الإمام جعفر الصادق
صفحة 1 من اصل 1
الإمام جعفر الصادق
لم يجمع الناس على حب أحد في ذلك العصر كما أجمعوا على حب الإمام جعفر بن محمد الذي اشتهر فيهم باسم جعفر الصادق. ذلك أنه كان صافي النفس، واسع الأفق، مرهف الحس متوقد الذهن، كبير القلب، يلتمس في غضبه الأعذار للآخرين، حاد البصيرة، ضاحك السن، مضئ القسمات، عذب الحديث حلو المعشر، سباقا إلي الخير، برا طاهرا. وكان صادق الوعد، وكان تقيا. هو م العترة الطاهرة عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. جده لأمه هو أبو بكر الصديق وجده لأبيه هو الإمام علي بن أبي طالب .. وهو نسب لم يجتمع لأحد غيره!
ولد في المدينة سنة 80 هـ ومات فيها سنة 148 هـ. وخلال هذا العمر المديد أغنى الحياة والفكر بحسن السيرة، والعلم الغزير، وإشراقاته الروحية، واستنباطه العقلي. وكان مع جلال هذا الحسب متواضعا لله، يلتقي في أعماقه علم الصاحبين العظيمين وصلاحهما وحسن بلائهما، وتراث تقواهما، ولا يزدهيه على الرغم من ذلك كبرياء من يجمع في نفس واحدة أطراف ذلك المجد كله، وتلك الروعة كلها..!
وعى منذ طفولته نصيحة أبيه الإمام محمد الباقر "ما دخل في قلب امرئ شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله" تعهد وهو صغير جده لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر بقدر ما تعهده جده لأبيه علي زين العابدين بن الحسين بن أبي طالب .. فإذا به وهو صبي يحفظ القرآن ويتقن تفسيره، ويحفظ الأحاديث والسنة من أوثق مصادرها عن آل البيت، تواترا عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجه وعن الصديق رضي الله عنه وعن سائر الصحابة من رواة الأحاديث الصادقين. وأتاح له توافر هذه المصادر جميعا أن يتقن دراسة الحديث وفهمه، وأن يكشف ما وضعه المزيفون تزلفا للحاكمين أو خدمة لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع السياسي.
ثم نشر من الأحاديث ما حاول الحكام المستبدون إخفاءه لأنه يزلزل أركان الاستبداد! فقد كان حكام ذلك الزمان يجهدون في خفاء ما رواه علي بن أبي طالب من السنة. وانتهى نظر الإمام جعفر إلي أنه لا يوجد حديث شريف يخالف أو يمكن أن يخالف نصوص القرآن الكريم .. وأن كل ما ورد من أحاديث مخالفا لكتاب الله فهو موضوع ينبغي ألا يعتد به. وكان عصره متوترا مشوبا بالأسى، تخضب الرايات المنتصرة فيه دماء الشهداء من آل البيت، ويطغى الأنين الفاجع على عربدة الحكام! كان عصر الفتوحات الرائعة، والفزع العظيم والدموع. فالدولة الأموية تضع العيون والأرصاد على آل البيت منذ استشهد الإمام الحسين بن علي في كربلاء.
وهي تضطهدهم وتضطهد أنصارهم، وتخشى أن ينهض واحد منهم لينتزع الخلافة. استشهد عمه زيد في مقتلة بشعة تشبه ما حدث لجده الحسين أبي الشهداء وبكا الإمام جعفر أحر البكاء. وكان الإمام جعفر من بين آل البيت هو الإمام الذي تتطلع إليه الأنظار: أنظار الذين يكابدون استبداد الحكام، وأنظار الحكام على السواء! عرف منذ مطلع صباه أن الإمام علي بن أبي طالب رئيس البيت العلوي يلعن على المنابر في مساجد الدولة في صلاة الجمعة .. وعلى الرغم من أن أم المؤمنين أم سلمة كانت قد أرسلت إلي معاوية تنهاه عن تلك البدعة البشعة وتقول له: "إنكم تلعنون الله ورسوله إذ تلعنون علي بن أبي طالب ومن يحبه. وأشهد أن الله ورسوله يحبانه" .. على الرغم من تلك النصيحة، فقد ظل الإمام علي يلعن على المنابر، وتلعن معه زوجته فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وسمع جعفر هذه اللعنات طيلة صباه وجزءا من صدر شبابه، حتى جاء الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز فتبرأ إلي الله من هذا العار، وكان يحمل للإمام علي بن أبي طالب ما يحمل لغيره من الخلفاء الراشدين الثلاثة من إجلال وتوقير .. وأمر الخطباء أن يتلوا بدلا من لعن علي في ختام خطبة الجمعة الآية الكريمة التي مازالت تتلى إلي الآن: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
( النحل ، الآية : 90 ) .
وطابت نفس جعفر كما طابت نفوس الصالحين وأهل التقوى والعلم بم صنعه الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وأعلن الإمام جعفر في مجلسه إعجابه بالخليفة عمر .. سبط عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكان الإمام جعفر منذ رأى بطش الحكام بآل البيت وأنصارهم وبالباحثين عن الحقيقة وبمقاومي الاستبداد، كان قد أخذ بمبدأ التقية فلم يجهر بالعداء لبني أمية، إتقاء شرهم، وحذر الفتنة، وهم إذ ذاك غلاظ شداد على من لا يوالونهم. فآثر أن يهب نفسه للعلم، وألا يفكر في النهوض والانقضاض على السلطان الجائر، حقنا لدماء المسلمين. ورأى أن خير ما يقاوم به البغي هو الكلمة المضيئة تنير للناس طريق الهداية، وتزكيهم وتحركهم إلي الدفاع عن حقوق الإنسان التي شرعها الإسلام وإلي حماية مصالح الأمة التي هي هدف الشريعة. وكان قد تعلم من جده الإمام علي زين العابدين بن الحسين عن جده الرسول صلى الله عليه وسلم أن طلب العلم ونشره جهاد في سبيل الله، وأن الله تعالى جعل للعلماء مكانة بين الأنبياء والشهداء.
وكان قد رأى جده الإمام علي زين العابدين رضي الله عنه يخطو في المسجد حتى يجلس في حلقة أحد الفقهاء من غير آل البيت. فيقول له أحد الحاضرين: "غفر الله لك، أنت سيد الناس. وتأتي تتخطى خلق الله وأهل العلم من قريش حتى تجلس مع هذا العبد الأسود" فيرد زين العابدين: "إنما يجلس الرجل حيث ينتفع وإن العلم يطلب حيث كان". ولقد وعى الصغير دلالة هذا كله، وانتفع به طيلة حياته. ثم إن جديه ماتا وتركاه صبيا ليتولى تثقيفه أبوه الإمام محمد الباقر وهو أعلم زمانه بالقرآن وتفسيره وبالحديث والفقه فنقل إلي ابنه جعفر كل معارفه، ونقل إليه توقيرا خاصا للشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب.
وكان أبوه الإمام محمد الباقر يقول: "من جهل فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة. وأن قوما من العراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. والذي نفسي بيده لو وليت لتقربت إلي الله بدمائهم. ولا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن استغفر لهما واترحم عليهما. إن أعداء الله عنهما لغافلون". كما ورث جعفر عن أبيه توقيره لعثمان بن عفان ذي النورين .. وكل صحابة رسول الله رضي الله عنهم.
ولقد مات محمد الباقر وابنه جعفر في نحو الخامسة والثلاثين، وقد أتقن معارف آل البيت وأهل السنة وترسبت في عقله نصائح أبيه "إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل شر. إنك إن كسلت لم تؤد حققا، وإن ضجرت لم تصبر على حق" .. "إن طلب العلم مع أداء الفرائض خير من الزهد" .. "إذا صحب العالم الأغنياء فهو صاحب دنيا، وإذا لزم السلطان من غير ضرورة فهو لص" .. ثم وصيته ألا يصحب خمسة ولا يحادثهم ولا يرافقهم في طريق: الفاسق والبخيل والكذاب والأحمق وقاطع الرحم لأن الفاسق يبيعه بأدنى متعة، والبخيل يقطع المال حين الحاجة، والكذاب كالسراب يبعد القريب ويقرب البعيد، والأحمق يريد أن ينفع فيضر، وقاطع الرحم ملعون في كتاب الله".
مضى الإمام جعفر الصادق ـ وقد ورث الإمامة عن أبيه ـ بكل ما تعلمه من أبيه وجديه يخوض غمرات الحياة المضطربة .. وفي تلك الأيام عرفت المساجد وندوات العلم في المدينة المنورة شابا ورعا يتفكر في خلق السماوات والأرض بكل ما أتيح له من معرفة وإشراق روحي، يرفض الاشتغال بالسياسة اتقاء البطش، على وجهه شعاع من نور النبوة. هداه عكوفه على دراسة القرآن والحديث .. إلي أن واجب المسلم أن يؤمن عن اقتناع وتدبر وتفكر في ظواهر الحياة والكون فهي دليله إلي الإيمان لوحدانية الله. وهداه التفكير إلي الاهتمام بعلوم الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والنبات والأدوية لأنها علوم تحقق مصالح الناس، وتحرر الفكر، وتهديه إلي الإيمان العميق الحق الراسخ.
وتتلمذ عليه جابر بن حيان، وكان أبوه شيعيا قتل دفاعا عن الحقيقة وفي حب آل البيت، فاصطنع الإمام محمد الباقر والد الإمام جعفر ذلك الفتى اليتيم، وفقهه في الدين حتى إذا ورث جعفر الأمانة أخذ بيد جابر بن حيان وتعهده وحثه على دراسة علوم الحياة وزوده بمعمل وأمره أن ييسر كتاباته لينتفع بها الناس .. وخصص له وقتا في كل يوم يتدارسان فيه علوم الطبيعة والكيمياء والطب، وكشف له من تبصره بالفقه كثيرا من المعارف العلمية وهداء بالمعارف العلمية إلي التمكن من الفقه. وعلم وهو في المدينة أن في العراق مذاهب تدعو إلي الإلحاد والزندقة .. فخرج يناقش علماء هذا المذهب .. لم يقعد مكتفيا بالحكم عليهم بالكفر، أو يصب اللعنات عليهم، بل يناقشهم بمنطقهم، وليثبت لهم وجود الله، وقادهم مما يعلمون إلي مالا يعلمون.
واشتهر في ذلك الزمان طبيب هندي برع في علوم الطب والصيدلة فحرص الإمام جعفر على أن يلتقي به ويتعرف إلي علمه. وتبادلا المعارف معا ثم أخذ يحاوره في الإسلام وفي إثبات وجود الله. بهذه الحكمة والموعظة الحسنة عاش الإمام جعفر يدعو إلي سبيل ربه فاقنع كثيرا من الزنادقة والملحدين والمنكرين والوثنيين بالإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم وأضافوا بفكرهم ثراء إلي الفقه وإلي العلوم في ذلك الزمان .. أمن بالتجربة والنظر العقلي والجدل طريقا إلي الإيمان وسلحته معرفته الواسعة العميقة بالعلوم في الاستدلال والإقناع، وجذب أصحاب العقول المبتكرة إلي الدين .. وهو مع انشغاله بكل ذلك، كان يتحرى أحوال الناس، ويحمل على كتفه جرابا فيه طعام ومال فيوزع على أصحاب الحاجة، دون أن يدع أحدا يعرف على من يتصدق!
ولكم أساء إليه بعض صنائع الحكام الذين خشوا التفاف الناس حوله فما قابل الإساءة إلا بالإحسان وهو يردد قول الله تعالى:
{ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }( فصلت ، الآية : 34 ) وفي الحق أنه استطاع أن يحول كل الذين دسوا عليه ليسيئوا إليه، أولياء حميمين. كان يزدري الانتقام ويعلم الناس فضيلة العفو مرددا قول جده رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما زاد عبد بالعفو إلا عزا". ولكن أقارب جعفر لم يتركوه لما هو فيه من علم ودراسة ليؤدي دوره في تنوير العقول. فقد حاولوا اكثر من مرة أن يقحموا عليه السياسة. ودعوه إلي الثورة على الدولة الأموية، واجتمعت عليه الألسنة تلح ليتولى أمر الخلافة، فرفض وصرفهم عما هم آخذون فيه. فعادوا يطالبونه بالبيعة لواحد منهم ولكنه لم يوافق.
وكانت الثورة ضد حكم الدولة الأموية تشتد، ووميض النار خلل الرماد يوشك أن يكون له ضرام. وكان بعض المنتسبين إلي الفقه والثقافة وعلوم الدين، وقد صانعوا حكام بني أمية وزينوا لهم الاستبداد وأفتوا لهم بأنهم ظل الله في الأرض، وأنهم لا يسألون عما يفعلونه!.. وقد ساء رأي الناس في هذه الفئة من المنتسبين إلي الفقه والعلم، لأنهم باعوا شرفهم بالمناصب والجاه. وكان الصادق من اكثر الناس حرصا على حماية الأمة من سموم هؤلاء المرتزقة. وفي الحق أن الحكام الأمويين كانوا يحسنون مكافأة هؤلاء المتملقين، فيجزلون لهم العطاء ويولون بعضهم.
وكان بعض هؤلاء الولاة يحب أن يبدو فقيها عالما على الرغم من جهله المركب، وقد تعود أحد هؤلاء المرتزقة المنافقين أن يتقرب إلي الخليفة الأموي بلعن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وسب فاطمة الزهراء رضي الله عنها .. بعد أن كان الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز قد أبطل تلك الأحدوثة الشائنة: سب علي وفاطمة!! ولكن عمر بن عبد العزيز كان قد مات بكل عدله وحزمه وصفاته، وما بقى في الدولة من رجال إلا هذا الصنف من الضالين وصناع الضلال!! وعرف الصادق أن ذلك الفقيه المرتزق الذي كان قد كوفئ بتعيينه واليا مازال يسب عليا وفاطمة ويهدد الناس إن خالفوه .. والناس قد أسكتهم الخوف!
وإذ بالإمام الصادق يذهب ويستمع له ثم ينتفض مقاطعا المنافق المرتزق ويكشف للناس جهله ونفاقه، ويوضح للناس وهو يعظهم أن مثل هذا المنافق الذي يبيع شرفه وضميره بالمنصب أو بالجاه أو المال، ويبيع آخرته بدنياه، إنما هو ضال مضلل وهو أبين الناس خسرانا يوم القيامة، وأن محض افتراءاته وكشف جهله واجب. حقا .. ما كان الإمام الصادق يستطيع أن يسكت عن كل هذا التزييف .. على أنه ما من شيء كان يوجع الإمام الصادق مثل انحدار الذين ينتسبون إلي العلم والثقافة والفقه والدين إلي حضيض النفاق، والمراءاة، والانحناء، وبيع الضمير!! وما كان أنشط النخاسين في التقاط من ارتضوا أن يصبحوا عبيدا وإماء .. لقد شعر الإمام الصادق منذ استشهاد عمه الإمام زيد أنه يعيش في نهاية عصر!
إنها نهاية عصر .. حقا..!
وانتهى العصر ...
سقطت دولة بني أمية وأرسل الثوار إلي جعفر الصادق رسالة يطالبونه فيها أن يقبل البيعة ليصبح هو الخليفة.
جاءته الرسالة وهو مشغول في تأملاته ودراساته وتجاربه فأحرق الرسالة ولم يرد .. كان يحلق في سماء المعرفة، يضرب في أغوار العلم، ويشعر أنه أقوى من الملك .. أي ملك في الأرض!! وأنه باستمراره في دوره العلمي أنفع للناس! كان يقول: "من طلب الرياسة هلك" على أن الرياسة ظلت تطلبه .. وهو يرفض! وإذ رفض الخلافة .. بايع الناس أبا العباس حفيد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب وبنو العباس هم بنو عمومة العلويين وتأمل الإمام الصادق فيمن يحيط بالخليفة الجديد!!.
لقد انتهى عصر .. هذا حق...
انتهى بكل خيره وشره، وجاء عصر جديد يتطلع فيه الناس إلي الحرية، والنظافة، والطهارة والعدل، فإذا بالمنافقين الذين زينوا الاستبداد لبعض الأمويين وشرعوا لهم العدوان والطغيان يحيطون بأبي العباس مؤسس الدولة الجديدة .. الدولة العباسية. ومات أبو العباس .. وورثه الخليفة المنصور وإذ بهؤلاء المنافقين يحيطون الخليفة الثاني في العصر الجديد!! وإذ بهم يوسوسون له بالآراء نفسها، وإذ بهم يوهمونه أنه فوق الحساب لأنه ظل الله في الأرض!! حتى لقد جعلوا المنصور يحمل الناس على تقبيل الأرض بين يديه!! إنهم أشباه رجال اشتهر عنهم الجهل والتخلف والغباء والحمق ووجهوا كل نشاطهم للنفاق!! نفوس كريهة زرية مهينة محتقرة!!
وحكم الصادق على العهد الجديد بمن يمثلونه ويفيدون منه!! أي أمل للناس في الخليفة وقد أصبحت الشورى لذوي الضمائر المتهرئة والألسنة المستهلكة؟ لقد مضوا يدعون إلي التقشف باسم الإسلام ويحببون الفقر إلي الناس باسم الدين، لينصرف المستبدون إلي جمع المال، وينصرفوا هم إلي الارتزاق!! لقد شرعوا للبغي وأحدثوا خرقا في الإسلام!! لقد أرادوا من الأمة أن تواجه إسراف الطبقة الحاكمة لا باستخلاص الحق المعلوم الذي شرعه الله، بل بالزهد في كل شيء! والانصراف عن كل حق! ثم وصل فجور هؤلاء المرتزقة إلي آخر مدى فوضعوا الأحاديث النبوية لخدمة الطبقة الحاكمة! حتى الأحاديث الشريفة لم تسلم من تزييفهم!!
وعلى الرغم من كل هذه المظالم، وعلى الرغم مما عاناه الإمام جعفر من آلام وهو يعيش محنة خيبة الأمل في النظام الجديد، فإنه ظل آخذا بالتقية قائلا: "التقية ديني ودين آبائي" والتقية ألا يجهر المرء بما يعتقد اتقاء للأذى أو حتى تتحسن الظروف، والأصل في التقية هو قول الله تعالى:
{ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً}
( آل عمران ، الآية : 28 ) وكان الخليفة المنصور قد غالى في القسوة على مخالفيه .. ومنهم بعض آل البيت من العلويين. والإمام الصادق يسكت تقية .. ولكنه آثر مع ذلك أن ينصح الخليفة بالحسنى فقال له: "عليك بالحلم فإنه ركن العلم. فإن كنت تفعل ما تقدر عليه كنت كمن أحب أن يذكر بالصولة. واعلم أنك إن عاقبت مستحقا لم تكن غاية ما توصف به إلا العدل.
وهكذا مضى الإمام الصادق يؤدي دوره في تنوير الناس حكاما ومحكومين .. والخصومة تشتجر حول القضاء والقدر، والجبر والاختيار، فيقول الإمام للناس: "إن الله أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء .. فما أراده الله بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا .. فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟!". وكان هذا لا يروق للطبقة الحاكمة، ولا للمتنطعين والمرتزقة من المنتسبين إلي العلم والفقه. ذهب الإمام جعفر الصادق إلي أن القول بالجبر ضد الشرع، لأنه لا حساب ولا عقاب إذا لم يكن للمرء حرية اختيار ما يفعل ...
وإلا فمن أين تنبع المسئولية إن لم تكن للإنسان حرية الفعل؟! وهكذا مضى الإمام الصادق بكل إيمانه بدوره، يعلم الناس بعض ما خفي عنهم من تفسير القرآن ووجد أن الأمراء والولاة يقترفون الظلم، ويأكلون ما ليس لهم من حقوق الرعية ثم يستغفرون الله!! ويحسبون أن الله سيتوب عليهم!! فمضى يشرح معنى الاستغفار مفسرا بضع آيات من سورة نوح: { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } * { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } * { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } ( نوح ، الآية : 10 – 12 ) فالاستغفار إذن يجلب السعادة والغنى. ولكن الاستغفار الحق ليس هو ترديد الكلمة باللسان، ولكنها توبة القلب، وإعمال العقل، والعمل الصالح الذي يحقق خير الأمة .. الاستغفار أن تمتثل لأمر الله تعالى بالعدل والإحسان.
ذلك أن المرء يجب أن يفكر في الله بكل ما يملك العقل من قدرات، ليعرف الله ويعرف كيف يتقيه وكيف يحقق أهداف شرائعه .. وما أهداف الشرائع إلا تحقيق المصلحة للبشر وإعمار الأرض .. ولقد سأله أحد الناس: يا ابن بنت رسول الله. لقد قال تعالى:
{وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر،الآية:60) فما بالنا ندعوه فلا يجيب؟ فقال له الإمام: "لأنك تدعو من لا تعرف.." إنه يطالب الناس أن يفكروا ليعرفوا الله .. أن يعرفوا الله بعقولهم ليستقر إيمانهم على أساس وطيد. كان الإمام على غزارة علمه متواضعا رقيقا مع كل من يعرف ومن لا يعرف .. وكم تلقى من إساءات من بعض الحمقى والأغبياء وذوي النفوس المعقدة أو الضمائر العفنة أو ذوي الفظاظة، فما قابلها إلا بالابتسام أو الصبر!. كان يتمثل قول الله تعالى{ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } (الأعراف،الآية :199) .
وكان يكره الخصومة ويسعى جهده إلي الصلح فإن عرف أن هناك خصومة على مال تبرع من ماله خفية ليعطي طالب المال .. وكان يقول: "لا يتم المعروف إلا بثلاثة بتعجيله وتصغيره وستره". ناضل الإمام الصادق لإقرار التسامح الديني ولإرساء قواعد شريفة للتعامل بين المسلمين وأهل الكتاب من نصارى ويهود، وكان حربا على التعصب الذي يسئ إلي الشريعة وإلي إنسانية الإنسان!! ذلك أنه وجد بعض المنتطعين والأراذل يحاولون أن يسيئوا معاملة المسيحيين، فأثبت عليهم مخالفة قواعد الشرع وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الإسلام أمر المسلمين بأن يتعايشوا مع المسيحيين، إخوانا متحابين، وألا يكرهوا الناس على أن يكونوا مسلمين، فلا إكراه في الدين.
يجب أن يترك أهل الكتاب وما يدينون به فقد نهى الإسلام عن إثارة الفتنة في الدين والفتنة أشد من القتل. ولقد أمر الرسول عليه السلام باحترام حرية العقيدة واحترام أهل الكتاب. فمن لم يتعامل معهم كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من الإسلام في شيء، ولو زعم في تنطعه وتعصبه أنه رجل شرع أو أنه أفقه الناس!! ولقد أعادت هيبة الإمام الصادق، كثيرا من الذين انحرفوا إلي حظيرة الدين .. فتعايش المسلمون والمسيحيون إخوانا متحابين كما أمر الله ورسوله. وهذا التسامح الذي ينبع من فهم عميق للإسلام كان صفة أصلية في الإمام .. فقد كان يدعو الله أن يغفر لمن أساء إليه .. وما عرف عنه أنه أنتقم من أحد .. فقد كان يرى في الانتقام مع القدرة ذلا .. وأن الصبر عفو يثاب عليه المرء .. من أجل ذلك ما غضب من إساءة أو اغتياب.
وقد امتدت سماحته إلي الذين يخدمونه .. تلك السماحة التي تخالجها الرقة والعذوبة .. كان له غلام كسول يحب النوم، فأرسله يوما في حاجة فغاب وخشي الإمام أن يكون الغلام قد أصابه مكروه، فخرج يبحث عنه فوجده نائما في بعض الطريق .. فجلس عند رأسه، وأخذ يوقظه برفق حتى استيقظ فقال له ضاحكا "تنام الليل والنهار.؟! لك الليل ولنا النهار!".
لكل هذا الصدق والصفاء في التعامل مع الحياة والناس والأشياء .. لكل هذه السماحة والعذوبة والرقة والتسامح، ولإشراقه الروحي الرائع، وذكائه المتوقد الخارق وبجسارته في الدفاع عن الحق، وقوته على الباطل وبكل ما تمتع به من طهارة وسمو وخلق عظيم .. التف الناس على اختلاف آرائهم حول الإمام الصادق جعفر بن محمد. وكما كان حكام بني أمية يراقبون التفاف الناس حوله بفزع، أخذ الخليفة العباسي "المنصور" يراقب الإمام جعفر متوجسا من جيشان العواطف نحوه، وإعجاب الناس به..!! وكان المنصور يعرف بتجربته الخاصة أن الإمام جعفر بن محمد عازف عن الاشتغال بالسياسة، وكان يعرف أن الإمام رفض إهابة الشيعة به أن ينهض، ورفض إلحاحهم بالبيعة، ولكن المنصور مع ذلك ما كان ليستريح لالتفاف الناس حول الصادق في كل مكان. في المدينة حيث يقيم وفي العراق حيث يجلس ليعلم الناس أو ليحاور الزنادقة والملحدين وأصحاب الآراء الذين يخالفونه في أمور الدين...
نقل الناس إلي الخليفة أن أحد فصحاء الزنادقة وفجارهم قد التقى بالإمام جعفر، فعجز الرجل عن الحوار، فسأله الإمام الصادق: "ما يمنعك من الكلام؟" فقال الرجل إجلالا لك ومهابة. وما ينطق لساني بين يديك. فإنني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين، فما داخلتني هيبتك". أخذ المنصور يتربص بالإمام جعفر. وعرف أن الإمام يحارب الزهاد .. وكانت جماعات الزهاد تحبب إلي الناس الفقر، وتدعوهم إلي العزوف عن الدنيا، وإلي عدم التفكر في شئونهم ..
قد شجع حكام بني أمية هذه الجماعات ليصرفوا الناس عن التفكير في المظالم، ويصرفوهم عن المقارنة بين غنى الحكام وفقر المحكومين .. وشجع بنو العباس هذا الاتجاه إلي الزهد حتى لقد قويت الدعوة إلي الانصراف عن هموم الحياة ...
ورأى الإمام جعفر أن هذه الدعوة تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا وأنها ليست من الله في شيء .. فهي تزين للفرد ألا يهتم بمصلحة الأمة وألا يحاسب الحكام، وتتيح للحكام أن يعطلوا الشورى وهي أساس الحكم في الإسلام. ولقد انخدع بعض الصالحين بهذا الاتجاه إلي تمجيد الفقر، فنادوا بتحريم الطيبات من الرزق وزينة الحياة التي أحلها الله لعباده، حتى أن أحد الصالحين من الفقهاء رأى الإمام الصادق في ثوب حسن فأنكر هذا قائلا: "هذا ليس من لباسك" فقال له الإمام الصادق: "اسمع مني ما أقول لك. فإنه خير لك آجلا أو عاجلا إن أنت مت على السنة والحق ولم تمت على البدعة. أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في زمان مقفر مجدب. فأما إذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها أبرارها لا فجارها، ومؤمنوها لا منافقوها".
ومضى الإمام الصادق يناقش الزاهدين. فالزهد كما يفهمه الإمام الصادق هو "الاكتفاء بالحلال لا التجرد من الحلال". ورأى المنصور في الدعوة ضد الزهد والفقر تحريضا لعامة المسلمين على أن يستمتعوا بحقوقهم في المال، ودعوة إلي إثارة التمرد .. ولكن المنصور سكت وظل يراقب الإمام جعفر بن محمد .. ما عساه يصنع بعد؟! لعله يسكت!! ولكن الإمام جعفر ظل يناضل بالكلمة دفاعا عن كل آرائه وعن حرية العقل والإرادة وشرف المثقفين .. ورأى التفاف بعض الطيبين الفقهاء حول الحكام من غير ضرورة، خوفا أو طمعا فقال للناس: "إذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا للسلاطين فاتهموهم.." وتخوف كثير من الفقهاء بعد هذا من مخالطة السلاطين والحكام من غير ضرورة..!
ثم إنه أخذ ينشر من فتاوى الإمام علي وأقضيته ما حرص الحكام والمستغلون على إخفائه .. فأفتى بأنه لا يحق للمسلم أن يدخر اكثر من قوت عام إذا كان في الأمة صاحب حاجة .. حاجة إلي طعام أو مسكن أو كساء أو علاج أو دواء أو ما يركبه!!. وأفتى بأن السارق إذا اضطر إلي السرقة لأنه لا يعمل، فولي الأمر هو المسئول والآثم .. فإذا سرق السارق لأنه لا يحصل على الأجر الذين يكفيه هو وعياله، فالذي يستغله أولى بقطع اليد!
وكان استبداد المنصور قد استشرى، وكما فعل الحكام الأمويون من قبل، بطش المنصور بكل من يخالف رأيه ووجه بطشه إلي آل البيت .. فقد ناهضه بعض أقربائه من آل البيت، فقتلهم شر قتلة .. واتهم جعفر بن محمد بأنه يحرض عليه، وبأنه يطمع في الخلافة على الرغم من أنه يعلم أن الإمام لا طمع له في الملك. وخشي المنصور أن يصنع مع الإمام جعفر كما صنع الخليفة الأموي مع عمه الإمام زيد بن علي! وآثر المنصور أن يناقش جعفر فاستدعاه إلي العراق واتهمه بأنه يريد الخلافة .. فقال له الصادق: "والله ما فعلت شيئا من ذلك ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعدي الخلق لنا ولكم، وإنهم لا حق لهم في هذا الأمر فوالله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني شيء مع جفائهم الذي كان لي فكيف اصنع هذا الآن وأنت ابن عمي وأمس الخلق بي رحما".
فقال المنصور: "أظنك صادقا".
وعاد الإمام الصادق إلي المدينة مكرما .. كان ما يغيظ المنصور حقا هو فكر الإمام الصادق والتفاف الناس حوله وتوقيرهم إياه .. والمنصور لا يجهل أن أحد كبار فقهاء العصر دخل على الخليفة وإلي جواره الصادق فما اهتم بالخليفة، وجعل كل اهتمامه بالإمام الصادق، وقال الرجل: "أخذني من هيبة جعفر الصادق ما لم يأخذني من هيبة الخليفة". على أن الصادق عاد إلي المدينة لا ليسكن، بل ليواصل دوره الثقافي الجليل ومن عجب أن المنصور، على الرغم من ضيقه بآراء الإمام ما كان يملك إلا أن يجله، ويقول عنه أنه: "بحر مواج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه" ..
لكن المنصور حاول أن يحرج الإمام الصادق، فاستدعى أبا حنيفة النعمان وقال له: "فتن الناس جعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد" .. ثم استدعى الإمام الصادق وأبا حنيفة وجلس الناس ما انفك أبو حنيفة يسأل الإمام في أربعين مسألة، والإمام يجيب عن كل مسألة، فيقول فيها رأي الفقهاء الحجاز ورأي فقهاء العراق، ورأي فقهاء آل البيت ورأيه هو. وطرب أبو حنيفة النعمان وقال عن الإمام جعفر "أنه أعلم الناس فهو أعلمهم باختلاف الفقهاء". وصحبه أبو حنيفة النعمان بعد ذلك مدة سنتين يتلقى عنه العلم..!
ما كان توجس المنصور وشكوكه هو كل ما يعاني منه الإمام الصادق فقد كابد تطرف بعض فرق الشيعة وسبهم للشيخين أبي بكر وعمر ولعثمان بن عفان، وشططهم في تمجيد بعض آل البيت وفي تمجيده هو نفسه إلي حد العبادة، وتحللهم عن التكاليف الدينية .. فأعلن البراءة منهم واتهمهم بالشرك بالله وأثبت عليهم الكفر. ودعا الناس إلي نبذهم .. وكان هؤلاء من المتعصبين ضعاف العقول، أو من المندسين لتشويه آل البيت أو من أعداء الإسلام وآل البيت جميعا! على أن الإمام الصادق على الرغم من شدته على هؤلاء كان رفيقا في تعامله مع الفقهاء الذين يختلفون معه مهما تكن مذاهبهم واتجاهاتهم، داعيا إلي التقريب بين الآراء، مقاوما باسلا للطائفية، وكم بذل من جهد للقضاء على الخصومة في الدين، وعلى التعصب بكل صوره وأشكاله! وكان يعتمد في حواره على الأدلة العلمية، وعلى الاستقراء والاستنباط لا على المسلمات..
نادى بتحكيم العقل حيث لا يوجد حكم في الكتاب أو السنة .. فبما أن هدف الشريعة هو تحقيق المصلحة للبشر، وبما أن العقل قادر على معرفة الخير والشر وتمييز الحسن من القبيح، فإن العقل يهدي إلي ما فيه المنفعة والخير فيؤخذ، وإلي ما فيه الضر فيترك. وهو يعتمد على العقل والتدبر ليصل المسلم إلي الإيمان. لقد أمر الله بالعدل والإحسان ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي .. والعقل هو الذي يحدد للإنسان كيف يجرى العدل والإحسان، وكيف يقاوم الفحشاء والمنكر والبغي، وكيف ينفذ التكاليف الشرعية بما يرضي الله، وهو الذي يقر الإيمان في القلوب .. والعقل هو الذي يقود الإنسان إلي معرفة ما هو مباح عندما يوجد نص، وإلي معرفة المصلحة التي هي هدف الشريعة .. ليكون تحقيق المصلحة هي أساس الحكم ومناطه .. وقد هداه نظره وتأمله إلي القول بحرية الإرادة، وإلي الدفاع عن حرية الرأي التي هي أساس قدرة الإنسان على تنفيذ أمر الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!.. وحرية الإنسان، هي أساس مسئوليته .. مسئوليته أمام الله تعالى، يحاسبه على ما يفعله لا على قضاء الله فيه .. فالله تعالى يسأل الإنسان "لماذا كفرت؟ لماذا أذنبت؟ ولكنه لا يسأله لماذا مرضت؟..".
وهكذا عاش الإمام في المدينة يعلم الناس ويجتهد في استنباط أصول الفقه. وعلى الرغم من أن كل هذه الآراء لم تكن تروق الخليفة المنصور، فقد كان الخليفة حريصا على أن يقرب منه الإمام جعفر .. ولقد أرسل يوما إلي الخليفة يسأله: "لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟" فكتب إليه الإمام جعفر: "ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك، ولا نراها نقمة فنعزيك" .. فكتب إليه المنصور: "تصحبنا لتنصحنا" ..
أجابه الإمام الصادق: "من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك".
ولم يرق هذا للمنصور، فاستدعاه واتهمه بأنه يجمع الزكاة وجمع الزكاة حق للخليفة وحده فهو إذن يدعو لنفسه! ..
شهد ضد الإمام شاهد زور فكذب الإمام أقوال الشاهد، فطلب المنصور من الإمام أن يحلف بالطلاق ولكنه رفض فقد كان يفتي بأن الحلف بالطلاق لا يجوز. وقال إنه لن يحلف بغير الله فقال له الخليفة محتدا: "لا تتفقه علي" .. فقال الإمام هادئا مبتسما: "وأين يذهب الفقه مني؟". ثم إن الإمام طلب من الشاهد أن يحلف على دعواه فحلف شاهد الزور .. وكان الخليفة قد اقتنع بأن الإمام صادق في قوله .. فقد عرفه الجميع بالصدق .. وروع شاهد الزور وكبر عليه أن يفتري على هذا الإمام الطاهر، وكبر عليه أن يحلف كذبا .. وهاهو ذا آخر الأمر يجد الخليفة غاضبا عليه!! فما كسب شيئا بعد! وسقط الرجل ميتا .. وحمل عن مجلس الخليفة .. أما الإمام فقد دعا للرجل بالرحمة، وحطت ذبابة على وجه الخليفة لم يفلح في إبعادها إذ كانت تعود فتحط على وجهه .. فسأل: "لماذا خلق الله الذباب؟" فقال الإمام: "ليذل به الجبابرة".
فقال له الخليفة متلطفا وجلا: "سر من غدك إلي حرم جدك إن اخترت ذلك، وإن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرك فوالله لا قبلت قول أحد بعدها أبدا". وخرج الإمام إلي حرم جده في المدينة المنورة .. وهو إذ ذاك شيخ قد جاوز الخامسة والستين .. وأقام بالمدينة لا يبرحها، يعلم الناس ويفقههم، ويواصل وضع أصول الفقه ويشرع للفقهاء كيف يستنبطون الأحكام عندما يجدون الحكم في الكتاب أو السنة.
وفي الثامنة والستين مات الإمام الصادق.
وعندما عرف الخليفة المنصور، أخذ يبكي حتى اخضلت لحيته، وهو يقول: "إن سيد الناس وعالمهم وبقية الأخيار منهم توفى .. إن جعفر ممن قال الله فيهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (فاطر،الآية:32).. مات الإمام جعفر الصادق إمام الشيعة وشيخ أهل السنة وبعد أن ترك ثروة من الفقه والعلم والتأملات، وأنشأ في الحياة الفكرية تيارا جديدا وخصبا أعلى فيه العقل والنظر والتأمل والعلم .. وجمع المعارف كلها وعلوم الدنيا والدين. عادت النفس المطمئنة إلي ربها راضية مرضية، وقد خلف الإمام في كل البلاد مئات الفقهاء السنيين يروون عنه ويعلمون الناس فقهه وشروحه وآراءه، فضلا عن فقهاء الشيعة. توفى جعفر الصادق الذي درس عليه الإمام مالك وروى عنه أبو حنيفة النعمان وتعلم منه، وصحبه سنتين كاملتين قال عنهما أبو حنيفة: لولا السنتان لهلك النعمان.
ولد في المدينة سنة 80 هـ ومات فيها سنة 148 هـ. وخلال هذا العمر المديد أغنى الحياة والفكر بحسن السيرة، والعلم الغزير، وإشراقاته الروحية، واستنباطه العقلي. وكان مع جلال هذا الحسب متواضعا لله، يلتقي في أعماقه علم الصاحبين العظيمين وصلاحهما وحسن بلائهما، وتراث تقواهما، ولا يزدهيه على الرغم من ذلك كبرياء من يجمع في نفس واحدة أطراف ذلك المجد كله، وتلك الروعة كلها..!
وعى منذ طفولته نصيحة أبيه الإمام محمد الباقر "ما دخل في قلب امرئ شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله" تعهد وهو صغير جده لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر بقدر ما تعهده جده لأبيه علي زين العابدين بن الحسين بن أبي طالب .. فإذا به وهو صبي يحفظ القرآن ويتقن تفسيره، ويحفظ الأحاديث والسنة من أوثق مصادرها عن آل البيت، تواترا عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجه وعن الصديق رضي الله عنه وعن سائر الصحابة من رواة الأحاديث الصادقين. وأتاح له توافر هذه المصادر جميعا أن يتقن دراسة الحديث وفهمه، وأن يكشف ما وضعه المزيفون تزلفا للحاكمين أو خدمة لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع السياسي.
ثم نشر من الأحاديث ما حاول الحكام المستبدون إخفاءه لأنه يزلزل أركان الاستبداد! فقد كان حكام ذلك الزمان يجهدون في خفاء ما رواه علي بن أبي طالب من السنة. وانتهى نظر الإمام جعفر إلي أنه لا يوجد حديث شريف يخالف أو يمكن أن يخالف نصوص القرآن الكريم .. وأن كل ما ورد من أحاديث مخالفا لكتاب الله فهو موضوع ينبغي ألا يعتد به. وكان عصره متوترا مشوبا بالأسى، تخضب الرايات المنتصرة فيه دماء الشهداء من آل البيت، ويطغى الأنين الفاجع على عربدة الحكام! كان عصر الفتوحات الرائعة، والفزع العظيم والدموع. فالدولة الأموية تضع العيون والأرصاد على آل البيت منذ استشهد الإمام الحسين بن علي في كربلاء.
وهي تضطهدهم وتضطهد أنصارهم، وتخشى أن ينهض واحد منهم لينتزع الخلافة. استشهد عمه زيد في مقتلة بشعة تشبه ما حدث لجده الحسين أبي الشهداء وبكا الإمام جعفر أحر البكاء. وكان الإمام جعفر من بين آل البيت هو الإمام الذي تتطلع إليه الأنظار: أنظار الذين يكابدون استبداد الحكام، وأنظار الحكام على السواء! عرف منذ مطلع صباه أن الإمام علي بن أبي طالب رئيس البيت العلوي يلعن على المنابر في مساجد الدولة في صلاة الجمعة .. وعلى الرغم من أن أم المؤمنين أم سلمة كانت قد أرسلت إلي معاوية تنهاه عن تلك البدعة البشعة وتقول له: "إنكم تلعنون الله ورسوله إذ تلعنون علي بن أبي طالب ومن يحبه. وأشهد أن الله ورسوله يحبانه" .. على الرغم من تلك النصيحة، فقد ظل الإمام علي يلعن على المنابر، وتلعن معه زوجته فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وسمع جعفر هذه اللعنات طيلة صباه وجزءا من صدر شبابه، حتى جاء الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز فتبرأ إلي الله من هذا العار، وكان يحمل للإمام علي بن أبي طالب ما يحمل لغيره من الخلفاء الراشدين الثلاثة من إجلال وتوقير .. وأمر الخطباء أن يتلوا بدلا من لعن علي في ختام خطبة الجمعة الآية الكريمة التي مازالت تتلى إلي الآن: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
( النحل ، الآية : 90 ) .
وطابت نفس جعفر كما طابت نفوس الصالحين وأهل التقوى والعلم بم صنعه الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وأعلن الإمام جعفر في مجلسه إعجابه بالخليفة عمر .. سبط عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكان الإمام جعفر منذ رأى بطش الحكام بآل البيت وأنصارهم وبالباحثين عن الحقيقة وبمقاومي الاستبداد، كان قد أخذ بمبدأ التقية فلم يجهر بالعداء لبني أمية، إتقاء شرهم، وحذر الفتنة، وهم إذ ذاك غلاظ شداد على من لا يوالونهم. فآثر أن يهب نفسه للعلم، وألا يفكر في النهوض والانقضاض على السلطان الجائر، حقنا لدماء المسلمين. ورأى أن خير ما يقاوم به البغي هو الكلمة المضيئة تنير للناس طريق الهداية، وتزكيهم وتحركهم إلي الدفاع عن حقوق الإنسان التي شرعها الإسلام وإلي حماية مصالح الأمة التي هي هدف الشريعة. وكان قد تعلم من جده الإمام علي زين العابدين بن الحسين عن جده الرسول صلى الله عليه وسلم أن طلب العلم ونشره جهاد في سبيل الله، وأن الله تعالى جعل للعلماء مكانة بين الأنبياء والشهداء.
وكان قد رأى جده الإمام علي زين العابدين رضي الله عنه يخطو في المسجد حتى يجلس في حلقة أحد الفقهاء من غير آل البيت. فيقول له أحد الحاضرين: "غفر الله لك، أنت سيد الناس. وتأتي تتخطى خلق الله وأهل العلم من قريش حتى تجلس مع هذا العبد الأسود" فيرد زين العابدين: "إنما يجلس الرجل حيث ينتفع وإن العلم يطلب حيث كان". ولقد وعى الصغير دلالة هذا كله، وانتفع به طيلة حياته. ثم إن جديه ماتا وتركاه صبيا ليتولى تثقيفه أبوه الإمام محمد الباقر وهو أعلم زمانه بالقرآن وتفسيره وبالحديث والفقه فنقل إلي ابنه جعفر كل معارفه، ونقل إليه توقيرا خاصا للشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب.
وكان أبوه الإمام محمد الباقر يقول: "من جهل فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة. وأن قوما من العراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. والذي نفسي بيده لو وليت لتقربت إلي الله بدمائهم. ولا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن استغفر لهما واترحم عليهما. إن أعداء الله عنهما لغافلون". كما ورث جعفر عن أبيه توقيره لعثمان بن عفان ذي النورين .. وكل صحابة رسول الله رضي الله عنهم.
ولقد مات محمد الباقر وابنه جعفر في نحو الخامسة والثلاثين، وقد أتقن معارف آل البيت وأهل السنة وترسبت في عقله نصائح أبيه "إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل شر. إنك إن كسلت لم تؤد حققا، وإن ضجرت لم تصبر على حق" .. "إن طلب العلم مع أداء الفرائض خير من الزهد" .. "إذا صحب العالم الأغنياء فهو صاحب دنيا، وإذا لزم السلطان من غير ضرورة فهو لص" .. ثم وصيته ألا يصحب خمسة ولا يحادثهم ولا يرافقهم في طريق: الفاسق والبخيل والكذاب والأحمق وقاطع الرحم لأن الفاسق يبيعه بأدنى متعة، والبخيل يقطع المال حين الحاجة، والكذاب كالسراب يبعد القريب ويقرب البعيد، والأحمق يريد أن ينفع فيضر، وقاطع الرحم ملعون في كتاب الله".
مضى الإمام جعفر الصادق ـ وقد ورث الإمامة عن أبيه ـ بكل ما تعلمه من أبيه وجديه يخوض غمرات الحياة المضطربة .. وفي تلك الأيام عرفت المساجد وندوات العلم في المدينة المنورة شابا ورعا يتفكر في خلق السماوات والأرض بكل ما أتيح له من معرفة وإشراق روحي، يرفض الاشتغال بالسياسة اتقاء البطش، على وجهه شعاع من نور النبوة. هداه عكوفه على دراسة القرآن والحديث .. إلي أن واجب المسلم أن يؤمن عن اقتناع وتدبر وتفكر في ظواهر الحياة والكون فهي دليله إلي الإيمان لوحدانية الله. وهداه التفكير إلي الاهتمام بعلوم الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والنبات والأدوية لأنها علوم تحقق مصالح الناس، وتحرر الفكر، وتهديه إلي الإيمان العميق الحق الراسخ.
وتتلمذ عليه جابر بن حيان، وكان أبوه شيعيا قتل دفاعا عن الحقيقة وفي حب آل البيت، فاصطنع الإمام محمد الباقر والد الإمام جعفر ذلك الفتى اليتيم، وفقهه في الدين حتى إذا ورث جعفر الأمانة أخذ بيد جابر بن حيان وتعهده وحثه على دراسة علوم الحياة وزوده بمعمل وأمره أن ييسر كتاباته لينتفع بها الناس .. وخصص له وقتا في كل يوم يتدارسان فيه علوم الطبيعة والكيمياء والطب، وكشف له من تبصره بالفقه كثيرا من المعارف العلمية وهداء بالمعارف العلمية إلي التمكن من الفقه. وعلم وهو في المدينة أن في العراق مذاهب تدعو إلي الإلحاد والزندقة .. فخرج يناقش علماء هذا المذهب .. لم يقعد مكتفيا بالحكم عليهم بالكفر، أو يصب اللعنات عليهم، بل يناقشهم بمنطقهم، وليثبت لهم وجود الله، وقادهم مما يعلمون إلي مالا يعلمون.
واشتهر في ذلك الزمان طبيب هندي برع في علوم الطب والصيدلة فحرص الإمام جعفر على أن يلتقي به ويتعرف إلي علمه. وتبادلا المعارف معا ثم أخذ يحاوره في الإسلام وفي إثبات وجود الله. بهذه الحكمة والموعظة الحسنة عاش الإمام جعفر يدعو إلي سبيل ربه فاقنع كثيرا من الزنادقة والملحدين والمنكرين والوثنيين بالإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم وأضافوا بفكرهم ثراء إلي الفقه وإلي العلوم في ذلك الزمان .. أمن بالتجربة والنظر العقلي والجدل طريقا إلي الإيمان وسلحته معرفته الواسعة العميقة بالعلوم في الاستدلال والإقناع، وجذب أصحاب العقول المبتكرة إلي الدين .. وهو مع انشغاله بكل ذلك، كان يتحرى أحوال الناس، ويحمل على كتفه جرابا فيه طعام ومال فيوزع على أصحاب الحاجة، دون أن يدع أحدا يعرف على من يتصدق!
ولكم أساء إليه بعض صنائع الحكام الذين خشوا التفاف الناس حوله فما قابل الإساءة إلا بالإحسان وهو يردد قول الله تعالى:
{ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }( فصلت ، الآية : 34 ) وفي الحق أنه استطاع أن يحول كل الذين دسوا عليه ليسيئوا إليه، أولياء حميمين. كان يزدري الانتقام ويعلم الناس فضيلة العفو مرددا قول جده رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما زاد عبد بالعفو إلا عزا". ولكن أقارب جعفر لم يتركوه لما هو فيه من علم ودراسة ليؤدي دوره في تنوير العقول. فقد حاولوا اكثر من مرة أن يقحموا عليه السياسة. ودعوه إلي الثورة على الدولة الأموية، واجتمعت عليه الألسنة تلح ليتولى أمر الخلافة، فرفض وصرفهم عما هم آخذون فيه. فعادوا يطالبونه بالبيعة لواحد منهم ولكنه لم يوافق.
وكانت الثورة ضد حكم الدولة الأموية تشتد، ووميض النار خلل الرماد يوشك أن يكون له ضرام. وكان بعض المنتسبين إلي الفقه والثقافة وعلوم الدين، وقد صانعوا حكام بني أمية وزينوا لهم الاستبداد وأفتوا لهم بأنهم ظل الله في الأرض، وأنهم لا يسألون عما يفعلونه!.. وقد ساء رأي الناس في هذه الفئة من المنتسبين إلي الفقه والعلم، لأنهم باعوا شرفهم بالمناصب والجاه. وكان الصادق من اكثر الناس حرصا على حماية الأمة من سموم هؤلاء المرتزقة. وفي الحق أن الحكام الأمويين كانوا يحسنون مكافأة هؤلاء المتملقين، فيجزلون لهم العطاء ويولون بعضهم.
وكان بعض هؤلاء الولاة يحب أن يبدو فقيها عالما على الرغم من جهله المركب، وقد تعود أحد هؤلاء المرتزقة المنافقين أن يتقرب إلي الخليفة الأموي بلعن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وسب فاطمة الزهراء رضي الله عنها .. بعد أن كان الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز قد أبطل تلك الأحدوثة الشائنة: سب علي وفاطمة!! ولكن عمر بن عبد العزيز كان قد مات بكل عدله وحزمه وصفاته، وما بقى في الدولة من رجال إلا هذا الصنف من الضالين وصناع الضلال!! وعرف الصادق أن ذلك الفقيه المرتزق الذي كان قد كوفئ بتعيينه واليا مازال يسب عليا وفاطمة ويهدد الناس إن خالفوه .. والناس قد أسكتهم الخوف!
وإذ بالإمام الصادق يذهب ويستمع له ثم ينتفض مقاطعا المنافق المرتزق ويكشف للناس جهله ونفاقه، ويوضح للناس وهو يعظهم أن مثل هذا المنافق الذي يبيع شرفه وضميره بالمنصب أو بالجاه أو المال، ويبيع آخرته بدنياه، إنما هو ضال مضلل وهو أبين الناس خسرانا يوم القيامة، وأن محض افتراءاته وكشف جهله واجب. حقا .. ما كان الإمام الصادق يستطيع أن يسكت عن كل هذا التزييف .. على أنه ما من شيء كان يوجع الإمام الصادق مثل انحدار الذين ينتسبون إلي العلم والثقافة والفقه والدين إلي حضيض النفاق، والمراءاة، والانحناء، وبيع الضمير!! وما كان أنشط النخاسين في التقاط من ارتضوا أن يصبحوا عبيدا وإماء .. لقد شعر الإمام الصادق منذ استشهاد عمه الإمام زيد أنه يعيش في نهاية عصر!
إنها نهاية عصر .. حقا..!
وانتهى العصر ...
سقطت دولة بني أمية وأرسل الثوار إلي جعفر الصادق رسالة يطالبونه فيها أن يقبل البيعة ليصبح هو الخليفة.
جاءته الرسالة وهو مشغول في تأملاته ودراساته وتجاربه فأحرق الرسالة ولم يرد .. كان يحلق في سماء المعرفة، يضرب في أغوار العلم، ويشعر أنه أقوى من الملك .. أي ملك في الأرض!! وأنه باستمراره في دوره العلمي أنفع للناس! كان يقول: "من طلب الرياسة هلك" على أن الرياسة ظلت تطلبه .. وهو يرفض! وإذ رفض الخلافة .. بايع الناس أبا العباس حفيد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب وبنو العباس هم بنو عمومة العلويين وتأمل الإمام الصادق فيمن يحيط بالخليفة الجديد!!.
لقد انتهى عصر .. هذا حق...
انتهى بكل خيره وشره، وجاء عصر جديد يتطلع فيه الناس إلي الحرية، والنظافة، والطهارة والعدل، فإذا بالمنافقين الذين زينوا الاستبداد لبعض الأمويين وشرعوا لهم العدوان والطغيان يحيطون بأبي العباس مؤسس الدولة الجديدة .. الدولة العباسية. ومات أبو العباس .. وورثه الخليفة المنصور وإذ بهؤلاء المنافقين يحيطون الخليفة الثاني في العصر الجديد!! وإذ بهم يوسوسون له بالآراء نفسها، وإذ بهم يوهمونه أنه فوق الحساب لأنه ظل الله في الأرض!! حتى لقد جعلوا المنصور يحمل الناس على تقبيل الأرض بين يديه!! إنهم أشباه رجال اشتهر عنهم الجهل والتخلف والغباء والحمق ووجهوا كل نشاطهم للنفاق!! نفوس كريهة زرية مهينة محتقرة!!
وحكم الصادق على العهد الجديد بمن يمثلونه ويفيدون منه!! أي أمل للناس في الخليفة وقد أصبحت الشورى لذوي الضمائر المتهرئة والألسنة المستهلكة؟ لقد مضوا يدعون إلي التقشف باسم الإسلام ويحببون الفقر إلي الناس باسم الدين، لينصرف المستبدون إلي جمع المال، وينصرفوا هم إلي الارتزاق!! لقد شرعوا للبغي وأحدثوا خرقا في الإسلام!! لقد أرادوا من الأمة أن تواجه إسراف الطبقة الحاكمة لا باستخلاص الحق المعلوم الذي شرعه الله، بل بالزهد في كل شيء! والانصراف عن كل حق! ثم وصل فجور هؤلاء المرتزقة إلي آخر مدى فوضعوا الأحاديث النبوية لخدمة الطبقة الحاكمة! حتى الأحاديث الشريفة لم تسلم من تزييفهم!!
وعلى الرغم من كل هذه المظالم، وعلى الرغم مما عاناه الإمام جعفر من آلام وهو يعيش محنة خيبة الأمل في النظام الجديد، فإنه ظل آخذا بالتقية قائلا: "التقية ديني ودين آبائي" والتقية ألا يجهر المرء بما يعتقد اتقاء للأذى أو حتى تتحسن الظروف، والأصل في التقية هو قول الله تعالى:
{ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً}
( آل عمران ، الآية : 28 ) وكان الخليفة المنصور قد غالى في القسوة على مخالفيه .. ومنهم بعض آل البيت من العلويين. والإمام الصادق يسكت تقية .. ولكنه آثر مع ذلك أن ينصح الخليفة بالحسنى فقال له: "عليك بالحلم فإنه ركن العلم. فإن كنت تفعل ما تقدر عليه كنت كمن أحب أن يذكر بالصولة. واعلم أنك إن عاقبت مستحقا لم تكن غاية ما توصف به إلا العدل.
وهكذا مضى الإمام الصادق يؤدي دوره في تنوير الناس حكاما ومحكومين .. والخصومة تشتجر حول القضاء والقدر، والجبر والاختيار، فيقول الإمام للناس: "إن الله أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء .. فما أراده الله بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا .. فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟!". وكان هذا لا يروق للطبقة الحاكمة، ولا للمتنطعين والمرتزقة من المنتسبين إلي العلم والفقه. ذهب الإمام جعفر الصادق إلي أن القول بالجبر ضد الشرع، لأنه لا حساب ولا عقاب إذا لم يكن للمرء حرية اختيار ما يفعل ...
وإلا فمن أين تنبع المسئولية إن لم تكن للإنسان حرية الفعل؟! وهكذا مضى الإمام الصادق بكل إيمانه بدوره، يعلم الناس بعض ما خفي عنهم من تفسير القرآن ووجد أن الأمراء والولاة يقترفون الظلم، ويأكلون ما ليس لهم من حقوق الرعية ثم يستغفرون الله!! ويحسبون أن الله سيتوب عليهم!! فمضى يشرح معنى الاستغفار مفسرا بضع آيات من سورة نوح: { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } * { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } * { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } ( نوح ، الآية : 10 – 12 ) فالاستغفار إذن يجلب السعادة والغنى. ولكن الاستغفار الحق ليس هو ترديد الكلمة باللسان، ولكنها توبة القلب، وإعمال العقل، والعمل الصالح الذي يحقق خير الأمة .. الاستغفار أن تمتثل لأمر الله تعالى بالعدل والإحسان.
ذلك أن المرء يجب أن يفكر في الله بكل ما يملك العقل من قدرات، ليعرف الله ويعرف كيف يتقيه وكيف يحقق أهداف شرائعه .. وما أهداف الشرائع إلا تحقيق المصلحة للبشر وإعمار الأرض .. ولقد سأله أحد الناس: يا ابن بنت رسول الله. لقد قال تعالى:
{وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر،الآية:60) فما بالنا ندعوه فلا يجيب؟ فقال له الإمام: "لأنك تدعو من لا تعرف.." إنه يطالب الناس أن يفكروا ليعرفوا الله .. أن يعرفوا الله بعقولهم ليستقر إيمانهم على أساس وطيد. كان الإمام على غزارة علمه متواضعا رقيقا مع كل من يعرف ومن لا يعرف .. وكم تلقى من إساءات من بعض الحمقى والأغبياء وذوي النفوس المعقدة أو الضمائر العفنة أو ذوي الفظاظة، فما قابلها إلا بالابتسام أو الصبر!. كان يتمثل قول الله تعالى{ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } (الأعراف،الآية :199) .
وكان يكره الخصومة ويسعى جهده إلي الصلح فإن عرف أن هناك خصومة على مال تبرع من ماله خفية ليعطي طالب المال .. وكان يقول: "لا يتم المعروف إلا بثلاثة بتعجيله وتصغيره وستره". ناضل الإمام الصادق لإقرار التسامح الديني ولإرساء قواعد شريفة للتعامل بين المسلمين وأهل الكتاب من نصارى ويهود، وكان حربا على التعصب الذي يسئ إلي الشريعة وإلي إنسانية الإنسان!! ذلك أنه وجد بعض المنتطعين والأراذل يحاولون أن يسيئوا معاملة المسيحيين، فأثبت عليهم مخالفة قواعد الشرع وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الإسلام أمر المسلمين بأن يتعايشوا مع المسيحيين، إخوانا متحابين، وألا يكرهوا الناس على أن يكونوا مسلمين، فلا إكراه في الدين.
يجب أن يترك أهل الكتاب وما يدينون به فقد نهى الإسلام عن إثارة الفتنة في الدين والفتنة أشد من القتل. ولقد أمر الرسول عليه السلام باحترام حرية العقيدة واحترام أهل الكتاب. فمن لم يتعامل معهم كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من الإسلام في شيء، ولو زعم في تنطعه وتعصبه أنه رجل شرع أو أنه أفقه الناس!! ولقد أعادت هيبة الإمام الصادق، كثيرا من الذين انحرفوا إلي حظيرة الدين .. فتعايش المسلمون والمسيحيون إخوانا متحابين كما أمر الله ورسوله. وهذا التسامح الذي ينبع من فهم عميق للإسلام كان صفة أصلية في الإمام .. فقد كان يدعو الله أن يغفر لمن أساء إليه .. وما عرف عنه أنه أنتقم من أحد .. فقد كان يرى في الانتقام مع القدرة ذلا .. وأن الصبر عفو يثاب عليه المرء .. من أجل ذلك ما غضب من إساءة أو اغتياب.
وقد امتدت سماحته إلي الذين يخدمونه .. تلك السماحة التي تخالجها الرقة والعذوبة .. كان له غلام كسول يحب النوم، فأرسله يوما في حاجة فغاب وخشي الإمام أن يكون الغلام قد أصابه مكروه، فخرج يبحث عنه فوجده نائما في بعض الطريق .. فجلس عند رأسه، وأخذ يوقظه برفق حتى استيقظ فقال له ضاحكا "تنام الليل والنهار.؟! لك الليل ولنا النهار!".
لكل هذا الصدق والصفاء في التعامل مع الحياة والناس والأشياء .. لكل هذه السماحة والعذوبة والرقة والتسامح، ولإشراقه الروحي الرائع، وذكائه المتوقد الخارق وبجسارته في الدفاع عن الحق، وقوته على الباطل وبكل ما تمتع به من طهارة وسمو وخلق عظيم .. التف الناس على اختلاف آرائهم حول الإمام الصادق جعفر بن محمد. وكما كان حكام بني أمية يراقبون التفاف الناس حوله بفزع، أخذ الخليفة العباسي "المنصور" يراقب الإمام جعفر متوجسا من جيشان العواطف نحوه، وإعجاب الناس به..!! وكان المنصور يعرف بتجربته الخاصة أن الإمام جعفر بن محمد عازف عن الاشتغال بالسياسة، وكان يعرف أن الإمام رفض إهابة الشيعة به أن ينهض، ورفض إلحاحهم بالبيعة، ولكن المنصور مع ذلك ما كان ليستريح لالتفاف الناس حول الصادق في كل مكان. في المدينة حيث يقيم وفي العراق حيث يجلس ليعلم الناس أو ليحاور الزنادقة والملحدين وأصحاب الآراء الذين يخالفونه في أمور الدين...
نقل الناس إلي الخليفة أن أحد فصحاء الزنادقة وفجارهم قد التقى بالإمام جعفر، فعجز الرجل عن الحوار، فسأله الإمام الصادق: "ما يمنعك من الكلام؟" فقال الرجل إجلالا لك ومهابة. وما ينطق لساني بين يديك. فإنني شاهدت العلماء وناظرت المتكلمين، فما داخلتني هيبتك". أخذ المنصور يتربص بالإمام جعفر. وعرف أن الإمام يحارب الزهاد .. وكانت جماعات الزهاد تحبب إلي الناس الفقر، وتدعوهم إلي العزوف عن الدنيا، وإلي عدم التفكر في شئونهم ..
قد شجع حكام بني أمية هذه الجماعات ليصرفوا الناس عن التفكير في المظالم، ويصرفوهم عن المقارنة بين غنى الحكام وفقر المحكومين .. وشجع بنو العباس هذا الاتجاه إلي الزهد حتى لقد قويت الدعوة إلي الانصراف عن هموم الحياة ...
ورأى الإمام جعفر أن هذه الدعوة تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا وأنها ليست من الله في شيء .. فهي تزين للفرد ألا يهتم بمصلحة الأمة وألا يحاسب الحكام، وتتيح للحكام أن يعطلوا الشورى وهي أساس الحكم في الإسلام. ولقد انخدع بعض الصالحين بهذا الاتجاه إلي تمجيد الفقر، فنادوا بتحريم الطيبات من الرزق وزينة الحياة التي أحلها الله لعباده، حتى أن أحد الصالحين من الفقهاء رأى الإمام الصادق في ثوب حسن فأنكر هذا قائلا: "هذا ليس من لباسك" فقال له الإمام الصادق: "اسمع مني ما أقول لك. فإنه خير لك آجلا أو عاجلا إن أنت مت على السنة والحق ولم تمت على البدعة. أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في زمان مقفر مجدب. فأما إذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها أبرارها لا فجارها، ومؤمنوها لا منافقوها".
ومضى الإمام الصادق يناقش الزاهدين. فالزهد كما يفهمه الإمام الصادق هو "الاكتفاء بالحلال لا التجرد من الحلال". ورأى المنصور في الدعوة ضد الزهد والفقر تحريضا لعامة المسلمين على أن يستمتعوا بحقوقهم في المال، ودعوة إلي إثارة التمرد .. ولكن المنصور سكت وظل يراقب الإمام جعفر بن محمد .. ما عساه يصنع بعد؟! لعله يسكت!! ولكن الإمام جعفر ظل يناضل بالكلمة دفاعا عن كل آرائه وعن حرية العقل والإرادة وشرف المثقفين .. ورأى التفاف بعض الطيبين الفقهاء حول الحكام من غير ضرورة، خوفا أو طمعا فقال للناس: "إذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا للسلاطين فاتهموهم.." وتخوف كثير من الفقهاء بعد هذا من مخالطة السلاطين والحكام من غير ضرورة..!
ثم إنه أخذ ينشر من فتاوى الإمام علي وأقضيته ما حرص الحكام والمستغلون على إخفائه .. فأفتى بأنه لا يحق للمسلم أن يدخر اكثر من قوت عام إذا كان في الأمة صاحب حاجة .. حاجة إلي طعام أو مسكن أو كساء أو علاج أو دواء أو ما يركبه!!. وأفتى بأن السارق إذا اضطر إلي السرقة لأنه لا يعمل، فولي الأمر هو المسئول والآثم .. فإذا سرق السارق لأنه لا يحصل على الأجر الذين يكفيه هو وعياله، فالذي يستغله أولى بقطع اليد!
وكان استبداد المنصور قد استشرى، وكما فعل الحكام الأمويون من قبل، بطش المنصور بكل من يخالف رأيه ووجه بطشه إلي آل البيت .. فقد ناهضه بعض أقربائه من آل البيت، فقتلهم شر قتلة .. واتهم جعفر بن محمد بأنه يحرض عليه، وبأنه يطمع في الخلافة على الرغم من أنه يعلم أن الإمام لا طمع له في الملك. وخشي المنصور أن يصنع مع الإمام جعفر كما صنع الخليفة الأموي مع عمه الإمام زيد بن علي! وآثر المنصور أن يناقش جعفر فاستدعاه إلي العراق واتهمه بأنه يريد الخلافة .. فقال له الصادق: "والله ما فعلت شيئا من ذلك ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعدي الخلق لنا ولكم، وإنهم لا حق لهم في هذا الأمر فوالله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني شيء مع جفائهم الذي كان لي فكيف اصنع هذا الآن وأنت ابن عمي وأمس الخلق بي رحما".
فقال المنصور: "أظنك صادقا".
وعاد الإمام الصادق إلي المدينة مكرما .. كان ما يغيظ المنصور حقا هو فكر الإمام الصادق والتفاف الناس حوله وتوقيرهم إياه .. والمنصور لا يجهل أن أحد كبار فقهاء العصر دخل على الخليفة وإلي جواره الصادق فما اهتم بالخليفة، وجعل كل اهتمامه بالإمام الصادق، وقال الرجل: "أخذني من هيبة جعفر الصادق ما لم يأخذني من هيبة الخليفة". على أن الصادق عاد إلي المدينة لا ليسكن، بل ليواصل دوره الثقافي الجليل ومن عجب أن المنصور، على الرغم من ضيقه بآراء الإمام ما كان يملك إلا أن يجله، ويقول عنه أنه: "بحر مواج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه" ..
لكن المنصور حاول أن يحرج الإمام الصادق، فاستدعى أبا حنيفة النعمان وقال له: "فتن الناس جعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد" .. ثم استدعى الإمام الصادق وأبا حنيفة وجلس الناس ما انفك أبو حنيفة يسأل الإمام في أربعين مسألة، والإمام يجيب عن كل مسألة، فيقول فيها رأي الفقهاء الحجاز ورأي فقهاء العراق، ورأي فقهاء آل البيت ورأيه هو. وطرب أبو حنيفة النعمان وقال عن الإمام جعفر "أنه أعلم الناس فهو أعلمهم باختلاف الفقهاء". وصحبه أبو حنيفة النعمان بعد ذلك مدة سنتين يتلقى عنه العلم..!
ما كان توجس المنصور وشكوكه هو كل ما يعاني منه الإمام الصادق فقد كابد تطرف بعض فرق الشيعة وسبهم للشيخين أبي بكر وعمر ولعثمان بن عفان، وشططهم في تمجيد بعض آل البيت وفي تمجيده هو نفسه إلي حد العبادة، وتحللهم عن التكاليف الدينية .. فأعلن البراءة منهم واتهمهم بالشرك بالله وأثبت عليهم الكفر. ودعا الناس إلي نبذهم .. وكان هؤلاء من المتعصبين ضعاف العقول، أو من المندسين لتشويه آل البيت أو من أعداء الإسلام وآل البيت جميعا! على أن الإمام الصادق على الرغم من شدته على هؤلاء كان رفيقا في تعامله مع الفقهاء الذين يختلفون معه مهما تكن مذاهبهم واتجاهاتهم، داعيا إلي التقريب بين الآراء، مقاوما باسلا للطائفية، وكم بذل من جهد للقضاء على الخصومة في الدين، وعلى التعصب بكل صوره وأشكاله! وكان يعتمد في حواره على الأدلة العلمية، وعلى الاستقراء والاستنباط لا على المسلمات..
نادى بتحكيم العقل حيث لا يوجد حكم في الكتاب أو السنة .. فبما أن هدف الشريعة هو تحقيق المصلحة للبشر، وبما أن العقل قادر على معرفة الخير والشر وتمييز الحسن من القبيح، فإن العقل يهدي إلي ما فيه المنفعة والخير فيؤخذ، وإلي ما فيه الضر فيترك. وهو يعتمد على العقل والتدبر ليصل المسلم إلي الإيمان. لقد أمر الله بالعدل والإحسان ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي .. والعقل هو الذي يحدد للإنسان كيف يجرى العدل والإحسان، وكيف يقاوم الفحشاء والمنكر والبغي، وكيف ينفذ التكاليف الشرعية بما يرضي الله، وهو الذي يقر الإيمان في القلوب .. والعقل هو الذي يقود الإنسان إلي معرفة ما هو مباح عندما يوجد نص، وإلي معرفة المصلحة التي هي هدف الشريعة .. ليكون تحقيق المصلحة هي أساس الحكم ومناطه .. وقد هداه نظره وتأمله إلي القول بحرية الإرادة، وإلي الدفاع عن حرية الرأي التي هي أساس قدرة الإنسان على تنفيذ أمر الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!.. وحرية الإنسان، هي أساس مسئوليته .. مسئوليته أمام الله تعالى، يحاسبه على ما يفعله لا على قضاء الله فيه .. فالله تعالى يسأل الإنسان "لماذا كفرت؟ لماذا أذنبت؟ ولكنه لا يسأله لماذا مرضت؟..".
وهكذا عاش الإمام في المدينة يعلم الناس ويجتهد في استنباط أصول الفقه. وعلى الرغم من أن كل هذه الآراء لم تكن تروق الخليفة المنصور، فقد كان الخليفة حريصا على أن يقرب منه الإمام جعفر .. ولقد أرسل يوما إلي الخليفة يسأله: "لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟" فكتب إليه الإمام جعفر: "ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك، ولا نراها نقمة فنعزيك" .. فكتب إليه المنصور: "تصحبنا لتنصحنا" ..
أجابه الإمام الصادق: "من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك".
ولم يرق هذا للمنصور، فاستدعاه واتهمه بأنه يجمع الزكاة وجمع الزكاة حق للخليفة وحده فهو إذن يدعو لنفسه! ..
شهد ضد الإمام شاهد زور فكذب الإمام أقوال الشاهد، فطلب المنصور من الإمام أن يحلف بالطلاق ولكنه رفض فقد كان يفتي بأن الحلف بالطلاق لا يجوز. وقال إنه لن يحلف بغير الله فقال له الخليفة محتدا: "لا تتفقه علي" .. فقال الإمام هادئا مبتسما: "وأين يذهب الفقه مني؟". ثم إن الإمام طلب من الشاهد أن يحلف على دعواه فحلف شاهد الزور .. وكان الخليفة قد اقتنع بأن الإمام صادق في قوله .. فقد عرفه الجميع بالصدق .. وروع شاهد الزور وكبر عليه أن يفتري على هذا الإمام الطاهر، وكبر عليه أن يحلف كذبا .. وهاهو ذا آخر الأمر يجد الخليفة غاضبا عليه!! فما كسب شيئا بعد! وسقط الرجل ميتا .. وحمل عن مجلس الخليفة .. أما الإمام فقد دعا للرجل بالرحمة، وحطت ذبابة على وجه الخليفة لم يفلح في إبعادها إذ كانت تعود فتحط على وجهه .. فسأل: "لماذا خلق الله الذباب؟" فقال الإمام: "ليذل به الجبابرة".
فقال له الخليفة متلطفا وجلا: "سر من غدك إلي حرم جدك إن اخترت ذلك، وإن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرك فوالله لا قبلت قول أحد بعدها أبدا". وخرج الإمام إلي حرم جده في المدينة المنورة .. وهو إذ ذاك شيخ قد جاوز الخامسة والستين .. وأقام بالمدينة لا يبرحها، يعلم الناس ويفقههم، ويواصل وضع أصول الفقه ويشرع للفقهاء كيف يستنبطون الأحكام عندما يجدون الحكم في الكتاب أو السنة.
وفي الثامنة والستين مات الإمام الصادق.
وعندما عرف الخليفة المنصور، أخذ يبكي حتى اخضلت لحيته، وهو يقول: "إن سيد الناس وعالمهم وبقية الأخيار منهم توفى .. إن جعفر ممن قال الله فيهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (فاطر،الآية:32).. مات الإمام جعفر الصادق إمام الشيعة وشيخ أهل السنة وبعد أن ترك ثروة من الفقه والعلم والتأملات، وأنشأ في الحياة الفكرية تيارا جديدا وخصبا أعلى فيه العقل والنظر والتأمل والعلم .. وجمع المعارف كلها وعلوم الدنيا والدين. عادت النفس المطمئنة إلي ربها راضية مرضية، وقد خلف الإمام في كل البلاد مئات الفقهاء السنيين يروون عنه ويعلمون الناس فقهه وشروحه وآراءه، فضلا عن فقهاء الشيعة. توفى جعفر الصادق الذي درس عليه الإمام مالك وروى عنه أبو حنيفة النعمان وتعلم منه، وصحبه سنتين كاملتين قال عنهما أبو حنيفة: لولا السنتان لهلك النعمان.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى