الخليل بن احمد الفراهيدي ملحمة فكرية
صفحة 1 من اصل 1
الخليل بن احمد الفراهيدي ملحمة فكرية
الحديث عن العالم الجليل ، الخليل بن احمد الفراهيدى يثير فى النفس مشاعر العبقرية الفريدة من نوعها فقد كان الخليل يقف عند ظواهر الاشياء وقفة المتعمق ويغوص فى مكامنها غوص الواعى الحريص على استنباط كنهها واستخلاص النتائج مما غمض على عامة الدارسين من اسرارها فيبرزها فى صورة جلية واضحة سرعان ما تغدو قواعد يحتذيها كل سائر على درب الفكر والعقل .
كانت عقلية الخليل بن احمد من ذات النوع الدؤوب الذي تشغله القضايا حتى تملك عليه كيانه فيظل يصارعها وتصارعه حتى يجليها الجلاء الحسن ويطرحها للناس الطرح المفيد فيفيدون منها ويحتلبون مزايدها ويطورون فيها ان استطاعوا الى ذلك سبيلا ولقد شغل الخليل نفسه بعلوم اللغة العربية وتراكبيها واوزانها واستنبط لنفسه وسائله و ادواته الخاصة شأن كل صانع ماهر وعالم حصيف يعكف على تطوير ادوات العمل التي بين يديه حتى تستجيب لتطلعاته العلمية المتشوقة الى الاستنباط والوصول الى النتائج الافضل للبحث الطويل المتعمق .
ولعل الدارسين يعرفون من اعمال الخليل عملين اشتهر بهما أيما شهرة وذاع صيته فى الأفاق تأسيسا على قدرته الابداعية الفذة التي بدت معالمها فى العملين كليهما اكثر من اعماله الاخرى التي لاتقل اهمية ولكن طالت يد الحدثان منها الكثير.
وكم كان يتبرم الخليل ويضيق صدرا بعجز الناس عن فهم ما يريد وعن ادراك ما يضع من اصول وقواعد، ولما كان يبلغ به اليأس مبلغه كان يلجأ الى صرف الناس عما يشغله من هموم العلم و أبحاثه نظرا لما لمسه فى هؤلاء الناس المحيطين من قصور لا رجاء فيه وتقاعس لا يشفى غلته الظامئة الى مواصلة البحث والتطلع الى بناء اركان علوم ثابتة الدعائم تعزز وجود اللغة العربية وتبقيها صحيحة وسالمة وطيعة الحرف لمن أراد قرض الشعر المنظوم او نطق الكلام المنثور نطقا صحيحا مستقيما يؤدى المعنى المراد فى سلاسة ويسر.
حدث ذات مرة ان شعر الناس من حول الخليل بصعوبة ما يضع من قواعد واوزان فقصده رجل ينوى الاقامة معه فى داره يتعلم عنه علم العروض لعله بإقامته وملازمته للخليل ينجح فى فهم ذلك العلم الذي ابتكره الخليل لضبط اوزان الشعر العربي.
ولما أقام الرجل ردحا من الزمن ملازماً استاذه دون ان يبلغ مراده، شعر الخليل بعجز الرجل عن ادراك مكامن ذلك العلم الوليد فأراد الخليل بأدب العالم ان يصرف تلميذه صرفا حميدا عن دراسة ما تورط فى دراسته دون رغبة صادقة فى الوقوف على اسراره ، فأعجزه عدم الرغبة عن تحصيل ما رافق استاذه من اجله، فأتى له الخليل ببيت من الشعر على انه مثال على احدى قواعد العروض لكن البيت كان فى الحقيقة يتضمن نصيحة الى التلميذ غير المتحمس ان ينصرف عن دراسة علم العروض الى شي آخر اكثر نفعا له او يكون الرجل اكثر قدرة على الاستيعاب .
ففال له الخليل :
قطع هذا البيت تقطيعا عروضيا
اذا لم تستطع شينا فدعه
وجاوزه الى ما تستطيع
ولعلنا نحاول ان نستوضح فى عجالة ملامح العملين اللذين اشتهر بهما الخليل وهما «علم العروض» الذي عنى بضبط اوزان الشعر العربي، و" كتاب العين " الذي وضعه الخليل قاموسا لغويا صوتيا يستند الى مخارج الاصوات فى وضعه وهى خاصية ميزت "قاموس العين " عن غيره من مختلف القواميس والمعاجم .
اولا علم العروض
الشعر فن جميل يمتلك قدرات خاصة فى تحريك الوجدان واستمالة القلوب الى الغرض الشعري الذي يخوض فيه ، ومرد ذلك الى خاصية الموسيقى اللفظية التي تتولد عن تواتر النغمات وتتابع المقاطع فى جرس موسيقى شيق تتفتح له نفس المتلقى وتتلقاه المسامع فى انسيابية تميزه عن النثر الذي لا يتمتع بتلك الخاصية الموسيقية التي ينفرد بها الشعر.
ولقد كان الشعراء فيما قبل عصر الخليل يمتلكون ناصية اللغة امتلاكا فطريا اعانهم على التعبير عن دخائل انفسهم فى قالب شعري رصين ، وفى سليقة مطبوعة على النظم الصحيح من حيث ضبط الاوزان ونظم القصائد.
إلا ان مرور الايام وتغاير الأزمان ، وتفاوت النبوغ الفني لدى الشعراء المتأخرين اقعد عديداً من الشعراء عن الالتزام بضوابط القرض الشعري مما ادى الى الاخلال بأوزان الشعر نتيجة ضعف الملكات الشعرية وهو الامر الذي ازعج الخليل بصفته عالما من علماء العربية المرهفي الحس ، فكان ان تفاعلت حساسيته الشديدة مع غيرته على اللغة العربية وتوقد عبقريته الاصلاحية التواقة الى الخلق والابداع ونهض ليضع امر الوزن الشعري فى نصابه ويوفر له اسانيد الاستقامة والانضباط النغمى فشرع فى تأسيس علم جديد على اللغة العربية بل ربما جديد على كل العلوم قاطبة فى مجاله وهو علم "العروض " الذي يضع القواعد الحاكمة لميزان الشعر وموسيقاه ويقوم ما اعوج من اوزان ونغمات ، وقد اعتمد فى وضع هذا العلم على مصطلحات لغوية كان العرب يستخدمونها فى حياتهم اليومية كما استمد من اسماء بعض الادوات المألوفة وبخاصة تلك الادوات التي كانت تشد بها الخيمة كالأوتاد والحبال والاسباب وغيرها ليكون قريبا من اذهان المتلقين فيتقبلون العلم الجديد بقبول حسن ويفيدون منه خير افادة وحتى يقبل عليا اولئك الذين نسجوا اشعارهم على اوزان وقوالب لم يعرفها العرب، وبذلك يحتفظ الشعر العربي بخصوصياته الفريدة .
وتذكر كتب تاريخ الادب فى مناسبة اقدام الخليل على وضع علم العروض انه لما ازعجه خروج الشعراء عن المألوف من الاوزان طاف بالكعبة ودعا الله ان يلهمه علما لم يسبقه اليه احد من السابقين ، ثم اعتزل الناس واغلق عليه بابه ، واخذ يقضى الساعات الطوال يجمع اشعار العرب ويرنها على انغامها ويجانس بينها حتى حصر كل الاوزان الشعرية المألوفة وضبطها وحدد قوافيها فيما عرف بـ "عروض الشعر".
وبعد رحيل الخليل صار علم العروض مادة يتدارسها طلاب العربية حتى يومنا هذا دون اضافات تذكر اللهم إلا بعض الشروح والتفاسير والاوزان التي ظن اللاحقون ان الخليل قد اغفلها بالرغم من انها لم ترتق الى مصاف البحور الاصلية التي وضعها الخليل رغم احتفاظها بميزة الاجتهاد والابتكار.
وما يزال علماء اللغة والادب فى جلهم ينكرون الخروج على اوزان الخليل ويعتبرون الشعر الذي يتحرر من الوزن والقافية خارجا عن اطار الشعر ويلحقونه بالنثر نظرا لخلوه من أهم ما يميز الشعر عن النثر وهو الموسيقى النابعة عن الاوزان التي عرفت بـ "بحور الشعر" تلك التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدى.
مواضيع مماثلة
» شخصيات إسلامية :: الإمام احمد بن حنيل
» لكل من اراد ان يبكي , احمد العجمي
» احمد سعد ابتهال رائع - بين خوف وخشوع
» مديح عن الإمام احمد البدو
» دعاء رائع بصوت احمد العجمي
» لكل من اراد ان يبكي , احمد العجمي
» احمد سعد ابتهال رائع - بين خوف وخشوع
» مديح عن الإمام احمد البدو
» دعاء رائع بصوت احمد العجمي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى