تفسير سورة النحل ايه 88\\\\94
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة النحل ايه 88\\94
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
ثم قال تعالى: ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ) أي: عذابا على كفرهم، وعذابًا على صدهم الناس عن اتباع الحق، كما قال تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام : 26] أي: ينهون الناس، عن اتباعه، ويبتعدون هم منه أيضًا وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام : 26] "< 4-594 >"
وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال [الله] تعالى: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف : 38].
وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سُرَيْح بن يونس، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله في قول الله: ( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال: زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال .
وحدثنا سريج بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا الأعمش، عن الحسن، عن ابن عباس أنه قال: ( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال: هي خمسة أنهار فوق العرش يعذبون ببعضها بالليل وببعضها بالنهار .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ) يعني أمته.
أي: اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع. وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة "النساء" فلما وصل إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء : 41] . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبك". قال ابن مسعود، رضي الله عنه: فالتفت فإذا عيناه تذرفان .
وقوله: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال ابن مسعود: [و] قد بين لنا في هذا القرآن كل علم، وكل شيء.
وقال مجاهد: كل حلال وحرام.
وقول ابن مسعود: أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم "< 4-595 >" ومعادهم.
( وَهُدًى ) أي: للقلوب، ( وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )
وقال الأوزاعي: ( وَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) أي: بالسنة.
ووجه اقتران قوله: ( وَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) مع قوله: ( وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ) أن المراد -والله أعلم-: إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنـزله عليك، سائلك عن ذلك يوم القيامة، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف : 6] ، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر : 92، 93] ، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ [المائدة : 109] ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص : 85] أي: إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه، ومعيدك يوم القيامة، وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال، وهو مُتَّجه حسن .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان، كما قال تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل : 126] ، وقال وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى : 40] ، وقال وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة : 45] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا، من شرعية العدل والندب إلى الفضل.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع: هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا. والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
وقوله: ( وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) أي: يأمر بصلة الأرحام، كما قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء : 26] .
وقوله: ( وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) فالفواحش: المحرمات. والمنكرات: ما ظهر منها من فاعلها؛ ولهذا قيل في الموضع الآخر: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف : 33] . وأما البغي فهو: العدوان على الناس. وقد جاء في الحديث: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله "< 4-596 >" عقوبته في الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم" اضغط هنا .
وقوله ( يَعِظُكُمْ ) أي: يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر، ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
قال الشعبي، عن شُتَيْر بن شَكَل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ) الآية. رواه ابن جرير .
وقال سعيد عن قتادة: قوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ) الآية، ليس من خُلُق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها.
قلت: ولهذا جاء في الحديث: "إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سَفْسافها" اضغط هنا .
وقال الحافظ أبو نُعَيم في كتابه "كتاب معرفة الصحابة": حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي، حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم، حدثنا الحسن بن داود المنْكَدري، حدثنا عمر بن علي المقدمي، عن علي بن عبد الملك بن عمير اضغط هنا عن أبيه قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا، لم تكن لتخف إليه! قال: فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه. فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله". قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) قالوا: اردد علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه. فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه، فوجدناه زاكي النسب، وسطا في مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني قد أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رءوسا، ولا تكونوا فيه أذنابا اضغط هنا . "< 4-597 >"
وقد ورد في نـزول هذه الآية الكريمة حديث حَسن، رواه الإمام أحمد:
حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثني عبد الله بن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس، إذ مر به عثمان بن مظعون، فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجلس؟" فقال: بلى. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله، فبينما هو يحدثه إذ شَخَص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره في السماء، فنظر ساعة إلى [السماء] فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يَمْنته في الأرض، فتحرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة. فأتبعه بصره حتى توارى في السماء. فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال: يا محمد، فيما كنت أجالسك؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة! قال: "وما رأيتني فعلت؟" قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك، فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك. قال: "وفطنت لذلك؟" فقال عثمان: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس". قال: رسولُ الله؟ قال: "نعم". قال: فما قال لك؟ قال: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمدًا صلى الله عليه وسلم .
إسناد جيد متصل حسن، قد بُيِّن فيه السماع المتصل. ورواه ابن أبي حاتم، من حديث عبد الحميد بن بَهرام مختصرًا.
حديث آخر: عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك، قال الإمام أحمد:
حدثنا أسود بن عامر، حدثنا هُرَيْم، عن لَيْث، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، إذ شَخَصَ بَصره فقال: "أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ] ) .
وهذا إسناد لا بأس به، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين، والله أعلم.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) "< 4-598 >"
وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة؛ ولهذا قال: ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا )
ولا تعارض بين هذا وبين قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة : 224] وبين قوله تعالى: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة : 89] أي: لا تتركوها بلا تكفير، وبين قوله، عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين : "إني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها". وفي رواية: "وكفرت عن يميني" لا تعارض بين هذا كله، ولا بين الآية المذكورة هاهنا وهي قوله: ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا] ) ؛ لأن هذه الأيمان، المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة على حَثّ أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله: ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) يعني: الحِلْف، أي: حلْفَ الجاهلية؛ ويؤيده ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الله بن محمد -هو ابن أبي شيبة-حدثنا ابن نُمَيْر وأبو أسامة، عن زكريا -هو ابن أبي زائدة-عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جُبَيْر بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حِلْف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة".
وكذا رواه مسلم، عن ابن أبي شيبة، به .
ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلْف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وأما ما ورد في الصحيحين، عن عاصم الأحول، عن أنس، رضي الله عنه، أنه قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا -فمعناه: أنه آخى بينهم، فكانوا يتوارثون به، حتى نسخ الله ذلك والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عمارة الأسدي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا أبن أبي ليلى، عن مَزِيدة في قوله: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) قال: نـزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فقال: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) هذه البيعة التي بايعتم "< 4-599 >" على الإسلام، ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) البيعة، لا يحملنكم قلة محمد [وأصحابه] وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي تبايعتم على الإسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا صخر بن جُوَيرية، عن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد، ثم قال: أما بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة، فيقال هذه غَدْرة فلان وإن من أعظم الغَدْر -إلا أن يكون الإشراك بالله-أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله، ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون صَيْلم بيني وبينه" .
المرفوع منه في الصحيحين .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حجاج، عن عبد الرحمن بن عابس، عن أبيه، عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شرط لأخيه شرطًا، لا يريد أن يفي له به، فهو كالمدلي جاره إلى غير مَنْعَة" .
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.
وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) قال عبد الله بن كثير، والسدّي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه.
وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده.
وهذا القول أرجح وأظهر، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا.
وقوله: ( أَنْكَاثًا ) يحتمل أن يكون اسم مصدر: نقضت غزلها أنكاثا، أي: أنقاضا. ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان، أي: لا تكونوا أنكاثا، جمع نكث من ناكث؛ ولهذا قال بعده: ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) أي: خديعة ومكرًا، ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) أي: يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم. فنهى الله عن ذلك، لينبه بالأدنى على الأعلى؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.
وقد قدمنا -ولله الحمد-في سورة "الأنفال" قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمَدٌ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون، فقال له عمرو بن عَبْسَة: الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدرًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "< 4-600 >" يقول: "من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عُقدة حتى ينقضي أمَدها". فرجع معاوية بالجيش، رضي الله عنه وأرضاه.
قال ابن عباس: ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) أي: أكثر.
وقال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز. فنهوا عن ذلك. وقال الضحاك، وقتادة، وابن زيد نحوه.
وقوله: ( إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ) قال سعيد بن جُبَير: يعني بالكثرة. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: أي: بأمره إياكم بالوفاء والعهد.
( وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) فيجازى كل عامل بعمله، من خير وشر.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
يقول تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ ) أيها الناس ( أُمَّةً وَاحِدَةً ) ، كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس : 99] أي: لوفق بينكم. ولما جعل اختلافا ولا تباغُضَ ولا شحناء وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود : 118 ، 119]، وهكذا قال هاهنا: ( وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم، فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطْمير.
ثم قال تعالى: ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ) أي: عذابا على كفرهم، وعذابًا على صدهم الناس عن اتباع الحق، كما قال تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام : 26] أي: ينهون الناس، عن اتباعه، ويبتعدون هم منه أيضًا وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام : 26] "< 4-594 >"
وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال [الله] تعالى: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف : 38].
وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سُرَيْح بن يونس، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله في قول الله: ( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال: زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال .
وحدثنا سريج بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا الأعمش، عن الحسن، عن ابن عباس أنه قال: ( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال: هي خمسة أنهار فوق العرش يعذبون ببعضها بالليل وببعضها بالنهار .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ) يعني أمته.
أي: اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع. وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة "النساء" فلما وصل إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء : 41] . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبك". قال ابن مسعود، رضي الله عنه: فالتفت فإذا عيناه تذرفان .
وقوله: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال ابن مسعود: [و] قد بين لنا في هذا القرآن كل علم، وكل شيء.
وقال مجاهد: كل حلال وحرام.
وقول ابن مسعود: أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم "< 4-595 >" ومعادهم.
( وَهُدًى ) أي: للقلوب، ( وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )
وقال الأوزاعي: ( وَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) أي: بالسنة.
ووجه اقتران قوله: ( وَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) مع قوله: ( وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ) أن المراد -والله أعلم-: إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنـزله عليك، سائلك عن ذلك يوم القيامة، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف : 6] ، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر : 92، 93] ، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ [المائدة : 109] ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص : 85] أي: إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه، ومعيدك يوم القيامة، وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال، وهو مُتَّجه حسن .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان، كما قال تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل : 126] ، وقال وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى : 40] ، وقال وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة : 45] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا، من شرعية العدل والندب إلى الفضل.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع: هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا. والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
وقوله: ( وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) أي: يأمر بصلة الأرحام، كما قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء : 26] .
وقوله: ( وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) فالفواحش: المحرمات. والمنكرات: ما ظهر منها من فاعلها؛ ولهذا قيل في الموضع الآخر: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف : 33] . وأما البغي فهو: العدوان على الناس. وقد جاء في الحديث: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله "< 4-596 >" عقوبته في الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم" اضغط هنا .
وقوله ( يَعِظُكُمْ ) أي: يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر، ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
قال الشعبي، عن شُتَيْر بن شَكَل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ) الآية. رواه ابن جرير .
وقال سعيد عن قتادة: قوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ) الآية، ليس من خُلُق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها.
قلت: ولهذا جاء في الحديث: "إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سَفْسافها" اضغط هنا .
وقال الحافظ أبو نُعَيم في كتابه "كتاب معرفة الصحابة": حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي، حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم، حدثنا الحسن بن داود المنْكَدري، حدثنا عمر بن علي المقدمي، عن علي بن عبد الملك بن عمير اضغط هنا عن أبيه قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا، لم تكن لتخف إليه! قال: فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه. فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله". قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) قالوا: اردد علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه. فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه، فوجدناه زاكي النسب، وسطا في مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني قد أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رءوسا، ولا تكونوا فيه أذنابا اضغط هنا . "< 4-597 >"
وقد ورد في نـزول هذه الآية الكريمة حديث حَسن، رواه الإمام أحمد:
حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثني عبد الله بن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس، إذ مر به عثمان بن مظعون، فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجلس؟" فقال: بلى. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله، فبينما هو يحدثه إذ شَخَص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره في السماء، فنظر ساعة إلى [السماء] فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يَمْنته في الأرض، فتحرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة. فأتبعه بصره حتى توارى في السماء. فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال: يا محمد، فيما كنت أجالسك؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة! قال: "وما رأيتني فعلت؟" قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك، فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك. قال: "وفطنت لذلك؟" فقال عثمان: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس". قال: رسولُ الله؟ قال: "نعم". قال: فما قال لك؟ قال: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمدًا صلى الله عليه وسلم .
إسناد جيد متصل حسن، قد بُيِّن فيه السماع المتصل. ورواه ابن أبي حاتم، من حديث عبد الحميد بن بَهرام مختصرًا.
حديث آخر: عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك، قال الإمام أحمد:
حدثنا أسود بن عامر، حدثنا هُرَيْم، عن لَيْث، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، إذ شَخَصَ بَصره فقال: "أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ] ) .
وهذا إسناد لا بأس به، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين، والله أعلم.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) "< 4-598 >"
وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة؛ ولهذا قال: ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا )
ولا تعارض بين هذا وبين قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة : 224] وبين قوله تعالى: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة : 89] أي: لا تتركوها بلا تكفير، وبين قوله، عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين : "إني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها". وفي رواية: "وكفرت عن يميني" لا تعارض بين هذا كله، ولا بين الآية المذكورة هاهنا وهي قوله: ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا] ) ؛ لأن هذه الأيمان، المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة على حَثّ أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله: ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) يعني: الحِلْف، أي: حلْفَ الجاهلية؛ ويؤيده ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الله بن محمد -هو ابن أبي شيبة-حدثنا ابن نُمَيْر وأبو أسامة، عن زكريا -هو ابن أبي زائدة-عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جُبَيْر بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حِلْف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة".
وكذا رواه مسلم، عن ابن أبي شيبة، به .
ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلْف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وأما ما ورد في الصحيحين، عن عاصم الأحول، عن أنس، رضي الله عنه، أنه قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا -فمعناه: أنه آخى بينهم، فكانوا يتوارثون به، حتى نسخ الله ذلك والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عمارة الأسدي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا أبن أبي ليلى، عن مَزِيدة في قوله: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) قال: نـزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فقال: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) هذه البيعة التي بايعتم "< 4-599 >" على الإسلام، ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) البيعة، لا يحملنكم قلة محمد [وأصحابه] وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي تبايعتم على الإسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا صخر بن جُوَيرية، عن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد، ثم قال: أما بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة، فيقال هذه غَدْرة فلان وإن من أعظم الغَدْر -إلا أن يكون الإشراك بالله-أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله، ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون صَيْلم بيني وبينه" .
المرفوع منه في الصحيحين .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حجاج، عن عبد الرحمن بن عابس، عن أبيه، عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شرط لأخيه شرطًا، لا يريد أن يفي له به، فهو كالمدلي جاره إلى غير مَنْعَة" .
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.
وقوله: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) قال عبد الله بن كثير، والسدّي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه.
وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده.
وهذا القول أرجح وأظهر، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا.
وقوله: ( أَنْكَاثًا ) يحتمل أن يكون اسم مصدر: نقضت غزلها أنكاثا، أي: أنقاضا. ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان، أي: لا تكونوا أنكاثا، جمع نكث من ناكث؛ ولهذا قال بعده: ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) أي: خديعة ومكرًا، ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) أي: يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم. فنهى الله عن ذلك، لينبه بالأدنى على الأعلى؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.
وقد قدمنا -ولله الحمد-في سورة "الأنفال" قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمَدٌ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون، فقال له عمرو بن عَبْسَة: الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدرًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "< 4-600 >" يقول: "من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عُقدة حتى ينقضي أمَدها". فرجع معاوية بالجيش، رضي الله عنه وأرضاه.
قال ابن عباس: ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) أي: أكثر.
وقال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز. فنهوا عن ذلك. وقال الضحاك، وقتادة، وابن زيد نحوه.
وقوله: ( إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ) قال سعيد بن جُبَير: يعني بالكثرة. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: أي: بأمره إياكم بالوفاء والعهد.
( وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) فيجازى كل عامل بعمله، من خير وشر.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
يقول تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ ) أيها الناس ( أُمَّةً وَاحِدَةً ) ، كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس : 99] أي: لوفق بينكم. ولما جعل اختلافا ولا تباغُضَ ولا شحناء وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود : 118 ، 119]، وهكذا قال هاهنا: ( وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم، فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطْمير.
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الحجرة اية91 \\ تفسير سورة النحل ايه7
» تفسير سورة النحل ايه 65\\\\73
» تفسير سورة النحل ايه 80\\\\88
» تفسير سورة النحل ايه 94\\103
» تفسير سورة النحل ايه55\\\65
» تفسير سورة النحل ايه 65\\\\73
» تفسير سورة النحل ايه 80\\\\88
» تفسير سورة النحل ايه 94\\103
» تفسير سورة النحل ايه55\\\65
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى