منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام

اذهب الى الأسفل

العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام Empty العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام

مُساهمة  كمال العطار الإثنين يوليو 04, 2011 5:46 am

[size=18][b]تنبأ لنفسه أنه سيعيش ثلاثا وثمانين عاما، فكان الأمر كما قال!. زاره صديق ذات صباح فقال له: "رأيتك في المنام تنشد:

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة وأخرى رمى فيها الزمان فشلت

فسكت ساعة ثم قال: أعيش ثلاثا وثمانين سنة، فإن هذا الشعر لكثير عزة ولا نسبة بيني وبينه غير السن، فهو شيعي وأنا سني، وهو قصير وأنا لست بقصير، وقد عاش ثلاثا وثمانين سنة فسأعيش كما عاش أن شاء الله.

ولد في دمشق عام 577 هـ، وتوفى بالقاهرة عام 660 هـ، ودفن بسفح المقطم.

وحين بلغ الثانية والستين، بدأ حياة جديدة، وغير كل ما تعوده وهو صغير: فقد ترك دمشق مغاضبا وهاجر إلى الله من بغي حاكم دمشق، واستقر في القاهرة، وشرع في تأليف الكتب. فوضع كل مصنفاته فيها، وما كان من قبل قد كتب شيئا يعتد به، ذلك أنه كان ينفق كل وقته في التدريس والخطابه والوعظ .. وفي القاهرة جمع إلى هذه الأعباء مسئولية الكتابة، فصنف كتبا في الفقه والتفسير والأصول والتصوف. وصاول الحكام!.

أطلق عليه أبوه اسم العز عز الدين عبد العزيز .. ولكنه عندما كبر اشتهر باسم عز الدين وباسم العز، وقلما كان يناديه الناس عبد العزيز.

وقد فتح العز بن عبد السلام عينيه على حياة الحرمان .. كان أبوه عبد السلام فقيرا جهد الفقر وكان يجوب الأسواق بحثا عن عمل.

وحين شب الطفل صحبه أبوه ليساعده في بعض الأعمال الشاقة كإصلاح الطرق وحمل الأمتعة، وتنظيف ما أمام محلات التجار..

وكان أبوه عبد السلام يأخذه إلى الجامع الأموي إذا حان وقت الصلاة، ورآه أحد شيوخ المسجد. فأعجب به ودعا له. مات أبوه فلم يجد في نفسه القوة إلى القيام بالأعمال الشاقة التي كان يؤديها أبوه، ولم يجد الصبي مكانا يأوي إليه، فذهب إلى الشيخ يلتمس عنده المساعدة في الحصول على عمل يقتات منه وكان يبيت فيه.

وتوسط له الشيخ فألحقوا الصبي بالجامع الأموي، يساعد الكبار في أعمال النظافة، وفي حراسة نعال المصلين وأهل الحلقات التي يتركونها عند أحد أبواب الجامع، وسمحوا له بأن ينام الليل في زاوية بأحد دهاليز الجامع، على الرخام. وكان الصبي يعايش مرائي الغنى والمتاع خلف أسوار القصور بحدائقها الفيحاء في دمشق، ويشاهد الجياد الفارهة على صهواتها رجال تنعكس الشمس على خوذاتهم، وملابسهم الزاهية وسيوفهم المرصعة بالذهب، ويتأمل حاله وثوبه الذي تقتحمه العيون، ومضجعه البارد على رخام زاوية في المسجد، ثم يتساءل في أغوار نفسه كيف يعيش في بلد واحد رجال ونساء كهؤلاء الغارقين في النعيم، والذين يسقطون من الحرمان، ويقتاتون بالأسى والأحلام؟!

على أنه صرف همه إلى ما يقوله الشيوخ في الحلقات .. وكان يتناهى إلى سمعه وهو على باب المسجد يحرص النعال كلام يثير خياله، ويلهب أشواقه إلى دنيا أخرى لا يجوع فيها ولا يعرى!

وتسلل إلى إحدى الحلقات ذات يوم، ودس جسده النحيل الصغير بين الطلبة الكبار. ورآه شيخ الحلقات، فنهره، وسأله كيف يسمح لنفسه أن يجلس بثوب ممزق في مجلس للعلم ينبغي على الطالب فيه أن يأخذ زينته..؟!
وجرى الصبي إلى باب المسجد، وتكور على نفسه يبكي! .. حتى إذا حان خروج الشيوخ والطلاب، رآه الشيخ الذي ألحقه بالجامع وهو الفاخر بن عساكر صاحب حلقة الفقه الشافعي، وسأله الشيخ عما يبكيه، فروى له ما كان من أمره، فطيب الشيخ خاطره، ووعده أن يتعهده، وسيحضر الحلقات عندما يبلغ الشباب. ومن يدري!؟ فربما أصبح هذا الصبي نفسه شيخا لحلقة في هذا الجامع ذات يوم! ..

وضحك الصبي، والتمعت عيناه، واقتحمت نظراته الجدران إلى آفاق المستقبل، ورأى نفسه طالب علم، ثم شيخا لحلقة، فأوشك أن يثب من الفرح، وقبل يد الشيخ وسأله متى يبدأ التعليم، فقد جاوز سن الطلب؟!. وقال له الشيخ الفخر بن عساكر، أنه سيبدأ من الغد.

حتى إذا كان الغد، أخذه الشيخ إلى مكتب ملحق بالمسجد وأوصى بإن يتعلم القراءة والكتابة والخط وأن يحفظ القرآن، وتعهد الشيخ بنفقة الصبي.

وأقبل العز على المكتب في شغف عظيم، وحفظ القرآن، وأتقن القراءة والكتابة والخط الحسن وعوض ما فاته من سنوات الدرس.

وكان كلما لقي شيخه على باب الجامع سأله الشيخ عن حاله، فيسمعه الصبي ما حفظ من القرآن، ويطلعه على ما يكتب في اللوح الصفيح من الآيات الكريمة.

وأعجب الشيخ ابن عساكر بما يبدو على العز من مخايل النجابة والذكاء وحسن ترتيله للقرآن، وأعجب بصفة خاصة ببشاشة الصبي على الرغم من فقره الطاحن.!

ومرت أعوام، واطمأن الشيخ فخر الدين إلى أن الصبي قد أتقن حفظ القرآن وجوده، وإلى أنه قد أصبح يحذق القراءة والكتابة بخط جميل، فبشره الشيخ بأنه سيضمه إلى الطلاب الذين يحضرون حلقته، ودفع إليه بما يعينه على شراء ثوب صالح لحضور حلقات العلم.

وأمضى الصبي ليلته يحلم بالمستقبل!

إنه الآن ليثب إلى مرحلة الشباب، وفي حاجة إلى عمل يكفل له دفء المسكن والثوب اللائق والطعام الطيب..! هو في حاجة إلى ما يوفر له شراء أدوات التحصيل من دفاتر وأقلام وأوراق ومحبرة، وما يلزم من كتب.

وتحرج أن يكلم الشيخ ليساعده في الحصول على عمل آخر يحصل منه على أجر أكبر ويوفر له ما ينبغي لطالب العلم! .. لقد منعه الحياء! ..

وقبل أن تنتهي ليلته استيقظ فجأة..!

ويحدثنا السبكي في طبقات الشافعية عن تلك الليلة فيقول: "كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرا جدا، ولم يشتغل إلا على كبر، وسبب ذلك أنه كان يبيت في كلاسة "زاوية" من جامع دمشق، فبات فيها ليلة ذات برد شديد فاحتلم، فقام مسرعا ونزل في بركة الكلاسة فحصل له ألم شديد من البرد، وعاد فناد، فاحتلم ثانيا، فعاد إلى البركة لأن أبواب الجامع مغلقة وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأغمى عليه من شدة البرد .. ثم سمع النداء: "يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقال: بل العمل لأنه يهدي إلى العلم".

وأصبح الفتى عز الدين، فروى لشيخه ابن عساكر ما كان من أمر تلك الليلة. وقال الشيخ له "لقد بلغت مبلغ الرجال. وهذا النداء هاتف من السماء يأمرك أن تهب نفسك للعلم".

وأعطاه الشيخ كتاب "التنبيه" في الفقه للشافعي، وأعطاه أسبوعين مهلة ليحسن قراءته واستيعابه. وعاد العز إلى شيخه بعد ثلاثة أيام وقد استوعب الكتاب وحفظه عن ظهر قلب!

وضمه الشيخ إلى حلقته، ونظم له حضور حلقات أخرى في اللغة وآدابها، وفي الحديث وأصول الفقه. ونصحه أن يتقن علوم اللغة من نحو وصرف، وأن يحفظ الشعر ويدرسه ليحسن فهم نصوص القرآن.

وكان العصر زاخرا بكثير من المعارف. ولكن الشيخ ابن عساكر نصح تلميذه ألا يهتم من كل تلك العلوم إلا بما يعين على فهم القرآن.

ولزم عز الدين شيخه ابن عساكر، وتعلم منه الفقه الشافعي، وكان الشيخ زاهدا ورعا واسع المعرفة كثير الصدقات، خطيبا، لاذعا، وهو في الوقت نفسه شديد الحياء، وكان مرحا متألق الظرف، فتأثر تلميذه عز الدين ونقل عنه كثيرا من خصاله وسجاياه.

من الحق أن عز الدين لزم شيخه ابن عساكر وتأثر به، ولكنه لم يلتزم نصحه فيما يطلب من علوم، فتاق إلى التزود بمعارف عصره جميعا. وكانت أفكار اليونان والمصريين القدماء والهنود والفارسيين قد نقلت إلى اللغة العربية .. وكان المسلمون قد تفوقوا في علوم الطبيعة والطب والكمياء والرياضيات والفلك، وتعاطوا الفلسفة فأراد عز الدين أن ينهل من هذا كله.

وكانت فلسفة الإشراق التي جاء بها السهروردي إلى دمشق وحلب تعيش، وتصك أعداء تلك الفلسفة الذين نجحوا من قبل في الإيقاع بالسهروردي، فأغروا به صلاح الدين. وكان ابنه الظاهر يحمي السهروردي في قصره بحلب ..

فأمر صلاح الدين ابنه الظاهر أن يسجن السهروردي حتى يهلك في سجنه صبرا وجوعا وعطشا، ولكن الظاهر بن صلاح امتنع، فأرسل إليه أبوه يخبره بين إحدى اثنتين: أما قتل السهروردي أو العزل!

وأذعن صاحب حلب لأمر أبيه صلاح الدين وجاء السهروردي وخصومه، وأمرهم أن يناظروه قبل أن يقضي في أمره.

كان السهروردي شيعيا، وصلاح الدين يحارب الشيعة ويضربهم في مكان .. وكان السهروردي ينادي بأن العالم لم يخل من الحكمة ومن شخص قائم بها عنده الحجج والبينات، وهذا الشخص هو الإمام وهو خليفة الله في أرضه، وهو واجب الاتباع فهو معصوم يوحي إليه لكن على نحو آخر غير الأنبياء والرسل!

وكان السهروردي يذهب إلى أن النور أساس كل الموجودات، ويعتمد على الآية الكريمة: "الله نور السماوات والأرض". وقد استفاد بحكمه اخناتون الذي نادى بالتوحيد في مصر القديمة، واعتبر النور والشمس بالذات سبب وجود كل الكائنات الحية، كما استفاد الرجل بأفكار أفلاطون في المثل وآراء زاردشت الفارسي. ولكنه رد كل أفكاره إلى القرآن الكريم .. واحسن الاستشهاد بآياته..

ولم يعرف أحد لماذا آثار فقهاء دمشق على السهروردي، واتهموه بالشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب، ثم اتهموه بالشعوبية وهي الدعوة إلى تغليب الفرس على العرب، ثم اتهموه بالكفر! .. وعلى الرغم من أن الظاهر بن صلاح الدين كان سنيا كأبيه، فقد بسط حمايته على السهروردي معجبا بأفكاره الصوفية، وبفكرة الإشراق، والفيض الإلهي الذي تشرق به قلوب الصالحين فيحصلون المعرفة الذوقية مع المعرفة العقلية.

ومهما يكن من أمر فقد جمع الظاهر بن صلاح الدين خصوم السهروردي من الفقهاء .. وبدأت المناظر أو المحاكمة التي صدر فيها سلفا أمر صلاح الدين بقتل السهروردي حكيم الإشراق!!

سأله خصومه: "الله قادر على أن يخلق ما يشاء؟!"

قال السهروردي: "نعم" فسألوه ونبي الإسلام أليس هو خاتم الأنبياء؟."

قال: "بلى" قالوا: "ألا يستطيع" إله هكذا أن يبعث نبيا بعد نبي الإسلام؟".

كان السؤال مصيدة للرجل!

قال السهروردي بعد لحظة: "ختمت النبوة ولكن الولاية قائمة."

وأخذوه برأيه في الولاية .. فهو يرى أن ولي الله وهو الإمام المعصوم قطب الأقطاب خليفة الله في الأرض يجب أن يكون من نسل النبي .. وهذا النظر يحكم بعدم شرعية الخلفاء والملوك إلا إذا كانوا من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم .. أي من أبناء علي وفاطمة رضي الله عنهما .. وصلاح الدين نفسه ليس عربيا على الإطلاق فهو كردي الأصل. وهكذا اضطر الظاهر بن صلاح الدين أن يودع السهروردي غيابة السجن، حيث قتلوه صبرا وجوعا!

ولقد وقعت الواقعة بالسهروردي بينما كان عز الدين بن عبد السلام صبيا في نحوه العاشرة من عمره، وزلزلت نهاية السهروردي الفاجعة نفس الصبي زلزالا شديدا، ولم يفارقه الحزن والعجب .. كيف يقضي على رجال بالموت لأنه قال رأيا يخالف فيه بعض الفقهاء، ولا يرضى عنه الحاكم!؟

ولكن أفكار السهروردي في الإشراق قد ذاعت وملأت أماكن العلم، وأصطك فيها الناس بين مستنكر ومعارض ..

منهم من يرى القتيل شهيدا مات دفاعا عن تصوفه ومنهم من يراه كافرا!! حتى ظهر في دمشق رجل آخر تسمى باسم السهروردي، وأذاع أفكار السهروردي في الإشراق، ولكنه لم يعد يتحدث الإمامة والولاية، ولبس خرقة التصوف، ومضى في الطرقات يهتف بالناس: "الله نور السماوات والأرض." وأخذ يشرح أفكار السهروردي عن النور والفيض الإلهي...

وتبعه قوم لبسوا خرق التصوف، وأطلقوا كلمات في الأسواق وندوات العلم. كلمات مكثفة تحمل رموزا كثيرة..!
وبهر الشاب عز الدين بهؤلاء وأحوالهم .. وبهرته بصفة خاصة شخصية السهروردي الجديد فلزمه على الرغم من نصيحة شيخه .. ولبس عز الدين خرقة التصوف عاما أو بعض عام ملتمسا على الحقيقة على يد السهروردي الجديد، حتى إذا علم ما عنده، عاد إلى أستاذه ابن عساكر يلتمس عنده علوم الشريعة من جديد ..

وسمع عز الدين أن في العراق شيخا عنده من علم الحديث ما ليس عند غيره في دمشق فحمل متاعه وزاده وسافر إلى بغداد، وجلس إلى ذلك الشيخ وحفظ عنه الحديث .. ثم عاد من جديد إلى دمشق.

كان صلاح الدين الأيوبي قد مات، وترك دولة شاسعة تقاسمها أخوته وأبناؤه وأبناء أخوته .. وما هي إلا سنوات حتى تقطعوا أمرهم، فتفرقوا وأصبح بأسهم بينهم شديدا .. وتمزقت دولة صلاح الدين إلى دويلات تناحرت فيما بينها، مما أغرى التتار والصليبيين بالطمع في الاستيلاء على بعض أجزاء هذه الدولة الإسلامية الكبرى.

وقد أسكت هؤلاء الحكام معارضيهم إما بالإرهاب والقمع أو بإغراقهم في المال أو بدفعهم إلى الزهد والتصوف على نحو لم يعرفه السلف الصالح من الزهاد والمتصوفين. وكان هؤلاء جميعا من العلماء والفقهاء الذين يؤثرون في الأمة أبلغ تأثير!

وعز الدين يرى كل هذا.، فيتقدم صفوف طلاب العالم تحت راية الإسلام وخلف قيادة بعض شيوخه من العلماء القلائل المقاومين .. وعرفه الشباب خطيبا يستثير الحمية. وكان إلى هذا شديد الدأب على تحصيل العلم، مما أثار إعجاب شيوخه به.

ولم يكد ينتهي من الدراسة على شيخه الفخر بن عساكر، وغيره من الشيوخ في جامع دمشق، حتى أجازوه للتدريس.

وعين مدرسا بدمشق، يقرئ صغار الطلاب القرآن، ويعلمهم القراءة والكتابة .. ثم نقل إلى مدرسة أعلى .. يعلم الطلاب الفقه وأصول الفقه على المذهب الشافعي .. وهو المذهب السائد إذ ذاك في كل البلاد التي حكمها صلاح الدين.

وهيأت له مهنة التدريس أجرا طيبا أصلح به حاله، فاستأجر بيتا لائقا وتزوج ..

وعرف الناس في ندوات دمشق شيخا متوسط الطول، يسخر مما يلقي، مرحا ضاحك السن وعليه مع ذلك وقاره عذب الحديث، خفيض الصوت إذا تكلم، جهير الصوت إذا انفعل أو خطب، نظيف الثوب، لا يرد سائلا، فإذا لم يجد ما يتصدق به اقتطع جزءا من عمامته ودفع به إلى سائله!

وكان نحيلا يقتحم بنظراته المجهول كأنه يفتش وراء الغيب عن شيء ما..!

لم يقتنع بما نال من علم، فتعود أن يغشى مكتبه الجامع الأموي يقرأ فيها كل ما يقع عليه من معارف، وقد كشفت له تأملاته ودراساته في آثار السلف أن كل المعارف الإنسانية تعين على فهم القرآن .. وكان يريد أن يفسر القرآن، ولكنه شعر أن الوقت لم يحن بعد، وأن عليه أن يستوعب الكثير من العلوم حتى يجسر على العمل بالتفسير وهو مطمئن الضمير!

ودرس خلافات المتقدمين حول الفلسفة، وكان الإمام الغزالي قد هاجم الفلسفة من قبل، ولكن هذا لم يصرف كل العلماء عن دراسة الفلسفة، فهاهو ذا السهروردي المفتول الذي فتن عز الدين بآرائه قد خلف ميراثا سخيا من الفكر وفق فيه بين الفلسفة والدين.

واستوعب العز كل ما تركه السلف في علم الكلام. العلم الذي يتكلم عن الله وصفاته وأسمائه. ومن السلف من هاجم هذا العلم ونبذه واعتبره بدعة فاسدة، ومنهم من عالجه وتعمق فيه وأضاف إليه، واعتبره علم أصول الدين.

والخلاف بين العلماء حول هذا الأمر قديم يرجع إلى نهاية القرن الأول وأوائل القرن الثاني للهجرة، حين ظهر المعتزلة وأخضعوا كل شيء للعقل، وتحدثوا في القضاء والقدر والجبر والاختيار وصفات الله تعالى، واعتمدوا في كل آرائهم على الأدلة العقلية. ونبذهم أهل السنة ورفضوا واعتمدوا على ما تركه السلف منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة ومن بعدهم عصر التابعين. وذهب أهل السنة إلى رفض الكلام في كل هذه الأمور، لأن أسلافهم لم يتكلموا فيها بل إن منهم من نهى عن الاقتراب منها.

واتهم أهل السنة مفكري المعتزلة بالزيغ والضلال، واتهمهم المعتزلة بالجمود وانعكس هذا على قواعد استنباط الأحكام وأصول الفقه، فمن تأثروا بالنظر العقلي اعتمدوا على الرأي في الاستنباط، وتمسك آخرون بالنصوص، وحدها، ولم يعدلوا عنها إلى الرأي إن لم يجدوا الحكم في النصوص كما صنع أهل الرأي ودعاة أعمال العقل، بل آثروا الصمت. ومن أهل السنة من آخذ بظاهر النص وحده، ومنهم من تأول النص ليستنبط الحكم أن لم يسعفه الظاهر.

وانتقلت كل هذه الأفكار بصراعاتها على أمواج الزمن من جيل إلى جيل. حتى أتيح لأهل السنة مفكر كان من قبل من كبار مفكري المعتزلة ثم هجرهم، مستخدما أدواتهم في التفكير والاستنباط، فاعتمد على البراهين العقلية في مناصرة آراء أهل السنة والنصوص.

حدث هذا في القرن الرابع الهجري.

وهذا الفقيه هو الأشعري الذي ألف الكتب على مذاهب أهل السنة ورد على المعتزلة في كل مقولات علم الكلام. "حتى دخلوا في أقماع السمسم".

وكان المعتزلة قد ذهبوا إلى أن العقل هو أساس الحكم بالقبح والحسن، وتبين الحلال والحرام، وذهبوا في تفسير الآية الكريمة وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. إلى أن الرسول ليس هو النبي الذي يرسله الله، ولكنه العقل.

وأتهمهم أهل السنة بالكفر، ورفضوا أن يتكلموا في العقائد بالأدلة العقلية، وهاجموا المنطق والفلسفة، حتى جاء الأشعري، فاستعان بالمنطق والفلسفة في الكلام عن العقائد، ودافع عن السنة بأدلة المعتزلة. فلم يعتمد على النصوص وحدها في كلامه عن العقائد، وإنما أعمل العقل، ليناور المعتزلة بأسلحتهم.

وقد أعجب العز بهذا كله، واعتنق عقيدة الأشعري، كما اعتنقها من قبل أكثر المستنرين من أهل السنة والرأي مهما تختلف مذاهبهم الفقهية. أعجب العز عز الدين بمحاولات المعتزلة والأشاعرة وتوفر على دراستها في مكتبة الجامع الأموي.

ولقد أعجبته بصفة خاصة مناظرة بين الأشعري والجبائي أحد أئمة المعتزلة، "عن ثلاثة أخوة ماتوا: الأكبر منهم مؤمن بر تقي، والأوسط كافر فاسق شقي، والأصغر مات على الصغر لم يبلغ الحلم.

فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات ـ بناء على أن ثواب المطيع وعقاب العاصي واجب على الله تعالى عند المعتزلة ـ وأما الصغير فمن أهل السلامة لا يثاب ولا يعاقب.

فقال الأشعري: فإن طلب الصغير درجات أخيه الأكبر في الجنة؟

الجبائي: يقول الله تعالى الدرجات ثمرة الطاعات.

الأشعري: فإن قال الصغير ليس مني النقص والتقصير .. فإنك إن أبقيتني إلى أن أكبر لأطعتك ودخلت الجنة.

الجبائي: يقول الباري تعالى قد كنت أعلم منك أنك لو بقيت لعصيت ودخلت في دركات الجحيم. فإن الأصلح لك أن تموت صغيرا.

الأشعري: فإن قال العاصي المقيم في العذاب الأليم مناديا من بين دركات النار وأطباق الجحيم يا إله العالمين! يا أرحم الراحمين! لم راعيت مصلحة أخي دوني أنت تعلم أن الأصلح لي أن أموت صغيرا ولا أصير في السعير أسيرا؟ فماذا يقول الرب؟

فبهت الجبائي في الحال وانقطع عن الجدال.

وعن دور الأشعري في الفكر الديني.

كتب المغفور له الإمام الشيخ مصطفى عبد الرازق: أخذت الفلسفة توجه أهل الفرق إلى الاعتماد على العقل. فلما أخذ الأشعري في مناضلة المبتدعة بالعقل حفاظا للسنة، جاء أنصار مذهبه من بعده يثبتون عقائدهم بالعقل تدعيما لها ومنعا لإثارة الشبهة حولها. ووضعوا الأدلة العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار".

وإذن فمذهب الأشعري مقرر لمذاهب السلف ولكنه يناضل عنها بالأدلة العقلية لا بالنصوص وحدها. وهو رأي وسط بين مذهب المعتزلة الذين نفوا التجسيم عن الله تعالى ومذهب غلاة الحنابلة الذين آمنوا بالتجسيم كما يدل ظاهر النص.

ولقد شاعت عقيدة الأشعري فاجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلا الحنابلة .. كما قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام فيما بعد. وكان صلاح الدين قد اعتنق المذهب الشافعي وعقيدة الأشعري فألزم بهما الناس.
غير أن الذين جاءوا من بعده تفرقوا: فظل بعضهم شافعيا على رأي صلاح الدين، واعتنق بعضهم غير ذلك من المذاهب، وإن ظلوا جميعا على رأي الأشعري إلا قليلا!

وكان الملك الكامل حاكم مصر وهو ابن العادل شقيق صلاح الدين أوسعهم أفقا وأشدهم احتفالا بالعلم والعلماء حتى لقد جلس وهو ملك مصر إلى الشيوخ ليتعلم منهم في الحلقات ثم تقدم لنيل إجازة علمية كما يتقدم غيره من الطلاب ونجح فيها! وتعود أن يعقد مجلسا للعلماء في مساء كل خميس، وفتح المدارس والمكاتب وأغدق على أهل الفقه والعلم .. وكف عن اضطهاد أصحاب المذاهب الأخرى كما كان يصنع عمه صلاح الدين. وعين قضاة من كل المذاهب بدلا من القاضي الشافعي الذي اكتفى به أبوه .. ولقد نافسه في تشجيع العلماء أخوه عيسى، فكافأ المؤلفين حتى وضعوا في عهد الملك الكامل كتابا من أضخم كتب الفقه الحنفي وهو كتاب (التذكرة).

وقد أرسل العز بن عبد السلام إلى الملك الكامل وأخيه عيسى كتاب شكر على ما يصنعان للعلم والعلماء، فأرسلا إليه ردا جميلا. وبعث الملك الكامل إلى أخيه صاحب دمشق ـ الملك الأشرف ـ يستوصيه خيرا بالعالم الشاب عز الدين بن عبد السلام.

وكان عز الدين قد جذب إليه عديدا من الطلاب أحبوا دروسه التي كان يرصعها بما يحفظ من طرائف الحكمة وروائع الشعر مما كان ييسر على الطلاب صعوبة الفقه.

وقصده الناس يستفتونه فلم يبخل عليهم بالرأي، ولم يعد يتقيد بالمذهب الشافعي الذي كان يعتنقه من قبل، بل كان يبحث في كل المذاهب عن إجابات لم يرد إليه من أسئلة، فإن لم يجد حاول أن يجتهد رأيه.

وكان شديد الحرج في فتياه. يفكر طويلا قبل الإجابة، ويظل يفكر بعدها وينقب حتى يطمئن أنه على الصواب. ولقد أصدر فتيا ذات مرة، ثم طفق يفكر بعدها فيما قال، وعاد إلى كتب السلف عسى أن يجد فيها ما يسانده، فاكتشف أنه أخطأ، ولم يكن يعرف صاحب المسألة الذي أستفتاه، فأطلق عددا من تلاميذه في الأسواق والطرقات والمساجد ينادون في الناس: "من صدرت له فتيا بالأمس من العز عز الدين بن عبد السلام فلا يعمل بها فهي خطأ، وليعد إلى الشيخ ليفتيه بالرأي من جديد بالصواب".

شاع ذكر الشيخ في أقطار المسلمين، ولم يكن قد ألف كتابا بعد ولكن هاهو ذا شاب عالم فقيه زاهد أمين، يتحرر من المذاهب الفقهية في عصر شاع فيه التقليد للأئمة الأربعة، كل جماعة تتعصب لمذاهب ولا تعدوه حتى إن وجدت الجواب الصحيح عند غيره من المذاهب، وكل حزب بما لديهم فرحون! فإذا صدرت الفتيا من أحدهم فلا رجعة فيها حتى إن تبين الخطأ ...

وعز الدين لا يتفرغ للعلم والتدريس والفتيا فحسب، ولكنه يتحرك في الأسواق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في رحمة وحكمة وموعظة حسنة، ويشدد النكير على الظالمين من التجار الذين يبخسون الناس أشياءهم، وعلى جباة المكوس، والمرتشين والجائرين ممن يلون أمرا من أمور المسلمين.

من أجل ذلك أحبه الناس: المظلومون والفقراء خاصة، وطلاب العلم الذين يجاهدون من أجل مستقبل افضل. وخافه الجائرون من الحكام، أما العادلون منهم فقد حاولوا أن يقربوه، ولكنه كان يطبعه لا يحب الاقتراب من السلطان ..

وضاق به بعض الفقهاء المقلدين ممن ينافقون الحكام .. ذلك أنه احتل مكانة لا يؤهلها له عمره فهو بعد في الخمسين، وأنه ليعتمد على مكانته هذه، فيسلق المقلدين والجاهدين والمرتشين والمرتزقة والفقهاء بألسنة حداد، ويطالب المسلمين ألا يتبعوهم حتى لا يفسدوا عليهم دينهم!

وفي أحد الدروس وجه أحد الطلاب إلى الشيخ عز الدين سؤالا عن حكم الدين في العلماء الذين يسكتون عن الظلم، وهم بعد ذاك يتصدرون بعض الحلقات في الجامع الأموي يعلمون ويفتون؟!

فأفتى الشيخ عز الدين بأن السكوت عن المنكر منكر .. وعلماء المسلمين هم أولى الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تخلوا فما أطاعوا الله والرسول، وإن كان سكوتهم طمعا. في الأموال والهدايا والمناصب أو حرصا فإثمهم مضاعف. وقد قال الله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } (آل عمران ، الآية :104).

هؤلاء هم العلماء، فإن لم يفعلوا فهم العصاة والعياذ بالله! ..

وسأل طالب آخر: ألمثل هؤلاء طاعة؟! فقال الشيخ: لا طاعة لهم .. ورأى ذلك النفر من العلماء في كلام الشيخ عز الدين تحريضا للطلاب وللعامة عليهم وعلى السلطان نفسه! ..

وتوجه أحد طلاب الحلقات في الجامع الأموي إلى شيخ حلقة يسأله عن حكم الدين في العلماء الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر!. وغضب الشيخ غضبا شديدا وسب الطالبين سبا عنيفا، وطردهما من الحلقة طردا غليظا وحرم عليهما دخول الجامع، وذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام بالسوء وأنذر أن يوقع به العقاب حتى لا يفتن الشباب!

فأعلن سائر الطلاب سخطهم لمقالة الشيخ وفعلته، فسبهم جميعا، وانسحب من الحلقة وهو يصيح أن ابن عبد السلام قد أفسد العامة والطلاب.!

وانصرف الرجل فاجتمع ببعض شيوخ الحلقات من المتصلين بالسلطات وذهبوا جميعا إليه، فطالبوه أن يردع الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأن ينزل به عقاب من يثير الفتنة، ولكن الحاكم طيب خاطرهم، وكساهم حللا فاخرة وأغدق عليهم الهدايا وصررا من المال، وطلب منهم أن يمهلوه في أمر الشيخ عز الدين هذا..!

ولكنهم عادوا يطالبون بأن يمنع عز الدين من الفتيا والتدريس والمشي في الأسواق.

غير أن السلطان الأشرف لم يستجب لهم، فالشيخ علي أية حال لا يدرس في الجامع الأموي، ولكن في مدرسة صغيرة قليلة الخطر! .. فليردوا هم والجامع الأموي على آرائه.

ولكنهم مازالوا بالحاكم يغرونه بالشيخ عز الدين حتى صرح لهم بأنه لا يستطيع أن يسيء إلى عز الدين، فالملك الكامل حاكم مصر يحب عز الدين، ويوصي به خيرا، فإن نال من عز الدين سلطانهم فسيغضب له الملك الكامل ولا طاقة له بغضب أخيه الأكبر!

ولم يهدأ كيد الخصوم عن الشيخ عز الدين، وظلوا يتربصون به .. وحملتهم عليه وشدة عز الدين في نقد ذلك النفر من العلماء مكنت له في قلوب أهل دمشق، وزادته مكانة في قلب الملك الكامل. فأرسل الملك الكامل إلى أخيه الأشرف، يطالبه بأن يحسن صلة الشيخ عز الدين، وأن يعينه شيخ حلقة في الجامع الأموي، لتعم الفائدة من علمه.

أما الصلة فقد ردها الشيخ عز الدين شاكرا، وأما منصبه في الجامع الأموي، فقد فرح به، لأنه يتيح له الاتصال بعدد اكبر من الطلاب هم انضج عقلا واكبر سنا من طلاب المدرسة التي يعلم بها.

وكان منصب شيخ حلقة في الجامع الأموي هو اكبر منصب علمي في دمشق.

وتقدم الشيخ عز الدين، بوجهه النحيل الباسم، في ثياب بسيطة نظيفة، فاختار الزاوية الغزالية حيث كان الإمام الغزالي يعتكف منذ أجيال، وبدأ يدرس للطلاب علوم الدين .. وتوافد عليه الطلاب حتى ضاقت بهم الحلقة، وأقفرت سائر الحلقات من طلابها. وكان يلقي أكثر من درس في النهار والليل في الحديث والفقه والأصول .. غير متقيد بمذهب من المذاهب الأربعة.

وشرع يفتي كلما استفتاه أحد، ويشرح عقيدة الأشعري في أصول الدين، وأدلته العقلية على صحة مذهب أهل السنة. ويأخذ الطلاب بإتقان وعلوم اللغة ليفهموا نصوص الشريعة.

وغاظ التفاف الناس حوله وانصرافهم عن سواه، كثيرا من خصومه، فعادوا يحاولون الإيقاع به ولكنهم خشوا أن يردهم سلطان دمشق حرصا على إرضاء أخيه سلطان مصر!

أما الشيخ عز الدين فلم يكن ليبالي بهم، بل مضى في طريقه، يقرأ ويدرس ويفتي، وقد اطمأنت به الحياة فالراتب الذي يأخذه من المسجد الأموي راتب كبير يكفيه لحياة موفورة.

وخاطبته زوجته في أن يغير المسكن الضيق الذي كان قد استأجره وهو مدرس في مدرسة صغيرة!.

لقد ضاق بهم المسكن بعد أن أنجبا أولادا. وقال لها إنه يعرف أن المسكن الضيق هو الجحيم الأصغر كما قال الإمام علي كرم الله وجهه، وهو يتمنى أن يغيره، ولكن لا سبيل..! وعادت الزوجة تلح عليه، وكان حانيا عليها شديد البر بها، وتمنت لو أنه اشترى بيتا فسيحا يحيط به بستان جميل فهو بعد أستاذ حلقة بالجامع الأموي، وينبغي أن يتخذ له سكنا مريحا يليق به، ويتسع لأهله وبنيه، ولضيوفه الذين يتوافدون عليه ملتمسين عنده العلم، والفتيا بعد أن يفرغ من الحلقات ..

ووعدها خيرا، غير أنه لم يستطع، فقد كان ينفق عن سعة على أهل بيته، ويحسن إكرام ضيوفه ويتصدق بما بقى، ولا يدخر شيئا على الإطلاق.

ثم أصابت دمشق أزمة، فهبطت الأسعار، وقل المال، أعنت الناس عنتا شديدا .. وصارت البيوت الواسعة بما حولها من البساتين تباع بثمن قليل.

فجاءته امرأة وطلبت منه مرة أخرى أن يشتري بيتا واسعا بحديقة وجمعت مصاغا لها وقالت:

ـ اشتر لنا بهذا بستانا.

فأخذ المصاغ وباعه، وتصدق بثمنه.

فلما عاد إلى زوجته استقبلته فرحة:

ـ يا سيدي .. اشتريت لنا بستانا!

ـ نعم، بستانا في الجنة.! إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمن المصاغ.

وكان الناس يتسامعون بفضل الشيخ عز الدين فيزداد مكانة واحتراما. ولقد علم الأشرف صاحب دمشق بكثرة صدقاته، فطلبه، وحاول أن يقدم إليه مالا ليتصدق به ولكنه رد السلطان، وأفتاه أنه من الخير أن يتصدق السلطان نفسه بالمال!.

وقارن السلطان الأشرف بين هذا الرجل الذي يرفض عطاياه الخفية، وبين الآخرين الذين يرتشون ويجهرون بالإلحاح في طلب المزيد من الهدايا والأموال والمناصب!!

ودخل السلطان الأشرف إكبار خارق لعز الدين، وأدرك أن أخاه الكامل ملك مصر على حق، فمثل هذا الشيخ جدير بالاحترام. وإنه له لهيبة!

ولاحظ السلطان الأشرف أن الشيخ عز الدين لا يطالب مقابلته على خلاف الآخرين، وكانت سيطرة عز الدين على قلوب الشباب وسائر الناس تقوى يوما بعد يوم، وهو لا ينفك يهاجم خصومه من الفقهاء لجمودهم وتمسحهم بأصحاب السلطان، ولا يكف عن نفد أخطاء الحكام.

ورأى الأشرف أن من الحكمة أن يصطنع الشيخ لنفسه ويدنيه من القصر، فأخذ يمدح الشيخ عز الدين في كل مكان، ويطلبه لمجالسته فيتثاقل عنه الشيخ إلى حلقات الدرس ومجال الفتيا، ولا يبادله مدحا بمدح.

وانتهز خصومه الفرصة، فزعموا للسلطان الأشرف أن الشيخ عز الدين قد غره حب الناس له والتفاف الشباب حوله، فسولت له نفسه الأمارة بالسوء أن يتعالى على الجميع حتى على السلطان نفسه!

وفي الحق أن السلطان الأشرف، كان يشعر بحرج لموقف الشيخ عز الدين منه، وكان يحس في أغوار نفسه أن الشيخ لا يضمر له من الاحترام ما يجب على المحكوم للحاكم!!..

وكان في حاشية السلطان نفر من فقهاء الحنابلة المتشددين المضيقين، وكان الشيخ عز الدين ينكر عليهم غلظتهم مع مخالفيهم، ويتهمهم بالحمق والجمود وفساد الرأي، وبالإساءة إلى صاحب المذهب الإمام أحمد بن حنبل، الذي كان فقيها جليلا عميق النظر واسع الأفق رائع الحكمة .. والذي ترك تراثا عظيما يحمل كل طاقات التجديد.

ولكن هذا النفر من فقهاء الحنابلة، كانوا قد خالطوا السلطان الأشرف منذ كان حدثا صغيرا؛ وصاغوا عقله على رأيهم الجامد المتحجر حتى "اختلط هذا بلحم السلطان ودمه وصار يعتقد أن مخالفه كافر حلال دمه"

وقد أتاحت لهم منزلتهم عند السلطان. ونفوذهم عليه أن يصنعوا في البلاد كما يشاءون، فكانوا إذا خلوا بمخالفيهم من الشافعية أو الأشعرية آذوهم وضربوهم!

وما كان ليغمض لهم جفن وهم يرون السلطان الأشرف يخطب ود الشيخ عز الدين بن عبد السلام.

وغدوا إلى السلطان ليوقعوا بالشيخ عز الدين، قبل أن يتقارب الرجلان فزعموا للسلطان أن العز عز الدين يخالف السلف ويقول في القرآن قولا عظيما .. ويخطئ من يقول في القرآن بالحرف والصوت، وأنه يعتنق رأي الأشعري: أن الخبز لا يشبع والماء لا يروي والنار لا تحرق!! .. وهذا كله كفر!!

وكان الأشرف قليل الحظ من الثقافة وعلوم الدين والإطلاع على آثار السلف .. فما تعلم إلا ما علمه ذلك النفر المحيطون به من أراذل فقهاء الحنابلة الذين ينافقونه!

ولم يصدق السلطان أول الأمر أن الشيخ عز الدين يقول هذا وهو العالم الورع عظيم التقوى .. وزجرهم السلطان .. ولكنهم وعدوا السلطان أن يقدموا له الدليل الحاسم.

وأجمعوا أمرهم، وجاءوا عز الدين بن عبد السلام فقدموا إليه ورقة فيها فتيا بأن القرآن حرف وصوت، وطلبوا من الشيخ أن يكتب رأيه في هذه الفتيا، وكان قد علم بكيدهم وهم لا يشعرون!

قال لهم الشيخ عز الدين: "هذه فتيا كتبت امتحانا لي. والله لا اكتب فيها إلا ما هو الحق."

وبدأ الكتابة بتسفيه الفتيا، وتأكيد أن الإمام احمد بن حنبل لا يعتقد أن القرآن حرف وصوت وقولهم هذا إنما هو جهل فاضح برأي الإمام احمد .. واستطرد الشيخ عز الدين فكتب أن الإمام احمد بن حنبل برئ من كل ما يدعون. وأن فضلاء الحنابلة أبرياء منهم. وكذلك سائر السلف: فهم لا يقولون بالحرف والصوت. فالإمام احمد بن حنبل وغيره من فقهاء السلف الصالح. لا يعتقدون أن وصف الله القديم القائم بذاته هو عين لفظ اللافظين ومداد الكاتبين مع أن لفظ إله قديم، وهذه الأشكال والألفاظ حادثة بضرورة العقل وصريح النقل. قال تعالى: { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } (الأنبياء،الآية 2) .. والعجب ممن يقول إن القرآن مركب من حرف وصوت ثم يزعم أنه في المصحف!! وليس في المصحف إلا حرف مجرد لا صوت معه!! وإنما أتى القوم من قبل جهلهم بكتاب الله وسنة رسوله وسخافة العقل وبلادة الذهن فإن لفظ القرآن يطلق في الشرع واللسان على الوصف القديم، ويطلق على القراءة الحادثة، والقراءة غير المقروءة، لأن القراءة حادثة والقرآن قديم وهؤلاء القوم يذمون الأشعري لقوله أن الخبز لا يشبع والماء لا يروي والنار لا تحرق. وقول الأشعري كلام أنزل الله معناه في كتابه: فإن الشبع والري والإحراق حوادث انفرد الرب بخلقها. فليس الخبز هو الذي يخلق الشبع، ولم يخلق الماء الري، ولم تخلق النار الإحراق، وإن كانت أسبابا في ذلك. فالخالق هو المسبب دون السبب كما قال تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" فقد نفى أن يكون رسوله خالقا للرمي وإن كان سببا فيه ..

وعندما ظفروا بجواب الشيخ تمايلوا من الفرح، وأيقنوا أنها القاضية عليه!

وأوحوا إلى السلطان أن يدعو جميع الفقهاء والعلماء إلى سماطه على الإفطار ـ وكان الوقت رمضان ـ ففعل، وذهبوا بما كتبه الشيخ عز الدين إلى السلطان الأشرف، فانفجر سخطه على الشيخ..! سخط عنيف هائل ينبع من أعماق نفس امتلأت بالحب والإكبار لشخص رفضت فيه كل الوشايات والأقاويل، ثم إذ بها تتكشف بغتة أن هذا الآخر، كان يخدعها ويسخر منها، ويظن بها الغفلة!! .. واختلط غضبه على الشيخ بضيقه المتراكم من سيرة الشيخ معه .. فهو كلما قربه هجر، وكلما تألفه نفر..!

وعلى سماط الإفطار، ظلت صيحة السلطان تندد بالشيخ عز الدين: "صح عندي ما قالوه عنه! .. هذا رجل كنا نعتقد أنه متوحد في زمانه في العلم والدين، فظهر بعد الأخبار أنه من الفجار .. لا .. بل من الكفار"!..

ولم يستطع أحد من الفقهاء أو العلماء أن يرد على السلطان الأشرف وظل صوته يدوي بالوعيد في بهو الطعام بقصره السلطاني. وضيوفه يمضغون طعام الإفطار على مهل، ويزدردون المضض، وقلوبهم تدق!!

ما من صوت واحد يرتفع إلا أنفاس تلهث، وصراخ السلطان يتصاعد كحيوان جريح يوشك أن ينقض ليفترس، بكل ضراوة الألم والإهانة وغريزة البقاء!!

وبعد لأي تجرأ أحد الفقهاء فقال في تذلل: "السلطان أولى بالصفح والعفو، ولاسيما في مثل هذا الشهر، شهر رمضان. فلم يرد السلطان، وهمهم آخر ملتمسا مغفرة السلطان..!

ولم يرد السلطان .. وانصرف الفقهاء والعلماء، وكان معهم على مائدة الإفطار، عدد من العلماء والفقهاء من كل الأقطار.

وتناقل العلماء والفقهاء ما حدث، ولاموا أنفسهم على الصمت في حضرة السلطان، وهم يعلمون أنه على الباطل، وأن الشيخ عز الدين على الحق الذي يؤمنون به هم أنفسهم!. وتحفز الطلاب والمعجبون!

ما عسى أن يصنع السلطان بشيخهم عز الدين؟!

أيتهم السلطان الأشرف وهو جاهل بأصول الدين، شيخهم العالم الورع التقي بالفجر والكفر؟!! .. أتراه ينزل به عقاب الفجار والكفار وهم ينظرون!!

واشتعل التوتر في دمشق، وأصبح الناس وما من شيخ من الذين حضروا المأدبة بالأمس، يستطيع أن يمشي في الأسواق!

احتشد الطلاب حول باب الشيخ عز الدين، وتعهدوا أن يمنعوه إذا حاول السلطان أن ينزل به أي مكروه.
ولاذ أراذل شيوخ الحنابلة من حاشية السلطان بالقصر، غير أن شيخ المالكية عمرو بن الحاجب عذبه صمته وصمت الفقهاء الآخرين أمام السلطان، فركب بغلته وأخذ يطوف المدينة، حتى جمع العلماء في الجامع الأموي بعد صلاة العصر وانقض عليهم يعنفهم: "العجب أنكم كلكم على الحق وغيركم على الباطل، وما فيكم من نطق بالحق. وسكتم وما انتصرتم لله تعالى والشريعة المطهرة".

ولما تكلم متكلم منكم قال: السلطان أولى بالعفو والصفح ولاسيما في مثل هذا الشهر!! وهذا غلط يوهم الذنب، فإن العفو والصفح لا يكون إلا عن جرم وذنب .. أما كنتم سلكتم طريق التلطف بإعلام السلطان بأن ما قاله ابن عبد السلام مذهبكم ومذهب أهل الحق وأن جمهور السلف والخلف على ذلك، ولم يخالفهم فيه إلا طائفة مخذولة يكفون مذهبهم ويدسونه على تخوف إلى من يستضعفون علمه وعقله، ومنهم السلطان الأشرف؟! لقد قال الله تعالى: { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }(البقرة ،الآية :42) ولام ابن الحاجب لأنه سكت، وأعلن الندم والتوبة .. ثم اقترح عليهم أن يكتبوا فتيا بموافقة الشيخ عز الدين بن عبد السلام.

وكتبوا الفتيا ووقعوها، وذهبوا إلى بيت العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وخاضوا إليه زحام الناس الذين رابطوا عند بيته.

وقبل أن يتدافع الناس لإدانتهم على موقفهم أعلن ابن الحاجب، أنهم جاءوا الشيخ بفتيا موقعة منهم توافق رأيه. وهذا هو اعتذارهم له عما فرط منهم أمام السلطان في حق الشريعة وحق ابن عبد السلام.

وفرح الشيخ بموقف ابن الحاجب ومن معه من العلماء والفقهاء. فأرسل الشيخ إلى السلطان يعلمه بفتيا الشيوخ، وأنهم إذا كانوا قد سكتوا ولم يعلنوا رأيهم على سماط الإفطار بالأمس، فما ذلك إلا لأن السلطان لم يمكنهم من الكلام لما ظهر من حدة غضبه"!

وأنهى رسالته طالبا من السلطان أن يعقد مجلسا للشافعية والحنابلة يحضره المالكية والحنفية وغيرهم من العلماء لتدور المناظرة أمام الجميع بينه وبين خصومه من فقهاء رجال الحاشية!

وأنهى رسالته إلى السلطان بقوله: "والذي نعتقده في السلطان أنه إذا ظهر له الحق رجع إليه وأنه يعاقب من موه بالباطل عليه، وهو أولى الناس بموافقة والده السلطان الملك العادل. فإنه عزر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة تعزيرا بليغا رادعا، وبدع بهم وأهانهم."

وذهب ابن الحاجب إلى السلطان وسلمه الرسالة، ولم يقرأها السلطان أمامه، ووعده السلطان خيرا ودعه خير وداع ..

وعندما خلال السلطان الأشرف إلى رجال حاشيته من الفقهاء الحنابلة وقرأوا الرسالة وجسوا خيفة من مجلس المناظرة الذي اقترحه الشيخ عز الدين، فما كانوا يطيقون مواجهة أمام سائر الفقهاء والعلماء. وخلصوا نجيا وأجمعوا على ألا تكون مناظرة، ثم وسوسوا في صدر السلطان ألا يقبل عقد المناظرة، فقد يهينه ابن عبد السلام!
وكتبوا ردا فوقعه السلطان. واستدعى رسولا يحمل الرسالة إلى الشيخ عز الدين ليأتي في الوقت برده.
وفض الشيخ رسالة السلطان وقرأها بصوت مرتفع ليسمعها ضيوفه. "بسم الله الرحمن الرحيم. وصل إلى ما التمسه الفقيه ابن عبد السلام أصلحه الله من عقد مجلس وجمع المفتين والعلماء وقد وقفنا على خطه وما أفتى به، وعلمنا من عقيدته ما أغنى عن الاجتماع به.

ونحن نتبع ما عليه الخلفاء الراشدون الذين قال صلى الله عليه وسلم في حقهم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. وعقائد الأئمة الأربعة فيها كفاية لكل مسلم يغلب هواة، ويتبع الحق ويتخلص من البدع، اللهم إلا إن كنت تدعي الاجتهاد، فعليك أن تثبت ليكون الجواب على قدر الدعوى، ولتكون صاحب مذهب خامس، وأما ما ذكره عن الذي جرى في أيام والدي تغمده الله برحمته، فذلك الحال أنا أعلم به منك، وما كان له سببه إلا فتح باب السلامة لأمر ديني.

وجرم جره سفهاء قوم فحل يغير جانيه العذاب

ومع هذا لقد ورد في الحديث: (الفتنة نائمة لعن الله مثيرها). ومن تعرض إلى إثارتها قاتلناه مما يخلصنا من الله تعالى، وما يعضده كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم." وعندما فرغ الشيخ من قراءة الرسالة طواها وقال للرسول: "قد وصلت وقرأتها وفهمت ما فيها فاذهب بسلام. فرد الرسول: "لقد تقدمت الأوامر السلطانية بإحضار جوابها."

والطلاب ومؤيدو الشيخ مازالوا خارج الدار ينتظرون ما يكون، وقد استبد بهم التوتر والقلق منذ دخل رسول السلطان!

وفي داخل الدار يجلس مع الشيخ ابنه عبد اللطيف، وبعض الأصدقاء، وأحد العلماء الفضلاء ممن يغشون مجالس السلطان، وقد أقبل يتوسط بين السلطان والشيخ .. ولكنه لم يكد يسمع الرسالة حتى تغير لونه وأيقن أنه لا جدوى من وساطته، ودخل في نفسه أن الشيخ يعجز عن الجواب، وأنه هالك لا محالة!

غير أن الشيخ كتب للسلطان مترسلا بلا توقف وهو يقرأ ما يكتبه: "بسم الله الرحمن الرحيم. { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } * { عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (الحجر،92-93) أما بعد. حمدا لله الذي جلت قدرته وعلت كلمته، فإن الله تعالى قال لأحب خلقه إليه وأكرمهم عليه: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }( الأنعام ،الآية:116). وقد أنزل الله كتبه ورسله لنصائح خلقه. فالسعيد من قبل نصائحه وحفظ وصاياه. وأما طلب المجلس وجمع العلماء فما حملني عليه إلا النصح للسلطان وعامة المسلمين، وقد أديت ما علي في ذلك. والفتيا التي وقعت في هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين من الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء من الحنابلة، وما يخالف في ذلك إلا رعاع لا يعبأ بهم! وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإن الأصل واحد، والخلاف في الفروع. والحمد لله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .." وختم الرسالة بتوقيعه وطواها وسلمها رسول السلطان.

وقال له العالم الذي جاء للوساطة بينه وبين السلطان: لو أن هذه الرسالة التي وصلت إليك وصلت إلى قس بن ساعده لعجز عن الجواب، وعدم الصواب، ولكن هذا تأييد من الله.

وتليت الرسالة على السلطان، فألقوا في روعه أن الشيخ يتحداه محتميا بالعامة والطلاب وسائر العلماء! فلينزل بالشيخ عقاب الفجار والكفار!

ولكن السلطان لم يستطع فقد وجد كل العلماء حتى فضلاء الحنابلة يؤيدون الشيخ! فما يقف مع السلطان إلا بعض رجال الحاشية من فقهاء الحنابلة وهم الذين أسماهم الشيخ في رسالته: الرعاع الجهال. وأتهمهم بالبلادة والإساءة إلى الإمام أحمد بن حنبل!

وفكر السلطان مليا، ثم استدعى وزيره واسمه خليل ليشاوره في الأمر، وكان الرجل من الذين يحبون الشيخ عز الدين ويحترمونه. ومازال الوزير يحاور السلطان ويوضح له سوء عاقبة البطش بالشيخ حتى هدأ السلطان.

وذهب خليل وزير السلطان إلى الشيخ العز يبلغه أمر السلطان: "ألا لا يفتي، وألا يجتمع بأحد وأن يلزم بيته". وحاول الوزير خليل أن يهون على الشيخ عز الدين. فهذا العقاب أخف مما كان معدا له.

غير أن عز الدين ابتدره باسما: "أن هذا العقاب من نعم الله الجزيلة علي، الموجبة للشكر على الدوام. أما الفتيا فإنى كنت والله متبرما منها، وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم. ومن سعادتي لزومي لبيتي وتفرغي لعبادة ربي، والسعيد من لزم بيته، وبكى على خطئه، واشتغل بطاعة الله."

وأراد الشيخ أن يقدم هدية للرسول شكرا على هذه الرسالة السارة، فلم يجد غير سجادة صغيرة: ولما عاد خليل يروي للسلطان ما قاله الشيخ عز الدين قال السلطان محنقا: "قولوا لي ما افعل به؟! .. هذا رجل يرى العقوبة نعمة. اتركوه بيننا وبينه الله."

على أن الذين أحاطوا بدار الشيخ العز عز الدين لحراسته أنكروا عليه طاعته لأمر السلطان، وكلموه في ذلك فقال لهم إن مصلحة قيام الشرع تقتضي وجود السلطان، ومتى وجد وجبت طاعته وإلا تعطلت الأحكام!! ولكن لا طاعة للسلطان إذا خان عهد الله وأهدر مصالح المسلمين وأمر بمعصية الخالق. أما فيما عدا ذلك فالطاعة واجبة.

فأمرهم بالحسنى أن ينصرفوا إلى شئونهم ويدعوه وشأنه، فسيعتكف للعبادة .. أما وجودهم حول الدار فسيتيح لأعدائه أن يتهموه بإثارة الفتنة!

غير أنهم انصرفوا إلى الزاوية الغزالية التي كان يدرس بها، وأقسموا ألا يستمعوا لشيخ غيره.! وجلسوا في حلقته الفارغة متربصين! ولم يجئ إليهم أستاذ غيره يعلمهم مكانه!!

على أن سائر العلماء والفقهاء أضمروا السخط على ما أصاب الشيخ، ولكنهم رضوا به لأنهم كانوا يتوقعون عقابا أشد ودعوا الناس إلى الصبر وقضاء أخف من قضاء!!

أما الشيخ جمال الدين الخضيري شيخ الحنفية فما كان ليستطيع على ما جرى صبرا..! وكان عالما ورعا فاضلا صاحب نفوذ على قلوب الناس جميعا، وكان السلطان يحسب له ألف حساب!

وما هي إلا ثلاثة أيام قضاها عز الدين في بيته، متمثلا للأمر السلطاني، ممتنعا عن لقاء من سعوا إلى لقائه، حتى كان الشيخ الخضري يركب حماره إلى السلطان، ومعه ابن الحاجب شيخ المالكية. ولم يكد السلطان يعلم أن الشيخ الخضيري شيخ الحنفية قادم إليه حتى أمر كبير وزرائه وكبار حاشيته أن يستقبلوا الشيخ خارج القصر، وأن يدخلوه القصر راكبا حماره تكريما له.

ودخل الشيخ ساحة القصر، فاستقبله السلطان وأنزله بنفسه عن حماره، ودخله القصر وأجلسه إلى جواره وهش له، وجلس ابن الحاجب وفي يده ورقة فيها توقيع العلماء على تأييد موقف الشيخ عز الدين بن عبد السلام ..
وحين أذن لصلاة المغرب وبسطت المائدة للإفطار، أم الشيخ الخضيري السلطان في الصلاة! وبعد الصلاة دار الشراب عليهم وهم جلوس قبل أن ينتقلوا لمائدة الطعام. وكان الحاضرون هم حاشية السلطان من أراذل فقهاء الحنابلة أ
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة
»  حب العزيز "حب الزلم" أو "لوز الأرض" حب العزيز CYPERUS هو ثمار نبات شجري يشبه في شكله نبات الرمان، أوراقه بيضاء اللون إلى رصاصي والأغصان طويلة يميل لونها إلى اللون الأحمر والشجرة تحمل ثماراً مستديرة في حجم الحمص الكبير وهو لين الملمس فيه لزوجة وطعمه حلو
» ماهو السر الكامن في قميص يوسف عليه السلام كي يعيد البصر لأبيه يعقوب عليه السلام؟
» روائع الشيخ ياسين التهامي - 5 العز بالحب
» الإمام عبد العزيز بن باز
» نبذة مختصرة عن الشيخ : عبد العزيز بن باز رحمه الله

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى