الليث بن سعد
صفحة 1 من اصل 1
الليث بن سعد
الليث بن سعد
ليلة النصف من شبعان المكرم من العام الثالث والتسعين للهجرة (93 هـ) ولد الليث بن سعد في قرية قلقشندة، من أعمال مركز طوخ بمحافظة القليوبية على مقربة من عاصمة مصر. والمصريون يعتبرون ليلة النصف من شبعان ليلة مباركة، وإذن فقد تفاعل أهل الوليد بمقدمه في تلك الليلة، وتفاعل أهل القرية جميعا بهذا القادم الجديد ابن عميد الأسرى الغنية الذي كان يفيض بكرمه على كل من حوله.
ويشاء الله أن يتوفى في ذات الليلة المكرمة .. ليلة النصف من شبعان سنة مائة وخمس وسبعين للهجرة (175 هـ) بعد أن ملأ الدنيا من حوله، بالخير، والعلم، والمعرفة، وآداب السلوك، وأسباب المحبة، على مدى اثنين وثمانين عاما. وما بين سنة 93 هـ وسنة 175 هـ، عرفت مصر دولاة وحكاما وابتليت، بالطغاة من خلفاء وولاة، وأنعم الله عليها فيما أنعم بخلافة عمر بن عبد العزيز، الذي أقام في حلوان من ضواحي الفسطاط.
وهو الذي عرف بالعدل، والحكمة، وحسن سياسة الأمور، وتقوى الله، حتى لقد كان يلقب بخامس الخلفاء الراشدين بعد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. ولقد شهد الليث منذ طفولته مظاهر الجور، وبطش الولاة، حتى لقد استقر في نفس الصبي كره للحكم والحكام .. ثم شهد وهو دون العاشرة عدل الخليفة الرشيد عمر بن عبد العزيز، وصور الرخاء التي عمت مصر، حتى لم يعد فيها من يستحق أن تصرف عليه الزكاة، فنهضت الحكومة بتكاليف زواج الشباب، من مهور ومآدب واحتفالات، لا تفرق في ذلك بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب.
وكانت قلقشندة ككل قرى دلتا النيل، بلدا طيب الهواء، خصب الأرض غنيا بالثمرات والخيرات .. تشتهر بجودة الفاكهة. تفتحت عين الصبي منذ وعى الحياة على خضرة الأرض، وانسياب النهر وروعة الحقول والبساتين، والحدائق، وامتلأت رئته الصغيرة بعبق الأزهار، فنشأ يحب الجمال.
ولعله من أجل ذلك عندما شب وتعلم القرآن الكريم وحفظ الحديث، روى أول ما روى من أحاديث: "إن الله جميل يحب الجمال" أكسبته مرائي الجمال في قريته صفاء العقل والذوق والنفس، وحبا للحياة والناس. فما مد بصره قط وهو صغير إلا رأى انفساح الأرض أمامه بألوان الزرع والزهر، حيث يستلقي الأفق على خضرة الحقول أو غابات الشجر والنخيل، وما ألقى السمع قط إلا ليسمع همس الطبيعة وأصوات الماء والشجر، وشدو الطيور عليه، كان يصحو ليستقبل النهار مع شعاع كل يوم جديد .. وما استنشق إلا العبير! لم يعرف الم الحاجة طيلة حياته، ولم يمسه قرح من مطالب الدنيا، وعاش ما عاش متمتعا بكل ما أحله الله من متاع في هذه الأرض.
كان أبوه واسع الغنى، يملك في قلقشندة وما حولها ضيعة خصبة، تنتج خير الثمرات من زرع وفاكهة .. لديه المال والبنون، زينة الحياة الدنيا، وكان الأب يدرك أن العلم هو خير ما يزين الرج العاقل .. وقد نال الأب قسطا من التعليم ولكنه قرر أن يجعل ابنه زينة الحياة الدنيا بحق، فوفر له كل ما يتاح من علوم ذلك الزمان ..! وعائلة الليث مصرية تنحدر من المصريين القدماء .. وقد دخلت في الإسلام وتعلمت اللغة العربية منذ الفتح الإسلامي. وأخذ الأجداد أبناءهم وأحفادهم بالتفقه في الإسلام، وبإتقان لغة الدين الجديد الذي دخلوا فيه .. حتى لقد اشتهر عائلات كثيرة منها عائلة الليث بحفظ القرآن والحديث والشعر والأخبار وفصاحة اللسان.
وكان العرب يطلقون على الذين أسلموا من أبناء البلاد المفتوحة اسم "الموالي" أما الذين لم يسلموا من أهل الكتاب فهم الذميون أو أهل الذمة .. وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك صوتا عظيما يعظ ويعلم حسن السيرة بين الناس منذ قال لهم: "الناس سواسية كأسنان المشط ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى".
وعلى الرغم من وضوح هذه التعاليم، فقد كانت العصبية القبلية تملي أحيانا على بعض الولاة إيثار المسلمين العرب الفاتحين على المسلمين من أهل البلاد المفتوحة .. أي الموالي. وهو إيثار لا يرد في توزيع الأموال أو رعاية الحقوق .. ولكنه يفلت عفو الخاطر في التقدير الأدبي. وما كان يمكن أن يرد هذا التمييز في توزيع الثروات، لأن عمر بن الخطاب أخذ بمشورة علي بن أبي طالب فوزع الأرض في البلاد المفتوحة على من يزرعونها، وأخذ منهم نصيب الدولة .. وهكذا كان من بين الموالي أغنياء، ومنهم أسرة الليث...
وما كان يمكن أن يرد هذا التمييز في الحقوق والواجبات، لأن مثل هذا التمييز يخالف مبادئ الإسلام كما أوردتها نصوص القرآن والسنة. ولكنها مشاعر تفلت على نحو ما في تقلب القلوب. ومن أجل حرص بعض الموالي على أن يتفرقوا .. ولقد تفرقوا حقا. ولكم ضاق خلفاء بني أمية بتفوق الموالي على العرب حتى في اللغة والفقه! وكان علي وبنوه يحسنون تقدير الموالي. وكان من أبرز هؤلاء الموالي الليث بن سعد الذي حفظ القرآن في قريته، وهو صبي، وحفظ كل ما وصل إليه من أحاديث نبوية وكل ما عرفه العصر من تراث الشعر العربي وعلوم اللغة العربية وآثار الخلفاء.
حتى إذا كان في مطلع الشباب وقد استوعب كل ما يمكن أن يصل إلى قريته من معرفة، وجهه أبوه إلى الفسطاط ليعلم علمها ويثقف نفسه بمعارفها .. زوده أبوه بكل ما ينبغي أن يتزود به طالب علم يجب أن يتفرغ نهاره وليله للعلم، ولا يشغله عنه شاغل من هموم الحياة والعيش!
وهاهو ذا فتى فارع القامة مليح الوجه وضئ الابتسامة في سمرة محياه، مطمئن النفس، ناعم البال، في ثياب جميلة. يفوح منه العطر والطيب، تغشى سكينته توترات الشوق إلى المعرفة، نشيط الخطى، مرح، حس الصوت، مشتعل الأعماق، متوقد الذهن، يختلج على الرغم من الدعة بالرغبة الجانحة إلى اقتحام المجهول، واستيعاب كل ما تخفيه الحياة والكلمات من الأسرار .. هاهو ذا بكل فتوته التي تثب به من الصبا إلى الشباب، فتى من القرية يخوض ليل المدينة الكبيرة المضيء بالثقافة والمعرفة.
واتجه إلى جامع عمرو وهو أول مسجد جامع أنشأه المسلمون في أفريقية وجامع عمرو منارة للعلم، مازال يشع منها ما درسه فيه أبو ذر الغفاري وعبد الله بن عمرو، وسائر الصحابة الذين جاءوا إلى مصر منذ الفتح الإسلامي، وعلموا الناس أمور الدين وفقهوهم بالقرآن والسنة، ومازال يتردد في جنبات هذا الجامع الكبير أسلوب مصري لتلاوة القرآن يختلف عن أساليب التلاوة في العواصم الإسلامية الأخرى.
وفي جامع عمرو حلقات كثيرة لدراسة القرآن وتفسيره، ودراسة الأحاديث والسنة والفقه، ترك فيها كل صحابي آثرا .. وفي الجامع إلى جوار ذلك حلقات لدراسة علوم اللغة العربية .. وعلوم اللغة هي أدوات فهم القرآن والحديث، وفي الفسطاط حلقات أخرى لدراسة كل ما كان في مصر من معارف الأقدمين: من مصريين ويونان ورومان وفرس وهنود، وكل معطيات الحضارات التي تزخر بها مصر .. وبهذا تميزت عاصمة مصر عن سائر مدائن الأرض. وأتيح للشباب المتطلع إلى المعرفة أن ينهل من الثقافات المختلفة كما لم يتح لفقيه آخر من معاصريه خارج مصر.
كانت اللغة القبطية لا تزال حية، وإذ كانت تطورا للغة المصرية القديمة (الهيروغلوفيه)، فقد نقلت كل الإعجاز المصري القديم في علوم الفلك والطب والرياضيات والطبيعيات والهندسة ونقلت تراث اليونان والرومان وغيرهم .. ولقد نقل بعض هذا التراث إلى اللغة العربية فأتيح لطلاب العلم أن يعرفوا، وما ظل من تلك المعارف في اللغة القبطية كانت معرفته ميسرة للمثقفين المصريين من مسلمين وأقباط الذين أصبحت اللغة العربية لسانهم بحق، ولكنهم ظلوا على معرفة باللغة المصرية التي كانت لغتهم قبل الفتح الإسلامي.
كانت اللغة العربية لم تنتشر في مصر بعد، فاللغة القبطية هي السائدة، وكان الليث يتقن اللغتين العربية لغة الإسلام، والقبطية لغة آبائه الأولين، وكان إلى هذا يتقن اليونانية واللاتينية، وهما من لغات الميراث الحضاري. وقد أتاح التعرف إلى ميراث علوم الأسلاف، واستيعاب معطيات الحضارة المطروحة على العقل المصري .. أتاح هذا كله للشاب غنى فريدا في الثقافة.! حتى إذا أحس أنه قوي مكين، عكف على كل الحلقات في جامع عمرو يتلقى التفسير والحديث والفقه.
وكان الصحابة الذين جاءوا إلى مصر أحد رجلين: رجل يتمسك بالقرآن والسنة، ويفتي الناس في أمور دنياهم بما يجد في القرآن والسنة، فإن لم يجد أثرا لا يفتى على الإطلاق .. ورجل آخر كان يجتهد رأيه وهو يواجه أمورا جديدة في بيئة جديدة وحالات لم يرد لها حكم في القرآن أو السنة. وتلقى أتباع هؤلاء الصحابة عنهم .. وأخذوا هذا العلم بقوة .. فأشتد بعضهم في التمسك بالنصوص ورفض الاجتهاد بالرأي.! وغالى الآخرون في الاعتماد على الرأي، وافترضوا قضايا لم تحدث واستنبطوا لها أحكاما، حتى لقد وقعوا في شواذ الفتيا.!
والطالب الشاب يعكف على حلقات هؤلاء وهؤلاء ليتقن علوم القرآن والحديث، ويعني بأسرار اللغة عناية خاصة فائقة، لأنه يدرك أنها هي الأدالا لحسن نصوص القرآن والأحاديث. وفي الحق أنه في بحثه الظامئ عن الحقيقة وأسرار المعرفة، كان قد ضاق بخلافات شيوخ الحلقات. ورأى غلوا في كلا الحزبين .. فالمتمسكون بالنصوص لا يخرجون عنها .. متشددين تشددا قد يستحيل معه مواجهة الحالات المتحدثة التي لم يرد في حكمها نص قطعي..! وأصحاب الرأي يتساهلون تساهلا قد يدعو إلى الخطأ في الحكم، أو إحداث الاضطراب في الشريعة!
ورأى الطالب الشاب أن يستقل بالنظر فالمتشددون في التمسك بالنصوص يعتمدون على الآية الكريمة: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ } (النساء،الآية:83).
هذا حق. وأصحاب الرأي يقولون إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتهد رأيه فيما ينزل فيه قرآن .. وصحابته قد اجتهدوا في حياته وأقرهم على اجتهادهم .. وهذا كله حق أيضا..! فما الغلو إذن في الاقتصار على النص أو الاعتماد على الرأي..!؟
على أن الليث أدرك أن النصوص ليست ظاهرا فحسب .. ليست كلمات .. بل هي روح .. لها دلالات وفحوى وعلل. وإذن فالذي يتقن اللغة العربية، ويتقن معرفة أسرار بلاغتها حري بأن يفهم النصوص ظاهرها وروحها .. ثم إن الأحاديث النبوية تفسر كثيرا من نصوص القرآن .. وفي السنة تفصيل لما أجمله القرآن .. وتبيان لما خفي منه عن المدارك .. وفهم الأحاديث النبوية يقتضي أيضا فهم أسرار اللغة العربية وروحها .. وليس كل عربي بقادر على إدراك معاني الأحاديث، أو فهم ما أنزله الله بلسان عربي مبين. فهذا الأمر يستلزم إتقانا خاصا وتذوقا خالصا للغة.
من أجل ذلك عكف الليث ـ بعد أن حفظ القرآن والأحاديث ـ على حفظ الشعر العربي الذي قيل قبل نزول الوحي بالقرآن وخلال نزوله، ليدرك أسرار اللغة جميعا .. ولقد يروقه أحيانا بعض أبيات من الغزل فيتغنى بها .. ولقد سمعه أحد شيوخ فقال له: "هذا مباح ولكن لا تفعله فسيكون لك في الفقه شأن" ولكنه عاش يتغنى بما يروق له من شعر. وكان جميل الصوت .. على أنه قرر وهو يحضر الحلقات في جامع عمرو أن يتخذ له مذهبا وسطا بين أهل النصوص وأهل الرأي.
ومر عام وهو عاكف على درسه، يحفظ ويتأمل وينظر في روح كل نص حفظه .. وقد ترك لحيته لتكبر، عسى أن يداري بكبر الحية صغر السن..! وأخذ يذيع مذهبه بين زملائه الطلاب في مواجهة أساتذته من أصحاب الحديث وأصحاب الرأي. وكان عجبا أن يهتدي شاب في نحو السادسة عشرة من عمره إلى نظر مستقل بين أهل الحديث وأهلي الرأي..! ولقد ناقش في ذلك أحد شيوخ الحلقات من أهل الحديث فنهره!
وناظر غيره فنهره جميعا، وألزموه التمسك بالحديث والعدول عن الرأي فقال: "تعلموا الحلم قبل العلم! وظل طوال حياته كلما جادل أهل الحديث يكرر عليهم هذا القول .. وأعجب به زملاؤه الطلاب، وبدأوا يلتفون حوله، وشجعته حماستهم له، وكلما زادوه تشجيعا، زاد عكوفا على العلم والنظر فيه .. وكان زملاؤه يلقون عليه المسائل، فيظل يمعن النصر حتى يجد جوابا وكانت إجاباته تبهرهم .. وما كان يعجل للإجابة بل يتريث لها.
وفي الحق أنه تألف قلوبهم بحسن آدابه، وظرفه، ودماثة خلقه، وسعة علمه .. وبكرمه! فإذا لاحظ فقر أحد زملائه وصله بالمال سرا، ولقد يلاحظ بقع الحبر على ثوب زميل آخر فيهديه ثوبا جديدا. وإن وجد فيهم من يبعد مسكنه عن جامع عمرو ويجهده السير إلى حلقات الدرس أهداه دابة .. ولكيلا يحرج المحتاج من زملائه كان يزعم لهم أنه يقدم للواحد منهم قرضا حسنا يرده عندما يكبر ويتكسب!
وأغراه زملاؤه بأن يتخذ لنفسه حلقة ولكنه تهيب أن يجلس مجلس الأستاذ. ولقد علم أحد أشياخه أن الناس يستفتونه، فيفتي، ويرضون عن فتياه .. فناداه الشيخ وشجعه على الإفتاء. ولكن الليث استحيا لأنه صغير السن، ثم لأنه من الموالي، وهذا الأمر يجب أن يكون للعرب! وإذ ذاك قال له الشيخ أما سمعت عما كان بين الخليفة هشام بن عبد الملك وبين الفقيه شهاب الزهري؟ فقال الليث "لا" فقال الشيخ إن الخليفة سأل الزهري وهو أفقه هذا العصر، عن العلماء الذين يسودون أهل الحجاز وأهل اليمن وأهل الشام وأهل مصر وأهل خرسان.
فذكر له الزهري أسماءهم. والخليفة يسأل عن كل واحد من العرب هو أم من الموالي. فيقول الزهري من الموالي فقال الخليفة مغضبا: "والله لتسودون الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها." فقال شهاب الزهري: إنما هو أمر الله ودينه فمن حفظه ساد ومن ضيعه سقط! هذا هو رأي الزهري وليس له في العلماء نظير.
ولكن الليث لم يجلس للإفتاء، وصمم على ألا يجلس حتى يبلغ من السن مبلغا يؤهله لذلك، وحتى يصل من العلم، واستقلال النظر إلى ما يقنع به فقهاء العرب والموالي على السواء .. إنه لم يتعلم من أئمة العصر خارج مصر بعد .. ولكم يعنيه الشوق إلى معرفة ما عندهم .. ولقد أغراه ما سمعه من أستاذه عن الزهري بالسفر إليه ليتعلم منه ولكنه فوجئ بموت أبيه. عليه الآن أن ينهض بأمور الأسرة بعد أبيه. وأن يدير أمور ثروته الواسعة. وعاد إلى قريته فإذا بالوالي قد أمر بهدم بيت الأسرة! فأعاد الليث بناء البيت، فهدم الوالي الدار مرة أخرى. وبناها الليث فهدمها الوالي مرة ثالثة..!
وبات الشاب مهموما .. أنه ليحمل على منكبيه أعباء الأسرة، وإدارة الضيعة التي ورثها وهموم العلم والمذهب الجديد الذي يريد أن يصوغه محكما وسطا بين أهل الرأي وأهل الحديث .. كل هذا، واضطهاد الوالي أيضا..!! ولكن لماذا يضطهده الوالي العربي إلى هذا الحد؟! لأنه خرج عن طاعة بعض الشيوخ من أهل السنة ممن ينحاز لهم الوالي؟ .. أم لأن الوالي كان عدوا لأبيه، ولم يستطع أن ينال من الأب في حياته؟
أم لأن الليث أحد الموالي الذين يوشكون أن يظهروا ويغلبوا بعلمهم فقهاء العرب؟! أم لأن الليث يميل إلى علي بن أبي طالب .. والوالي يصانع الخليفة عدو علي؟! ولكن مصر كلها تميل إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .. إن هذا السلوك مهما يكن سببه يجافي روح الإسلام .. إن هذا الوالي ليس من الله في شيء. فما الحيلة معه؟!..
ثلاث ليال متتاليات .. كما أصلح الليث بناء داره أرسل الخليفة في الليل من يهدمها! إن الوالي ليستضعف الليث حقا! وثقلت عليه الهموم، فجاءه في المنام من يقول له: "قم يا ليث فأقرأ قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين). فأصبح الليث وقد أصيب الوالي بالفلج، فأوصى كل من حوله بألا يظلموا الليث، وأن يحسنوا صحبته .. ومات الوالي بعد أيام قلائل ..
وتسامع الناس القصة، وامتلأت بها أروقة جامع عمرو، وانتشرت في الأسواق، وقال بعض زملائه الطلاب وبعض شيوخه الذين غاضبوه من قبل: "لقد دافع الله عن الليث .. إن الله يدافع عن الذين آمنوا .. " وفي الحق أنه كان دمث الخلق، حسن السيرة ين الناس، وكان طيب المعشر، كريما سخيا .. وكان سريا..! ولقد رآه أحد شيوخه يتضاحك مع زملائه الطلاب في خفة، ويطلق قهقهة عالية في رحاب المسجد بعد الدرس، ويضرب الأرض بقدمه .. وكان الشيخ والسنة، فتقدم الشيخ إلى الليث متوددا، وقال له ناصحا في رفق: "يا بني لا تفعل هذا فإنك إمام منظور إليك."
وبعد ثلاثة أعوام خرج الليث الى الحج والعمرة، وكان في العشرين من عمره، وزار المدينة بعد الحج .. وكان في العشرين من عمره، وزار المدينة بعد الحج .. وكان الفقهاء من كل الأمصار يجتمعون في الحج ثم في الحرم النبوي فيتبادلون الرأي .. وهناك بحث الليث عن شهاب الزهري ليجلس إليه ..
والتقى به، وتلقى منه، وناظره، وطرح الليث عليه ما انتهى إليه من نظر، ووجد الليث في الزهري من عمق الفكر وسعة العلم ودقة الفهم ما لم يجد في أحد قط. فأكبره إكبارا شديدا حتى ليمسك له بالركاب .. وكانت في الليث ما في العلماء من عزة نفسن فلم يصدق أصحاب الليث أنه يمسك لأحد بالركاب .. وسأله صديق مستنكرا أتمسك بركاب الزهرى فقال الليث: "نعم للعلم، فأما لغير ذلك فلا .. والله ما فعلته بأحد قط .."
وفي الحجاز التقى بعدد من فقهاء العصر من أهل السنة أهل الرأي على السواء، وجلس إليهم وفي حلقة ربيعة الرأي تعرف بمالك بن أنس، وهو في مثل سنه، وتبادلا الرأي بعد الحلقة. وكان مالك في ذلك الوقت طالب علم في نحو العشرين، يكابد في سبيل طلب العلم .. وأدرك الليث أن صاحبه يعاني الفقر، فأخذ يحتال ليصله بمال. ولكنه لم يكن يعرف كيف يبدأ. على أنهما تلازما في حلقة ربيعة، وتلازما بعد الحلقة يتدارسان، ويتبادلان الرأي فيما حصلاه، وألأف كل منهما صاحبه، ونشأت بينهما مودة، فأرسل مالك طبقا فيه رطب إلى الليث، فقبل الليث الهداية شاكرا، ورد الطبق مملوءا بالدنانير.
وعاد الليث إلى مصر، واتصلت الرسائل بينه وبين مالك ودعاه لزيارة مصر ولكن مالك بن أنس لم يستطع. وتعود الليث أن يزوره في المدينه كلما ذهب للحج أو العمرة وزيارة الحرم النبوي. وقد ظل الليث يصل مالك بن أنس بمائة دينار كل عام، وكتب مالك إليه أن عليه ديناراً، فأرسل إليه الليث خمسمائة دينار .. والدينار في ذلك الزمان كان يكفي لكسوة رجل أو لشراء دابة .. ولم ينقطع عطاء الليث لمالك حتى أصاب مالك عطاء الخلفاء وأصبح ثريا ..
مع ذلك فقد واظب الليث على سؤال مالك عن حاجته حتى في الرسائل التي تضمن خلافاتهما الفقهية.
على أن الليث في رحلاته العلمية لم يستفد علما جديدا فحسب بل أفاد أيضا، ولفت إليه الأنظار. وسأله أحد شيوخ الزمان بعد مناظرة طويلة: "كم عمرك؟" فقال الليث "عشرون" فقال الشيخ، ولكنك تحمل عل ابن الستين ولحية ابن الأربعين! وكان الليث كلما سمع عن فقيه في بلد، شد إليه الرحال .. حتى عندما تقدمت به السن، فقد سافر بعد الستين إلى العراق ينشد العلم عند فقيه أصغر منه سنا .. وسمع عن فقيه آخر نزل بالإسكندرية فركب النيل إليه ولكنه وجده قد مات، فبكى!
حصل الليث إذن علمه من كل فقهاء عصره لم يأل في ذلك جهدا، ولم يقعده طول السفر .. وكان ربما استأثر بأحد هؤلاء الفقهاء سمع عن نافع مولي عبد الله بن عمر فاحتال حتى لقيه بالحجاز .. وكانت في نافع حدة، ولكنه استراح إلى الليث، ولزمه الليث لا يبرحه طيلة إقامته بالحجاز، يحفظ عنه الأحاديث وفتاوى الصحابة، ويحاوره في الفقه. وقد لقيه في دكان علاف فتحاور برهة، حتى مر بهاما ابن لهيعة وهو مصري من أصاحب الليث ـ صار فيما بعد قاضيا لمصر ـ فسأل عن نافع: "من هذا؟" فهمس الليث: "هو مولي لنا". حتى إذا عاد إلى مصر، جعل الليث يحدث عن نافع، فسأل عن ابن لهيعة منكرا "وأين لقيته؟"
فقال الليث ضاحكا: "أما رأيت العبد الذي كان في دكان العلاف؟ هو ذاك" وغضب منه ابن لهيعة، لأنه أخفى عنه نافعا مولي عبد الله بن عمر ولكن الليث لم يطق خصامه، فنقل إليه ما حفظه عن نافع، وما دار بينهما من حوار في كل أمور الفقه .. ثم أن ابن لهيعة ولي قضاء مصر براتب قدره ثلاثون دينار في الشهر وهو اكبر راتب بعد راتب الوالي. واحترقت دار ابن لهيعة وكتبه فعوضه عنها الليث بن سعد بألف دينار!
وعندما عاد الليث إلى مصر بعد أول رحلة للحج، بنى دارا كبيرة في الفسطاط لها نحو عشرين بابا..! وجعل فيها حديقة ملأها بالأشجار والزهور والريحان، وكانت الريح تحمل عطرها إلى ما حولها .. وملأ داره بما استطاع الوصول إليه من كتب .. وفتحها لأصحاب الحاجات ولأصدقائه .. كان يدعو أصدقاءه إلى الطعام ويضع الدنانير في الفالوذج، فمن أكل منهم اكثر نال دنانير اكثر..!
كان يقوم الليل إلا قليلا، حتى إذا أقبل الفجر، خرج على فرسه إلى جامع عمرو يحضر الحلقات، ويحفظ ويدرس، ويتحرى أحوال أصدقائه من له حاجة، ويفتي الناس من غير أن يجلس في مكان المفتي أو الأستاذ. فقد كان ولا يزال يتهيب هذا المقعد، على الرغم أنه جمع من العلم ما يؤهله له. وبعد العصر كان يرتدي اجمل ثيابه ويتعطر، ويتمشى في الحدائق والأسواق، أو على شط النيل..!
وسمع مالك بما يصنعه الليث: تمتعه بأطيب الطعام، وتزينه بأبهى الثياب، وخروجه للنزهة في الحدائق والأسواق، فكتب مالك إليه معاتبا: "بلغني أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق (أي الثياب الرقية الفاخرة) وتمشي في الأسواق". فكتب إليه الليث: "قال الله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (الأعراف،الآية:32) .
وعلى الرغم من نقد مالك، قد ظل الليث يأكل الرقاق وما يستطيب من طعام، ويلبس الرقاق وأبهى الثياب، ويمشي في الأسواق، ويتنزه في الحدائق على شاطئ النيل، ويقتني أفخر الدواب من حمير مصر وبغالها وأفراس بلاد العرب، ويهدي منها أصدقاءه ولقد أهدى مالك بن أنس عددا منها، وكان يحتفي بسروجها وبراعتها ويوشي اللجام كما تعود أن يهديه كل عام من أجود كتان مصر ما يكفيه طوال العام. وكان عند الليث ثياب بعدد أيام السنة، فما يلبس الثوب يومين متتالين .. ولعل مالك بن أنس اقتنع برد الليث فشرع هو الآخر يعني بملبسه ومأكله.
على أن الليث لم يستمتع وحده بطيبات الحياة .. فقد كان يوزع على أهل العلم، وأصحابه، وجيرانه، ومن يعرف أنه صاحب حاجة .. كان يوزع المال ويهدي الطعام والثياب والدواب .. وما أكل وحده قط. وكان يطعم في كل يوم ثلثمائة من الفقراء والمساكين، وغير الصحاب وأهل العلم يطعمهم من أطيب ما يطعم هو الرقاق، واللحوم، وحلوى (هريسة) بعسل النحل وسمن البقر، واللوز بالسكر .. وعاش عمره يعطي السائل اكثر مما يسأل ..
طلبت منه امرأة رطلا من عسل لتعالج ابنها، في وقت شح فيه العسل، فأمر كاتبه أن يعطيها مرطا من عسل (والمرط نحو مائة وعشرين رطلا) فقال كاتبه: "سألتك رطلا أتعطيها مرطا؟" فقال الليث: "سألتنا على قدرها ونحن نعطيها على قدرنا" .. كانت له ضيعة بالفرما (قرب بورسعيد) يأتيه خراجها، فلا يدخله داره، بل يجلس أمام أحد أبوابها العشرين وقد جعل المال في صرر يوزعها جميعا صرة بعد صرة وكان لا يتصدق بأقل من خمسين دينارا .. ذلك أنه كان يحسن استثمار أرضه الواسعة الخصبة حتى لقد كانت تدر عليه نحو عشرين ألف دينار كل عام ..
وعلى الرغم من هذا الثراء الضخم فما وجبت عليه زكاة قط .. فما حال الحول عليه وعنده دينار واحد .. إذ كان ينفق كل دخله: يحيا حياة مترفة بما أحل الله له، ويقتني أغلى الكتب وأندرها، مهما يكلفه الحصول عليها. وكان عقله موسوعة من المعارف من علوم الشريعة والأدب واللغة والفلسفة والطبيعات والرياضيات .. وحتى الطب!
وكان يعني بصحته أبلغ عناية حتى ليبدو أصغر من سنه بأعوام .. ذلك أنه كان يكد، ويتبع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام في العناية بالصحة، فيعطي بدنه حقه من الراحة .. وإن لبدنك عليك حقا، ويعطي قلبه حظه من المرح، فإن القلوب لتصدأ ومن الواجب الترويح عنها، ويمنح عقله ونفسه ما يحتاجان إليه من سكينة وهدوء. وقد هداه علمه بالطب إلى وجوب الرضا بقضاء الله وتجنب الانفعالات فهي التي تتلف الصحة.
كان يحب أن يعيش سعيدا، ويحب أن يسعد الذين يعيشون من حوله. من أجل ذلك ينفق على الآخرين ليسعدهم .. ويرى أن صاحب المال مستخلف فيه لينفقه فيما يرضي الله ورسوله وفيما يسعد الناس. وكان شعاره "احسن كما احسن الله إليك ولا تنس نصيبك في الدنيا" وبحسن فهمه لهذه الآية الكريمة تمتع بالحلال من الطيبات، وأمتع الآخرين. من أجل ذلك نادى الليث بأنه ليس من حق أحد أن يحتفظ بمال إلا إذا بلغ الناس حد الكفاية والحكام وولاة الأمور مسئولون أمام الله عن أن يوفروا للناس جميعا حد الكفاية لا حد الكفاف ..
وحد الكفاف هو ما يحفظ للناس حياتهم من الطعام والشراب، أما حد الكفاية فهو ما يكفي كل حاجات الناس من جودة الطعام والشراب، والمسكن الصالح المريح، والدواب التي تحملهم، والعلم الذي ينقذهم من الضلال، وسداد ديونهم .. وكل ما يوفر الحياة المريحة الكريمة للإنسان! وقد استنبط الليث هذه الأحكام من فهم عميق لنصوص القرآن الكريم والسنة، ومن أعماله الفكر واجتهاده بالرأي...
أنكره خلفاء بني أمية، وضاقوا بآرائه وكانوا ينحازون للعرب ضد الموالي، على الرغم من أن الخليفة العربي الأموي عمر بن عبد العزيز كان يقوم الناس على أساس علمهم، حتى لقد نهر الذين ينكرون على الموالي حق الفتيا قائلا: ما ذنبي إن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون". وإذ دالت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس، ظهرت أحاديث نبوية كثيرة كان الناس يتداولونها سرا.
وهكذا أذاع العباسيون حديثا للرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيه للعرب: "لا يجيئني الناس بالأعمال وتجيئونني بالأنساب" إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ونشر فقهاء الموالي على الناس فضائل بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي. وكلهم له سابقة .. في الإسلام .. حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: بلال سيدنا.
وأذاعوا ما كان من الإمام علي كرم الله وجهه من تكريم للموالي، وتقويمه للناس بقدر علمهم وصلاحهم وتقواهم، لذلك أحبه الموالي وشايعه أغلبهم .. ولعله من أجل تسوية الإمام علي بين العرب والموالي، وجعله العلم والتقوى والصلاح أساس المفاضلة، لعله من أجل ذلك، كره بنو أمية الموالي ـ إلا عمر بن عبد العزيز ـ كراهية منهم لأشياع الإمام علي، وانحيازا منهم للعرب، حتى لقد صرخ أحد خلفائهم؟! تكاد نفسي تخرج ولا أسمع عن فقيه واحد عربي! وهكذا شعر الموالي عندما جاء العباسيون، أن زمن التفرقة بد ولى إلى غير رجعة. اختفى بنو العباس بالموالي وبالغوا في الاحتفاء بهم ..
وإذن فقد جاء الوقت الذي يستطيع فيه الليث بن سعد أن يجلس في جامع عمرو، ليعلم الناس، وليفتي لهم في أمور الدين، والحياة وكان قد أخذ مكانته بين فقهاء عصره على الرغم من شبابه .. فما كان قد بلغ الثلاثين، عندما جلس يعلم ويفتي وكان فقهاء عصره من جميع الأمصار، قد التقوا به، معلمين ومناظرين، في رحلاته المتكررة إلى الحجاز حاجا ومعتمرا، وزائرا للحرم النبوي، وطالب علم في الوقت نفسه .. مناظرا يرعى آداب المناظرة، ويخلب المستمعين بفصاحة اللسان، ونصاعة البيان، وعمق الإدراك، وحسن الخطاب، مع توقد الذهن، وسرعة البديهة، وذكاء الاستنباط .. حتى لقد كان ربيعة الرأي أستاذه لا يحسب حساب أحد من الفقهاء أو التلاميذ إلا الليث بن سعد .. ذلك الوجيه المصري!
ولقد سمع به الخليفة العباسي المنصور، فاستدعاه ليقابله في بيت المقدس وكان للمنصور ولع بالعلم والأدب، وناظره المنصور، فأعجب به .. وعرض أن يوليه مصر ولكن الليث يريد أن يحيا حياته بعيدا عن هموم المسئولية السياسية، متفرغا للعلم! خجل أن يصرح بعذره للخليفة، وتعلل بأنه لا يصلح لهذا قائلا: "يا أمير المؤمنين. إني أضعف من ذل كالرجل من الموالي" فقال المنصور: "ما بك من ضعف معي، ولكن ضعف نيتك في العمل عن ذلك لي .. لقد أعجبتني .. اكثر الله في الرعية من أمثالك."
وأجزل له المنصور العطاء، فوزع الليث كل ما أخذه على المحتاجين قبل أن يبرح .. وعاد إلى مصر في موكب فخيم يصحبه ثناء المنصور عليه ولقد نصح المنصور لأهل العلم في العراق وسائر الأمصار أن يذهبوا إلى الفسطاط، فيتلقوا عن هذا الفقيه المصري الشاب الذي لم يلق المنصور أفقه منه بالشريعة، ولا أحفظ منه للحديث، ولا أحد منه بصيرة أو أذكى جنانا أو أفصح لسانا، ولا أعدل أو أعف، أو أوسع علما بمعارف الأوائل وحكمتهم، ولا قدرة على الاستنباط، ولا أسلم منه رأيا..! ثم إن المنصور أرسل إلى والي مصر وقاضيها أن يستشيرا الليث بن سعد في كل أمورهم.
وكبر على بعض الفقهاء العرب أن يضع المنصور أحد الموالي في هذه المكانة فوق الوالي العربي والقاضي العربي، فأخذوا يكيدون لليث بن سعد حسدا من عند أنفسهم وأرسل أحدهم إلى الخليفة المنصور: أمير المؤمنين تلاف مصر! فإن أميرها ليس بن سعد!! عسى أن يتوهم الخليفة أن الليث بن سعد يستغل رضا الخليفة عنه، فيتعالى على الوالي والقاضي، فأصدر الخليفة أمرا وأعلنه على الملأ أن الليث بن سعد هو أعلم رجال عصره بالشريعة واللغة والشعر، وهو أكثرهم تحريا للعدل وتوقيا للشبهات تحرجا وعفة .. وهو من أجل ذلك ينصبه كبيرا للديار المصرية ورئيسها، بحيث لا يقضي في مصر شيء إلا بمشورته، ويصبح الوالي والقاضي تحت أمر مشورته ..
ثم إن الخليفة زجر هؤلاء العرب المتعصبين لعروبتهم، المنكرين على الموالي حسن بلائهم وارتفاع مكانتهم، واستشهد في زجرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية، وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان: بر تقي، كريم على الله، فاسق شقي، هين على الله، والناس كلهم بنو آدم. هكذا أعلن الخليفة تأييده للموالي، ودعم الليث بن سعد دعما حاسما ولكن الليث احسن استخدام هذه الثقة لإفادة الرعية .. فما كان يفرض رأيه على الموالي أو القاضي مهما يختلف معهما، ولكنه إن وجد في أوامر الوالي أو قضاء القاضي ما يظلم أحدا كتب إلى الخليفة فيأخذ برأي الليث.
وكان أشد ما يسوء الليث بن سعد من ولاة الأمر أن يقبل أحدهم هدية وكان يجهر في مجالسه أنه إذا دخلت الهدية من الباب، خرجت العدالة من النافذة..! وكان ينصح كل صاحب منصب ألا يقبل هدية من أحد من الرعية، وإن لم يكن للمهدي حاجة، فإذا قبل صاحب المنصب النصيحة ورفض الهدية شكره، أما إذا أبى، كتب للخليفة فعزله. وقد عاتب أحد المعزولين الليث بن سعد فقال: "نصحتك فلم تنتصح، ومصلحة الرعية أولى وما صبري على ظلم الرعية؟" وكان المعزول لا يملك إلا راتبه، فأجرى عليه الليث راتبه من ماله الخاص. وتمضي الحياة بالليث وهو يهب كل وقته للدرس والعلم والفتيا ومواساة الناس.
تعلم من أحد شيوخ ألا يغشى مجالس الولاة، فكان إذا استدعاه أحد الولاة ليسأله عن شيء من العلم رد عليه الليث بقول شيخه: "ائتني أنت فإن مجيئك إلي زين لك ومجيئي إليك شين علي" وهكذا كان أولو الأمر يذهبون هم إليه. وقد احسن تقسيم وقته بين مشاغله العديدة .. وقسمه إلى أربعة مجالس يجلس فيها، فالمجلس الأول للوالي والقاضي وأولياء الأمور يسألونه المشورة أو يسمعون رأيه في سيرتهم وأحكامهم. فإذا انتهى هذا المجلس عقد مجلسه الثاني لأهل الحديث، يسمع منهم، ويشرح للمستمعين ما يحفظ من أحاديث ويقول: "نحوا أصحاب الحوانيت، فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم".
وفي الحق أنه كان حريصا على أن يكون مجلس الحديث لأهل الحديث وحدهم، فيتذاكر معهم أسانيد الأحاديث وصحتها ومعانيها وروحها وفحواها، فما كان لغيرهم مكان! فإذا فرغ من هذا المجلس، عقد مجلسا للناس كافة، يسميه مجلس المسائل، وهو مجلس للفتيا .. يسأله الناس فيما يعرض لهم من أمور الحياة، فيجيب مستوحيا القرآن في فتاواه، فإن لم يجد لجأ إلى السنة، فإن لم يجد الإجابة في النصوص، التمس الجواب في إجماع الصحابة ـ وكان من رأيه أن إجماع الصحابة نادر، فإن لم يجد، اجتهد رأيه، ولجأ إلى القياس وإلى العادات والعرف ما لم تخالف نصا.
أما مجلسه الرابع فكان في داره، وهو مخصص لحاجات الناس .. وهذا المجلس كان يستهلك إيراده السنوي الكبير. أما استثمار أرضه، فقد كان له وكيل هو كاتبه يقوم عنه بأمر الأرض. لقد صح رأي الليث عندما اعتذر عن ولاية مصر ليتفرغ للعلم .. فقد استقام له الآن فقه خاص، استقل فيه عن فقه ربيعة الرأي، أستاذه وخالف به فقه اكبر عالمين في عصره وهما أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس صديقه.
وقد التقى الليث بأبي حنيفة في مجلس مالك بن أنس في المدينة .. ودخل الليث على مالك ذات ليلة من الشتاء فوجده يمسح عرقه وقد انصرف من عنده أبو حنيفة، إنه لفقيه يا مصري" وكان مالك لا يحب الجدل وأبو حنيفة مولع به. وسأل الليث أبا حنيفة عن رأيه في مالك فأثنى عليه أطيب ثناء.
على أن الليث كان ينكر على أبي حنيفة توسعه في الأخذ بالرأي ولجوءه إلى الحيل لاستنباط الحكم، وإن كان معجبا بذكاء أبي حنيفة، وسرعة بديهته .. ولقد سمع به قبل أن يلقاه، وتمنى أن يراه .. ورآه لأول مرة في المسجد الحرام، قبل أن يلتقي به عند مالك في المدينة .. رأى حلقة عليها الناس، فإذا هي حلقة أبي حنيفة، فجلس يستمع إليه فأقبل رجل فقال: يا أبا حنيفة إني رجل من أهل خراسان كثير المال، وأن لي أبنا ليس بالمحمود وليس لي ولد غيره إن زوجته طلق وإن سريته أعتق".
(وسريته أي وهبته جارية تعيش معه كالزوجة) وقد عجزت عن هذا فهل من حيلة؟ "فأسرع أبو حنيفة مجيبا. اشتر لنفسك الجارية التي يرضاها هو، ثم زوجها منه، فإن طلق رجعت مملوكتك إليك، وإن اعتق أعتق مالا يملك". ويقول الليث عن جواب أبي حنيفة: فوالله ما أعجبني قوله بأكثر مما أعجبني سرعة جوابه .. ولقد رأى الليث أن أبا حنيفة ما كان ينبغي أن يجيب بمثل تلك السرعة ولا أن يلجأ لمثل تلك الحيلة!! اختلف الليث مع أبي حنيفة في كثير من الآراء واشهر خلاف بينهما هو الرأي في الوقف .. فقد كان أبو حنيفة لا يجيز الوقف .. لأنه يرى في حبس المال قيدا وضررا ...
وبهذا الرأي أخذ أحد قضاة مصر، فنبهه الليث إلى خطأ هذا الرأي، وغلى مخالفته للسنة .. ولكن القاضي ظل يحكم بإبطال الوقف .. فجاءه الليث في مجلس القضاء، فرفع القاضي المجلس، فقال الليث: إنما جئت إليك مخاصما، فقال له القاضي: "في ماذا" قال الليث: "في احباس المسلمين (أي أوقافهم) لقد حبس (أي وقف) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي فمن بقى بعد هؤلاء؟ ولم يقتنع القاضي، فكتب الليث إلى الخليفة بشأنه: والله إنا لم ننكر عليه شيئا، غير أنه أحدث أحكاما لا نعرفها!
فأمر الخليفة بعزل القاضي، فجاء القاضي إلى الليث في مجلسه، وأخبره بأمر العزل وأضاف: "والله لو أمرتني بالخروج لخرجت" فقال الليث بصوت يسمعه الجميع: والله إنك لعفيف عن أموال الناس، ولكنك تخالف الرسول صلى الله عليه وسلم فما تصلح للقضاء. وهكذا عاش الليث يصحح ما يراه خطأ من أحكام القضاة، أو أوامر الحكام، أو ما استقر في عقول الناس .. رأى الناس في مصر ينتقصون عثمان بن عفان رضي الله عنه ـ ومن مصر انفجرت الثورة على عثمان ـ فنهى الناس عن ذلك، وأوضح لهم فضائل عثمان بقيادة ابن أبي بكر وحسن بلائه في الإسلام ومنزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن أحد ولاة مصر هدم الكنائس.
فكتب إلى الخليفة طالبا عزل الوالي لأنه مبتدع، مخالف لروح الإسلام. فعزله الخليفة بجريمته، وأشار على الوالي الجديد أن يعيد بناء ما هدم من الكنائس، وأن يبني كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون في مصر، لأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالقبط خيرا"
ولأن اكثر الكنائس التي كانت قائمة بمصر إنما بناها لصحابة، ممن قادوا جيش الفتح الإسلامي. وإجماع مثل هذا العدد من الصحابة هو في قوة السنة، فما كانوا ليجمعوا على أمر إلا لأنهم تعلموه من الرسول.
إن عمر بن الخطاب أبى أن يصلي في الكنيسة ببيت المقدس كيلا يصنعها مسلم بعده ولكي تظل للكنائس حرية العبادة فيها، واستقلالها. ثم إن عمر بن الخطاب عاهد المسيحيين في بيت المقدس على حماية أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم وكنائسهم وأوقاف هذه الكنائس وأموالها، وأقر الصحابة بالإجماع، فهذا الصنيع حجة على المسلمين إلى آخر الزمان. ومن قبل عمر، حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إيذاء أهل الذمة، وهم أصحاب البلاد المفتوحة من أهل الكتاب الذين لم يدخلوا الإسلام بل احتفظوا بدينهم. فهم ذمة الله ورسوله
ليلة النصف من شبعان المكرم من العام الثالث والتسعين للهجرة (93 هـ) ولد الليث بن سعد في قرية قلقشندة، من أعمال مركز طوخ بمحافظة القليوبية على مقربة من عاصمة مصر. والمصريون يعتبرون ليلة النصف من شبعان ليلة مباركة، وإذن فقد تفاعل أهل الوليد بمقدمه في تلك الليلة، وتفاعل أهل القرية جميعا بهذا القادم الجديد ابن عميد الأسرى الغنية الذي كان يفيض بكرمه على كل من حوله.
ويشاء الله أن يتوفى في ذات الليلة المكرمة .. ليلة النصف من شبعان سنة مائة وخمس وسبعين للهجرة (175 هـ) بعد أن ملأ الدنيا من حوله، بالخير، والعلم، والمعرفة، وآداب السلوك، وأسباب المحبة، على مدى اثنين وثمانين عاما. وما بين سنة 93 هـ وسنة 175 هـ، عرفت مصر دولاة وحكاما وابتليت، بالطغاة من خلفاء وولاة، وأنعم الله عليها فيما أنعم بخلافة عمر بن عبد العزيز، الذي أقام في حلوان من ضواحي الفسطاط.
وهو الذي عرف بالعدل، والحكمة، وحسن سياسة الأمور، وتقوى الله، حتى لقد كان يلقب بخامس الخلفاء الراشدين بعد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. ولقد شهد الليث منذ طفولته مظاهر الجور، وبطش الولاة، حتى لقد استقر في نفس الصبي كره للحكم والحكام .. ثم شهد وهو دون العاشرة عدل الخليفة الرشيد عمر بن عبد العزيز، وصور الرخاء التي عمت مصر، حتى لم يعد فيها من يستحق أن تصرف عليه الزكاة، فنهضت الحكومة بتكاليف زواج الشباب، من مهور ومآدب واحتفالات، لا تفرق في ذلك بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب.
وكانت قلقشندة ككل قرى دلتا النيل، بلدا طيب الهواء، خصب الأرض غنيا بالثمرات والخيرات .. تشتهر بجودة الفاكهة. تفتحت عين الصبي منذ وعى الحياة على خضرة الأرض، وانسياب النهر وروعة الحقول والبساتين، والحدائق، وامتلأت رئته الصغيرة بعبق الأزهار، فنشأ يحب الجمال.
ولعله من أجل ذلك عندما شب وتعلم القرآن الكريم وحفظ الحديث، روى أول ما روى من أحاديث: "إن الله جميل يحب الجمال" أكسبته مرائي الجمال في قريته صفاء العقل والذوق والنفس، وحبا للحياة والناس. فما مد بصره قط وهو صغير إلا رأى انفساح الأرض أمامه بألوان الزرع والزهر، حيث يستلقي الأفق على خضرة الحقول أو غابات الشجر والنخيل، وما ألقى السمع قط إلا ليسمع همس الطبيعة وأصوات الماء والشجر، وشدو الطيور عليه، كان يصحو ليستقبل النهار مع شعاع كل يوم جديد .. وما استنشق إلا العبير! لم يعرف الم الحاجة طيلة حياته، ولم يمسه قرح من مطالب الدنيا، وعاش ما عاش متمتعا بكل ما أحله الله من متاع في هذه الأرض.
كان أبوه واسع الغنى، يملك في قلقشندة وما حولها ضيعة خصبة، تنتج خير الثمرات من زرع وفاكهة .. لديه المال والبنون، زينة الحياة الدنيا، وكان الأب يدرك أن العلم هو خير ما يزين الرج العاقل .. وقد نال الأب قسطا من التعليم ولكنه قرر أن يجعل ابنه زينة الحياة الدنيا بحق، فوفر له كل ما يتاح من علوم ذلك الزمان ..! وعائلة الليث مصرية تنحدر من المصريين القدماء .. وقد دخلت في الإسلام وتعلمت اللغة العربية منذ الفتح الإسلامي. وأخذ الأجداد أبناءهم وأحفادهم بالتفقه في الإسلام، وبإتقان لغة الدين الجديد الذي دخلوا فيه .. حتى لقد اشتهر عائلات كثيرة منها عائلة الليث بحفظ القرآن والحديث والشعر والأخبار وفصاحة اللسان.
وكان العرب يطلقون على الذين أسلموا من أبناء البلاد المفتوحة اسم "الموالي" أما الذين لم يسلموا من أهل الكتاب فهم الذميون أو أهل الذمة .. وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك صوتا عظيما يعظ ويعلم حسن السيرة بين الناس منذ قال لهم: "الناس سواسية كأسنان المشط ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى".
وعلى الرغم من وضوح هذه التعاليم، فقد كانت العصبية القبلية تملي أحيانا على بعض الولاة إيثار المسلمين العرب الفاتحين على المسلمين من أهل البلاد المفتوحة .. أي الموالي. وهو إيثار لا يرد في توزيع الأموال أو رعاية الحقوق .. ولكنه يفلت عفو الخاطر في التقدير الأدبي. وما كان يمكن أن يرد هذا التمييز في توزيع الثروات، لأن عمر بن الخطاب أخذ بمشورة علي بن أبي طالب فوزع الأرض في البلاد المفتوحة على من يزرعونها، وأخذ منهم نصيب الدولة .. وهكذا كان من بين الموالي أغنياء، ومنهم أسرة الليث...
وما كان يمكن أن يرد هذا التمييز في الحقوق والواجبات، لأن مثل هذا التمييز يخالف مبادئ الإسلام كما أوردتها نصوص القرآن والسنة. ولكنها مشاعر تفلت على نحو ما في تقلب القلوب. ومن أجل حرص بعض الموالي على أن يتفرقوا .. ولقد تفرقوا حقا. ولكم ضاق خلفاء بني أمية بتفوق الموالي على العرب حتى في اللغة والفقه! وكان علي وبنوه يحسنون تقدير الموالي. وكان من أبرز هؤلاء الموالي الليث بن سعد الذي حفظ القرآن في قريته، وهو صبي، وحفظ كل ما وصل إليه من أحاديث نبوية وكل ما عرفه العصر من تراث الشعر العربي وعلوم اللغة العربية وآثار الخلفاء.
حتى إذا كان في مطلع الشباب وقد استوعب كل ما يمكن أن يصل إلى قريته من معرفة، وجهه أبوه إلى الفسطاط ليعلم علمها ويثقف نفسه بمعارفها .. زوده أبوه بكل ما ينبغي أن يتزود به طالب علم يجب أن يتفرغ نهاره وليله للعلم، ولا يشغله عنه شاغل من هموم الحياة والعيش!
وهاهو ذا فتى فارع القامة مليح الوجه وضئ الابتسامة في سمرة محياه، مطمئن النفس، ناعم البال، في ثياب جميلة. يفوح منه العطر والطيب، تغشى سكينته توترات الشوق إلى المعرفة، نشيط الخطى، مرح، حس الصوت، مشتعل الأعماق، متوقد الذهن، يختلج على الرغم من الدعة بالرغبة الجانحة إلى اقتحام المجهول، واستيعاب كل ما تخفيه الحياة والكلمات من الأسرار .. هاهو ذا بكل فتوته التي تثب به من الصبا إلى الشباب، فتى من القرية يخوض ليل المدينة الكبيرة المضيء بالثقافة والمعرفة.
واتجه إلى جامع عمرو وهو أول مسجد جامع أنشأه المسلمون في أفريقية وجامع عمرو منارة للعلم، مازال يشع منها ما درسه فيه أبو ذر الغفاري وعبد الله بن عمرو، وسائر الصحابة الذين جاءوا إلى مصر منذ الفتح الإسلامي، وعلموا الناس أمور الدين وفقهوهم بالقرآن والسنة، ومازال يتردد في جنبات هذا الجامع الكبير أسلوب مصري لتلاوة القرآن يختلف عن أساليب التلاوة في العواصم الإسلامية الأخرى.
وفي جامع عمرو حلقات كثيرة لدراسة القرآن وتفسيره، ودراسة الأحاديث والسنة والفقه، ترك فيها كل صحابي آثرا .. وفي الجامع إلى جوار ذلك حلقات لدراسة علوم اللغة العربية .. وعلوم اللغة هي أدوات فهم القرآن والحديث، وفي الفسطاط حلقات أخرى لدراسة كل ما كان في مصر من معارف الأقدمين: من مصريين ويونان ورومان وفرس وهنود، وكل معطيات الحضارات التي تزخر بها مصر .. وبهذا تميزت عاصمة مصر عن سائر مدائن الأرض. وأتيح للشباب المتطلع إلى المعرفة أن ينهل من الثقافات المختلفة كما لم يتح لفقيه آخر من معاصريه خارج مصر.
كانت اللغة القبطية لا تزال حية، وإذ كانت تطورا للغة المصرية القديمة (الهيروغلوفيه)، فقد نقلت كل الإعجاز المصري القديم في علوم الفلك والطب والرياضيات والطبيعيات والهندسة ونقلت تراث اليونان والرومان وغيرهم .. ولقد نقل بعض هذا التراث إلى اللغة العربية فأتيح لطلاب العلم أن يعرفوا، وما ظل من تلك المعارف في اللغة القبطية كانت معرفته ميسرة للمثقفين المصريين من مسلمين وأقباط الذين أصبحت اللغة العربية لسانهم بحق، ولكنهم ظلوا على معرفة باللغة المصرية التي كانت لغتهم قبل الفتح الإسلامي.
كانت اللغة العربية لم تنتشر في مصر بعد، فاللغة القبطية هي السائدة، وكان الليث يتقن اللغتين العربية لغة الإسلام، والقبطية لغة آبائه الأولين، وكان إلى هذا يتقن اليونانية واللاتينية، وهما من لغات الميراث الحضاري. وقد أتاح التعرف إلى ميراث علوم الأسلاف، واستيعاب معطيات الحضارة المطروحة على العقل المصري .. أتاح هذا كله للشاب غنى فريدا في الثقافة.! حتى إذا أحس أنه قوي مكين، عكف على كل الحلقات في جامع عمرو يتلقى التفسير والحديث والفقه.
وكان الصحابة الذين جاءوا إلى مصر أحد رجلين: رجل يتمسك بالقرآن والسنة، ويفتي الناس في أمور دنياهم بما يجد في القرآن والسنة، فإن لم يجد أثرا لا يفتى على الإطلاق .. ورجل آخر كان يجتهد رأيه وهو يواجه أمورا جديدة في بيئة جديدة وحالات لم يرد لها حكم في القرآن أو السنة. وتلقى أتباع هؤلاء الصحابة عنهم .. وأخذوا هذا العلم بقوة .. فأشتد بعضهم في التمسك بالنصوص ورفض الاجتهاد بالرأي.! وغالى الآخرون في الاعتماد على الرأي، وافترضوا قضايا لم تحدث واستنبطوا لها أحكاما، حتى لقد وقعوا في شواذ الفتيا.!
والطالب الشاب يعكف على حلقات هؤلاء وهؤلاء ليتقن علوم القرآن والحديث، ويعني بأسرار اللغة عناية خاصة فائقة، لأنه يدرك أنها هي الأدالا لحسن نصوص القرآن والأحاديث. وفي الحق أنه في بحثه الظامئ عن الحقيقة وأسرار المعرفة، كان قد ضاق بخلافات شيوخ الحلقات. ورأى غلوا في كلا الحزبين .. فالمتمسكون بالنصوص لا يخرجون عنها .. متشددين تشددا قد يستحيل معه مواجهة الحالات المتحدثة التي لم يرد في حكمها نص قطعي..! وأصحاب الرأي يتساهلون تساهلا قد يدعو إلى الخطأ في الحكم، أو إحداث الاضطراب في الشريعة!
ورأى الطالب الشاب أن يستقل بالنظر فالمتشددون في التمسك بالنصوص يعتمدون على الآية الكريمة: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ } (النساء،الآية:83).
هذا حق. وأصحاب الرأي يقولون إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتهد رأيه فيما ينزل فيه قرآن .. وصحابته قد اجتهدوا في حياته وأقرهم على اجتهادهم .. وهذا كله حق أيضا..! فما الغلو إذن في الاقتصار على النص أو الاعتماد على الرأي..!؟
على أن الليث أدرك أن النصوص ليست ظاهرا فحسب .. ليست كلمات .. بل هي روح .. لها دلالات وفحوى وعلل. وإذن فالذي يتقن اللغة العربية، ويتقن معرفة أسرار بلاغتها حري بأن يفهم النصوص ظاهرها وروحها .. ثم إن الأحاديث النبوية تفسر كثيرا من نصوص القرآن .. وفي السنة تفصيل لما أجمله القرآن .. وتبيان لما خفي منه عن المدارك .. وفهم الأحاديث النبوية يقتضي أيضا فهم أسرار اللغة العربية وروحها .. وليس كل عربي بقادر على إدراك معاني الأحاديث، أو فهم ما أنزله الله بلسان عربي مبين. فهذا الأمر يستلزم إتقانا خاصا وتذوقا خالصا للغة.
من أجل ذلك عكف الليث ـ بعد أن حفظ القرآن والأحاديث ـ على حفظ الشعر العربي الذي قيل قبل نزول الوحي بالقرآن وخلال نزوله، ليدرك أسرار اللغة جميعا .. ولقد يروقه أحيانا بعض أبيات من الغزل فيتغنى بها .. ولقد سمعه أحد شيوخ فقال له: "هذا مباح ولكن لا تفعله فسيكون لك في الفقه شأن" ولكنه عاش يتغنى بما يروق له من شعر. وكان جميل الصوت .. على أنه قرر وهو يحضر الحلقات في جامع عمرو أن يتخذ له مذهبا وسطا بين أهل النصوص وأهل الرأي.
ومر عام وهو عاكف على درسه، يحفظ ويتأمل وينظر في روح كل نص حفظه .. وقد ترك لحيته لتكبر، عسى أن يداري بكبر الحية صغر السن..! وأخذ يذيع مذهبه بين زملائه الطلاب في مواجهة أساتذته من أصحاب الحديث وأصحاب الرأي. وكان عجبا أن يهتدي شاب في نحو السادسة عشرة من عمره إلى نظر مستقل بين أهل الحديث وأهلي الرأي..! ولقد ناقش في ذلك أحد شيوخ الحلقات من أهل الحديث فنهره!
وناظر غيره فنهره جميعا، وألزموه التمسك بالحديث والعدول عن الرأي فقال: "تعلموا الحلم قبل العلم! وظل طوال حياته كلما جادل أهل الحديث يكرر عليهم هذا القول .. وأعجب به زملاؤه الطلاب، وبدأوا يلتفون حوله، وشجعته حماستهم له، وكلما زادوه تشجيعا، زاد عكوفا على العلم والنظر فيه .. وكان زملاؤه يلقون عليه المسائل، فيظل يمعن النصر حتى يجد جوابا وكانت إجاباته تبهرهم .. وما كان يعجل للإجابة بل يتريث لها.
وفي الحق أنه تألف قلوبهم بحسن آدابه، وظرفه، ودماثة خلقه، وسعة علمه .. وبكرمه! فإذا لاحظ فقر أحد زملائه وصله بالمال سرا، ولقد يلاحظ بقع الحبر على ثوب زميل آخر فيهديه ثوبا جديدا. وإن وجد فيهم من يبعد مسكنه عن جامع عمرو ويجهده السير إلى حلقات الدرس أهداه دابة .. ولكيلا يحرج المحتاج من زملائه كان يزعم لهم أنه يقدم للواحد منهم قرضا حسنا يرده عندما يكبر ويتكسب!
وأغراه زملاؤه بأن يتخذ لنفسه حلقة ولكنه تهيب أن يجلس مجلس الأستاذ. ولقد علم أحد أشياخه أن الناس يستفتونه، فيفتي، ويرضون عن فتياه .. فناداه الشيخ وشجعه على الإفتاء. ولكن الليث استحيا لأنه صغير السن، ثم لأنه من الموالي، وهذا الأمر يجب أن يكون للعرب! وإذ ذاك قال له الشيخ أما سمعت عما كان بين الخليفة هشام بن عبد الملك وبين الفقيه شهاب الزهري؟ فقال الليث "لا" فقال الشيخ إن الخليفة سأل الزهري وهو أفقه هذا العصر، عن العلماء الذين يسودون أهل الحجاز وأهل اليمن وأهل الشام وأهل مصر وأهل خرسان.
فذكر له الزهري أسماءهم. والخليفة يسأل عن كل واحد من العرب هو أم من الموالي. فيقول الزهري من الموالي فقال الخليفة مغضبا: "والله لتسودون الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها." فقال شهاب الزهري: إنما هو أمر الله ودينه فمن حفظه ساد ومن ضيعه سقط! هذا هو رأي الزهري وليس له في العلماء نظير.
ولكن الليث لم يجلس للإفتاء، وصمم على ألا يجلس حتى يبلغ من السن مبلغا يؤهله لذلك، وحتى يصل من العلم، واستقلال النظر إلى ما يقنع به فقهاء العرب والموالي على السواء .. إنه لم يتعلم من أئمة العصر خارج مصر بعد .. ولكم يعنيه الشوق إلى معرفة ما عندهم .. ولقد أغراه ما سمعه من أستاذه عن الزهري بالسفر إليه ليتعلم منه ولكنه فوجئ بموت أبيه. عليه الآن أن ينهض بأمور الأسرة بعد أبيه. وأن يدير أمور ثروته الواسعة. وعاد إلى قريته فإذا بالوالي قد أمر بهدم بيت الأسرة! فأعاد الليث بناء البيت، فهدم الوالي الدار مرة أخرى. وبناها الليث فهدمها الوالي مرة ثالثة..!
وبات الشاب مهموما .. أنه ليحمل على منكبيه أعباء الأسرة، وإدارة الضيعة التي ورثها وهموم العلم والمذهب الجديد الذي يريد أن يصوغه محكما وسطا بين أهل الرأي وأهل الحديث .. كل هذا، واضطهاد الوالي أيضا..!! ولكن لماذا يضطهده الوالي العربي إلى هذا الحد؟! لأنه خرج عن طاعة بعض الشيوخ من أهل السنة ممن ينحاز لهم الوالي؟ .. أم لأن الوالي كان عدوا لأبيه، ولم يستطع أن ينال من الأب في حياته؟
أم لأن الليث أحد الموالي الذين يوشكون أن يظهروا ويغلبوا بعلمهم فقهاء العرب؟! أم لأن الليث يميل إلى علي بن أبي طالب .. والوالي يصانع الخليفة عدو علي؟! ولكن مصر كلها تميل إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .. إن هذا السلوك مهما يكن سببه يجافي روح الإسلام .. إن هذا الوالي ليس من الله في شيء. فما الحيلة معه؟!..
ثلاث ليال متتاليات .. كما أصلح الليث بناء داره أرسل الخليفة في الليل من يهدمها! إن الوالي ليستضعف الليث حقا! وثقلت عليه الهموم، فجاءه في المنام من يقول له: "قم يا ليث فأقرأ قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين). فأصبح الليث وقد أصيب الوالي بالفلج، فأوصى كل من حوله بألا يظلموا الليث، وأن يحسنوا صحبته .. ومات الوالي بعد أيام قلائل ..
وتسامع الناس القصة، وامتلأت بها أروقة جامع عمرو، وانتشرت في الأسواق، وقال بعض زملائه الطلاب وبعض شيوخه الذين غاضبوه من قبل: "لقد دافع الله عن الليث .. إن الله يدافع عن الذين آمنوا .. " وفي الحق أنه كان دمث الخلق، حسن السيرة ين الناس، وكان طيب المعشر، كريما سخيا .. وكان سريا..! ولقد رآه أحد شيوخه يتضاحك مع زملائه الطلاب في خفة، ويطلق قهقهة عالية في رحاب المسجد بعد الدرس، ويضرب الأرض بقدمه .. وكان الشيخ والسنة، فتقدم الشيخ إلى الليث متوددا، وقال له ناصحا في رفق: "يا بني لا تفعل هذا فإنك إمام منظور إليك."
وبعد ثلاثة أعوام خرج الليث الى الحج والعمرة، وكان في العشرين من عمره، وزار المدينة بعد الحج .. وكان في العشرين من عمره، وزار المدينة بعد الحج .. وكان الفقهاء من كل الأمصار يجتمعون في الحج ثم في الحرم النبوي فيتبادلون الرأي .. وهناك بحث الليث عن شهاب الزهري ليجلس إليه ..
والتقى به، وتلقى منه، وناظره، وطرح الليث عليه ما انتهى إليه من نظر، ووجد الليث في الزهري من عمق الفكر وسعة العلم ودقة الفهم ما لم يجد في أحد قط. فأكبره إكبارا شديدا حتى ليمسك له بالركاب .. وكانت في الليث ما في العلماء من عزة نفسن فلم يصدق أصحاب الليث أنه يمسك لأحد بالركاب .. وسأله صديق مستنكرا أتمسك بركاب الزهرى فقال الليث: "نعم للعلم، فأما لغير ذلك فلا .. والله ما فعلته بأحد قط .."
وفي الحجاز التقى بعدد من فقهاء العصر من أهل السنة أهل الرأي على السواء، وجلس إليهم وفي حلقة ربيعة الرأي تعرف بمالك بن أنس، وهو في مثل سنه، وتبادلا الرأي بعد الحلقة. وكان مالك في ذلك الوقت طالب علم في نحو العشرين، يكابد في سبيل طلب العلم .. وأدرك الليث أن صاحبه يعاني الفقر، فأخذ يحتال ليصله بمال. ولكنه لم يكن يعرف كيف يبدأ. على أنهما تلازما في حلقة ربيعة، وتلازما بعد الحلقة يتدارسان، ويتبادلان الرأي فيما حصلاه، وألأف كل منهما صاحبه، ونشأت بينهما مودة، فأرسل مالك طبقا فيه رطب إلى الليث، فقبل الليث الهداية شاكرا، ورد الطبق مملوءا بالدنانير.
وعاد الليث إلى مصر، واتصلت الرسائل بينه وبين مالك ودعاه لزيارة مصر ولكن مالك بن أنس لم يستطع. وتعود الليث أن يزوره في المدينه كلما ذهب للحج أو العمرة وزيارة الحرم النبوي. وقد ظل الليث يصل مالك بن أنس بمائة دينار كل عام، وكتب مالك إليه أن عليه ديناراً، فأرسل إليه الليث خمسمائة دينار .. والدينار في ذلك الزمان كان يكفي لكسوة رجل أو لشراء دابة .. ولم ينقطع عطاء الليث لمالك حتى أصاب مالك عطاء الخلفاء وأصبح ثريا ..
مع ذلك فقد واظب الليث على سؤال مالك عن حاجته حتى في الرسائل التي تضمن خلافاتهما الفقهية.
على أن الليث في رحلاته العلمية لم يستفد علما جديدا فحسب بل أفاد أيضا، ولفت إليه الأنظار. وسأله أحد شيوخ الزمان بعد مناظرة طويلة: "كم عمرك؟" فقال الليث "عشرون" فقال الشيخ، ولكنك تحمل عل ابن الستين ولحية ابن الأربعين! وكان الليث كلما سمع عن فقيه في بلد، شد إليه الرحال .. حتى عندما تقدمت به السن، فقد سافر بعد الستين إلى العراق ينشد العلم عند فقيه أصغر منه سنا .. وسمع عن فقيه آخر نزل بالإسكندرية فركب النيل إليه ولكنه وجده قد مات، فبكى!
حصل الليث إذن علمه من كل فقهاء عصره لم يأل في ذلك جهدا، ولم يقعده طول السفر .. وكان ربما استأثر بأحد هؤلاء الفقهاء سمع عن نافع مولي عبد الله بن عمر فاحتال حتى لقيه بالحجاز .. وكانت في نافع حدة، ولكنه استراح إلى الليث، ولزمه الليث لا يبرحه طيلة إقامته بالحجاز، يحفظ عنه الأحاديث وفتاوى الصحابة، ويحاوره في الفقه. وقد لقيه في دكان علاف فتحاور برهة، حتى مر بهاما ابن لهيعة وهو مصري من أصاحب الليث ـ صار فيما بعد قاضيا لمصر ـ فسأل عن نافع: "من هذا؟" فهمس الليث: "هو مولي لنا". حتى إذا عاد إلى مصر، جعل الليث يحدث عن نافع، فسأل عن ابن لهيعة منكرا "وأين لقيته؟"
فقال الليث ضاحكا: "أما رأيت العبد الذي كان في دكان العلاف؟ هو ذاك" وغضب منه ابن لهيعة، لأنه أخفى عنه نافعا مولي عبد الله بن عمر ولكن الليث لم يطق خصامه، فنقل إليه ما حفظه عن نافع، وما دار بينهما من حوار في كل أمور الفقه .. ثم أن ابن لهيعة ولي قضاء مصر براتب قدره ثلاثون دينار في الشهر وهو اكبر راتب بعد راتب الوالي. واحترقت دار ابن لهيعة وكتبه فعوضه عنها الليث بن سعد بألف دينار!
وعندما عاد الليث إلى مصر بعد أول رحلة للحج، بنى دارا كبيرة في الفسطاط لها نحو عشرين بابا..! وجعل فيها حديقة ملأها بالأشجار والزهور والريحان، وكانت الريح تحمل عطرها إلى ما حولها .. وملأ داره بما استطاع الوصول إليه من كتب .. وفتحها لأصحاب الحاجات ولأصدقائه .. كان يدعو أصدقاءه إلى الطعام ويضع الدنانير في الفالوذج، فمن أكل منهم اكثر نال دنانير اكثر..!
كان يقوم الليل إلا قليلا، حتى إذا أقبل الفجر، خرج على فرسه إلى جامع عمرو يحضر الحلقات، ويحفظ ويدرس، ويتحرى أحوال أصدقائه من له حاجة، ويفتي الناس من غير أن يجلس في مكان المفتي أو الأستاذ. فقد كان ولا يزال يتهيب هذا المقعد، على الرغم أنه جمع من العلم ما يؤهله له. وبعد العصر كان يرتدي اجمل ثيابه ويتعطر، ويتمشى في الحدائق والأسواق، أو على شط النيل..!
وسمع مالك بما يصنعه الليث: تمتعه بأطيب الطعام، وتزينه بأبهى الثياب، وخروجه للنزهة في الحدائق والأسواق، فكتب مالك إليه معاتبا: "بلغني أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق (أي الثياب الرقية الفاخرة) وتمشي في الأسواق". فكتب إليه الليث: "قال الله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (الأعراف،الآية:32) .
وعلى الرغم من نقد مالك، قد ظل الليث يأكل الرقاق وما يستطيب من طعام، ويلبس الرقاق وأبهى الثياب، ويمشي في الأسواق، ويتنزه في الحدائق على شاطئ النيل، ويقتني أفخر الدواب من حمير مصر وبغالها وأفراس بلاد العرب، ويهدي منها أصدقاءه ولقد أهدى مالك بن أنس عددا منها، وكان يحتفي بسروجها وبراعتها ويوشي اللجام كما تعود أن يهديه كل عام من أجود كتان مصر ما يكفيه طوال العام. وكان عند الليث ثياب بعدد أيام السنة، فما يلبس الثوب يومين متتالين .. ولعل مالك بن أنس اقتنع برد الليث فشرع هو الآخر يعني بملبسه ومأكله.
على أن الليث لم يستمتع وحده بطيبات الحياة .. فقد كان يوزع على أهل العلم، وأصحابه، وجيرانه، ومن يعرف أنه صاحب حاجة .. كان يوزع المال ويهدي الطعام والثياب والدواب .. وما أكل وحده قط. وكان يطعم في كل يوم ثلثمائة من الفقراء والمساكين، وغير الصحاب وأهل العلم يطعمهم من أطيب ما يطعم هو الرقاق، واللحوم، وحلوى (هريسة) بعسل النحل وسمن البقر، واللوز بالسكر .. وعاش عمره يعطي السائل اكثر مما يسأل ..
طلبت منه امرأة رطلا من عسل لتعالج ابنها، في وقت شح فيه العسل، فأمر كاتبه أن يعطيها مرطا من عسل (والمرط نحو مائة وعشرين رطلا) فقال كاتبه: "سألتك رطلا أتعطيها مرطا؟" فقال الليث: "سألتنا على قدرها ونحن نعطيها على قدرنا" .. كانت له ضيعة بالفرما (قرب بورسعيد) يأتيه خراجها، فلا يدخله داره، بل يجلس أمام أحد أبوابها العشرين وقد جعل المال في صرر يوزعها جميعا صرة بعد صرة وكان لا يتصدق بأقل من خمسين دينارا .. ذلك أنه كان يحسن استثمار أرضه الواسعة الخصبة حتى لقد كانت تدر عليه نحو عشرين ألف دينار كل عام ..
وعلى الرغم من هذا الثراء الضخم فما وجبت عليه زكاة قط .. فما حال الحول عليه وعنده دينار واحد .. إذ كان ينفق كل دخله: يحيا حياة مترفة بما أحل الله له، ويقتني أغلى الكتب وأندرها، مهما يكلفه الحصول عليها. وكان عقله موسوعة من المعارف من علوم الشريعة والأدب واللغة والفلسفة والطبيعات والرياضيات .. وحتى الطب!
وكان يعني بصحته أبلغ عناية حتى ليبدو أصغر من سنه بأعوام .. ذلك أنه كان يكد، ويتبع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام في العناية بالصحة، فيعطي بدنه حقه من الراحة .. وإن لبدنك عليك حقا، ويعطي قلبه حظه من المرح، فإن القلوب لتصدأ ومن الواجب الترويح عنها، ويمنح عقله ونفسه ما يحتاجان إليه من سكينة وهدوء. وقد هداه علمه بالطب إلى وجوب الرضا بقضاء الله وتجنب الانفعالات فهي التي تتلف الصحة.
كان يحب أن يعيش سعيدا، ويحب أن يسعد الذين يعيشون من حوله. من أجل ذلك ينفق على الآخرين ليسعدهم .. ويرى أن صاحب المال مستخلف فيه لينفقه فيما يرضي الله ورسوله وفيما يسعد الناس. وكان شعاره "احسن كما احسن الله إليك ولا تنس نصيبك في الدنيا" وبحسن فهمه لهذه الآية الكريمة تمتع بالحلال من الطيبات، وأمتع الآخرين. من أجل ذلك نادى الليث بأنه ليس من حق أحد أن يحتفظ بمال إلا إذا بلغ الناس حد الكفاية والحكام وولاة الأمور مسئولون أمام الله عن أن يوفروا للناس جميعا حد الكفاية لا حد الكفاف ..
وحد الكفاف هو ما يحفظ للناس حياتهم من الطعام والشراب، أما حد الكفاية فهو ما يكفي كل حاجات الناس من جودة الطعام والشراب، والمسكن الصالح المريح، والدواب التي تحملهم، والعلم الذي ينقذهم من الضلال، وسداد ديونهم .. وكل ما يوفر الحياة المريحة الكريمة للإنسان! وقد استنبط الليث هذه الأحكام من فهم عميق لنصوص القرآن الكريم والسنة، ومن أعماله الفكر واجتهاده بالرأي...
أنكره خلفاء بني أمية، وضاقوا بآرائه وكانوا ينحازون للعرب ضد الموالي، على الرغم من أن الخليفة العربي الأموي عمر بن عبد العزيز كان يقوم الناس على أساس علمهم، حتى لقد نهر الذين ينكرون على الموالي حق الفتيا قائلا: ما ذنبي إن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون". وإذ دالت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس، ظهرت أحاديث نبوية كثيرة كان الناس يتداولونها سرا.
وهكذا أذاع العباسيون حديثا للرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيه للعرب: "لا يجيئني الناس بالأعمال وتجيئونني بالأنساب" إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ونشر فقهاء الموالي على الناس فضائل بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي. وكلهم له سابقة .. في الإسلام .. حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: بلال سيدنا.
وأذاعوا ما كان من الإمام علي كرم الله وجهه من تكريم للموالي، وتقويمه للناس بقدر علمهم وصلاحهم وتقواهم، لذلك أحبه الموالي وشايعه أغلبهم .. ولعله من أجل تسوية الإمام علي بين العرب والموالي، وجعله العلم والتقوى والصلاح أساس المفاضلة، لعله من أجل ذلك، كره بنو أمية الموالي ـ إلا عمر بن عبد العزيز ـ كراهية منهم لأشياع الإمام علي، وانحيازا منهم للعرب، حتى لقد صرخ أحد خلفائهم؟! تكاد نفسي تخرج ولا أسمع عن فقيه واحد عربي! وهكذا شعر الموالي عندما جاء العباسيون، أن زمن التفرقة بد ولى إلى غير رجعة. اختفى بنو العباس بالموالي وبالغوا في الاحتفاء بهم ..
وإذن فقد جاء الوقت الذي يستطيع فيه الليث بن سعد أن يجلس في جامع عمرو، ليعلم الناس، وليفتي لهم في أمور الدين، والحياة وكان قد أخذ مكانته بين فقهاء عصره على الرغم من شبابه .. فما كان قد بلغ الثلاثين، عندما جلس يعلم ويفتي وكان فقهاء عصره من جميع الأمصار، قد التقوا به، معلمين ومناظرين، في رحلاته المتكررة إلى الحجاز حاجا ومعتمرا، وزائرا للحرم النبوي، وطالب علم في الوقت نفسه .. مناظرا يرعى آداب المناظرة، ويخلب المستمعين بفصاحة اللسان، ونصاعة البيان، وعمق الإدراك، وحسن الخطاب، مع توقد الذهن، وسرعة البديهة، وذكاء الاستنباط .. حتى لقد كان ربيعة الرأي أستاذه لا يحسب حساب أحد من الفقهاء أو التلاميذ إلا الليث بن سعد .. ذلك الوجيه المصري!
ولقد سمع به الخليفة العباسي المنصور، فاستدعاه ليقابله في بيت المقدس وكان للمنصور ولع بالعلم والأدب، وناظره المنصور، فأعجب به .. وعرض أن يوليه مصر ولكن الليث يريد أن يحيا حياته بعيدا عن هموم المسئولية السياسية، متفرغا للعلم! خجل أن يصرح بعذره للخليفة، وتعلل بأنه لا يصلح لهذا قائلا: "يا أمير المؤمنين. إني أضعف من ذل كالرجل من الموالي" فقال المنصور: "ما بك من ضعف معي، ولكن ضعف نيتك في العمل عن ذلك لي .. لقد أعجبتني .. اكثر الله في الرعية من أمثالك."
وأجزل له المنصور العطاء، فوزع الليث كل ما أخذه على المحتاجين قبل أن يبرح .. وعاد إلى مصر في موكب فخيم يصحبه ثناء المنصور عليه ولقد نصح المنصور لأهل العلم في العراق وسائر الأمصار أن يذهبوا إلى الفسطاط، فيتلقوا عن هذا الفقيه المصري الشاب الذي لم يلق المنصور أفقه منه بالشريعة، ولا أحفظ منه للحديث، ولا أحد منه بصيرة أو أذكى جنانا أو أفصح لسانا، ولا أعدل أو أعف، أو أوسع علما بمعارف الأوائل وحكمتهم، ولا قدرة على الاستنباط، ولا أسلم منه رأيا..! ثم إن المنصور أرسل إلى والي مصر وقاضيها أن يستشيرا الليث بن سعد في كل أمورهم.
وكبر على بعض الفقهاء العرب أن يضع المنصور أحد الموالي في هذه المكانة فوق الوالي العربي والقاضي العربي، فأخذوا يكيدون لليث بن سعد حسدا من عند أنفسهم وأرسل أحدهم إلى الخليفة المنصور: أمير المؤمنين تلاف مصر! فإن أميرها ليس بن سعد!! عسى أن يتوهم الخليفة أن الليث بن سعد يستغل رضا الخليفة عنه، فيتعالى على الوالي والقاضي، فأصدر الخليفة أمرا وأعلنه على الملأ أن الليث بن سعد هو أعلم رجال عصره بالشريعة واللغة والشعر، وهو أكثرهم تحريا للعدل وتوقيا للشبهات تحرجا وعفة .. وهو من أجل ذلك ينصبه كبيرا للديار المصرية ورئيسها، بحيث لا يقضي في مصر شيء إلا بمشورته، ويصبح الوالي والقاضي تحت أمر مشورته ..
ثم إن الخليفة زجر هؤلاء العرب المتعصبين لعروبتهم، المنكرين على الموالي حسن بلائهم وارتفاع مكانتهم، واستشهد في زجرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية، وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان: بر تقي، كريم على الله، فاسق شقي، هين على الله، والناس كلهم بنو آدم. هكذا أعلن الخليفة تأييده للموالي، ودعم الليث بن سعد دعما حاسما ولكن الليث احسن استخدام هذه الثقة لإفادة الرعية .. فما كان يفرض رأيه على الموالي أو القاضي مهما يختلف معهما، ولكنه إن وجد في أوامر الوالي أو قضاء القاضي ما يظلم أحدا كتب إلى الخليفة فيأخذ برأي الليث.
وكان أشد ما يسوء الليث بن سعد من ولاة الأمر أن يقبل أحدهم هدية وكان يجهر في مجالسه أنه إذا دخلت الهدية من الباب، خرجت العدالة من النافذة..! وكان ينصح كل صاحب منصب ألا يقبل هدية من أحد من الرعية، وإن لم يكن للمهدي حاجة، فإذا قبل صاحب المنصب النصيحة ورفض الهدية شكره، أما إذا أبى، كتب للخليفة فعزله. وقد عاتب أحد المعزولين الليث بن سعد فقال: "نصحتك فلم تنتصح، ومصلحة الرعية أولى وما صبري على ظلم الرعية؟" وكان المعزول لا يملك إلا راتبه، فأجرى عليه الليث راتبه من ماله الخاص. وتمضي الحياة بالليث وهو يهب كل وقته للدرس والعلم والفتيا ومواساة الناس.
تعلم من أحد شيوخ ألا يغشى مجالس الولاة، فكان إذا استدعاه أحد الولاة ليسأله عن شيء من العلم رد عليه الليث بقول شيخه: "ائتني أنت فإن مجيئك إلي زين لك ومجيئي إليك شين علي" وهكذا كان أولو الأمر يذهبون هم إليه. وقد احسن تقسيم وقته بين مشاغله العديدة .. وقسمه إلى أربعة مجالس يجلس فيها، فالمجلس الأول للوالي والقاضي وأولياء الأمور يسألونه المشورة أو يسمعون رأيه في سيرتهم وأحكامهم. فإذا انتهى هذا المجلس عقد مجلسه الثاني لأهل الحديث، يسمع منهم، ويشرح للمستمعين ما يحفظ من أحاديث ويقول: "نحوا أصحاب الحوانيت، فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم".
وفي الحق أنه كان حريصا على أن يكون مجلس الحديث لأهل الحديث وحدهم، فيتذاكر معهم أسانيد الأحاديث وصحتها ومعانيها وروحها وفحواها، فما كان لغيرهم مكان! فإذا فرغ من هذا المجلس، عقد مجلسا للناس كافة، يسميه مجلس المسائل، وهو مجلس للفتيا .. يسأله الناس فيما يعرض لهم من أمور الحياة، فيجيب مستوحيا القرآن في فتاواه، فإن لم يجد لجأ إلى السنة، فإن لم يجد الإجابة في النصوص، التمس الجواب في إجماع الصحابة ـ وكان من رأيه أن إجماع الصحابة نادر، فإن لم يجد، اجتهد رأيه، ولجأ إلى القياس وإلى العادات والعرف ما لم تخالف نصا.
أما مجلسه الرابع فكان في داره، وهو مخصص لحاجات الناس .. وهذا المجلس كان يستهلك إيراده السنوي الكبير. أما استثمار أرضه، فقد كان له وكيل هو كاتبه يقوم عنه بأمر الأرض. لقد صح رأي الليث عندما اعتذر عن ولاية مصر ليتفرغ للعلم .. فقد استقام له الآن فقه خاص، استقل فيه عن فقه ربيعة الرأي، أستاذه وخالف به فقه اكبر عالمين في عصره وهما أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس صديقه.
وقد التقى الليث بأبي حنيفة في مجلس مالك بن أنس في المدينة .. ودخل الليث على مالك ذات ليلة من الشتاء فوجده يمسح عرقه وقد انصرف من عنده أبو حنيفة، إنه لفقيه يا مصري" وكان مالك لا يحب الجدل وأبو حنيفة مولع به. وسأل الليث أبا حنيفة عن رأيه في مالك فأثنى عليه أطيب ثناء.
على أن الليث كان ينكر على أبي حنيفة توسعه في الأخذ بالرأي ولجوءه إلى الحيل لاستنباط الحكم، وإن كان معجبا بذكاء أبي حنيفة، وسرعة بديهته .. ولقد سمع به قبل أن يلقاه، وتمنى أن يراه .. ورآه لأول مرة في المسجد الحرام، قبل أن يلتقي به عند مالك في المدينة .. رأى حلقة عليها الناس، فإذا هي حلقة أبي حنيفة، فجلس يستمع إليه فأقبل رجل فقال: يا أبا حنيفة إني رجل من أهل خراسان كثير المال، وأن لي أبنا ليس بالمحمود وليس لي ولد غيره إن زوجته طلق وإن سريته أعتق".
(وسريته أي وهبته جارية تعيش معه كالزوجة) وقد عجزت عن هذا فهل من حيلة؟ "فأسرع أبو حنيفة مجيبا. اشتر لنفسك الجارية التي يرضاها هو، ثم زوجها منه، فإن طلق رجعت مملوكتك إليك، وإن اعتق أعتق مالا يملك". ويقول الليث عن جواب أبي حنيفة: فوالله ما أعجبني قوله بأكثر مما أعجبني سرعة جوابه .. ولقد رأى الليث أن أبا حنيفة ما كان ينبغي أن يجيب بمثل تلك السرعة ولا أن يلجأ لمثل تلك الحيلة!! اختلف الليث مع أبي حنيفة في كثير من الآراء واشهر خلاف بينهما هو الرأي في الوقف .. فقد كان أبو حنيفة لا يجيز الوقف .. لأنه يرى في حبس المال قيدا وضررا ...
وبهذا الرأي أخذ أحد قضاة مصر، فنبهه الليث إلى خطأ هذا الرأي، وغلى مخالفته للسنة .. ولكن القاضي ظل يحكم بإبطال الوقف .. فجاءه الليث في مجلس القضاء، فرفع القاضي المجلس، فقال الليث: إنما جئت إليك مخاصما، فقال له القاضي: "في ماذا" قال الليث: "في احباس المسلمين (أي أوقافهم) لقد حبس (أي وقف) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي فمن بقى بعد هؤلاء؟ ولم يقتنع القاضي، فكتب الليث إلى الخليفة بشأنه: والله إنا لم ننكر عليه شيئا، غير أنه أحدث أحكاما لا نعرفها!
فأمر الخليفة بعزل القاضي، فجاء القاضي إلى الليث في مجلسه، وأخبره بأمر العزل وأضاف: "والله لو أمرتني بالخروج لخرجت" فقال الليث بصوت يسمعه الجميع: والله إنك لعفيف عن أموال الناس، ولكنك تخالف الرسول صلى الله عليه وسلم فما تصلح للقضاء. وهكذا عاش الليث يصحح ما يراه خطأ من أحكام القضاة، أو أوامر الحكام، أو ما استقر في عقول الناس .. رأى الناس في مصر ينتقصون عثمان بن عفان رضي الله عنه ـ ومن مصر انفجرت الثورة على عثمان ـ فنهى الناس عن ذلك، وأوضح لهم فضائل عثمان بقيادة ابن أبي بكر وحسن بلائه في الإسلام ومنزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن أحد ولاة مصر هدم الكنائس.
فكتب إلى الخليفة طالبا عزل الوالي لأنه مبتدع، مخالف لروح الإسلام. فعزله الخليفة بجريمته، وأشار على الوالي الجديد أن يعيد بناء ما هدم من الكنائس، وأن يبني كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون في مصر، لأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالقبط خيرا"
ولأن اكثر الكنائس التي كانت قائمة بمصر إنما بناها لصحابة، ممن قادوا جيش الفتح الإسلامي. وإجماع مثل هذا العدد من الصحابة هو في قوة السنة، فما كانوا ليجمعوا على أمر إلا لأنهم تعلموه من الرسول.
إن عمر بن الخطاب أبى أن يصلي في الكنيسة ببيت المقدس كيلا يصنعها مسلم بعده ولكي تظل للكنائس حرية العبادة فيها، واستقلالها. ثم إن عمر بن الخطاب عاهد المسيحيين في بيت المقدس على حماية أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم وكنائسهم وأوقاف هذه الكنائس وأموالها، وأقر الصحابة بالإجماع، فهذا الصنيع حجة على المسلمين إلى آخر الزمان. ومن قبل عمر، حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إيذاء أهل الذمة، وهم أصحاب البلاد المفتوحة من أهل الكتاب الذين لم يدخلوا الإسلام بل احتفظوا بدينهم. فهم ذمة الله ورسوله
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى