تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام عدد آياتها 112 ( آية 76-112 ) وهي مكية
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام عدد آياتها 112 ( آية 76-112 ) وهي مكية
{ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ْ}
أي: واذكر عبدنا ورسولنا، نوحا عليه السلام، مثنيا مادحا، حين أرسله الله إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة، إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن الشرك به، ويبدي فيهم ويعيد، ويدعوهم سرا وجهارا، وليلا ونهارا، فلما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ، ولا يفيد لديهم الزجر، نادى ربه وقال: { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ْ} فاستجاب الله له، فأغرقهم، ولم يبق منهم أحدا، ونجى الله نوحا وأهله، ومن معه من المؤمنين، في الفلك المشحون، وجعل ذريته هم الباقين، ونصرهم الله على قومه المستهزئين.
{ 78 - 82 ْ} { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }
أي: واذكر هذين النبيين الكريمين " داود " و " سليمان " مثنيا مبجلا، إذ آتاهما الله العلم الواسع والحكم بين العباد، بدليل قوله: { إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } أي: إذ تحاكم إليهما صاحب حرث، نفشت فيه غنم القوم الآخرين، أي: رعت ليلا، فأكلت ما في أشجاره، ورعت زرعه، فقضى فيه داود عليه السلام، بأن الغنم تكون لصاحب الحرث، نظرا إلى تفريط أصحابها، فعاقبهم بهذه العقوبة، وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب، بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث، حتى يعود إلى حاله الأولى، فإذا عاد إلى حاله، ترادا ورجع كل منهما بما له، وكان هذا من كمال فهمه وفطنته عليه السلام ولهذا قال: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } أي: فهمناه هذه القضية، ولا يدل ذلك، أن داود لم يفهمه الله في غيرها، ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله: { وَكُلَا } من داود وسليمان { آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب وقد يخطئ ذلك، وليس بمعلوم إذا أخطأ مع بذل اجتهاده.
ثم ذكر ما خص به كلا منهما فقال: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ } وذلك أنه كان من أعبد الناس وأكثرهم لله ذكرا وتسبيحا وتمجيدا، وكان قد أعطاه [الله] من حسن الصوت ورقته ورخامته، ما لم يؤته أحدا من الخلق، فكان إذا سبح وأثنى على الله، جاوبته الجبال الصم والطيور البهم، وهذا فضل الله عليه وإحسانه فلهذا قال: { وَكُنَّا فَاعِلِينَ }
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } أي: علم الله داود عليه السلام، صنعة الدروع، فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده، فألان الله له الحديد، وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة، { لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } أي: هي وقاية لكم، وحفظ عند الحرب، واشتداد البأس.
{ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } نعمة الله عليكم، حيث أجراها على يد عبده داود، كما قال تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ }
يحتمل أن تعليم الله لداود صنعة الدروع وإلانتها أمر خارق للعادة، وأن يكون - كما قاله المفسرون-: إن الله ألان له الحديد، حتى كان يعمله كالعجين والطين، من دون إذابة له على النار، ويحتمل أن تعليم الله له، على جاري العادة، وأن إلانة الحديد له، بما علمه الله من الأسباب المعروفة الآن، لإذابتها، وهذا هو الظاهر، لأن الله امتن بذلك على العباد وأمرهم بشكرها، ولولا أن صنعته من الأمور التي جعلها الله مقدورة للعباد، لم يمتن عليهم بذلك، ويذكر فائدتها، لأن الدروع التي صنع داود عليه السلام، متعذر أن يكون المراد أعيانها، وإنما المنة بالجنس، والاحتمال الذي ذكره المفسرون، لا دليل عليه إلا قوله: { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } وليس فيه أن الإلانة من دون سبب، والله أعلم بذلك.
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ } أي: سخرناها { عَاصِفَةً } أي: سريعة في مرورها، { تَجْرِي بِأَمْرِهِ } حيث دبرت امتثلت أمره، غدوها شهر ورواحها شهر { إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وهي أرض الشام، حيث كان مقره، فيذهب على الريح شرقا وغربا، ويكون مأواها ورجوعها إلى الأرض المباركة، { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } قد أحاط علمنا بجميع الأشياء، وعلمنا من داود وسليمان، ما أوصلناهما به إلى ما ذكرنا.
{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ } وهذا أيضا من خصائص سليمان عليه السلام، أن الله سخر له الشياطين والعفاريت، وسلطه على تسخيرهم في الأعمال، التي لا يقدر على كثير منها غيرهم، فكان منهم من يغوص له في البحر، ويستخرج الدر، واللؤلؤ، وغير ذلك، ومنهم من يعمل له { مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } وسخر طائفة منهم، لبناء بيت المقدس، ومات، وهم على عمله، وبقوا بعده سنة، حتى علموا موته، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
{ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } أي: لا يقدرون على الامتناع منه وعصيانه، بل حفظهم الله له، بقوته وعزته، وسلطانه.
{ 83 - 84 } { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ }
أي: واذكر عبدنا ورسولنا، أيوب - مثنيا معظما له، رافعا لقدره - حين ابتلاه، ببلاء شديد، فوجده صابرا راضيا عنه، وذلك أن الشيطان سلط على جسده، ابتلاء من الله، وامتحانا فنفخ في جسده، فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة، واشتد به البلاء، ومات أهله، وذهب ماله، فنادى ربه: رب { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } فتوسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه، وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ، وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب الله له، وقال له: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فركض برجله فخرجت من ركضته عين ماء باردة فاغتسل منها وشرب، فأذهب الله عنه ما به من الأذى، { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ } أي: رددنا عليه أهله وماله.
{ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } بأن منحه الله العافية من الأهل والمال شيئا كثيرا، { رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } به، حيث صبر ورضي، فأثابه الله ثوابا عاجلا قبل ثواب الآخرة.
{ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } أي: جعلناه عبرة للعابدين، الذين ينتفعون بالعبر، فإذا رأوا ما أصابه من البلاء، ثم ما أثابه الله بعد زواله، ونظروا السبب، وجدوه الصبر، ولهذا أثنى الله عليه به في قوله: { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } فجعلوه أسوة وقدوة عندما يصيبهم الضر.
{ 85 - 86 } { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ }
أي: واذكر عبادنا المصطفين، وأنبياءنا المرسلين بأحسن الذكر، وأثن عليهم أبلغ الثناء، إسماعيل بن إبراهيم، وإدريس، وذا الكفل، نبيين من أنبياء بني إسرائيل { كُلٌّ } من هؤلاء المذكورين { مِنَ الصَّابِرِينَ } والصبر: هو حبس النفس ومنعها، مما تميل بطبعها إليه، وهذا يشمل أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يستحق العبد اسم الصبر التام، حتى يوفي هذه الثلاثة حقها. فهؤلاء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قد وصفهم الله بالصبر، فدل أنهم وفوها حقها، وقاموا بها كما ينبغي، ووصفهم أيضا بالصلاح، وهو يشمل صلاح القلب، بمعرفة الله ومحبته، والإنابة إليه كل وقت، وصلاح اللسان، بأن يكون رطبا من ذكر الله، وصلاح الجوارح، باشتغالها بطاعة الله وكفها عن المعاصي. فبصبرهم وصلاحهم، أدخلهم الله برحمته، وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين، وأثابهم الثواب العاجل والآجل، ولو لم يكن من ثوابهم، إلا أن الله تعالى نوه بذكرهم في العالمين، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين، لكفى بذلك شرفا وفضلا.
{ 87 - 88 } { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }
أي: واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو: يونس، أي: صاحب النون، وهي الحوت، بالذكر الجميل، والثناء الحسن، فإن الله تعالى أرسله إلى قومه، فدعاهم، فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم.
[فجاءهم العذاب] ورأوه عيانا، فعجوا إلى الله، وضجوا وتابوا، فرفع الله عنهم العذاب كما قال تعالى: { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وقال: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وهذه الأمة العظيمة، الذين آمنوا بدعوة يونس، من أكبر فضائله. ولكنه عليه الصلاة والسلام، ذهب مغاضبا، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه، ولا حاجة لنا إلى تعيينها [لقوله: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ } { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي: فاعل ما يلام عليه] والظاهر أن عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك، ظن أن الله لا يقدر عليه، أي: يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت الله تعالى، ولا مانع من عروض هذا الظن للكمل من الخلق على وجه لا يستقر، ولا يستمر عليه، فركب في السفينة مع أناس، فاقترعوا، من يلقون منهم في البحر؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم، فأصابت القرعة يونس، فالتقمه الحوت، وذهب به إلى ظلمات البحار، فنادى في تلك الظلمات: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } فأقر لله تعالى بكمال الألوهية، ونزهه عن كل نقص، وعيب وآفة، واعترف بظلم نفسه وجنايته.
قال الله تعالى: { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ولهذا قال هنا: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي: الشدة التي وقع فيها.
{ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } وهذا وعد وبشارة، لكل مؤمن وقع في شدة وغم، أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ويخفف، لإيمانه كما فعل بـ " يونس " عليه السلام.
{ 89 - 90 } { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }
أي: واذكر عبدنا ورسولنا زكريا، منوها بذكره، ناشرا لمناقبه وفضائله، التي من جملتها، هذه المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه للخلق، ورحمة الله إياه، وأنه { نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا } أي: { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا }
من هذه الآيات علمنا أن قوله { رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا } أنه لما تقارب أجله، خاف أن لا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله، والنصح لعباد الله، وأن يكون في وقته فردا، ولا يخلف من يشفعه ويعينه، على ما قام به، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } أي: خير الباقين، وخير من خلفني بخير، وأنت أرحم بعبادك مني، ولكني أريد ما يطمئن به قلبي، وتسكن له نفسي، ويجري في موازيني ثوابه.
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى } النبي الكريم، الذي لم يجعل الله له من قبل سميا.
{ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } بعدما كانت عاقرا، لا يصلح رحمها للولادة فأصلح الله رحمها للحمل، لأجل نبيه زكريا، وهذا من فوائد الجليس، والقرين الصالح، أنه مبارك على قرينه، فصار يحيى مشتركا بين الوالدين.
ولما ذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين، كلا على انفراده، أثنى عليهم عموما فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها، { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون، { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } أي: خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم.
{ 91 - 94 } { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ }
أي: واذكر مريم، عليها السلام، مثنيا عليها مبينا لقدرها، شاهرا لشرفها فقال: { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي: حفظته من الحرام وقربانه، بل ومن الحلال، فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة، واستغراق وقتها بالخدمة لربها.
وحين جاءها جبريل في صورة بشر سوي تام الخلق والحسن { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } فجازاها الله من جنس عملها، ورزقها ولدا من غير أب، بل نفخ فيها جبريل عليه السلام، فحملت بإذن الله.
{ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } حيث حملت به، ووضعته من دون مسيس أحد، وحيث تكلم في المهد، وبرأها مما ظن بها المتهمون وأخبر عن نفسه في تلك الحالة، وأجرى الله على يديه من الخوارق والمعجزات ما هو معلوم، فكانت وابنها آية للعالمين، يتحدث بها جيلا بعد جيل، ويعتبر بها المعتبرون.
ولما ذكر الأنبياء عليهم السلام، قال مخاطبا للناس: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي: هؤلاء الرسل المذكورون هم أمتكم وائمتكم الذين بهم تأتمون، وبهديهم تقتدون، كلهم على دين واحد، وصراط واحد، والرب أيضا واحد.
ولهذا قال: { وَأَنَا رَبُّكُمْ } الذي خلقتكم، وربيتكم بنعمتي، في الدين والدنيا، فإذا كان الرب واحدا، والنبي واحدا، والدين واحدا، وهو عبادة الله، وحده لا شريك له، بجميع أنواع العبادة كان وظيفتكم والواجب عليكم، القيام بها، ولهذا قال: { فَاعْبُدُونِ } فرتب العبادة على ما سبق بالفاء، ترتيب المسبب على سببه.
وكان اللائق، الاجتماع على هذا الأمر، وعدم التفرق فيه، ولكن البغي والاعتداء، أبيا إلا الافتراق والتقطع. ولهذا قال: { وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي: تفرق الأحزاب المنتسبون لاتباع الأنبياء فرقا، وتشتتوا، كل يدعي أن الحق معه، والباطل مع الفريق الآخر و { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }
وقد علم أن المصيب منهم، من كان سالكا للدين القويم، والصراط المستقيم، مؤتما بالأنبياء وسيظهر هذا، إذا انكشف الغطاء، وبرح الخفاء، وحشر الله الناس لفصل القضاء، فحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، ولهذا قال: { كُلٌّ } من الفرق المتفرقة وغيرهم { إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } أي: فنجازيهم أتم الجزاء.
ثم فصل جزاءه فيهم، منطوقا ومفهوما، فقال: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ } أي: الأعمال التي شرعتها الرسل وحثت عليها الكتب { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله وبرسله، وما جاءوا به { فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } أي: لا نضيع سعيه ولا نبطله، بل نضاعفه له أضعافا كثيرة.
{ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي: مثبتون له في اللوح المحفوظ، وفي الصحف التي مع الحفظة. أي: ومن لم يعمل من الصالحات، أو عملها وهو ليس بمؤمن، فإنه محروم، خاسر في دينه، ودنياه.
{ 95 } { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ }
أي: يمتنع على القرى المهلكة المعذبة، الرجوع إلى الدنيا، ليستدركوا ما فرطوا فيه فلا سبيل إلى الرجوع لمن أهلك وعذب، فليحذر المخاطبون، أن يستمروا على ما يوجب الإهلاك فيقع بهم، فلا يمكن رفعه، وليقلعوا وقت الإمكان والإدراك.
{ 96 - 97 } { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ }
هذا تحذير من الله للناس، أن يقيموا على الكفر والمعاصي، وأنه قد قرب انفتاح يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان عظيمتان من بني آدم، وقد سد عليهم ذو القرنين، لما شكي إليه إفسادهم في الأرض، وفي آخر الزمان، ينفتح السد عنهم، فيخرجون إلى الناس في هذه الحالة والوصف، الذي ذكره الله من كل من مكان مرتفع، وهو الحدب ينسلون أي: يسرعون. وفي هذا دلالة على كثرتهم الباهرة، وإسراعهم في الأرض، إما بذواتهم، وإما بما خلق الله لهم من الأسباب التي تقرب لهم البعيد، وتسهل عليهم الصعب، وأنهم يقهرون الناس، ويعلون عليهم في الدنيا، وأنه لا يد لأحد بقتالهم.
{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } أي: يوم القيامة الذي وعد الله بإتيانه، ووعده حق وصدق، ففي ذلك اليوم ترى أبصار الكفار شاخصة، من شدة الأفزاع والأهوال المزعجة، والقلاقل المفظعة، وما كانوا يعرفون من جناياتهم وذنوبهم، وأنهم يدعون بالويل والثبور، والندم والحسرة، على ما فات ويقولون لـ : { قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } اليوم العظيم، فلم نزل فيها مستغرقين، وفي لهو الدنيا متمتعين، حتى أتانا اليقين، ووردنا القيامة، فلو كان يموت أحد من الندم والحسرة، لماتوا. { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } اعترفوا بظلمهم، وعدل الله فيهم، فحينئذ يؤمر بهم إلى النار، هم وما كانوا يعبدون، ولهذا قال:
{ 98 - 103 } { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }
أي: إنكم أيها العابدون مع الله آلهة غيره { حَصَبُ جَهَنَّمَ } أي: وقودها وحطبها { أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } وأصنامكم.
والحكمة في دخول الأصنام النار، وهي جماد، لا تعقل، وليس عليها ذنب، بيان كذب من اتخذها آلهة، وليزداد عذابهم، فلهذا قال: { لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا } وهذا كقوله تعالى: { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } وكل من العابدين والمعبودين فيها، خالدون، لا يخرجون منها، ولا ينتقلون عنها.
{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } من شدة العذاب { وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ } صم بكم عمي، أولا يسمعون من الأصوات غير صوتها، لشدة غليانها، واشتداد زفيرها وتغيظها.
ودخول آلهة المشركين النار، إنما هو الأصنام، أو من عبد، وهو راض بعبادته.
وأما المسيح، وعزير، والملائكة ونحوهم، ممن عبد من الأولياء، فإنهم لا يعذبون فيها، ويدخلون في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } أي: سبقت لهم سابقة السعادة في علم الله، وفي اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى والأعمال الصالحة.
{ أُولَئِكَ عَنْهَا } أي: عن النار { مُبْعَدُونَ } فلا يدخلونها، ولا يكونون قريبا منها، بل يبعدون عنها، غاية البعد، حتى لا يسمعوا حسيسها، ولا يروا شخصها، { وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } من المآكل، والمشارب، والمناكح والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مستمر لهم ذلك، يزداد حسنه على الأحقاب.
{ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ } أي: لا يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع، وذلك يوم القيامة، حين تقرب النار، تتغيظ على الكافرين والعاصين فيفزع الناس لذلك الأمر وهؤلاء لا يحزنهم، لعلمهم بما يقدمون عليه وأن الله قد أمنهم مما يخافون.
{ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ } إذا بعثوا من قبورهم، وأتوا على النجائب وفدا، لنشورهم، مهنئين لهم قائلين: { هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } فليهنكم ما وعدكم الله، وليعظم استبشاركم، بما أمامكم من الكرامة، وليكثر فرحكم وسروركم، بما أمنكم الله من المخاوف والمكاره.
{ 104 - 105 } { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات - على عظمها واتساعها - كما يطوي الكاتب للسجل أي: الورقة المكتوب فيها، فتنثر نجومها، ويكور شمسها وقمرها، وتزول عن أماكنها { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } أي: إعادتنا للخلق، مثل ابتدائنا لخلقهم، فكما ابتدأنا خلقهم، ولم يكونوا شيئا، كذلك نعيدهم بعد موتهم.
{ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } ننفذ ما وعدنا، لكمال قدرته، وأنه لا تمتنع منه الأشياء.
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ } وهو الكتاب المزبور، والمراد: الكتب المنزلة، كالتوراة ونحوها { مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } أي: كتبناه في الكتب المنزلة، بعد ما كتبنا في الكتاب السابق، الذي هو اللوح المحفوظ، وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك: { أَنَّ الْأَرْضَ } أي: أرض الجنة { يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } الذين قاموا بالمأمورات، واجتنبوا المنهيات، فهم الذين يورثهم الله الجنات، كقول أهل الجنة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ }
ويحتمل أن المراد: الاستخلاف في الأرض، وأن الصالحين يمكن الله لهم في الأرض، ويوليهم عليها كقوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } الآية.
{ 106 - 112 } { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }
يثني الله تعالى على كتابه العزيز " القرآن " ويبين كفايته التامة عن كل شيء، وأنه لا يستغنى عنه فقال: { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي: يتبلغون به في الوصول إلى ربهم، وإلى دار كرامته، فوصلهم إلى أجل المطالب، وأفضل الرغائب. وليس للعابدين، الذين هم أشرف الخلق، وراءه غاية، لأنه الكفيل بمعرفة ربهم، بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وبالإخبار بالغيوب الصادقة، وبالدعوة لحقائق الإيمان، وشواهد الإيقان، المبين للمأمورات كلها، والمنهيات جميعا، المعرف بعيوب النفس والعمل، والطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين وجليله، والتحذير من طرق الشيطان، وبيان مداخله على الإنسان، فمن لم يغنه القرآن، فلا أغناه الله، ومن لا يكفيه، فلا كفاه الله.
ثم أثنى على رسوله، الذي جاء بالقرآن فقال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فهو رحمته المهداة لعباده، فالمؤمنون به، قبلوا هذه الرحمة، وشكروها، وقاموا بها، وغيرهم كفرها، وبدلوا نعمة الله كفرا، وأبوا رحمة الله ونعمته.
{ قُلْ } يا محمد { إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } الذي لا يستحق العبادة إلا هو، ولهذا قال: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي: منقادون لعبوديته مستسلمون لألوهيته، فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ما منَّ عليهم بهذه النعمة التي فاقت المنن.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } عن الانقياد لعبودية ربهم، فحذرهم حلول المثلات، ونزول العقوبة.
{ فَقُلْ آذَنْتُكُمْ } أي: أعلمتكم بالعقوبة { عَلَى سَوَاءٍ } أي علمي وعلمكم بذلك مستو، فلا تقولوا - إذا أنزل بكم العذاب: { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ } بل الآن، استوى علمي وعلمكم، لما أنذرتكم، وحذرتكم، وأعلمتكم بمآل الكفر، ولم أكتم عنكم شيئا.
{ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } أي: من العذاب لأن علمه عند الله، وهو بيده، ليس لي من الأمر شيء.
{ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي: لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه شر لكم، وأن تتمتعوا في الدنيا إلى حين، ثم يكون أعظم لعقوبتكم.
{ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } أي: بيننا وبين القوم الكافرين، فاستجاب الله هذا الدعاء، وحكم بينهم في الدنيا قبل الآخرة، بما عاقب الله به الكافرين من وقعة " بدر " وغيرها.
{ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي: نسأل ربنا الرحمن، ونستعين به على ما تصفون، من قولكم سنظهر عليكم، وسيضمحل دينكم، فنحن في هذا، لا نعجب بأنفسنا، ولا نتكل على حولنا وقوتنا، وإنما نستعين بالرحمن، الذي
ناصية كل مخلوق بيده، ونرجوه أن يتم ما استعناه به من رحمته، وقد فعل، ولله الحمد.
أي: واذكر عبدنا ورسولنا، نوحا عليه السلام، مثنيا مادحا، حين أرسله الله إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة، إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن الشرك به، ويبدي فيهم ويعيد، ويدعوهم سرا وجهارا، وليلا ونهارا، فلما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ، ولا يفيد لديهم الزجر، نادى ربه وقال: { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ْ} فاستجاب الله له، فأغرقهم، ولم يبق منهم أحدا، ونجى الله نوحا وأهله، ومن معه من المؤمنين، في الفلك المشحون، وجعل ذريته هم الباقين، ونصرهم الله على قومه المستهزئين.
{ 78 - 82 ْ} { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }
أي: واذكر هذين النبيين الكريمين " داود " و " سليمان " مثنيا مبجلا، إذ آتاهما الله العلم الواسع والحكم بين العباد، بدليل قوله: { إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } أي: إذ تحاكم إليهما صاحب حرث، نفشت فيه غنم القوم الآخرين، أي: رعت ليلا، فأكلت ما في أشجاره، ورعت زرعه، فقضى فيه داود عليه السلام، بأن الغنم تكون لصاحب الحرث، نظرا إلى تفريط أصحابها، فعاقبهم بهذه العقوبة، وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب، بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث، حتى يعود إلى حاله الأولى، فإذا عاد إلى حاله، ترادا ورجع كل منهما بما له، وكان هذا من كمال فهمه وفطنته عليه السلام ولهذا قال: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } أي: فهمناه هذه القضية، ولا يدل ذلك، أن داود لم يفهمه الله في غيرها، ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله: { وَكُلَا } من داود وسليمان { آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب وقد يخطئ ذلك، وليس بمعلوم إذا أخطأ مع بذل اجتهاده.
ثم ذكر ما خص به كلا منهما فقال: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ } وذلك أنه كان من أعبد الناس وأكثرهم لله ذكرا وتسبيحا وتمجيدا، وكان قد أعطاه [الله] من حسن الصوت ورقته ورخامته، ما لم يؤته أحدا من الخلق، فكان إذا سبح وأثنى على الله، جاوبته الجبال الصم والطيور البهم، وهذا فضل الله عليه وإحسانه فلهذا قال: { وَكُنَّا فَاعِلِينَ }
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } أي: علم الله داود عليه السلام، صنعة الدروع، فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده، فألان الله له الحديد، وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة، { لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } أي: هي وقاية لكم، وحفظ عند الحرب، واشتداد البأس.
{ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } نعمة الله عليكم، حيث أجراها على يد عبده داود، كما قال تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ }
يحتمل أن تعليم الله لداود صنعة الدروع وإلانتها أمر خارق للعادة، وأن يكون - كما قاله المفسرون-: إن الله ألان له الحديد، حتى كان يعمله كالعجين والطين، من دون إذابة له على النار، ويحتمل أن تعليم الله له، على جاري العادة، وأن إلانة الحديد له، بما علمه الله من الأسباب المعروفة الآن، لإذابتها، وهذا هو الظاهر، لأن الله امتن بذلك على العباد وأمرهم بشكرها، ولولا أن صنعته من الأمور التي جعلها الله مقدورة للعباد، لم يمتن عليهم بذلك، ويذكر فائدتها، لأن الدروع التي صنع داود عليه السلام، متعذر أن يكون المراد أعيانها، وإنما المنة بالجنس، والاحتمال الذي ذكره المفسرون، لا دليل عليه إلا قوله: { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } وليس فيه أن الإلانة من دون سبب، والله أعلم بذلك.
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ } أي: سخرناها { عَاصِفَةً } أي: سريعة في مرورها، { تَجْرِي بِأَمْرِهِ } حيث دبرت امتثلت أمره، غدوها شهر ورواحها شهر { إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وهي أرض الشام، حيث كان مقره، فيذهب على الريح شرقا وغربا، ويكون مأواها ورجوعها إلى الأرض المباركة، { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } قد أحاط علمنا بجميع الأشياء، وعلمنا من داود وسليمان، ما أوصلناهما به إلى ما ذكرنا.
{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ } وهذا أيضا من خصائص سليمان عليه السلام، أن الله سخر له الشياطين والعفاريت، وسلطه على تسخيرهم في الأعمال، التي لا يقدر على كثير منها غيرهم، فكان منهم من يغوص له في البحر، ويستخرج الدر، واللؤلؤ، وغير ذلك، ومنهم من يعمل له { مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } وسخر طائفة منهم، لبناء بيت المقدس، ومات، وهم على عمله، وبقوا بعده سنة، حتى علموا موته، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
{ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } أي: لا يقدرون على الامتناع منه وعصيانه، بل حفظهم الله له، بقوته وعزته، وسلطانه.
{ 83 - 84 } { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ }
أي: واذكر عبدنا ورسولنا، أيوب - مثنيا معظما له، رافعا لقدره - حين ابتلاه، ببلاء شديد، فوجده صابرا راضيا عنه، وذلك أن الشيطان سلط على جسده، ابتلاء من الله، وامتحانا فنفخ في جسده، فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة، واشتد به البلاء، ومات أهله، وذهب ماله، فنادى ربه: رب { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } فتوسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه، وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ، وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب الله له، وقال له: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فركض برجله فخرجت من ركضته عين ماء باردة فاغتسل منها وشرب، فأذهب الله عنه ما به من الأذى، { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ } أي: رددنا عليه أهله وماله.
{ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } بأن منحه الله العافية من الأهل والمال شيئا كثيرا، { رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } به، حيث صبر ورضي، فأثابه الله ثوابا عاجلا قبل ثواب الآخرة.
{ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } أي: جعلناه عبرة للعابدين، الذين ينتفعون بالعبر، فإذا رأوا ما أصابه من البلاء، ثم ما أثابه الله بعد زواله، ونظروا السبب، وجدوه الصبر، ولهذا أثنى الله عليه به في قوله: { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } فجعلوه أسوة وقدوة عندما يصيبهم الضر.
{ 85 - 86 } { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ }
أي: واذكر عبادنا المصطفين، وأنبياءنا المرسلين بأحسن الذكر، وأثن عليهم أبلغ الثناء، إسماعيل بن إبراهيم، وإدريس، وذا الكفل، نبيين من أنبياء بني إسرائيل { كُلٌّ } من هؤلاء المذكورين { مِنَ الصَّابِرِينَ } والصبر: هو حبس النفس ومنعها، مما تميل بطبعها إليه، وهذا يشمل أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يستحق العبد اسم الصبر التام، حتى يوفي هذه الثلاثة حقها. فهؤلاء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قد وصفهم الله بالصبر، فدل أنهم وفوها حقها، وقاموا بها كما ينبغي، ووصفهم أيضا بالصلاح، وهو يشمل صلاح القلب، بمعرفة الله ومحبته، والإنابة إليه كل وقت، وصلاح اللسان، بأن يكون رطبا من ذكر الله، وصلاح الجوارح، باشتغالها بطاعة الله وكفها عن المعاصي. فبصبرهم وصلاحهم، أدخلهم الله برحمته، وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين، وأثابهم الثواب العاجل والآجل، ولو لم يكن من ثوابهم، إلا أن الله تعالى نوه بذكرهم في العالمين، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين، لكفى بذلك شرفا وفضلا.
{ 87 - 88 } { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }
أي: واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو: يونس، أي: صاحب النون، وهي الحوت، بالذكر الجميل، والثناء الحسن، فإن الله تعالى أرسله إلى قومه، فدعاهم، فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم.
[فجاءهم العذاب] ورأوه عيانا، فعجوا إلى الله، وضجوا وتابوا، فرفع الله عنهم العذاب كما قال تعالى: { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وقال: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وهذه الأمة العظيمة، الذين آمنوا بدعوة يونس، من أكبر فضائله. ولكنه عليه الصلاة والسلام، ذهب مغاضبا، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه، ولا حاجة لنا إلى تعيينها [لقوله: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ } { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي: فاعل ما يلام عليه] والظاهر أن عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك، ظن أن الله لا يقدر عليه، أي: يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت الله تعالى، ولا مانع من عروض هذا الظن للكمل من الخلق على وجه لا يستقر، ولا يستمر عليه، فركب في السفينة مع أناس، فاقترعوا، من يلقون منهم في البحر؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم، فأصابت القرعة يونس، فالتقمه الحوت، وذهب به إلى ظلمات البحار، فنادى في تلك الظلمات: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } فأقر لله تعالى بكمال الألوهية، ونزهه عن كل نقص، وعيب وآفة، واعترف بظلم نفسه وجنايته.
قال الله تعالى: { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ولهذا قال هنا: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي: الشدة التي وقع فيها.
{ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } وهذا وعد وبشارة، لكل مؤمن وقع في شدة وغم، أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ويخفف، لإيمانه كما فعل بـ " يونس " عليه السلام.
{ 89 - 90 } { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }
أي: واذكر عبدنا ورسولنا زكريا، منوها بذكره، ناشرا لمناقبه وفضائله، التي من جملتها، هذه المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه للخلق، ورحمة الله إياه، وأنه { نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا } أي: { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا }
من هذه الآيات علمنا أن قوله { رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا } أنه لما تقارب أجله، خاف أن لا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله، والنصح لعباد الله، وأن يكون في وقته فردا، ولا يخلف من يشفعه ويعينه، على ما قام به، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } أي: خير الباقين، وخير من خلفني بخير، وأنت أرحم بعبادك مني، ولكني أريد ما يطمئن به قلبي، وتسكن له نفسي، ويجري في موازيني ثوابه.
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى } النبي الكريم، الذي لم يجعل الله له من قبل سميا.
{ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } بعدما كانت عاقرا، لا يصلح رحمها للولادة فأصلح الله رحمها للحمل، لأجل نبيه زكريا، وهذا من فوائد الجليس، والقرين الصالح، أنه مبارك على قرينه، فصار يحيى مشتركا بين الوالدين.
ولما ذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين، كلا على انفراده، أثنى عليهم عموما فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها، { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون، { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } أي: خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم.
{ 91 - 94 } { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ }
أي: واذكر مريم، عليها السلام، مثنيا عليها مبينا لقدرها، شاهرا لشرفها فقال: { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي: حفظته من الحرام وقربانه، بل ومن الحلال، فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة، واستغراق وقتها بالخدمة لربها.
وحين جاءها جبريل في صورة بشر سوي تام الخلق والحسن { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } فجازاها الله من جنس عملها، ورزقها ولدا من غير أب، بل نفخ فيها جبريل عليه السلام، فحملت بإذن الله.
{ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } حيث حملت به، ووضعته من دون مسيس أحد، وحيث تكلم في المهد، وبرأها مما ظن بها المتهمون وأخبر عن نفسه في تلك الحالة، وأجرى الله على يديه من الخوارق والمعجزات ما هو معلوم، فكانت وابنها آية للعالمين، يتحدث بها جيلا بعد جيل، ويعتبر بها المعتبرون.
ولما ذكر الأنبياء عليهم السلام، قال مخاطبا للناس: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي: هؤلاء الرسل المذكورون هم أمتكم وائمتكم الذين بهم تأتمون، وبهديهم تقتدون، كلهم على دين واحد، وصراط واحد، والرب أيضا واحد.
ولهذا قال: { وَأَنَا رَبُّكُمْ } الذي خلقتكم، وربيتكم بنعمتي، في الدين والدنيا، فإذا كان الرب واحدا، والنبي واحدا، والدين واحدا، وهو عبادة الله، وحده لا شريك له، بجميع أنواع العبادة كان وظيفتكم والواجب عليكم، القيام بها، ولهذا قال: { فَاعْبُدُونِ } فرتب العبادة على ما سبق بالفاء، ترتيب المسبب على سببه.
وكان اللائق، الاجتماع على هذا الأمر، وعدم التفرق فيه، ولكن البغي والاعتداء، أبيا إلا الافتراق والتقطع. ولهذا قال: { وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي: تفرق الأحزاب المنتسبون لاتباع الأنبياء فرقا، وتشتتوا، كل يدعي أن الحق معه، والباطل مع الفريق الآخر و { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }
وقد علم أن المصيب منهم، من كان سالكا للدين القويم، والصراط المستقيم، مؤتما بالأنبياء وسيظهر هذا، إذا انكشف الغطاء، وبرح الخفاء، وحشر الله الناس لفصل القضاء، فحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، ولهذا قال: { كُلٌّ } من الفرق المتفرقة وغيرهم { إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } أي: فنجازيهم أتم الجزاء.
ثم فصل جزاءه فيهم، منطوقا ومفهوما، فقال: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ } أي: الأعمال التي شرعتها الرسل وحثت عليها الكتب { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله وبرسله، وما جاءوا به { فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } أي: لا نضيع سعيه ولا نبطله، بل نضاعفه له أضعافا كثيرة.
{ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي: مثبتون له في اللوح المحفوظ، وفي الصحف التي مع الحفظة. أي: ومن لم يعمل من الصالحات، أو عملها وهو ليس بمؤمن، فإنه محروم، خاسر في دينه، ودنياه.
{ 95 } { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ }
أي: يمتنع على القرى المهلكة المعذبة، الرجوع إلى الدنيا، ليستدركوا ما فرطوا فيه فلا سبيل إلى الرجوع لمن أهلك وعذب، فليحذر المخاطبون، أن يستمروا على ما يوجب الإهلاك فيقع بهم، فلا يمكن رفعه، وليقلعوا وقت الإمكان والإدراك.
{ 96 - 97 } { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ }
هذا تحذير من الله للناس، أن يقيموا على الكفر والمعاصي، وأنه قد قرب انفتاح يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان عظيمتان من بني آدم، وقد سد عليهم ذو القرنين، لما شكي إليه إفسادهم في الأرض، وفي آخر الزمان، ينفتح السد عنهم، فيخرجون إلى الناس في هذه الحالة والوصف، الذي ذكره الله من كل من مكان مرتفع، وهو الحدب ينسلون أي: يسرعون. وفي هذا دلالة على كثرتهم الباهرة، وإسراعهم في الأرض، إما بذواتهم، وإما بما خلق الله لهم من الأسباب التي تقرب لهم البعيد، وتسهل عليهم الصعب، وأنهم يقهرون الناس، ويعلون عليهم في الدنيا، وأنه لا يد لأحد بقتالهم.
{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } أي: يوم القيامة الذي وعد الله بإتيانه، ووعده حق وصدق، ففي ذلك اليوم ترى أبصار الكفار شاخصة، من شدة الأفزاع والأهوال المزعجة، والقلاقل المفظعة، وما كانوا يعرفون من جناياتهم وذنوبهم، وأنهم يدعون بالويل والثبور، والندم والحسرة، على ما فات ويقولون لـ : { قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } اليوم العظيم، فلم نزل فيها مستغرقين، وفي لهو الدنيا متمتعين، حتى أتانا اليقين، ووردنا القيامة، فلو كان يموت أحد من الندم والحسرة، لماتوا. { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } اعترفوا بظلمهم، وعدل الله فيهم، فحينئذ يؤمر بهم إلى النار، هم وما كانوا يعبدون، ولهذا قال:
{ 98 - 103 } { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }
أي: إنكم أيها العابدون مع الله آلهة غيره { حَصَبُ جَهَنَّمَ } أي: وقودها وحطبها { أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } وأصنامكم.
والحكمة في دخول الأصنام النار، وهي جماد، لا تعقل، وليس عليها ذنب، بيان كذب من اتخذها آلهة، وليزداد عذابهم، فلهذا قال: { لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا } وهذا كقوله تعالى: { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } وكل من العابدين والمعبودين فيها، خالدون، لا يخرجون منها، ولا ينتقلون عنها.
{ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } من شدة العذاب { وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ } صم بكم عمي، أولا يسمعون من الأصوات غير صوتها، لشدة غليانها، واشتداد زفيرها وتغيظها.
ودخول آلهة المشركين النار، إنما هو الأصنام، أو من عبد، وهو راض بعبادته.
وأما المسيح، وعزير، والملائكة ونحوهم، ممن عبد من الأولياء، فإنهم لا يعذبون فيها، ويدخلون في قوله: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } أي: سبقت لهم سابقة السعادة في علم الله، وفي اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى والأعمال الصالحة.
{ أُولَئِكَ عَنْهَا } أي: عن النار { مُبْعَدُونَ } فلا يدخلونها، ولا يكونون قريبا منها، بل يبعدون عنها، غاية البعد، حتى لا يسمعوا حسيسها، ولا يروا شخصها، { وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } من المآكل، والمشارب، والمناكح والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مستمر لهم ذلك، يزداد حسنه على الأحقاب.
{ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ } أي: لا يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع، وذلك يوم القيامة، حين تقرب النار، تتغيظ على الكافرين والعاصين فيفزع الناس لذلك الأمر وهؤلاء لا يحزنهم، لعلمهم بما يقدمون عليه وأن الله قد أمنهم مما يخافون.
{ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ } إذا بعثوا من قبورهم، وأتوا على النجائب وفدا، لنشورهم، مهنئين لهم قائلين: { هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } فليهنكم ما وعدكم الله، وليعظم استبشاركم، بما أمامكم من الكرامة، وليكثر فرحكم وسروركم، بما أمنكم الله من المخاوف والمكاره.
{ 104 - 105 } { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات - على عظمها واتساعها - كما يطوي الكاتب للسجل أي: الورقة المكتوب فيها، فتنثر نجومها، ويكور شمسها وقمرها، وتزول عن أماكنها { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } أي: إعادتنا للخلق، مثل ابتدائنا لخلقهم، فكما ابتدأنا خلقهم، ولم يكونوا شيئا، كذلك نعيدهم بعد موتهم.
{ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } ننفذ ما وعدنا، لكمال قدرته، وأنه لا تمتنع منه الأشياء.
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ } وهو الكتاب المزبور، والمراد: الكتب المنزلة، كالتوراة ونحوها { مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } أي: كتبناه في الكتب المنزلة، بعد ما كتبنا في الكتاب السابق، الذي هو اللوح المحفوظ، وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك: { أَنَّ الْأَرْضَ } أي: أرض الجنة { يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } الذين قاموا بالمأمورات، واجتنبوا المنهيات، فهم الذين يورثهم الله الجنات، كقول أهل الجنة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ }
ويحتمل أن المراد: الاستخلاف في الأرض، وأن الصالحين يمكن الله لهم في الأرض، ويوليهم عليها كقوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } الآية.
{ 106 - 112 } { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }
يثني الله تعالى على كتابه العزيز " القرآن " ويبين كفايته التامة عن كل شيء، وأنه لا يستغنى عنه فقال: { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي: يتبلغون به في الوصول إلى ربهم، وإلى دار كرامته، فوصلهم إلى أجل المطالب، وأفضل الرغائب. وليس للعابدين، الذين هم أشرف الخلق، وراءه غاية، لأنه الكفيل بمعرفة ربهم، بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وبالإخبار بالغيوب الصادقة، وبالدعوة لحقائق الإيمان، وشواهد الإيقان، المبين للمأمورات كلها، والمنهيات جميعا، المعرف بعيوب النفس والعمل، والطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين وجليله، والتحذير من طرق الشيطان، وبيان مداخله على الإنسان، فمن لم يغنه القرآن، فلا أغناه الله، ومن لا يكفيه، فلا كفاه الله.
ثم أثنى على رسوله، الذي جاء بالقرآن فقال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فهو رحمته المهداة لعباده، فالمؤمنون به، قبلوا هذه الرحمة، وشكروها، وقاموا بها، وغيرهم كفرها، وبدلوا نعمة الله كفرا، وأبوا رحمة الله ونعمته.
{ قُلْ } يا محمد { إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } الذي لا يستحق العبادة إلا هو، ولهذا قال: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي: منقادون لعبوديته مستسلمون لألوهيته، فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ما منَّ عليهم بهذه النعمة التي فاقت المنن.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } عن الانقياد لعبودية ربهم، فحذرهم حلول المثلات، ونزول العقوبة.
{ فَقُلْ آذَنْتُكُمْ } أي: أعلمتكم بالعقوبة { عَلَى سَوَاءٍ } أي علمي وعلمكم بذلك مستو، فلا تقولوا - إذا أنزل بكم العذاب: { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ } بل الآن، استوى علمي وعلمكم، لما أنذرتكم، وحذرتكم، وأعلمتكم بمآل الكفر، ولم أكتم عنكم شيئا.
{ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } أي: من العذاب لأن علمه عند الله، وهو بيده، ليس لي من الأمر شيء.
{ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي: لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه شر لكم، وأن تتمتعوا في الدنيا إلى حين، ثم يكون أعظم لعقوبتكم.
{ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } أي: بيننا وبين القوم الكافرين، فاستجاب الله هذا الدعاء، وحكم بينهم في الدنيا قبل الآخرة، بما عاقب الله به الكافرين من وقعة " بدر " وغيرها.
{ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي: نسأل ربنا الرحمن، ونستعين به على ما تصفون، من قولكم سنظهر عليكم، وسيضمحل دينكم، فنحن في هذا، لا نعجب بأنفسنا، ولا نتكل على حولنا وقوتنا، وإنما نستعين بالرحمن، الذي
ناصية كل مخلوق بيده، ونرجوه أن يتم ما استعناه به من رحمته، وقد فعل، ولله الحمد.
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام عدد آياتها 112 ( آية 51-75 ) وهي مكية
» تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام عدد آياتها 112 ( آية 26-50 ) وهي مكية
» الجزء السابع عشر 21- تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام عدد آياتها 112 ( آية 1-25
» تفسير سورة نوح عليه السلام عدد آياتها 28 ( آية 1-28 ) وهي مكية
» تفسير سورة نوح عليه السلام عدد آياتها 28 ( آية 1-28 ) وهي مكية
» تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام عدد آياتها 112 ( آية 26-50 ) وهي مكية
» الجزء السابع عشر 21- تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام عدد آياتها 112 ( آية 1-25
» تفسير سورة نوح عليه السلام عدد آياتها 28 ( آية 1-28 ) وهي مكية
» تفسير سورة نوح عليه السلام عدد آياتها 28 ( آية 1-28 ) وهي مكية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى