين يديه.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: جاء يهودي فقال: يا محمد، أخبرنا عن ربك: من أي شيء هو؟ من در أم من ياقوت؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) .
لما ذكر تعالى المخالف للبعث، المنكر للمعاد، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد، بما يشاهد من بدئه للخلق ، فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) أي: في شك ( مِنَ الْبَعْثِ ) وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة ( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ) أي: أصل بَرْئه لكم من تراب، وهو الذي خلق منه آدم، عليه السلام ( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) أي: ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ( ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ) ذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوما كذلك، يضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوما، ثم تستحيل فتصير مضغة -قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط-ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس ويدان، وصدر وبطن، وفخذان ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط؛ ولهذا قال تعالى: ( ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) أي: كما تشاهدونها، ( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي: وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق. فإذا مضى عليها أربعون يوما، وهي مضغة، أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله عز وجل ، من حسن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد، كما ثبت في الصحيحين، من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق-:"إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب عمله وأجله ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح" .
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم، أخذها ملك بكفه قال : يا رب، مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل: "غير مخلقة" لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام دما. وإن قيل: "مخلقة" ، قال: أي رب، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأي أرض يموت ؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله. فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله. فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة. قال: فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت، فدفنت في ذلك المكان، ثم تلا عامر الشعبي: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة، فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد -يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم-قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين، فيقول: أي رب، أشقي أم سعيد؟ فيقول الله، ويكتبان، فيقول: أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص .
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، ومن طرق أخر، عن أبي الطُّفَيل، بنحو معناه .
وقوله: ( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ) أي: ضعيفا في بدنه، وسمعه وبصره وحواسه، وبطشه وعقله. ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا، ويلطف به، ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) أي: يتكامل القوى ويتزايد، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر.
( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ) ، أي: في حال شبابه وقواه، ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) ، وهو الشيخوخة والهَرَم وضعف القوة والعقل والفهم، وتناقص الأحوال من الخَرَف وضعف الفكر؛ ولهذا قال: ( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) ، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [ الروم: 54 ].
وقد قال الحافظ أبو يعلى [أحمد] بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا خالد الزيات، حدثني داود أبو سليمان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم الأنصاري، عن أنس بن مالك -رفع الحديث-قال: "المولود حتى يبلغ الحنث، ما عمل من حسنة، كتبت لوالده أو لوالدته وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث جرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون، والجذام، والبرص. فإذا بلغ الخمسين، خفف الله حسابه. فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفعه في أهل بيته، وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ أرذل العمر ( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير، فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه" .
هذا حديث غريب جدا، وفيه نكارة شديدة. ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده مرفوعا وموقوفا فقال:
حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج، حدثنا محمد بن عامر، عن محمد بن عبد الله العامري ، عن عمرو بن جعفر، عن أنس قال: إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة، أمنه الله من أنواع البلايا، من الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ الخمسين لَيَّن الله حسابه، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه عليها، وإذا بلغ السبعين أحبه الله، وأحبه أهل السماء، وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته، ومحا عنه سيئاته، وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في الأرض، وشفع في أهله .
ثم قال: حدثنا هاشم، حدثنا الفرج، حدثني محمد بن عبد الله العامري، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله .
ورواه الإمام أحمد أيضا: حدثنا أنس بن عياض، حدثني يوسف بن أبي ذرة الأنصاري، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضَّمْري، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة، إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون والجذام والبرص ..... وذكر تمام الحديث، كما تقدم سواء .
ورواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عبد الله بن شبيب، عن أبي شيبة، عن عبد الله بن عبد الملك ، عن أبي قتادة العُذْري، عن ابن أخي الزهري، عن عمه، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة، إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ سبعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله، وأحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غَفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسُمي أسير الله في أرضه، وشفع في أهل بيته" .
وقوله: ( وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً ) : هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى، كما يحيي الأرض الميتة الهامدة، وهي القحلَة التي لا نبت فيها ولا شيء .
وقال قتادة: غبراء متهشمة. وقال السدي: ميتة.
( فَإِذَا أَنـزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) أي: فإذا أنـزل الله عليها المطر ( اهْتَزَّتْ ) أي: تحركت وحييت بعد موتها، ( وَرَبَتْ ) أي: ارتفعت لما سكن فيها الثرى، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون، من ثمار وزروع، وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها ومنافعها؛ ولهذا قال تعالى: ( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) أي: حسن المنظر طيب الريح.
[وهي مكية] .
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) .
يقول تعالى آمرا عباده بتقواه، ومخبرا لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها. وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة: هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عَرصَات القيامة؟ أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم؟ كما قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [ الزلزلة: 1 ، 2 ] ، وقال تعالى: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [ الحاقة: 14 ، 15 ] ، وقال تعالى: إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [ الواقعة: 4 -6 ].
فقال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عَلْقَمَة في قوله: ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ، قال: قبل الساعة.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري، عن منصور والأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، فذكره. قال: وروي عن الشعبي، وإبراهيم، وعُبَيْد بن عُمَيْر، نحو ذلك.
وقال أبو كُدَيْنَةَ، عن عطاء، عن عامر الشعبي: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) الآية، قال: هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.
وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مُسْتَنَدَ مَنْ قال ذلك في حديث الصُّور، من رواية إسماعيل ابن رافع قاضي أهل المدينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصُّور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فِيه، شاخص ببصره إلى العَرش، ينتظر متى يؤمر". قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصور؟
قال: "قرن" قال: فكيف هو؟ قال: "قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصَّعْق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع. فيفزعُ أهل السموات وأهل الأرض، إلا من شاء الله، ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر، وهي التي يقول الله تعالى: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ [ ص: 15 ] فَيُسير الله الجبال، فتكون سرابا وتُرج الأرض بأهلها رجا، وهي التي يقول الله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [ النازعات: 6 -8 ]، فتكون الأرض، كالسفينة الموبقة في البحر، تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح.
فيمتد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل. ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة، حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله تعالى: يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [ غافر: 32 ، 33 ] فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فَرَأوا أمرا عظيما، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وخُسفَ قمرها، وانتثرت نجومها، ثم كُشِطت عنهم" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك" قال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [ النمل: 87 ] ؟ قال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول الله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .
وهذا الحديث قد رواه الطبراني، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغير واحد مطولا جدًا.
والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة، وأضيفت إلى الساعة لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة، ونحو ذلك، والله أعلم.
وقال آخرون: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال، كائن يوم القيامة في العرصات، بعد القيامة من القبور. واختار ذلك ابن جرير. واحتجوا بأحاديث:
الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن هشام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن عمران [ابن] حُصَين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) فلما سمع أصحابه بذلك حَثْوا المُطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما تأشهوا حوله قال: " أتدرون أي يوم ذاك؟ يوم ينادى آدم، عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل، فيقول: يا آدم، ابعث بعثك إلى النار فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة" . قال فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة، فلما رأى ذلك قال: "أبشروا واعملوا، فوالذي نفس محمد بيده، إنكم لمع خَليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس" قال: فسُرّي عنهم، ثم قال: اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو الرقمة في ذراع الدابة".
وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما، عن محمد بن بَشَّار، عن يحيى -وهو القَطَّان-عن هشام-وهو الدستوائي-عن قتادة، به بنحوه. وقال الترمذي: حسن صحيح.
طريق أخرى لهذا الحديث: قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا ابن جُدعان، عن الحسن، عن عمران بن حُصَيْن؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نـزلت: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) إلى قوله: ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) ، قال: أنـزلت عليه هذه، وهو في سفر، فقال: "أتدرون أي يوم ذلك؟" فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة" فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسَدِّدوا، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية" قال: "فيؤخذ العدد من الجاهلية، فإن تمت وإلا كُمّلت من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرَّقمة في ذراع الدابة، أو كالشامة في جنب البعير" ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" فكبروا ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" فكبروا، ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا، قال: ولا أدري أقال الثلثين أم لا؟
وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عُيَيْنَةَ ، ثم قال الترمذي أيضا: هذا حديث حسن صحيح.
وقد روي عن سعيد بن أبي عَرُوبة عن الحسن، عن عمران بن الحصين. وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي، عن عمران بن الحصين ، فذكره.
وهكذا روى ابن جرير عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن عوف، عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العُسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) وذكر الحديث ، فذكر نحو سياق ابن جُدْعَان، فالله أعلم.
الحديث الثاني: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن الطَبَّاع، حدثنا أبو سفيان -[يعني] المعمري-عن مَعْمَر، عن قتادة، عن أنس قال: نـزلت: ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) وذكر -يعني: نحو سياق الحسن عن عمران-غير أنه قال: "ومن هلك من كفرة الجن والإنس".
رواه ابن جرير بطوله، من حديث معمر .
الحديث الثالث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد -يعني: ابن العوام-حدثنا هلال بن خباب ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه، وقال فيه: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" ، ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" ثم قال: "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" ففرحوا، وزاد أيضًا: "وإنما أنتم جزء من ألف جزء" اضغط هنا .
الحديث الرابع: قال البخاري عند هذه الآية: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف -أراه قال-تسعمائة وتسعة وتسعين . فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة". فكبرنا، ثم قال: "ثلث أهل الجنة" . فكبرنا، ثم قال: "شطر أهل الجنة" فكبرنا .
وقد رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع، ومسلم، والنسائي في تفسيره، من طرق، عن الأعمش، به .
الحديث الخامس: قال الإمام أحمد: حدثنا عمار بن محمد -ابن أخت سفيان الثوري-وعبيدة المعنى، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث يوم القيامة مناديا [ينادي] : يا آدم، إن الله يأمرك أن تبعث بعثًا من ذريتك إلى النار، فيقول آدم: يا رب، من هم؟ فيقال له: من كل مائة تسعة وتسعين" . فقال رجل من القوم: من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله؟ قال : "هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير" .
انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد.
الحديث السادس: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن حاتم بن أبي صغيرة، حدثنا ابن أبي مُلَيْكَةَ؛ أن القاسم بن محمد أخبره، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تحشرون يوم القيامة حُفاة عراة غرلا" . قالت عائشة: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: "يا عائشة، إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك" . أخرجاه في الصحيحين .
الحديث السابع: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن خالد بن أبي عِمْران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: "يا عائشة، أما عند ثلاث فلا أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف، فلا. وأما عند تطاير الكتب فإما يعطى بيمينه أو يعطى بشماله، فلا. وحين يخرج عُنُق من النار فينطوي عليهم، ويتغيظ عليهم، ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة: وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد" قال: "فينطوي عليهم، ويرميهم في غمرات، ولجهنم جسر أدق من الشعر وأحد من السيف، عليه كلاليب وحسك يأخُذْنَ من شاء الله، والناس عليه كالطرف وكالبرق وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، والملائكة يقولون: رب، سَلِّم، سَلِّم. فناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومكَوّر في النار على وجهه " .
والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جدا، لها موضع آخر، ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) أي: أمر كبير، وخطب جليل، وطارق مفظع، وحادث هائل، وكائن عجيب.
والزلزال : هو ما يحصل للنفوس من الفزع، والرعب كما قال تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا [ الأحزاب: 11 ].
ثم قال تعالى: ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا ) : هذا من باب ضمير الشأن؛ ولهذا قال مفسرًا له: ( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) أي: تشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها، والتي هي أشفق الناس عليه، تدهش عنه في حال إرضاعها له؛ ولهذا قال: ( كُلُّ مُرْضِعَةٍ ) ، ولم يقل: "مرضع" وقال: ( عَمَّا أَرْضَعَتْ ) أي: عن رضيعها قبل فطامه.
وقوله: ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) أي: قبل تمامه لشدة الهول، ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ) وقرئ: "سَكْرَى" أي: من شدة الأمر الذي [قد] صاروا فيه قد دهشت عقولهم، وغابت أذهانهم، فمن رآهم حسب أنهم سُكارى، ( وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) .
يقول تعالى ذامًا لمن كذب بالبعث، وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضا عما أنـزل الله على أنبيائه، متبعًا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد، من الإنس والجن، وهذا حال أهل الضلال والبدع، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنـزله الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رءوس الضلالة، الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ، أي: علم صحيح، ( وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ ) قال مجاهد: يعني الشيطان، يعني: كتب عليه كتابة قدرية ( أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ ) أي: اتبعه وقلده، ( فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) أي: يضله في الدنيا ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، وهو الحار المؤلم المزعج المقلق.
وقد قال السدي، عن أبي مالك: نـزلت هذه الآية في النضر بن الحارث. وكذلك قال ابن جريج.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن سلم البصري، حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة، حدثنا المعمر ، حدثنا أبو كعب المكي قال: قال خبيث من خُبثاء قريش: أخبرنا عن ربكم، من ذهب هو، أو من فضة هو، أو من نحاس هو؟ فقعقعت السماء قعقعة -والقعقعة في كلام العرب: الرعد-فإذا قِحْف رأسه ساقط بين يديه.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: جاء يهودي فقال: يا محمد، أخبرنا عن ربك: من أي شيء هو؟ من در أم من ياقوت؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) .
لما ذكر تعالى المخالف للبعث، المنكر للمعاد، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد، بما يشاهد من بدئه للخلق ، فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) أي: في شك ( مِنَ الْبَعْثِ ) وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة ( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ) أي: أصل بَرْئه لكم من تراب، وهو الذي خلق منه آدم، عليه السلام ( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) أي: ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ( ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ) ذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوما كذلك، يضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوما، ثم تستحيل فتصير مضغة -قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط-ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس ويدان، وصدر وبطن، وفخذان ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط؛ ولهذا قال تعالى: ( ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) أي: كما تشاهدونها، ( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي: وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق. فإذا مضى عليها أربعون يوما، وهي مضغة، أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله عز وجل ، من حسن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد، كما ثبت في الصحيحين، من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق-:"إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب عمله وأجله ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح" .
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم، أخذها ملك بكفه قال : يا رب، مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل: "غير مخلقة" لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام دما. وإن قيل: "مخلقة" ، قال: أي رب، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأي أرض يموت ؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله. فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله. فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة. قال: فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت، فدفنت في ذلك المكان، ثم تلا عامر الشعبي: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة، فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد -يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم-قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين، فيقول: أي رب، أشقي أم سعيد؟ فيقول الله، ويكتبان، فيقول: أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص .
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، ومن طرق أخر، عن أبي الطُّفَيل، بنحو معناه .
وقوله: ( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ) أي: ضعيفا في بدنه، وسمعه وبصره وحواسه، وبطشه وعقله. ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا، ويلطف به، ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) أي: يتكامل القوى ويتزايد، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر.
( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ) ، أي: في حال شبابه وقواه، ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) ، وهو الشيخوخة والهَرَم وضعف القوة والعقل والفهم، وتناقص الأحوال من الخَرَف وضعف الفكر؛ ولهذا قال: ( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) ، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [ الروم: 54 ].
وقد قال الحافظ أبو يعلى [أحمد] بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا خالد الزيات، حدثني داود أبو سليمان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم الأنصاري، عن أنس بن مالك -رفع الحديث-قال: "المولود حتى يبلغ الحنث، ما عمل من حسنة، كتبت لوالده أو لوالدته وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث جرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون، والجذام، والبرص. فإذا بلغ الخمسين، خفف الله حسابه. فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفعه في أهل بيته، وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ أرذل العمر ( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير، فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه" .
هذا حديث غريب جدا، وفيه نكارة شديدة. ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده مرفوعا وموقوفا فقال:
حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج، حدثنا محمد بن عامر، عن محمد بن عبد الله العامري ، عن عمرو بن جعفر، عن أنس قال: إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة، أمنه الله من أنواع البلايا، من الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ الخمسين لَيَّن الله حسابه، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه عليها، وإذا بلغ السبعين أحبه الله، وأحبه أهل السماء، وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته، ومحا عنه سيئاته، وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في الأرض، وشفع في أهله .
ثم قال: حدثنا هاشم، حدثنا الفرج، حدثني محمد بن عبد الله العامري، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله .
ورواه الإمام أحمد أيضا: حدثنا أنس بن عياض، حدثني يوسف بن أبي ذرة الأنصاري، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضَّمْري، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة، إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون والجذام والبرص ..... وذكر تمام الحديث، كما تقدم سواء .
ورواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عبد الله بن شبيب، عن أبي شيبة، عن عبد الله بن عبد الملك ، عن أبي قتادة العُذْري، عن ابن أخي الزهري، عن عمه، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة، إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ سبعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله، وأحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غَفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسُمي أسير الله في أرضه، وشفع في أهل بيته" .
وقوله: ( وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً ) : هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى، كما يحيي الأرض الميتة الهامدة، وهي القحلَة التي لا نبت فيها ولا شيء .
وقال قتادة: غبراء متهشمة. وقال السدي: ميتة.
( فَإِذَا أَنـزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) أي: فإذا أنـزل الله عليها المطر ( اهْتَزَّتْ ) أي: تحركت وحييت بعد موتها، ( وَرَبَتْ ) أي: ارتفعت لما سكن فيها الثرى، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون، من ثمار وزروع، وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها ومنافعها؛ ولهذا قال تعالى: ( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) أي: حسن المنظر طيب الريح.
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الحج ايه 16\\\\24
» تفسير سورة الحج ايه 24\\\31
» تفسير سورة الحج ايه 47\\\\\56
» تفسير سورة الحج ايه31\\\39
» تفسير سورة الحج ايه39\\\\\47
» تفسير سورة الحج ايه 24\\\31
» تفسير سورة الحج ايه 47\\\\\56
» تفسير سورة الحج ايه31\\\39
» تفسير سورة الحج ايه39\\\\\47
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى