خارجة بن زيد
صفحة 1 من اصل 1
خارجة بن زيد
خارجة بن زيد
أحد فقهاء المدينة الذين دعاهم عمر بن العزيز لما ولى إمرة المدينة، وطلب إليهم أن يقدموا له النصيحة، فيما يعرض له من أمور الفتيا والقضاء. أبوه زيد كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أشرف على كتابة المصحف في أيام أبي بكر رضي الله عنه، وفي أيام عثمان رضي الله عنه كان على رأس اللجنة التي وكل إليها كتابة المصحف. ورث خارجة علم أبيه، وقد أجمعت كلمة علماء الرجال على توثيقه والثناء عليه، وكان هو وطلحة بن عبيد الله بن عوف في زمنهما يستفتيان، وينتهي الناس إلي قولهما، ويقسمان المواريث بين أهل المدينة من الدور والنخل، والأموال، ويكتبان الوثائق للناس.
وكان عمر بن عبد العزيز يعرف له قدره ومكانته، ويبدو أن حقه في الديوان كان قد قطع عنه، وقد كتب إلي عمر بن عبد العزيز أن يعطي خارجة ما قطع عنه من الديوان، فقال: لا يسع المال ذلك، ولو وسعه لفعلت، ويبدو أن ذلك كان بعد أن ولى عمر إمارة المؤمنين، يدل على ذلك ما جاء في سير أعلام النبلاء من أن خارجة مشى إلي أبي بكر بن حزم وكان والي عمر على المدينة، فقال له: إني أكره أن يلزم أمير المؤمنين من هذا مقالة، ولي نظراء، فإن عمهم أمير المؤمنين بهذا فعلت، وإن هو خصني به، فإني أكره ذلك له. ولعل عمر كان مستعدا أن يعطي لخارجة ما قطع عنه، فلما طلب خارجة أن يكون ذلك عاما لكل من قطع عنهم نصيبهم من الديوان كان ذلك سببا في اعتذار عمر، وقد بين السبب في قوله: "لا يسع المال ذلك، ولو وسعه لفعلت" ..
ولعل القارئ يتساءل لماذا قطع عن خارجة وسواه نصيبهم من الديوان، ويبدو أن ذلك قد حصل بعد ثورة أهل المدينة أيام يزيد. وقد كان خارجة رحمه الله يتمتع بمكانة أثيرة لدى عمر بن عبد العزيز، بدليل أنه اختاره ليكون من الفقهاء الذين يستشيرهم، ولما أخبر عمر بوفاة خارجة وكان ذلك عام 99 أو 100 على اختلاف بين الروايات، بدا عليه الحزن لفقده، واسترجع، وضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو تصرف يقع من الإنسان لما يفاجأ بأمر غير متوقع وعلق عمر على الخبر قائلا: "ثلمة والله في الإسلام". وقد روي عن عدد من الصحابة غير أبيه، منهم عمه يزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وسهل بن سعد، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وأمه أم سعد بنت الربيع، وأم العلاء الأنصارية.
وأخذ العلم عنه عدد من العلماء أشهرهم محمد بن شهاب الزهري، وأبو الزناد. ويفهم من الروايات التي تحدثت عنه أنه كان حسن المنظر، أنيق الهيئة، فقد قال زيد بن السائب: رأيت خارجة بن زيد يلبس كساء خز، ورأيته يلبس ملحفة معصفرة، ورأيته يعتم بعمامة بيضاء، وقال في موضع آخر: كان حسن الجسم. وقد عرفنا أن أباه زيد بن ثابت كان في حالة رافهة، ولاشك أن جانبا كبيرا من مال أبيه قد آل إليه، لأن أغلب أخوته كانوا قد قتلوا يوم الحرة، ولهذا كان أمرا بديهيا أن يبدوا عليه آثار النعمة والثراء في ملبسه ومظهره، وكانت تلك سمة فقهاء المدينة عامة.
وكان له ثمانية من الأولاد أربعة منهم بنون، وهم زيد وعمرو، وعبد الله ومحمد، وكان يكني أبا زيد وقد عاش خارجة سبعين سنة، وقد روي عنه سنة وفاته أنه قال: رأيت في المنام كأني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها تهورت، وهذه السنة لي سبعون سنة قد أكملتها. وكانت وفاته في خلافة عمر بن عبد العزيز عام 99 أو عام 100 للهجرة على خلاف بين المؤرخين، وصلى عليه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم والي المدينة. وقد روي عن عمه يزيد بن ثابت حديثا قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي البقيع، فرأى قبرا حديثا، فقال: ما هذا القبر؟
قالوا: قبر فلانة مولاة فلان، ماتت ظهرا، وأنت قائل فكرهنا أن نوقظك، فقام فصفنا خلفه، وكبر عليها أربعا، ثم قال:
لا يموتن أحد مادمت بين أظهركم، ألا آذنتموني، فإن صلاتي رحمة. ووقعت حادثة قتل بالمدينة أيام معاوية، ولم يكن هناك شهود، ويبدو أن المقتول كان يمت بصلة قرابة إلي خارجة، وكانت هناك دلائل تشير إلي القاتل، ولكنها لم تبلغ مبلغ اليقين، واجتمع رأي الناس أن يحلف ولاة المقتول، ويسلم إليهم القاتل فيقتلوه، وهذه الحالة تعرف في الفقه الإسلامي بالقسامة إذا كانت هناك تهمة، ولم تكن هناك أدلة قاطعة على القاتل، حينئذ يحلف ولاة المقتول خمسين يمينا، ثم يسلم إليهم القاتل ليقتل.
وفي هذه الحالة التي بين أيدينا، تقول الرواية حولها إن أحد أهل المدينة سكر، وضرب رجلا بالسيف حتى قتله، وكان والي المدينة سعيد بن العاص، والخليفة معاوية في دمشق، فركب خارجة في جماعة من أهل القتيل إلي معاوية، فقصوا عليه القصة، فكتب إلي سعيد بن العاص: إن كان ما ذكر حقا فليحلف أهل القتيل على القاتل ثم يسلم إليهم. فلما تسلم سعيد كتاب معاوية، قال: أنا منفذ كتاب أمير المؤمنين، فاغدوا على بركة الله ـ يقول خارجة ـ فغدونا عليه فأسلمنا إياه سعيد بعد أن حلفنا خمسين يمينا.
ويفهم من سياق الرواية أن سعيدا كان متوقفا في الأخذ بالقسامة في هذا الموقف، ويدعونا ذلك أن نذكر بالتفصيل حكم القسامة وصورتها ورأى العلماء فيها، أما القسامة فصورتها أن يوجد قتيل في مكان ولا يعرف قاتله، وهناك بعض الشواهد غير القاطعة تشير بإصبع الاتهام إلي جماعة أو قبيلة أو أهل بلد ما عند ذلك يختار ولي المقتول خمسين رجلا ممن حامت حولهم شبهات القتل ليحلفوا بالله أنهم ما قتلوه، ولا علموا له قاتلا فإن حلفوا سقطت عنهم الدية، وإن أبوا وجبت ديته عليهم وإن التبس الأمر تحمل ديته بيت المال. والصورة التي ذكرها الفقهاء للقسامة تجعل الشبهة متجهة نحو جماعة لا نحو شخص بذاته، وأن المطالب بالقسم من تتجه التهمة إليهم، أما الحالة التي أمامنا فإن الاتهام فيها موجه نحو شخص بذاته، وأن الذين أقسموا هم أهل القتيل، ولعل ذلك كان سبب توقف سعيد بن العاص حتى جاءه كتاب معاوية.
أما حكمها فقد اختلف العلماء في وجوب الحكم بها، حيث قال بوجوب الحكم بها جمهور العلماء، وذهب آخرون إلي عدم جواز الحكم بها والذين ذهبوا إلي وجوب الحكم بها استندوا إلي ما ثبت، عنه صلى الله عليه وسلم في حديث حويصة ومحيصة وفيه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المقتول وكانوا من الأنصار ـ أتحلفون خمسين يمينا؟
قالوا: كيف نحلف، ولم نشاهد؟
قال: فيحلف لكم اليهود ـ وكانوا هم الذين تحوم حولهم الشبهة.
قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟
أما القاتلون بعدم جواز الحكم بها؛ لأنها مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها، وذلك أن الأصل في الشرع أن لا يحلف أحد إلا على ما علم يقينا أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم، وهم لم يشاهدوا القتيل.
وقد ردوا على استشهاد الفريق الأول بالحديث السابق بأن القسامة حكم جاهلي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلطف معهم ليريهم أنه لا يلزم الحكم بها حسب أصول الإسلام ولو كانت السنة أن يحلفوا ولم يشهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي السنة، وهو لم يقل، ومادام هذا الأثر ليس نصا في القضاء بالقسامة والتأويل يتطرق إليه، فمن الأولى أن تحمل على الأصول الأولى.
ولما كان الرأي حول القسامة منقسما فقد استمر يشغل بال العلماء والباحثين وذوي الرأي حتى زمن عمر بن عبد العزيز الذي كان يرى فيما يبدو عدم جواز الحكم بالقسامة، فقد روي البخاري عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس، ثم أذن لهم، فدخلوا عليه، فقال: ما تقولون في القسامة؟ فأضرب القوم، وقالوا: نقول: إن القسامة القود بها حق، قد أقاد به الخلفاء.
فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس.
فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك أشراف العرب، ورؤساء الأجناد أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل، أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟
قال: لا.
قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه سرق بحمص، ولم يروه، أكنت تقطعه؟
قال: لا.
وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا، وهم عندك، أقدت بشهادتهم.
قال: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة، أنهم إن أقاموا شاهدي عدل، أن فلانا قتله فأقده، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا ومن السهل أن نستشف من هذا الحوار الذي أجراه عمر بن عبد العزيز مع أبي قلابة على ملأ من الناس أنه لا يرى جواز الحكم بالقسامة.
أصل القسامة
كانت القسامة معمولا بها في الجاهلية قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أقرها على ما كانت عليه كما يرى فريق العلماء الذي يحكم بها ويرون أن الحكمة من إقرارها الحفاظ حماية للنفس وعدم ضياع دم القتلى هدرا، وقد روي البخاري والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول قسامة كانت في الجاهلية كانت سبب رجل من بني هاشم، استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى، فانطلق معه في إبله، فمر به رجل من بني هاشم، قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي، لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالا، فشد به عروة جوالقه.
فلما نزلوا، عقلت الإبل إلا بعيرا واحد، فقال الذي استأجره، ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟
قال: ليس له عقال.
قال: فأين عقاله؟ فحذفه بحصى كان فيه أجله، فمر به رجل من أهل اليمن.
فقال له: أتشهد الموسم.
قال: ما أشهده، وربما شهدته.
قال: هل أنت مبلغ عني رسالة، مرة من الدهر؟!
قال: نعم.
قال: فإذا شهدت، فناد: يا قريش، فإذا أجابوك، فناد: يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فسل عن أبي طالب، فأخبره أن فلانا قتلني في عقال. ومات المستأجر. فلما قدم الذي استأجره، آتاه أبو طالب.
فقال: ما فعل صاحبنا؟
قال: مرض فأحسنت القيام عليه، ووليت دفنه.
قال: لقد كان أهل ذاك منك. فمكث حينا، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه، أن يبلغ عنه وافي الموسم.
فقال: يا قريش.
قالوا: هذه قريش.
قال: يا آل بني هاشم.
قالوا: هذه بنو هاشم.
قال: أين أبو طالب؟
قالوا: هذا أبو طالب؟
قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة، أن فلانا قتله في عقال فأتاه أبو طالب؛ فقال: اختر منا إحدى ثلاث؛ إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به فأتي قومه فأخبرهم.
فقالوا: نحلف.
فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم، كانت قد ولدت منه، فقالت: يا أبا طالب: احب أن يجبر ابني هذا برجل من الخمسين، ولا تصير يمينه حيث تصير الأيمان: ففعل. فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان البعيران فاقبلهما مني، ولا تصير يميني حيث تصير الأيمان، فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده ما حال الحول، ومن الثمانية والأربعين عين تطرف. هذا هو أصل القسامة لما كانت معروفة في الجاهلية ولذلك لما وقع حادث القتل في المدينة واتهم الأنصار اليهود، طلب إليهم أن يحلفوا فأبوا، فقال يحلف اليهود فلم يرض الأنصار، واتخذ المجيزون للحكم بالقسامة هذا الحديث أصلا ودليلا، وأما المانعون فإنهم قالوا كما سبق إن ذلك كان تلطفا من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان يريد الأخذ به لقال إنه السنة.
هذه قصة القسامة في الجاهلية والإسلام التي حدثنا خارجة عنها، والدور الذي قام به عند معاوية لما وقعت حادثة قتل أحد أهل المدينة، أوردناها بالتفصيل رغبة في إفادة القارئ شيئا قد يندر وقوفه عليه أو معرفته به ما لم يكن من المتخصصين. أما خارجة فإن العلماء يشككون في صحة روايته عن عمه يزيد، لأن عمه استشهد في معركة اليمامة ومعركة اليمامة كانت أيام خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ولم يكن خارجة قد ولد بعد، لأن مولده كان إما عام 28،29 هـ، وقد سبق أنه توفى عن عمر بلغ السبعين وكانت وفاته عام 99 أو 100 على خلاف بين المؤرخين ولعل روايته عن عمله كانت بالواسطة ولم تكن مباشرة. وكذلك اختلفت كلمة العلماء بالنسبة لإكثاره من الحديث، فبينما يرى ابن سعد أنه كان كثير الحديث، يذهب الذهبي في تذكرة الحفاظ أنه لم يرو عنه حديث كثير غير أنه لا خلاف على فقهه وثقته. رحم الله خارجة وجزاه خير الجزاء
أحد فقهاء المدينة الذين دعاهم عمر بن العزيز لما ولى إمرة المدينة، وطلب إليهم أن يقدموا له النصيحة، فيما يعرض له من أمور الفتيا والقضاء. أبوه زيد كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أشرف على كتابة المصحف في أيام أبي بكر رضي الله عنه، وفي أيام عثمان رضي الله عنه كان على رأس اللجنة التي وكل إليها كتابة المصحف. ورث خارجة علم أبيه، وقد أجمعت كلمة علماء الرجال على توثيقه والثناء عليه، وكان هو وطلحة بن عبيد الله بن عوف في زمنهما يستفتيان، وينتهي الناس إلي قولهما، ويقسمان المواريث بين أهل المدينة من الدور والنخل، والأموال، ويكتبان الوثائق للناس.
وكان عمر بن عبد العزيز يعرف له قدره ومكانته، ويبدو أن حقه في الديوان كان قد قطع عنه، وقد كتب إلي عمر بن عبد العزيز أن يعطي خارجة ما قطع عنه من الديوان، فقال: لا يسع المال ذلك، ولو وسعه لفعلت، ويبدو أن ذلك كان بعد أن ولى عمر إمارة المؤمنين، يدل على ذلك ما جاء في سير أعلام النبلاء من أن خارجة مشى إلي أبي بكر بن حزم وكان والي عمر على المدينة، فقال له: إني أكره أن يلزم أمير المؤمنين من هذا مقالة، ولي نظراء، فإن عمهم أمير المؤمنين بهذا فعلت، وإن هو خصني به، فإني أكره ذلك له. ولعل عمر كان مستعدا أن يعطي لخارجة ما قطع عنه، فلما طلب خارجة أن يكون ذلك عاما لكل من قطع عنهم نصيبهم من الديوان كان ذلك سببا في اعتذار عمر، وقد بين السبب في قوله: "لا يسع المال ذلك، ولو وسعه لفعلت" ..
ولعل القارئ يتساءل لماذا قطع عن خارجة وسواه نصيبهم من الديوان، ويبدو أن ذلك قد حصل بعد ثورة أهل المدينة أيام يزيد. وقد كان خارجة رحمه الله يتمتع بمكانة أثيرة لدى عمر بن عبد العزيز، بدليل أنه اختاره ليكون من الفقهاء الذين يستشيرهم، ولما أخبر عمر بوفاة خارجة وكان ذلك عام 99 أو 100 على اختلاف بين الروايات، بدا عليه الحزن لفقده، واسترجع، وضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو تصرف يقع من الإنسان لما يفاجأ بأمر غير متوقع وعلق عمر على الخبر قائلا: "ثلمة والله في الإسلام". وقد روي عن عدد من الصحابة غير أبيه، منهم عمه يزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وسهل بن سعد، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وأمه أم سعد بنت الربيع، وأم العلاء الأنصارية.
وأخذ العلم عنه عدد من العلماء أشهرهم محمد بن شهاب الزهري، وأبو الزناد. ويفهم من الروايات التي تحدثت عنه أنه كان حسن المنظر، أنيق الهيئة، فقد قال زيد بن السائب: رأيت خارجة بن زيد يلبس كساء خز، ورأيته يلبس ملحفة معصفرة، ورأيته يعتم بعمامة بيضاء، وقال في موضع آخر: كان حسن الجسم. وقد عرفنا أن أباه زيد بن ثابت كان في حالة رافهة، ولاشك أن جانبا كبيرا من مال أبيه قد آل إليه، لأن أغلب أخوته كانوا قد قتلوا يوم الحرة، ولهذا كان أمرا بديهيا أن يبدوا عليه آثار النعمة والثراء في ملبسه ومظهره، وكانت تلك سمة فقهاء المدينة عامة.
وكان له ثمانية من الأولاد أربعة منهم بنون، وهم زيد وعمرو، وعبد الله ومحمد، وكان يكني أبا زيد وقد عاش خارجة سبعين سنة، وقد روي عنه سنة وفاته أنه قال: رأيت في المنام كأني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها تهورت، وهذه السنة لي سبعون سنة قد أكملتها. وكانت وفاته في خلافة عمر بن عبد العزيز عام 99 أو عام 100 للهجرة على خلاف بين المؤرخين، وصلى عليه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم والي المدينة. وقد روي عن عمه يزيد بن ثابت حديثا قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي البقيع، فرأى قبرا حديثا، فقال: ما هذا القبر؟
قالوا: قبر فلانة مولاة فلان، ماتت ظهرا، وأنت قائل فكرهنا أن نوقظك، فقام فصفنا خلفه، وكبر عليها أربعا، ثم قال:
لا يموتن أحد مادمت بين أظهركم، ألا آذنتموني، فإن صلاتي رحمة. ووقعت حادثة قتل بالمدينة أيام معاوية، ولم يكن هناك شهود، ويبدو أن المقتول كان يمت بصلة قرابة إلي خارجة، وكانت هناك دلائل تشير إلي القاتل، ولكنها لم تبلغ مبلغ اليقين، واجتمع رأي الناس أن يحلف ولاة المقتول، ويسلم إليهم القاتل فيقتلوه، وهذه الحالة تعرف في الفقه الإسلامي بالقسامة إذا كانت هناك تهمة، ولم تكن هناك أدلة قاطعة على القاتل، حينئذ يحلف ولاة المقتول خمسين يمينا، ثم يسلم إليهم القاتل ليقتل.
وفي هذه الحالة التي بين أيدينا، تقول الرواية حولها إن أحد أهل المدينة سكر، وضرب رجلا بالسيف حتى قتله، وكان والي المدينة سعيد بن العاص، والخليفة معاوية في دمشق، فركب خارجة في جماعة من أهل القتيل إلي معاوية، فقصوا عليه القصة، فكتب إلي سعيد بن العاص: إن كان ما ذكر حقا فليحلف أهل القتيل على القاتل ثم يسلم إليهم. فلما تسلم سعيد كتاب معاوية، قال: أنا منفذ كتاب أمير المؤمنين، فاغدوا على بركة الله ـ يقول خارجة ـ فغدونا عليه فأسلمنا إياه سعيد بعد أن حلفنا خمسين يمينا.
ويفهم من سياق الرواية أن سعيدا كان متوقفا في الأخذ بالقسامة في هذا الموقف، ويدعونا ذلك أن نذكر بالتفصيل حكم القسامة وصورتها ورأى العلماء فيها، أما القسامة فصورتها أن يوجد قتيل في مكان ولا يعرف قاتله، وهناك بعض الشواهد غير القاطعة تشير بإصبع الاتهام إلي جماعة أو قبيلة أو أهل بلد ما عند ذلك يختار ولي المقتول خمسين رجلا ممن حامت حولهم شبهات القتل ليحلفوا بالله أنهم ما قتلوه، ولا علموا له قاتلا فإن حلفوا سقطت عنهم الدية، وإن أبوا وجبت ديته عليهم وإن التبس الأمر تحمل ديته بيت المال. والصورة التي ذكرها الفقهاء للقسامة تجعل الشبهة متجهة نحو جماعة لا نحو شخص بذاته، وأن المطالب بالقسم من تتجه التهمة إليهم، أما الحالة التي أمامنا فإن الاتهام فيها موجه نحو شخص بذاته، وأن الذين أقسموا هم أهل القتيل، ولعل ذلك كان سبب توقف سعيد بن العاص حتى جاءه كتاب معاوية.
أما حكمها فقد اختلف العلماء في وجوب الحكم بها، حيث قال بوجوب الحكم بها جمهور العلماء، وذهب آخرون إلي عدم جواز الحكم بها والذين ذهبوا إلي وجوب الحكم بها استندوا إلي ما ثبت، عنه صلى الله عليه وسلم في حديث حويصة ومحيصة وفيه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المقتول وكانوا من الأنصار ـ أتحلفون خمسين يمينا؟
قالوا: كيف نحلف، ولم نشاهد؟
قال: فيحلف لكم اليهود ـ وكانوا هم الذين تحوم حولهم الشبهة.
قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟
أما القاتلون بعدم جواز الحكم بها؛ لأنها مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها، وذلك أن الأصل في الشرع أن لا يحلف أحد إلا على ما علم يقينا أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم، وهم لم يشاهدوا القتيل.
وقد ردوا على استشهاد الفريق الأول بالحديث السابق بأن القسامة حكم جاهلي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلطف معهم ليريهم أنه لا يلزم الحكم بها حسب أصول الإسلام ولو كانت السنة أن يحلفوا ولم يشهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي السنة، وهو لم يقل، ومادام هذا الأثر ليس نصا في القضاء بالقسامة والتأويل يتطرق إليه، فمن الأولى أن تحمل على الأصول الأولى.
ولما كان الرأي حول القسامة منقسما فقد استمر يشغل بال العلماء والباحثين وذوي الرأي حتى زمن عمر بن عبد العزيز الذي كان يرى فيما يبدو عدم جواز الحكم بالقسامة، فقد روي البخاري عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس، ثم أذن لهم، فدخلوا عليه، فقال: ما تقولون في القسامة؟ فأضرب القوم، وقالوا: نقول: إن القسامة القود بها حق، قد أقاد به الخلفاء.
فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس.
فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك أشراف العرب، ورؤساء الأجناد أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل، أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟
قال: لا.
قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه سرق بحمص، ولم يروه، أكنت تقطعه؟
قال: لا.
وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا، وهم عندك، أقدت بشهادتهم.
قال: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة، أنهم إن أقاموا شاهدي عدل، أن فلانا قتله فأقده، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا ومن السهل أن نستشف من هذا الحوار الذي أجراه عمر بن عبد العزيز مع أبي قلابة على ملأ من الناس أنه لا يرى جواز الحكم بالقسامة.
أصل القسامة
كانت القسامة معمولا بها في الجاهلية قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أقرها على ما كانت عليه كما يرى فريق العلماء الذي يحكم بها ويرون أن الحكمة من إقرارها الحفاظ حماية للنفس وعدم ضياع دم القتلى هدرا، وقد روي البخاري والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول قسامة كانت في الجاهلية كانت سبب رجل من بني هاشم، استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى، فانطلق معه في إبله، فمر به رجل من بني هاشم، قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي، لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالا، فشد به عروة جوالقه.
فلما نزلوا، عقلت الإبل إلا بعيرا واحد، فقال الذي استأجره، ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟
قال: ليس له عقال.
قال: فأين عقاله؟ فحذفه بحصى كان فيه أجله، فمر به رجل من أهل اليمن.
فقال له: أتشهد الموسم.
قال: ما أشهده، وربما شهدته.
قال: هل أنت مبلغ عني رسالة، مرة من الدهر؟!
قال: نعم.
قال: فإذا شهدت، فناد: يا قريش، فإذا أجابوك، فناد: يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فسل عن أبي طالب، فأخبره أن فلانا قتلني في عقال. ومات المستأجر. فلما قدم الذي استأجره، آتاه أبو طالب.
فقال: ما فعل صاحبنا؟
قال: مرض فأحسنت القيام عليه، ووليت دفنه.
قال: لقد كان أهل ذاك منك. فمكث حينا، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه، أن يبلغ عنه وافي الموسم.
فقال: يا قريش.
قالوا: هذه قريش.
قال: يا آل بني هاشم.
قالوا: هذه بنو هاشم.
قال: أين أبو طالب؟
قالوا: هذا أبو طالب؟
قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة، أن فلانا قتله في عقال فأتاه أبو طالب؛ فقال: اختر منا إحدى ثلاث؛ إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به فأتي قومه فأخبرهم.
فقالوا: نحلف.
فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم، كانت قد ولدت منه، فقالت: يا أبا طالب: احب أن يجبر ابني هذا برجل من الخمسين، ولا تصير يمينه حيث تصير الأيمان: ففعل. فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان البعيران فاقبلهما مني، ولا تصير يميني حيث تصير الأيمان، فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده ما حال الحول، ومن الثمانية والأربعين عين تطرف. هذا هو أصل القسامة لما كانت معروفة في الجاهلية ولذلك لما وقع حادث القتل في المدينة واتهم الأنصار اليهود، طلب إليهم أن يحلفوا فأبوا، فقال يحلف اليهود فلم يرض الأنصار، واتخذ المجيزون للحكم بالقسامة هذا الحديث أصلا ودليلا، وأما المانعون فإنهم قالوا كما سبق إن ذلك كان تلطفا من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان يريد الأخذ به لقال إنه السنة.
هذه قصة القسامة في الجاهلية والإسلام التي حدثنا خارجة عنها، والدور الذي قام به عند معاوية لما وقعت حادثة قتل أحد أهل المدينة، أوردناها بالتفصيل رغبة في إفادة القارئ شيئا قد يندر وقوفه عليه أو معرفته به ما لم يكن من المتخصصين. أما خارجة فإن العلماء يشككون في صحة روايته عن عمه يزيد، لأن عمه استشهد في معركة اليمامة ومعركة اليمامة كانت أيام خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ولم يكن خارجة قد ولد بعد، لأن مولده كان إما عام 28،29 هـ، وقد سبق أنه توفى عن عمر بلغ السبعين وكانت وفاته عام 99 أو 100 على خلاف بين المؤرخين ولعل روايته عن عمله كانت بالواسطة ولم تكن مباشرة. وكذلك اختلفت كلمة العلماء بالنسبة لإكثاره من الحديث، فبينما يرى ابن سعد أنه كان كثير الحديث، يذهب الذهبي في تذكرة الحفاظ أنه لم يرو عنه حديث كثير غير أنه لا خلاف على فقهه وثقته. رحم الله خارجة وجزاه خير الجزاء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى