الإمام ابن حزم الجزء الثاني
صفحة 1 من اصل 1
الإمام ابن حزم الجزء الثاني
[size=18][b]وقال تعالى:
{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }( الدخان ، الآية : 58 ) فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك .. ثم قال عن دعوى جالينوس أن لغة اليونان افضل اللغات "وهذا جهل شديد لأنه كل سامع لغة غير لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس" .. أي إما نباح كلاب أو نقيق ضفادع .. ثم استطرد: "إن الله قد كلم موسى عليه السلام بالعبرانية (وهي لغة موسى وقومه) ونزل الصحف على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا. أما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والإجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك. إلا أنه لابد من لغة يتكلمون بها ضرورة .. وقد أدعى البعض أن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة، واحتج بقول الله عز وجل
{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }..( يونس ، الآية : 10 ) .
فقلت له: قل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. ولأنهم قالوا: أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. ولأنهم قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. ثم يستطرد: " .. وقد أدى هذا الوسواس الباطل باليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية، فلا يكتبون عليهم غيرها .. وفي هذا من السخف ما ترى. وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه. عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل".
وخلال اعتكافه في تلك المدينة الصغيرة في جزيرة نائية بأقصى شرق الأندلس على مقربة من المغرب كتب رسالة في أسماء الله الحسنى، وخرج بها على فقهاء الأندلس والمغرب، فأبدوا إعجابهم بها، وعجب سائر العلماء لابن حزم هذا: لحدة طبعه وعنفه، ولعمق فكره، وجمال أسلوبه وانفجار علمه وتدفقه .. وكرر أحدهم ما قاله صديق لابن حزم من قبل "هذا الرجل أوتي العلم كله"، ولكنه لم يؤت سياسة العلم فهو يصك مخالفيه صك الجندل للوجه." ورضى هو عن زوال الجفوة بينه وبين العلماء.
واستبد به الإصرار على التفرغ للكتابة في الفقه والأصول والأدب. ولهو يفكر في أي مسائل الفقه والأصول يبدأ، إذ برسالة تأتيه من صديق في الأندلس، فهي رسالة أسعدته حقا .. فهذا الصديق مرشح لمنصب أمير على إحدى مدائن الأندلس الكبرى، وهو يطلب ابن حزم أن يكف عن الكتابة في الفقه والأصول حتى تهدأ الثورة عنه في الأندلس، وحتى يرتب له أمر عودة كريمة هادئة في المدينة التي سيصبح أميرها .. واقترح الصديق على ابن حزم أن يكتب رسالة عن النساء والرجال والحب..!
فليكتب عن العشاق فهذا أروح لنفسه، وهو بلا ريب صارف عنه غضب الأمراء وتربص الفقهاء وكيد كبار الملاك في الأندلس.
أخذ ينتقل بحرية في مدن المغرب العربي، ويستحضر ذكرياته وما مر به من تجارب، وما حفظ من أخبار.
ثم عكف يكتب رسالته عن الرجال والنساء والحب وسماها "طوق الحمامة في الألفة والآلاف". وهي، رسالة عن أحوال المحبين وعلامات الحب وما يعرض فيه من وصل وهجر، واقتراف للمعصية، وتعفف عنها ..
وعلى أن ابن حزم لم ينس في أول كتابه "طوق الحمامة" ما يصنعه به مخالفوه من الفقهاء والعلماء فقال عنهم "وأساءوا العبث في وجهي. وقذفوني بأني أعضد الباطل بحجتي، عجزا منهم عن مقاومة ما أوردته من نصر الحق وأهله، وحسدا لي".
ولقد حذر ابن حزم في صدر كتابه طوق الحمامة، أن يظن أحد به ظن السوء، فيأثم بهذا الظن .. وبعض الظن إثم ..
ثم يشكر لصديقه ورده الصحيح. "وأنا لك على أضعافه" ويحمد له مشاركته إياه في الحلو والمر والسر والجهر ويستشهد بأبيات له:
أودك ودا ليس فيه غضاضة ومالي غير الود منك إرادة
هباء، وسكان البلاد ذباب وبعض مودات الرجال سراب ولا في سواه لي إليك خطاب إذا حزته فالأرض جمعاء والورى .
ثم يقول: وكلفتني أعزك الله أن أصنف لك رسالة في صفة الحب، ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة، ولا متزيدا ولا مفننا، ولكن موردا لما يحضرني عن وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره .. والأولى بنا مع قصر أعمارنا ألا نصرفها إلا فيما نرجو به رحب المنقلب وحسن المآب غدا. ثم يستطرد كأنه يعتذر عما سيورد من أخبار العشاق فيذكر ما جاء به الآثار: "اجمعوا النفوس بشيء من الباطل ليكون عونا لها على الحق" واجمعوا النفوس أي احملوها على الاستجمام. و"من لم يحسن يتفتى لم يحسن يتقوى" ويتفى يكون فتى في مرحه .. و"اريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد".
ثم مضى يقول: إنه يكتب عما شاهده وعاينه وما حدث به الثقات من أهل زمانه خلال تجربة طويلة عرف فيها الحياة وعرف الناس.
وبكتابة "طوق الحمامة في الألفة والآلاف "وأسلوبه الذي يعتبر من أرقى أساليب النثر الفني صح أن يطلق عليه "أديب الفقهاء".
ومن عجب أن ابن حزم في كتابته عن خلجات النفس، لم يقف عند الظاهر كما ألزم نفسه في الفقه والأصول بظاهر النص، بل تعمق النفس البشرية، وزاوج بين الإسلام والفلسفة اليونانية، وأدرك خفايا الصبوات والنزعات.
ومن عجب أن ابن حزم أيضا وهو الإمام الفقيه الذي يتربص به الفقهاء من مخالفيه، قد كتب عن الحب والمحبين بعبارات لم يتحرج فيها من شيء. ولم يتحر تغطية الألفاظ التي ينبغي أن تغطى.
والأخبار التي رواها في "طوق الحمامة" مما شاهد وعاين أو سمع مع ثقات، تصور الحياة الاجتماعية في الأندلس، أصدق التصوير، وأعذبه أيضاً!
وفي طوق الحمامة فوق هذا رصد لبعض الوقائع الهامة في تاريخ الأندلس، وهي وقائع عاش في غمارها. ابن حزم .. والكتاب ينتهي بمواعظ تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتبين فضل الطاعة وقبح المعصية ..
غير أن ما يسترعي النظر في هذا الكتاب هو هذه الحياة الغربية التي كان يحياها الأثرياء من أهل الأندلس .. حتى لتكتب نساء الملوك والأمراء أشعار غزل فيمن يعشقن ولا يجدن إليهم سبيلا، وويل يومئذ للمعشوق إن عرفه أهل العاشقة!!
ومن عجائب الحب في ذلك العصر أن بعض قواد الجيش بذلوا حياتهم لا في ميادين المعارك مستشهدين، ولكن في مخادع نساء فروا إليهن بعد الهزيمة، فاكتشفهم العدو المنتصر فقتلهم وسبا النساء!!
وكتاب طوق الحمامة ظاهرة فريدة في تاريخ الأدب، فما كتب أحد من فقهاء أو علماء الإسلام كتابا أو فصلا أو مقالا في الحب بمثل هذه الروعة أو الصراحة، ولا بمثل هذا العمق في تحليل النفس.
وقد أراد ابن حزم أن يقول في هذا الكتاب أن علاقة الرجال بالنساء علاقات إنسانية، وضرورة من ضرورات الطبيعة، وفطرة، فما ينبغي أن يحجم العلماء والفقهاء عن تناولها، وإنما عليهم أن يبصروا بها الرجال والنساء، وما يحل لهم أو يحرم عليهم هذه العلاقة .. وهو يكرر القول أن الجد لا يصح إلا بشيء من المرح، فيجب ألا يعزف أحد عن المرح، فالمرح هو الذي يقوي النفس على مواجهة جد الأمور، وليس ثقل الظل من الدين في شيء، وقد كان الرسول يمزح، وكذلك الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وبدأ ابن حزم رسالته طوق الحمامة بالكلام في ماهية الحب بقوله: "الحب ـ عزك الله ـ أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا محظورا في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل "وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير" وذكر بعض أسماء الخلفاء العشاق في الأندلس .. واستطرد: "ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة ـ وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم، فلا ينبغي الإخبار به عنهم ـ لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل. ولكنه تحدث عن حب الصالحين، ومنهم أحد فقهاء المدينة السبعة.وذكر أن المحبة ضروب فأفضلها المتحابون في الله عز وجل، ثم محبة القرابة، ومحبة الألفة، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر، ومحبة العشق الصحيح الممكن من النفس الذي لا فناء له إلا بالموت: "وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه وذا السن المتناهية، إذا ذكرته تذكر وارتاح وصبا، واعتاده الطرب واهتاج له الحنين".
وعرف محبة العشق بأنها "استحسان روحاني وامتزاج نفساني .. وإنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة، واتفاق في الصفات الطبيعية، وكلما كثرت الأشباه، زادت المجانسة وتأكدت المودة.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف)
وقول روي عن أحد الصالحين: (أرواح المؤمنين تتعارف). ولهذا اغتم بقراط حين وصف له رجل من أهل النقصان بحبه فقيل له في ذلك فقال: "ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه". ويمضي في الحديث عن "العلة التي توقع الحب" فيقول: "الظاهر أن النفس حسنة تولع بكل شيء حسن وتميل إليه، وتميل إلى التصاوير المتقنة .. فإن ميزت وراءها شيئا اتصلت وصحت المحبة الحقيقية. وإن لم تميز وراءها شيئا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة وذلك هو الشهوة".
ثم يمضي في رسالته فيرسم ظاهر المجتمع الأندلسي وأعماقه، ويعلل تعلق الإنسان بشكل معين فيروي عن نفسه أنه أحب شقراء في صباه فظل يحب الشقراوات وهكذا كان أبوه، وعلى هذا سار الخلفاء والكبراء في الأندلس. ويكتب عن حب الفقهاء، وما فيه من طرائف .. ثم يصور ألوانا من الفحشاء يستعيذ بالله من شيوعها في قصور الكبراء والأثرياء، وفي الخمائل المتناثرة بالمدن الكبرى في الأندلس.
وكأن شيئا لم يكن يشغل الفئة الاجتماعية التي تحرك في إطارها ابن حزم إلا العشق والعلاقات الشاذة!.
ويعلل ابن حزم مظاهر الفساد التي غشت المجتمع الأندلسي. باختلاط الرجال والنساء بلا قيود، وإظهار النساء زينتهن وهن يعرضن للرجال، وفراغ بال النساء، فلا شيء يشغل المرأة الغنية في الأندلس على الإطلاق .. حتى أعمال المنزل كن لا يقمن بها فلديهن الجواري أو الصبيان!
وهو إذ يسوق أخبار الفحشاء في رسالته يستخلص منها العبرة، ويسوق النصيحة إلى الرجال القوامين على النساء، أن يسدوا أمامهن ذرائع المعصية. من البطالة وحضور مجالس السمر والانفراد بالرجال. ويقول في ذلك إن المرأة الصالحة إذا سدت أمامها ذرائع الفساد ظلت على صلاحها، أما الفاسدة فإذا سدت أمامها الذرائع تحايلت عليها لتمارس الفساد.!
وعلى الرغم من صور الفساد التي رسمها، فقد صور مظاهر العفة أيضا: كيف تصون فتاة نفسها على الرغم من الإغراء، وكيف يعف فتى تراوده امرأة ذات جاه وجمال وسلطة ونفوذ، ستؤذيه إن لم يطاوعها فيما تريد منه..!
وهو يروي ما شاهده من طرائف المحبين فقد شاهد فتاة في أحد المتنزهات تتبع فتى وتطارده وهو لا يكلمها .. حتى إذا غاب عنها انكفأت تقبل مواقع قدميه، والأرض التي مشى عليها..!
وكانت كل هذه المرائي وغيرها من ألوان المعاصي التي جهر بها الناس تثير سخط ابن حزم، وتستدعي همته لمقاومة الفساد بدءا بما شاهده في قصور العلية حيث كانت تضطرب حياته، إلى المتنزهات العامة حيث يتعاطى سائر الناس فنون العشق الحرام؟
وأنهى ابن حزم رسالته بإعلان سخطه على صور الفساد التي ساقها والتي ذكر أسماء بعض أبطالها وكتم البعض، وعلى صور أخرى أشار إليها ولم يكتب عنها لشدة فحشها كما يقول!
وفي أخر الرسالة كتب فصلا عن جزاء أهل الفساد وما ينتظرهم في الآخرة، وما يجب أن يعاقبوا به في الدنيا من نفي وجلد ورجم حتى الموت، وتحريق بيوتهم وأجسادهم. ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وهذا هو واجب المسلم، فإن لم ينهض به أثم.!
على أن هذا الوعظ كله لم يشفع لابن حزم، فقد هاجمه كثير من الفقهاء عندما ظهر كتابه "طوق الحمامة في الألفة والآلاف" واتهموه أنه يحرض الشباب على المنكرات وعلى الفجور، وأنه بما ساق من أخبار يرسم لهم ويسهل عليهم اقتراف المنكرات! (واتهموه بأنه يهدر هيبة الفقهاء بما ذكر عن صور فسق بعضهم .. وهم أفراد منبوذون لم يعد أحد يسلكهم في زمرة الفقهاء.
لقد كتب عن فسق من كان عليه مدار الفتيا في قرطبة. أي مفتيها الأكبر .. وهو فقيه أسقطه فسقه وتبرأ منه الفقهاء والطلاب، وما ذكر ابن حزم ما كان من هذا الفقيه وأمثاله، إلا تشهيرا بالفقهاء كافة، وتحريضا للعامة على إهانتهم والازدراء بهم!!.
لم يكن الفقهاء المنحدرون من أصول عربية هم وحدهم الذين سخطوا على كتابه طوق الحمامة، بل أنكره البربر أيضا .. ذلك أنه قال عنهم: "في بلاد البربر التي تجاور أندلسنا يتعهد الفاسق على أنه إذا قضى وطره بمن أراد، أن يتوب إلى الله، فلا يمنع من ذلك. وينكرون على من تعرض له بكلمة (ليمنعه من المعصية) ويقولون له أتحرم رجلا مسلما من التوبة؟! لم يتقبل البربر هذه السخرية منهم، وكانوا يحكمون بعض إمارات الأندلس، ومنهم قواد لعسكر إمارات أخرى، فتوعدوا ابن حزم ...
ما باله وما بال قومه من عرب وبربر ممن يعيشون في الأندلس؟! إن هو كتب في الفقه كفروه، فإن كتب في الحب ارجفوا عليه وشهروا به وتوعدوه!! فيما عساه يكتب بعد؟ وإذن فليترك الحديث على الرجال والنساء، والحب، والفقه، والأصول! فليكتب في السياسة، وفي التاريخ ..
ونشر رأيه في الخلافة بعيدا عن شبهات الكتابة في الحب وأحواله والفقه وأصوله. اشترط أن يكون الخليفة قرشيا، ورجلا، وعاقلا، وعالما بشئون الحكم، وصالحا، لكي تصح له الخلافة أو الإمامة .. وقرر أن الخلافة ليست وراثية: "لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه لا يجوز التوارث فيها .. ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ .. ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة".
أما طريقة تولي الخلافة فهي أحد طرائق ثلاث: إما أن يعهد الإمام قبل وفاته إلى واحد يختاره إماما من بعده، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما فعل أبو بكر .. فتتم البيعة على الخليفة المختار.
وإما أن يعهد الخليفة الحي لرجال ثقات، أن يختاروا من بينهم واحدا، ثم تتم عليه البيعة، كما فعل عمر، إذ عهد إلى ستة من الصحابة، مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، لينتخبوا من بينهم رجلا.
وإما أن يتقدم رجل صالح كفء، يرى نفسه أهلا للخلافة، فيدعو إلى نفسه، ويبايعه الناس، فيجب اتباعه ومن يخرج عليه فهو من أهل البغي .. كما قال علي ابن أبي طالب فدعا لنفسه وبايعه الناس، فوجب اتباعه ..
وعلى أية حال فيجب ألا يبقى المسلمون أكثر من ليلتين بلا إمام. بهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تصح الخلافة إلا بالبيعة الحرة.
وتناول ابن حزم موقف علي ومعاوية .. ثم أقدار الصحابة من الخلفاء الراشدين، والمفاضلة بينهم. وحسب رأيه كان يجب على معاوية اتباع علي، وعدم اتباعه بغي عليه، فمعاوية ومن معه إذن من أهل البغي ..!
ولكن ابن حزم لم يدن معاوية بالبغي على الإمام علي كما قضى بذلك الأئمة الذين تعرضوا لهذا الأمر من قبل، فاتخذوا أحكام البغاة من سلوك علي مع معاوية وجنده، واعتبروا علي بن أبي طالب، أول من ابتلى بأهل البغي، فما صنعه معهم أحكام يجب اتباعها شرعا .. بهذا أفتى الإمام الشافعي والإمام احمد بن حنبل ومن تابعهما.
لم يدن ابن حزم معاوية! ذلك أنه أموي بالولاء كما قلنا، متعصب لهذا الانتماء .. وهو مع ذلك لم يؤيده في الخروج ورفض البيعة للإمام علي. وفي رأي ابن حزم أن واقعة الجمل التي حارب فيها معاوية عليا، لم تكن حربا حقا، فلم يجتمع معاوية ومؤيدوه للحرب، بل اجتمعوا للتشاور. وكان الجند كثيفا في معسكر علي ومعسكر معاوية .. وتجادل الجند، فاشتبكوا دون أن يريدوا اقتتالا ..!
أما أهل صفين فقد أرادوا القتال حقا. وابن حزم لا يعفيهم من البغي، ولا يدينهم به، وإنما يترك أمرهم إلى الله تعالى.!
ويقوم ابن حزم مكانة علي بين الخلفاء الراشدين، فيجعله أخرهم مكانة. ويتحدث عن أهل البيت الذين وردت فيهم الآية فيستثنى منهم علي بن أبي طالب، ويفسر الآية بأنها تعني نساء النبي، ويفضل عليهن عائشة .. يفضلها عن خديجة وفاطمة الزهراء رضي الله عنهن جميعا. ويذهب إلى أن عائشة هي سيدة نساء أهل الجنة ..
ولم يكد ابن حزم ينشر هذه الآراء حتى زلزلت الأرض من تحته زلزالا عنيفا .. ذلك أن أبناء فاطمة كانوا قد أسسوا دولة إسلامية ضخمة، لتعيد الإسلام إلى عصوره الزاهرة، وهي دولة أسمها الدولة الفاطمية، أسسها الفاطميون في المغرب، ثم زحفوا إلى مصر فملكوها، وأنشأوا مدينة القاهرة، والأزهر الذي عمر منذ إنشائه بالشيوخ والطلاب، وارتفعت منارات القاهرة تضيء لما حولها، بعد أن خبت منائر بغداد وقرطبة .. وأصبح الأزهر بجهد علمائه وشيوخه وطلابه قلعة الإسلام في إحياء السنة، ومحاربة البدع، ونشر علوم الدين واللغة وآدابها، وسائر المعارف الإنسانية، وتفجر منه علم عزيز، عم الدنيا، وتوهجت فيه شعلة الفكر تحرق أسمال الجمود والتخلف، وتنير أطباق الظلمات المتراكمات، وتملأ العقول بوهج خالد من الإيمان والثقافة، وأصبح حصنا للدين واللغة والمعرفة.
إن الذين يحبون ويشايعون علي بن أبي طالب وبنيه قد أصبحوا، يقودون مصر والمغرب العربي والأندلس، وكثيرا من أقطار الإسلام! ثم أن الشيعة وأهل السنة على السواء لا يقبلون ما قاله ابن حزم عن الإمام والباغين عليه، وعن الطاهرة خديجة، وفاطمة الزهراء التي قامت دولة بأسرها تنتسب إليها .. والأندلسيون بصفة خاصة لم يعودوا يحملون للأمويين، ما حملوه من تقدير وحب، أيام الخلفاء العظام، بل لقد شيعوا الأمويين باللعنات، حين سقطت دولتهم، لكثرة ما عانوا من مظالم في نهايتها، وما عاينوا من فساد، ولأن الأمراء الأمويين في أواخر عهد الدولة الأموية، خرجوا عن تقاليد السلف الصالح بالأندلس، وأهدروا الإسلام وأسقطوا هيبة الخلافة، وانشغلوا بالترف، والصراع، واللهو .. ومنهم من أذل العلماء وأهل الفكر والفقه، ليسود الندامى والجواري والغلمان، ومنهم من نزل لأمراء الفرنجة عن بعض أرض المسلمين، ودفع لهم الجزية، واستعانهم على بني عمومته .. وتركهم يجوسون خلال الديار ينتهكون ويغتصبون ويقتلون!!
ولئن كان من الناس من سكت عن ابن حزم حين أفتى بما خالف كل أصحاب المذاهب من الأئمة السابقين، وحين شوه بعض الفقهاء والعلماء وأدانهم بالفسق، وذكر عنهم أخبارا مهينة .. لئن كان من الناس من سكت عن ابن حزم وهو يصنع هذا كله واكتفى بمجافاته والغضب منه، إن الناس الآن لا يستطيعون السكوت بعد، وهو يناصب علي بن أبي طالب العداء ...
ثار عليهم الناس جميعا، واتهموه بأنه "ناصبي" قد ناصب علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء العداء! فلا مقام له بعد في هذا الطرف من أطراف الأندلس.
أما في الأندلس فهم ينتظرونه لينزلوا به العقاب .. عسى أن يشفي العقاب صدور قوم موغرين! وهكذا وجد نفسه قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلا هو يستطيع البقاء بالقرب من المغرب، ولا هو يجسر على العودة إلى المدن الكبرى في الأندلس.!!
غير أن صديقه الذي كان مرشحا لتولي إمارة إحدى الإمارات، قد أصبح اليوم أميرا على "ميورقة" إحدى جزر الأندلس ...
ودعاه صديقه ليقيم في الجزيرة الجميلة الهادئة. وكان الأمير الجديد ذا مكانة في الدولة، فوعد ابن حزم بالحماية .. وشرط عليه ألا يشتغل بالسياسة، وألا يكتب ما يثير الناس، وأن يتفرغ للكتابة في الدين .. فهو مهما تكن مشاكل الكتابة فيه، أقل هما من الكتابة في السياسة.
إن هذا هو ما يريده ابن حزم على التحقيق: السكينة، والملجأ الأمين، في مكان هادئ جديد، بجوار صديق كريم، والعودة إلى الكتابة في الفقه والأصول.
ولقد أنضجته التجارب والمحن والقراءات والتأملات .. وأن له أن يصوغ منهجه وآراءه الفقهية المتناثرة في مجلدات متكاملة.
وسافر إلى "ميورقة" ليقيم في أطيب حال، في ظل ظليل من حماية أميرها ومودته .. وكان الأمير قد أعد قصرا فاخرا لابن حزم، وخزانة كتب جمع فيها كل ما يطيب لفقيه أديب كابن حزم..
وكما يعتكف العابد في المحراب، اعتكف ابن حزم في داره، لا يخرج منها إلا لحظات لصلاة الجمعة، أو للسمر مع صديقه الأمير، فيدراسه فيما اهتدى إليه من آراء وأفكار.
لقد خرج ابن حزم من كل ما مر به بعبرة جعلها دستورا لما تبقى من حياته: "ليس في العالم منذ كان إلى أن يتناهى، أحد يستحسن الهم، ولا يريد إلا طرحه عن نفسه، فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي ذلك السر العجيب وأنار الله لفكري هذا الكنز العظيم بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفسي فلم أجدها إلا في التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة".
علمته الأيام في تداولها بين الناس أن "لذة العالم بعمله، ولذة الحكيم بحكمته، ولذة المجتهد لله عز وجل، أعظم من كل لذة في الحياة الدنيا .. وإن فليمنح هو ما بقى له من العمر للذات العليا: العلم والحكمة والاجتهاد لله.
وأنه ليعرف فيما عرف من العجائب "أن الفضائل مستحسنة مستثقلة، والرذائل مستقبحة ومستحبة" .. فليكن إذن من النفر القلائل الذي يناضلون من أجل الفضائل مهما تكن مستثقلة، لكم صقلته السنوات!
فهاهو ذا ينصح من يلتمس عنده حسن النصيحة: "احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفظ من أن توصف بالدهاء، فيكثر المتحفظون منك حتى ربما أضر ذلك بك، وربما قتلك" .. ويقدم نصيحة أخرى: "إياك ومخالفة الجليس، ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك وأخراك وإن قل، فأنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة. وربما أدى ذلك إلى الضرر العظيم دون منفعة أصلا. وأن لم يكن لابد من إغضاب الناس أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق أو منافرة الخالق، فاغضب الناس ونافرهم ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق".
واعتذر للناس كافة عن حدته في الكتابة والجدل بمرض أصابه ولزمه، فبدل خلقه من دعة إلى عنف: "لقد أصابتني علة شديدة ولدت ربوا في الطحال شديدا، فولد ذلك على من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر، والنزق .. واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي. وصح عندي أن الطحال موضع الفرح وإذا فسد تولد ضده" .. ولكنه مع ذلك لم ينكر أن مصاولة المخالفين هي التي حفزته إلى كثرة القراءة وإمعان النظر، وقدحت ذهنه، فاندلعت منه الأفكار.
وما أعجب ما مر به في حياته المضطربة من أحوال الناس!..
وإنه في تلك الجزيرة الهادئة من جزر الأندلس، ليشعر بالطمأنينة والسكينة، وبالراحة، والأمن، في ظل جسارة صديق يتحدى الخطر .. إنه في إعجابه العميق بمروءة صديقه هذا الذي يحميه ويكرمه متفضلا عليه لا رادا لجميل سابق أو لسالف عارفة .. أنه في مكانه هذا ليذكر صديقا آخر في الزمن البعيد، كان كاتبا، ونمت بينهما المودة والمحبة وهما في السنوات الخضر من أول العمر .. ما أبعد الفرق بين الصديقين ..!
كتب ابن حزم عن ذلك الصديق القديم: "كان متصلا بي ومنقطعا إلى أيام وزارة أبي رحمة الله عليه، فلما وقع بقرطبة ما وقع، وتغيرت أحوالي، خرج إلى بعض النواحي، فاتصل بصاحبها وعرض جاهه. وحدثت له وجاهة وحالة حسنة. فحللت أنا تلك الناحية في بعض رحلتي، فلم يوفني حقي، بل ثقل عليه مكاني، وأساء معاملتي وصحبتي، وكلفته في خلال ذلك حاجة لم يقم فيها ولا قعد واشتغل عنها بما ليس مثل شغله .. فما كلفته حاجة بعدها..".
مهما يكن من الصعاب التي مرت به، فهاهو ذا الآن في لين من العيش لا ينقصه إلا أن يكتب، وينشغل بالعلم، والحكمة، والاجتهاد لله عز وجل .. وكل ما حوله من راحة ومتاع، ودعة، وطيب العيش، وجمال الطبيعة، وصباحة الوجوه، ودفء المودة .. كل ما حوله يعينه على ما يريد من تفرغ للكتابة..
على أنه لم يلبث غير قليل من معتكفه الرائع. ذلك، حتى أخرجه الناس منه، ليتلقوا عنه، وذهب إليه بعض العلماء ليناظروه .. لقد وجد في ميورقة تلاميذ واتباعا معجبين به على الرغم من كل ما يثار حوله .. ولقد ناظره أحد الفقهاء يوما فلما ظهر عليه ابن حزم قال الفقيه: "تعذرني، فإن أكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس" (جمع سراج). فقال ابن حزم "وتعذرني، فإن أكثر مطالعاتي كانت على منابر الذهب والفضة".
وامتدت عليه حماية صديقه أمير ميورقة إلى حيث أراد أن ينتقل من أرض الأندلس فذهب إلى بعض المدائن المجاورة يناظر ويعلم، ثم ذهب إلى قرطبة نفسها، في موكب من الأتباع، والدواب تحمل كتبه حيثما أنتقل.
وعاد إلى ميورقة ليعتكف من جديد .. ولقد لقي أحد الفقهاء في بعض رحلته، فتناظرا أمام الناس، وحين انتصر ابن حزم في المناظرة قال له الفقيه: "أنا أعظم منك همة في العلم، لأنك إنما طلبته وأنت معان عليه فتسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل السوق". فرد ابن حزم: "هذا الكلام عليك لا لك لأنك إنما طلبت العلم وأنت في هذه الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حال ما تعلمه وما ذكرته فلم أرجو به إلا علو القدر في الدنيا والآخرة." وعنى ابن حزم في تلك الفترة بصقل آرائه وأفكاره وصياغتها في الصورة التي سيتركها من بعده للتاريخ.
واتخذ لنفسه منهجا عقليا خالصا تأثر فيه بالإمام جعفر الصادق على الرغم من انتمائه وولائه الأموي. فأعتمد كما اختط الإمام الصادق جعفر بن محمد على الاستقرار والتجربة، وبصفة خاصة في دراسته عن الأخلاق التي ضمنها رسالة صغيرة عرفت باسم حكم ابن حزم أو مداواة النفوس. ولا ريب أنه أفاد من تراث الفكر المصري القديم، والفكر الفارسي والهندي، واليوناني، وكانت كل تلك الآثار قد ترجمت إلى العربية منذ أجيال .. ولم يعتمد على إلمامه بالفكر الإنساني فحسب، بل على فهمه لأحوال المجتمعات التي عاش فيها، وعلى تجاربه وحسن معرفته بالناس والحياة.
ومن هذا التجاريب والدراسات والمعارف استقرأ آراءه في الأخلاق. فهو يرى أن هدف النشاط الإنساني هو دفع الهم والحصول على اللذة، وهي عنده لذة الروح.
ويرى في الفضيلة رأي أرسطو ويقول: "الفضيلة وسط بين الإفراط والتفريط، وكلا الطرفين مذموم، والفضيلة بينهما .. حاشا العقل فإنه لا إفراط فيه ..
وهو يرى رأيا قريبا من رأي أفلاطون في أصول الفضائل وأصول الرذائل: "أصول الفضائل أربعة، عنها تتركب كل فضيلة وهي العدل والفهم والنجدة والجود.
وأصول الرذائل كلها أربعة عنها تتركب كل رذيلة، وهي اضداد الذي ذكرنا، وهي الجور، والجهل، والجبن، والشح، والعفة والأمانة نوعان من أنواع العدل والجود.
وأفلاطون يرى أن أصول الفضائل هي: المعرفة (وهي الفهم عند ابن حزم)، والعفة، والعدل. وابن حزم يضع السخاء أو الجود مكان العفة. ذلك أنه يرى أن العفة التي جعلها أفلاطون أصلا من أصول الفضائل، إنما تدخل في العدل والجود.
وابن حزم يدعو العلماء والفقهاء إلى التفقه في العلوم الإنسانية .. تأثر بالإمام الصادق الذي مارس الكيمياء وأسس قواعدها، وربى تلميذه جابر بن حيان على إتقان الكيمياء وأنشأ له معملا، وظل يرعاه حتى ترك جابر بن حيان في الكيمياء تراثا شارك في صنع التقدم الإنساني كله عبر العصور.
قال ابن حزم: "كشف العلوم النافعة يزيد العقل جودة ويعفيه من كل آفة، ويهلك ذا العقل الضعيف".
وهو في رسالته عن الأخلاق يضع ضوابط للخير والشر، وينتهي إلى أن الدين ضرورة الجماعات البشرية، فهو الذي يحميها وينشر فيها الثقة بين الأفراد ويعمها بالفضائل، ويجمعها على الحب والخير والحق.
وهو لا يخص الإسلام وحده بذلك، بل كل دين سماوي. قال: "ثق بالمتدين ولو كان على غير دينك. ولا تثق بالمستخف وأن أظهر أنه على دينك ومن استخف بحرمات الله تعالى فلا تأمنه على شيء تشفق عليه".
فهذا الفقيه الذي كان يتعصب لآرائه حتى ليصف نفسه بالنزق، والذي اشتد على بعض اليهود والنصارى الذين هاجموا الإسلام، وأخرجهم من ذمة الله ورسوله لتهجمهم على ما أوحي به الله إلى رسوله .. هذا الفقيه نفسه يطالب المسلمين ألا يثقوا بمسلم غير متدين، وألا يأتمنوه على شيء، ويدعوهم إلى الثقة بالمتدينين من اليهود والمسيحيين، وإلى أئتمانهم على كل ما هو غال وعزيز على المسلمين.!
وذلك أنه يرى الدين أساس الفضيلة، كل الديانات السماوية دعوة إلى الصدق، والإخلاص، والمحبة، والكرم، والمروءة وسائر الفضائل .. وأن كل دين سماوي إنما جاء مكملا لما قبله، حتى بعث الله خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم متمما لمكارم الأخلاق .. فالمتدين من اليهود والنصارى أدنى بها إلى مبادئ الإسلام وإلى الله تعالى من المسلم غير المتدين..!
ومكارم الأخلاق التي جاء بها القرآن مصدقا لما بين أيديهم من التوراة والإنجيل، يمكن التعرف عليها بالعقل.
المسلمون مأمورون بالتدبر، والتفكر، وإعمال العقول لمعرفة الخير والشر، والفضائل والرذائل .. على هذا نص القرآن الكريم والسنة الشريفة. فإذا أعمل الناس عقولهم اهتدوا إلى سواء السبيل .. قال تعالى عن الضالين:
{ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } ( الملك ، الآية : 10 ) .
وإذن فوظيفة العقل عنده هي هداية صاحبه إلى الخير والفضائل. أما الذين يشحذون عقولهم لاجتلاب المنافع، غير مبالين بالفضيلة فهؤلاء ليسوا هم أصحاب العقل، بل هم أصحاب الدهاء، فالعقل لا يقود إلا إلى الحق والخير..
وهو نفسه قد آثر العلم على جميع اللذات، وترك جمع المال إلى هموم العلم، وكان قادرا لو اهتم بجمع المال على أن يكون من أغنى أغنياء عصره. ولكن تصاريف الزمان علمته أن المال، واللذة الحسية، وكل فنون المتاع إنما هي عرض زائل، ولا يبقى إلا الحكمة والعلم. "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا." ويقول: "للعلم حصة في كل فضيلة، وللجهل حصة في كل رذيلة..".
ورأى ابن حزم. أهل زمانه يستخفون بمن يصرف جهده عن الاستزادة من المال ليستزيد من العلم والحكمة فيقول في هذا: "ترك المبالاة بكلام الناس والمبالاة بكلام الخالق عز وجل هو العقل كله، والراحة كلها. من قرر أن يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. ومن حقق النظر وراضى نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمته في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه. لأن مدحهم إن كان بحق وبلغة سرى فيه العجب، فأفسد بذلك فضائله، وإن كان بباطل فسره، فقد صار مسرورا تجنبه ما يعاب عليه، وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص، وأن كان بباطل فصبر، اكتسب فضلا زائدا بالحلم والصبر..".
وهو يرى من حسن الأخلاق أن يثبت الإنسان على الفكرة والعمل ما اقتنع بأنه على حق، فإذا اكتشف أنه على الباطل، فالثبات لجاج، وهو مذموم ...
ثم ينتهي ابن حزم في حديثه عن الأخلاق إلى أن خير ما يفعله المسلم ليستقيم له الخلق الفاضل، هو التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا الله بهذا: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ}( الأحزاب ، الآية : 21 ) ثم أن الله تعالى وصفه بقوله: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }( القلم ، الآية : 4 ) .
ويقول ابن حزم عن القواعد والضوابط التي وضعها للأخلاق أنه "أفاد فيها" مما منحني الله تعالى من العلم بتصاريف الزمان والأشراف على أحواله، حتى أنفقت في ذلك أكثر عمري، وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له، والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل إليها أكثر النفوس، وعلى الازدياد من فضول المال."
ويرى ابن حزم أن الإنسان عنده علم البديهة وهو علم النفس .. فالطفل يدرك بالبديهة أن الجزء أقل من الكل، وأن المكان الواحد لا يشغله جسمان في وقت واحد فهو يتنازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه. علما منه بأن هذا المكان لا يسعه مع غيره، وهو يدرك أنه لا يجتمع الأمران، المتضادان، فأنت إذا وقفته بغير إرادته بكى .. حتى إذا تخلص عاد إلى القعود. وإذا كبر الطفل أدرك أن الأخبار عما هو غائب لا يصح أن تتعارض، فإذا تعارضت شك في الجميع أو ألغاها .. وهكذا يعرف الإنسان أخبار الأنبياء ووقائع التاريخ، فإذا كبر عقله استطاع أن يعرف الصادق من المنقول عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وبذلك يتحقق أن علم العقل أساس لعلم النقل .. وابتعاد الخبر مدعاة لخطأ، كالأعداد في الحساب كلما كثرت الأعداد زادت مظنة الخطأ في أجزاء العمليات والمعادلات الحسابية والجبرية عليها.
ويضيف أن هذا ليس هو سبب الخطأ فقط، بل عوامل أخرى تفسد النقل وهي الشهوة والانحياز. على أن العقل يظل قادرا على التمييز أبدا.
وهو يؤمن بكل ما جاءت به النصوص، معملا العقل في تفسيرها بظاهرها. فإذا كانت النصوص قد أجمعت على أن الله هو خالق كل شيء فلا أحد يخلق فعلا من الأفعال، وإلا كان شريكا الله تعالى في الخلق، ولكنه يناقش هذا النظر ويقول أن الأخذ به يسقط التكليف، فلا حيلة للإنسان إذن والله يخلق أعماله، ولا إرادة للإنسان ولا اختيار، ولكنه الجبر قطعا.
ويصحح هذا الفهم بقوله أن الله خلق في العبد الاستطاعة والاختيار فهو يختار ما يفعله وما يستطيعه. وبذلك يكلف الله العباد ويحاسبهم على أعمالهم.
ثم يتحدث عن الاجتهاد بالرأي فيذهب إلى أنه ليس من الشريعة. لأن الله لم يفرط في الكتاب من شيء..
فلا مجال للرأي إذن لأن كل الأحكام واردة في نصوص القرآن والسنة أو إجماع الصحابة فإن لم يوجد فيها الحكم فقد نص القرآن على إباحة ما لم يحرمه الله فيكون الحكم في كل واقعة حيث لا نص هو الإباحة أو استصحاب الحال بحكم النص القرآني: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً} ( البقرة ، الآية : 29 ) .
على هذه الأصول يستنبط كل الأحكام الخاصة بالعقيدة وبالمعاملات، أي بالدين وبالشريعة .. وهو القضايا الفكرية التي تتعلق بالعقيدة يمتحن النصوص والإجماع فيجد فيها إجابة عن كل سؤال.
فقد زعم الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر مآله إلى النار.
وقالت المعتزلة أنه في منزلة بين المنزلتين فلا هو كافر ولا هو مؤمن. وذهب بعض أهل السنة إلى أنه ليس مؤمنا، ولكنه مسلم لم يخرج عن الإسلام إلى الكفر بل خرج عن الإيمان إلى الفسوق .. وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان.
وذهب آخرون إلى أن الحكم عليه يرجأ إلى يوم القيامة، فإن شاء الله أخذه بالكبيرة وأن شاء الله عفا عنه، وهؤلاء هم المرجئة.
أما ابن حزم فقد استنبط حكمه من النصوص، وأفتى في مرتكب الكبيرة بفتوى بعض أهل السنة: "فمن تاب بعد ارتكابه الكبيرة غفر الله له والله غفور رحيم" أما من قبل التوبة النصوح، فإن رجحت حسناته سقطت كبائره لأن للحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإلى أكثر من ذلك أضعافا مضاعفة .. هذا هو نص القرآن الكريم .. فإذا استوت حسناته مع سيئاته فهو على الأعراف ينتظر الجنة، وعلى الأعراف رجال ينتظرون، ثم يدخلون الجنة آخر الأمر، أما أن زادت سيئاته على حسناته فإلى النار. غير مخلد فيها أبدا، بل يخرج منها إلى الجنة بقدر ما تؤهله الحسنات."
ويعرض ابن حزم لمشكلة أخرى كانت مثارة من قبل عصره، وهي وحدانية ذات الله تعالى .. أله صفات منفصلة عن الذات؟ أم أن أسماء الله الحسنى هي صفاته، وكلها هي الذات الإلهية.؟!
قال ابن حزم: "وأما إطلاق لفظ الصفات لله عز وجل فمحال لا يجوز، لأن الله لم ينص في كلامه المنزل على لفظ الصفات وعلى لفظ الصفة. ولا حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله صفة أو صفات. نعم ولا جاء ذلك قط عن أحد الصحابة رضى الله عنهم، ولا عن أحد من خيار التابعين".
فهو يعتبر الألفاظ التي تدل على صفات إنما هي من أسماء الله تعالى، مثل السميع البصير القادر القدير الحكيم العليم الرحمن الرحيم إلى غير ذلك من أسماء الله الحسنى. وهذا بنص الآية:
{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ ْ} ( الأعراف ، الآية : 180 ) .
أما عن الألفاظ الموهمة للتشبيه مثل: "وجه ربك" و"يد الله" فهو يطالب من يريد أن يفهمها أن يتدبر النص القرآني في لغته، وأن يتعمق دراسة اللغة العربية، فقد نزل القرآن بلسان عربي مبين.
ومن يدرك أسرار اللغة، يفهم بالضرورة أن الله تعالى حين يتحدث عن وجهه ويده، لم يرد عضوا بعينه في الجسم المحسوس، بل أراد الذات نفسها. فعندما تقول العرب: "ما ملكت يميني مثلا" فالمعنى "ما ملكت أنا" لا ما ملكت يدي اليمنى دون يدي اليسرى.
وهكذا فسر قوله تعالى: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } (الرحمن ، الآية : 27 ) . أي يبقى ربك فهو وحده الذي لا يفني وفسر قوله تعالى: {يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}( الفتح ، الآية : 10 ) ، بقوله: "الله فوق أيديهم". وفسر:
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ َ} ( المائدة ، الآية : 64 ) بقوله: "الله ينفق كما يشاء".
ومن فهم غير ذلك فليعد دراسة أساليب العرب وآدابهم ليعرف أن للألفاظ في اللغة العربية دلالات مجازية، وهي من دلالات ظواهر الألفاظ.
إلى هذا انتهى ابن حزم في الخلاف الذي ظل مشتجرا حول الأسماء والصفات، واتهم كل من لم يوافقه، بأنه لا يعرف أساليب العرب، ولا أسرار اللغة التي نزل بها القرآن، ونصحه بأن يصنع ما صنع الليث بن سعد والشافعي: أن يخرج إلى بادية نجد أو الحجاز ليتقن اللغة، وأن يحفظ أشعار القدامى وبصفة خاصة شعر الهذليين.
فأسماء الله ليس فيها ما أسماه القرآن بالمتشابه، أي لا يعرف معناه ولا حكمه. فلا متشابه في القرآن إلا الحروف التي بدأت بها بعض السور مثل ألف لام ميم، (ألم)، وألف لام راء (ألر) وصاد (ص)، ونون (ن)، وقاف (ق) إلى غير ذلك، وإلا ما أقسم به الله تعالى: مثل "والذاريات"، و"الشمس وضحاها" و"الفجر". و"لا أقسم بهذا البلد". وليس لأحد الحق في أن يبحث في هذا المتشابه، فقد يقوده البحث إلى الزيغ والضلال.
بهذا أمرنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأتبعه الصحابة.
فإنه لا رأي فيما لم يوضحه الرسول .. وقد أمر المسلمين ألا يسألوه فيما سكت عنه، فما أهلك من قبلهم من الأمم إلى الشغب على أنبيائهم بكثرة السؤال.
قال تعالى: {فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ} ( الأنعام ، الآية 38 ) . فما مكان الرأي إذن، إلا إذا قلنا أن القرآن قد فرط في شيء!؟ .. وقال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِر} ( النساء ، الآية : 59 ) . فلا حكم إلا بما قضى به الله ورسوله، ثم أولو الأمر .. أي الإجماع.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : حج علينا عبد الله بن عمرو بن العاص فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعا , ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم , فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم , فيضلون ويضلون } .
ثم يستدل بأقوال الصحابة في النهي عن الأخذ بالرأي، ويرفض الأحاديث والأخبار التي تواترت عن الاجتهاد بالرأي، ويتهم رواتها بالضعف أو الكذب.
يذهب ابن حزم إلى أن القرآن وحده هو الأصل الوحيد للشريعة، وفيه أمر لنا باتباع الرسول. فالسنة حجة. قال تعالى يخاطب رسوله: {بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}( النحل ، الآية 44 ) فالرسول (ص) يبين القرآن، وأهل الذكر مسئولون عن بيان ما في القرآن والسنة، لما تعلموه من الرسول.
والبيان كما يقول ابن حزم: "يختلف في الوضوح، فيكون بعضه جليا، وبعضه خفيا، فيختلف الناس في فهمه، فيفهمه بعضهم بفهمه، وبعضهم يتأخر عن فهمه. كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إلا أن يؤتي رجلا فهما في دينه".
هاهو ذا يستشهد بقول الإمام علي كرم الله وجهه!
وفي الحق أن ابن حزم ما ناصب الإمام عليا العداء!...
فابن حزم قد اعتمد في بعض فقهه على أقضية للإمام علي، وفتياه، وعلى آراء لحفيده الإمام جعفر الصادق.
ولقد ذكر ابن حزم أن عمر بن الخطاب كان يستفتي علي بن أبي طالب فيما يغم عليه من الأحكام ويقول: "على أقضانا" فإذا عرضت لعمر قضية ولم يجد عليا قال: "قضية ولا أبا حسن لها" ..
وما اعتمد ابن حزم على آراء الإمام علي تكفيرا عما سلف منه، أو نفاقا للأمراء والعلماء ممن يفضلون عليا على سائر الصحابة، بل توقير للإمام علي، وعرفانا بمكانته من الرسول عليه الصلاة والسلام، وبمكانه في الإسلام، وفضله في إرساء قواعد الشريعة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
هو إذن يرى أن الأحكام كلها في القرآن، و القرآن هو الذي نص على حجية السنة إذ أمرنا باتباع الرسول، ونص على حجية الإجماع بنصه على أهل الذكر والصحابة، فإذا لم يمكن استنباط الحكم من القرآن أو السنة أو الإجماع، فلا سبيل إلا الاستصحاب وهو بقاء الحكم المبني على النص حتى يوجد دليل على نصوص تغيره. قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً} ( البقرة ، الآية : 29 ) .
وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ}( البقرة ، الآية : 36 ). وإذن فقد "أباح الله تعالى الأشياء بقوله أنها متاع لنا ثم حظر ما شاء. وكل ذلك بشرع. أي بنص..".
وقاده التزامه هذه الأصول التي خالف فيها جميع الأئمة والفقهاء إلى مخالفتهم في كثير من الفروع. فاعتبر التزام أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة يجب اتباعها، وإن لم يصطحب فعله أمر. وعاب على اتباع مالك ترك هذه السنة فقال: "اختاروا الصوم في رمضان في السفر، ورغبوا عن فعله عليه السلام في الفطر. ورغبوا عن فعله عليه السلام في التقبيل وهو صائم، وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من رغب عن ذلك أو تنزه عنه وخطب الناس ناهيا عن ذلك. وتركوا فعله عليه السلام في تطيبه في حجة الوداع وأخذوا بأمر له متقدم لو كان على ما ظنوه لكان منسوخا بفعله عليه الصلاة و السلام .. ولا يجوز أن يقال عن شيء فعله رسول الله أنه خصوصي إلا بنص في ذلك، لأنه عليه الصلاة و السلام قد غضب على من قال ذلك، وكل شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حرام.
ذلك مذكور في حديث الأنصاري الذي سأله عن قبلة الصائم فأخبره عليه السلام أنه يفعل ذلك. فقال الأنصاري: "يا رسول الله إنك لست مثلنا. قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر" فغضب عليه صلى الله عليه و سلم وقال: "والله أني لأتقاكم لله وأعلمكم بما أتى وما أذر" .. وقد روت عائشة: "أنه صلى الله عليه و سلم كان يترك الفعل وهو يحبه، خشية أن يفعله الناس فيفرض عليهم، كما فعل صلى الله عليه و سلم في قيام الليل في رمضان، قام ثم تركه خوف أن يفرض علينا. وإنما قلنا هذا لئلا يقول جاهل: أيجوز أن يترك صلى الله عليه و سلم الأفضل ويفعل الأقل فضلا؟ فأعلمناه أنه صلى الله عليه و سلم يفعل ذلك رفقا بنا .. وكذلك الشيء إذا تركه صلى الله عليه و سلم ولم ينه عنه ولا أمر به فهو مباح. وضرب مثلا لذلك: "من استمع زمارة الراعي، فلو كان حراما لما أباحه صلى الله عليه و سلم لغيره، ولو كان مستحبا لفعله صلى الله عليه و سلم " .. وكان ابن حزم يحضر مجالس الغناء في قرطبة اعتمادا على هذا.
وروي عن عائشة أنها سألت زوج بنت أختها وكانت من اجمل فتيات عصرها ألا يداعبها ويقبلها، فتحرج الفتى فقالت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وهو صائم في نهار رمضان.
وعاد اتباع مالك يغلظون له ويحاولون الإيقاع به في كل فقهه وأصوله .. وذهبوا إلى أنه يخالف إجماع أهل المدينة وإجماع أهل المدينة سنة، لأنهم نقلوا عن الرسول عليه الصلاة والسلام مئات عن مئات وآلافا عن آلاف، فهي سنة أقوى من النقل عنه عليه السلام واحدا عن واحد .. وهذا هو رأي الإمام مالك نفسه.
ولم يصبر ابن حزم على اتهامهم إياه بأنه يخالف السنة، فانقض يسفه من يقول بهذا، ويردد حجة الإمام الليث في رده على الإمام مالك أن الصحابة وفي صدورهم علم الدين والشريعة، تفرقوا في الأمصار يعلمون الناس، وملأوا المدائن، فليس لأهل المدينة امتياز عن أهل الكوفة التي أقام بها الإمام علي وعبد الله بن مسعود، ولا عن أهل مصر التي أقام بها عبد الله بن عمرو بن العاص. وغيره من الصحابة، ولا عن غيرها من أقطار الأرض التي عاش فيها صحابته .. وكان علم بعضهم أغزر من علم الذين بقوا في المدينة فضلا عن السابقة في الإسلام.
وأضاف بعد ذلك أن أهل المدينة ساروا على خلاف سنة الرسول في كثير من أمورهم، فعندما تولى عمرو بن الخطاب، أنكر على حسان بن ثابت إنشاده الشعر في المسجد، فلما قال له حسان: "قد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك"، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عمر ومضى.
فهذا يبين أنه لا حجة في قول أحد ولا في عمل بعد النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم أن ابن حزم انقض على أهل المدينة انقضاضا: "فأي برهان على أن المدينة افضل البلاد كما يقولون؟ أن مكة هي افضل البلاد بنص القرآن. ومع ذلك ففضلها لا يوجب اتباع أهلها دون غيرهم. ولا يختلف مسلمان في أنه كان في المدينة منافقون، وفيها شر الخلق. قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاق
{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }( الدخان ، الآية : 58 ) فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك .. ثم قال عن دعوى جالينوس أن لغة اليونان افضل اللغات "وهذا جهل شديد لأنه كل سامع لغة غير لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس" .. أي إما نباح كلاب أو نقيق ضفادع .. ثم استطرد: "إن الله قد كلم موسى عليه السلام بالعبرانية (وهي لغة موسى وقومه) ونزل الصحف على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا. أما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والإجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك. إلا أنه لابد من لغة يتكلمون بها ضرورة .. وقد أدعى البعض أن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة، واحتج بقول الله عز وجل
{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }..( يونس ، الآية : 10 ) .
فقلت له: قل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. ولأنهم قالوا: أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. ولأنهم قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. ثم يستطرد: " .. وقد أدى هذا الوسواس الباطل باليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية، فلا يكتبون عليهم غيرها .. وفي هذا من السخف ما ترى. وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه. عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل".
وخلال اعتكافه في تلك المدينة الصغيرة في جزيرة نائية بأقصى شرق الأندلس على مقربة من المغرب كتب رسالة في أسماء الله الحسنى، وخرج بها على فقهاء الأندلس والمغرب، فأبدوا إعجابهم بها، وعجب سائر العلماء لابن حزم هذا: لحدة طبعه وعنفه، ولعمق فكره، وجمال أسلوبه وانفجار علمه وتدفقه .. وكرر أحدهم ما قاله صديق لابن حزم من قبل "هذا الرجل أوتي العلم كله"، ولكنه لم يؤت سياسة العلم فهو يصك مخالفيه صك الجندل للوجه." ورضى هو عن زوال الجفوة بينه وبين العلماء.
واستبد به الإصرار على التفرغ للكتابة في الفقه والأصول والأدب. ولهو يفكر في أي مسائل الفقه والأصول يبدأ، إذ برسالة تأتيه من صديق في الأندلس، فهي رسالة أسعدته حقا .. فهذا الصديق مرشح لمنصب أمير على إحدى مدائن الأندلس الكبرى، وهو يطلب ابن حزم أن يكف عن الكتابة في الفقه والأصول حتى تهدأ الثورة عنه في الأندلس، وحتى يرتب له أمر عودة كريمة هادئة في المدينة التي سيصبح أميرها .. واقترح الصديق على ابن حزم أن يكتب رسالة عن النساء والرجال والحب..!
فليكتب عن العشاق فهذا أروح لنفسه، وهو بلا ريب صارف عنه غضب الأمراء وتربص الفقهاء وكيد كبار الملاك في الأندلس.
أخذ ينتقل بحرية في مدن المغرب العربي، ويستحضر ذكرياته وما مر به من تجارب، وما حفظ من أخبار.
ثم عكف يكتب رسالته عن الرجال والنساء والحب وسماها "طوق الحمامة في الألفة والآلاف". وهي، رسالة عن أحوال المحبين وعلامات الحب وما يعرض فيه من وصل وهجر، واقتراف للمعصية، وتعفف عنها ..
وعلى أن ابن حزم لم ينس في أول كتابه "طوق الحمامة" ما يصنعه به مخالفوه من الفقهاء والعلماء فقال عنهم "وأساءوا العبث في وجهي. وقذفوني بأني أعضد الباطل بحجتي، عجزا منهم عن مقاومة ما أوردته من نصر الحق وأهله، وحسدا لي".
ولقد حذر ابن حزم في صدر كتابه طوق الحمامة، أن يظن أحد به ظن السوء، فيأثم بهذا الظن .. وبعض الظن إثم ..
ثم يشكر لصديقه ورده الصحيح. "وأنا لك على أضعافه" ويحمد له مشاركته إياه في الحلو والمر والسر والجهر ويستشهد بأبيات له:
أودك ودا ليس فيه غضاضة ومالي غير الود منك إرادة
هباء، وسكان البلاد ذباب وبعض مودات الرجال سراب ولا في سواه لي إليك خطاب إذا حزته فالأرض جمعاء والورى .
ثم يقول: وكلفتني أعزك الله أن أصنف لك رسالة في صفة الحب، ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة، ولا متزيدا ولا مفننا، ولكن موردا لما يحضرني عن وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره .. والأولى بنا مع قصر أعمارنا ألا نصرفها إلا فيما نرجو به رحب المنقلب وحسن المآب غدا. ثم يستطرد كأنه يعتذر عما سيورد من أخبار العشاق فيذكر ما جاء به الآثار: "اجمعوا النفوس بشيء من الباطل ليكون عونا لها على الحق" واجمعوا النفوس أي احملوها على الاستجمام. و"من لم يحسن يتفتى لم يحسن يتقوى" ويتفى يكون فتى في مرحه .. و"اريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد".
ثم مضى يقول: إنه يكتب عما شاهده وعاينه وما حدث به الثقات من أهل زمانه خلال تجربة طويلة عرف فيها الحياة وعرف الناس.
وبكتابة "طوق الحمامة في الألفة والآلاف "وأسلوبه الذي يعتبر من أرقى أساليب النثر الفني صح أن يطلق عليه "أديب الفقهاء".
ومن عجب أن ابن حزم في كتابته عن خلجات النفس، لم يقف عند الظاهر كما ألزم نفسه في الفقه والأصول بظاهر النص، بل تعمق النفس البشرية، وزاوج بين الإسلام والفلسفة اليونانية، وأدرك خفايا الصبوات والنزعات.
ومن عجب أن ابن حزم أيضا وهو الإمام الفقيه الذي يتربص به الفقهاء من مخالفيه، قد كتب عن الحب والمحبين بعبارات لم يتحرج فيها من شيء. ولم يتحر تغطية الألفاظ التي ينبغي أن تغطى.
والأخبار التي رواها في "طوق الحمامة" مما شاهد وعاين أو سمع مع ثقات، تصور الحياة الاجتماعية في الأندلس، أصدق التصوير، وأعذبه أيضاً!
وفي طوق الحمامة فوق هذا رصد لبعض الوقائع الهامة في تاريخ الأندلس، وهي وقائع عاش في غمارها. ابن حزم .. والكتاب ينتهي بمواعظ تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتبين فضل الطاعة وقبح المعصية ..
غير أن ما يسترعي النظر في هذا الكتاب هو هذه الحياة الغربية التي كان يحياها الأثرياء من أهل الأندلس .. حتى لتكتب نساء الملوك والأمراء أشعار غزل فيمن يعشقن ولا يجدن إليهم سبيلا، وويل يومئذ للمعشوق إن عرفه أهل العاشقة!!
ومن عجائب الحب في ذلك العصر أن بعض قواد الجيش بذلوا حياتهم لا في ميادين المعارك مستشهدين، ولكن في مخادع نساء فروا إليهن بعد الهزيمة، فاكتشفهم العدو المنتصر فقتلهم وسبا النساء!!
وكتاب طوق الحمامة ظاهرة فريدة في تاريخ الأدب، فما كتب أحد من فقهاء أو علماء الإسلام كتابا أو فصلا أو مقالا في الحب بمثل هذه الروعة أو الصراحة، ولا بمثل هذا العمق في تحليل النفس.
وقد أراد ابن حزم أن يقول في هذا الكتاب أن علاقة الرجال بالنساء علاقات إنسانية، وضرورة من ضرورات الطبيعة، وفطرة، فما ينبغي أن يحجم العلماء والفقهاء عن تناولها، وإنما عليهم أن يبصروا بها الرجال والنساء، وما يحل لهم أو يحرم عليهم هذه العلاقة .. وهو يكرر القول أن الجد لا يصح إلا بشيء من المرح، فيجب ألا يعزف أحد عن المرح، فالمرح هو الذي يقوي النفس على مواجهة جد الأمور، وليس ثقل الظل من الدين في شيء، وقد كان الرسول يمزح، وكذلك الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وبدأ ابن حزم رسالته طوق الحمامة بالكلام في ماهية الحب بقوله: "الحب ـ عزك الله ـ أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا محظورا في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل "وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير" وذكر بعض أسماء الخلفاء العشاق في الأندلس .. واستطرد: "ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة ـ وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم، فلا ينبغي الإخبار به عنهم ـ لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل. ولكنه تحدث عن حب الصالحين، ومنهم أحد فقهاء المدينة السبعة.وذكر أن المحبة ضروب فأفضلها المتحابون في الله عز وجل، ثم محبة القرابة، ومحبة الألفة، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر، ومحبة العشق الصحيح الممكن من النفس الذي لا فناء له إلا بالموت: "وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه وذا السن المتناهية، إذا ذكرته تذكر وارتاح وصبا، واعتاده الطرب واهتاج له الحنين".
وعرف محبة العشق بأنها "استحسان روحاني وامتزاج نفساني .. وإنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة، واتفاق في الصفات الطبيعية، وكلما كثرت الأشباه، زادت المجانسة وتأكدت المودة.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف)
وقول روي عن أحد الصالحين: (أرواح المؤمنين تتعارف). ولهذا اغتم بقراط حين وصف له رجل من أهل النقصان بحبه فقيل له في ذلك فقال: "ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه". ويمضي في الحديث عن "العلة التي توقع الحب" فيقول: "الظاهر أن النفس حسنة تولع بكل شيء حسن وتميل إليه، وتميل إلى التصاوير المتقنة .. فإن ميزت وراءها شيئا اتصلت وصحت المحبة الحقيقية. وإن لم تميز وراءها شيئا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة وذلك هو الشهوة".
ثم يمضي في رسالته فيرسم ظاهر المجتمع الأندلسي وأعماقه، ويعلل تعلق الإنسان بشكل معين فيروي عن نفسه أنه أحب شقراء في صباه فظل يحب الشقراوات وهكذا كان أبوه، وعلى هذا سار الخلفاء والكبراء في الأندلس. ويكتب عن حب الفقهاء، وما فيه من طرائف .. ثم يصور ألوانا من الفحشاء يستعيذ بالله من شيوعها في قصور الكبراء والأثرياء، وفي الخمائل المتناثرة بالمدن الكبرى في الأندلس.
وكأن شيئا لم يكن يشغل الفئة الاجتماعية التي تحرك في إطارها ابن حزم إلا العشق والعلاقات الشاذة!.
ويعلل ابن حزم مظاهر الفساد التي غشت المجتمع الأندلسي. باختلاط الرجال والنساء بلا قيود، وإظهار النساء زينتهن وهن يعرضن للرجال، وفراغ بال النساء، فلا شيء يشغل المرأة الغنية في الأندلس على الإطلاق .. حتى أعمال المنزل كن لا يقمن بها فلديهن الجواري أو الصبيان!
وهو إذ يسوق أخبار الفحشاء في رسالته يستخلص منها العبرة، ويسوق النصيحة إلى الرجال القوامين على النساء، أن يسدوا أمامهن ذرائع المعصية. من البطالة وحضور مجالس السمر والانفراد بالرجال. ويقول في ذلك إن المرأة الصالحة إذا سدت أمامها ذرائع الفساد ظلت على صلاحها، أما الفاسدة فإذا سدت أمامها الذرائع تحايلت عليها لتمارس الفساد.!
وعلى الرغم من صور الفساد التي رسمها، فقد صور مظاهر العفة أيضا: كيف تصون فتاة نفسها على الرغم من الإغراء، وكيف يعف فتى تراوده امرأة ذات جاه وجمال وسلطة ونفوذ، ستؤذيه إن لم يطاوعها فيما تريد منه..!
وهو يروي ما شاهده من طرائف المحبين فقد شاهد فتاة في أحد المتنزهات تتبع فتى وتطارده وهو لا يكلمها .. حتى إذا غاب عنها انكفأت تقبل مواقع قدميه، والأرض التي مشى عليها..!
وكانت كل هذه المرائي وغيرها من ألوان المعاصي التي جهر بها الناس تثير سخط ابن حزم، وتستدعي همته لمقاومة الفساد بدءا بما شاهده في قصور العلية حيث كانت تضطرب حياته، إلى المتنزهات العامة حيث يتعاطى سائر الناس فنون العشق الحرام؟
وأنهى ابن حزم رسالته بإعلان سخطه على صور الفساد التي ساقها والتي ذكر أسماء بعض أبطالها وكتم البعض، وعلى صور أخرى أشار إليها ولم يكتب عنها لشدة فحشها كما يقول!
وفي أخر الرسالة كتب فصلا عن جزاء أهل الفساد وما ينتظرهم في الآخرة، وما يجب أن يعاقبوا به في الدنيا من نفي وجلد ورجم حتى الموت، وتحريق بيوتهم وأجسادهم. ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وهذا هو واجب المسلم، فإن لم ينهض به أثم.!
على أن هذا الوعظ كله لم يشفع لابن حزم، فقد هاجمه كثير من الفقهاء عندما ظهر كتابه "طوق الحمامة في الألفة والآلاف" واتهموه أنه يحرض الشباب على المنكرات وعلى الفجور، وأنه بما ساق من أخبار يرسم لهم ويسهل عليهم اقتراف المنكرات! (واتهموه بأنه يهدر هيبة الفقهاء بما ذكر عن صور فسق بعضهم .. وهم أفراد منبوذون لم يعد أحد يسلكهم في زمرة الفقهاء.
لقد كتب عن فسق من كان عليه مدار الفتيا في قرطبة. أي مفتيها الأكبر .. وهو فقيه أسقطه فسقه وتبرأ منه الفقهاء والطلاب، وما ذكر ابن حزم ما كان من هذا الفقيه وأمثاله، إلا تشهيرا بالفقهاء كافة، وتحريضا للعامة على إهانتهم والازدراء بهم!!.
لم يكن الفقهاء المنحدرون من أصول عربية هم وحدهم الذين سخطوا على كتابه طوق الحمامة، بل أنكره البربر أيضا .. ذلك أنه قال عنهم: "في بلاد البربر التي تجاور أندلسنا يتعهد الفاسق على أنه إذا قضى وطره بمن أراد، أن يتوب إلى الله، فلا يمنع من ذلك. وينكرون على من تعرض له بكلمة (ليمنعه من المعصية) ويقولون له أتحرم رجلا مسلما من التوبة؟! لم يتقبل البربر هذه السخرية منهم، وكانوا يحكمون بعض إمارات الأندلس، ومنهم قواد لعسكر إمارات أخرى، فتوعدوا ابن حزم ...
ما باله وما بال قومه من عرب وبربر ممن يعيشون في الأندلس؟! إن هو كتب في الفقه كفروه، فإن كتب في الحب ارجفوا عليه وشهروا به وتوعدوه!! فيما عساه يكتب بعد؟ وإذن فليترك الحديث على الرجال والنساء، والحب، والفقه، والأصول! فليكتب في السياسة، وفي التاريخ ..
ونشر رأيه في الخلافة بعيدا عن شبهات الكتابة في الحب وأحواله والفقه وأصوله. اشترط أن يكون الخليفة قرشيا، ورجلا، وعاقلا، وعالما بشئون الحكم، وصالحا، لكي تصح له الخلافة أو الإمامة .. وقرر أن الخلافة ليست وراثية: "لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه لا يجوز التوارث فيها .. ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ .. ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة".
أما طريقة تولي الخلافة فهي أحد طرائق ثلاث: إما أن يعهد الإمام قبل وفاته إلى واحد يختاره إماما من بعده، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما فعل أبو بكر .. فتتم البيعة على الخليفة المختار.
وإما أن يعهد الخليفة الحي لرجال ثقات، أن يختاروا من بينهم واحدا، ثم تتم عليه البيعة، كما فعل عمر، إذ عهد إلى ستة من الصحابة، مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، لينتخبوا من بينهم رجلا.
وإما أن يتقدم رجل صالح كفء، يرى نفسه أهلا للخلافة، فيدعو إلى نفسه، ويبايعه الناس، فيجب اتباعه ومن يخرج عليه فهو من أهل البغي .. كما قال علي ابن أبي طالب فدعا لنفسه وبايعه الناس، فوجب اتباعه ..
وعلى أية حال فيجب ألا يبقى المسلمون أكثر من ليلتين بلا إمام. بهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تصح الخلافة إلا بالبيعة الحرة.
وتناول ابن حزم موقف علي ومعاوية .. ثم أقدار الصحابة من الخلفاء الراشدين، والمفاضلة بينهم. وحسب رأيه كان يجب على معاوية اتباع علي، وعدم اتباعه بغي عليه، فمعاوية ومن معه إذن من أهل البغي ..!
ولكن ابن حزم لم يدن معاوية بالبغي على الإمام علي كما قضى بذلك الأئمة الذين تعرضوا لهذا الأمر من قبل، فاتخذوا أحكام البغاة من سلوك علي مع معاوية وجنده، واعتبروا علي بن أبي طالب، أول من ابتلى بأهل البغي، فما صنعه معهم أحكام يجب اتباعها شرعا .. بهذا أفتى الإمام الشافعي والإمام احمد بن حنبل ومن تابعهما.
لم يدن ابن حزم معاوية! ذلك أنه أموي بالولاء كما قلنا، متعصب لهذا الانتماء .. وهو مع ذلك لم يؤيده في الخروج ورفض البيعة للإمام علي. وفي رأي ابن حزم أن واقعة الجمل التي حارب فيها معاوية عليا، لم تكن حربا حقا، فلم يجتمع معاوية ومؤيدوه للحرب، بل اجتمعوا للتشاور. وكان الجند كثيفا في معسكر علي ومعسكر معاوية .. وتجادل الجند، فاشتبكوا دون أن يريدوا اقتتالا ..!
أما أهل صفين فقد أرادوا القتال حقا. وابن حزم لا يعفيهم من البغي، ولا يدينهم به، وإنما يترك أمرهم إلى الله تعالى.!
ويقوم ابن حزم مكانة علي بين الخلفاء الراشدين، فيجعله أخرهم مكانة. ويتحدث عن أهل البيت الذين وردت فيهم الآية فيستثنى منهم علي بن أبي طالب، ويفسر الآية بأنها تعني نساء النبي، ويفضل عليهن عائشة .. يفضلها عن خديجة وفاطمة الزهراء رضي الله عنهن جميعا. ويذهب إلى أن عائشة هي سيدة نساء أهل الجنة ..
ولم يكد ابن حزم ينشر هذه الآراء حتى زلزلت الأرض من تحته زلزالا عنيفا .. ذلك أن أبناء فاطمة كانوا قد أسسوا دولة إسلامية ضخمة، لتعيد الإسلام إلى عصوره الزاهرة، وهي دولة أسمها الدولة الفاطمية، أسسها الفاطميون في المغرب، ثم زحفوا إلى مصر فملكوها، وأنشأوا مدينة القاهرة، والأزهر الذي عمر منذ إنشائه بالشيوخ والطلاب، وارتفعت منارات القاهرة تضيء لما حولها، بعد أن خبت منائر بغداد وقرطبة .. وأصبح الأزهر بجهد علمائه وشيوخه وطلابه قلعة الإسلام في إحياء السنة، ومحاربة البدع، ونشر علوم الدين واللغة وآدابها، وسائر المعارف الإنسانية، وتفجر منه علم عزيز، عم الدنيا، وتوهجت فيه شعلة الفكر تحرق أسمال الجمود والتخلف، وتنير أطباق الظلمات المتراكمات، وتملأ العقول بوهج خالد من الإيمان والثقافة، وأصبح حصنا للدين واللغة والمعرفة.
إن الذين يحبون ويشايعون علي بن أبي طالب وبنيه قد أصبحوا، يقودون مصر والمغرب العربي والأندلس، وكثيرا من أقطار الإسلام! ثم أن الشيعة وأهل السنة على السواء لا يقبلون ما قاله ابن حزم عن الإمام والباغين عليه، وعن الطاهرة خديجة، وفاطمة الزهراء التي قامت دولة بأسرها تنتسب إليها .. والأندلسيون بصفة خاصة لم يعودوا يحملون للأمويين، ما حملوه من تقدير وحب، أيام الخلفاء العظام، بل لقد شيعوا الأمويين باللعنات، حين سقطت دولتهم، لكثرة ما عانوا من مظالم في نهايتها، وما عاينوا من فساد، ولأن الأمراء الأمويين في أواخر عهد الدولة الأموية، خرجوا عن تقاليد السلف الصالح بالأندلس، وأهدروا الإسلام وأسقطوا هيبة الخلافة، وانشغلوا بالترف، والصراع، واللهو .. ومنهم من أذل العلماء وأهل الفكر والفقه، ليسود الندامى والجواري والغلمان، ومنهم من نزل لأمراء الفرنجة عن بعض أرض المسلمين، ودفع لهم الجزية، واستعانهم على بني عمومته .. وتركهم يجوسون خلال الديار ينتهكون ويغتصبون ويقتلون!!
ولئن كان من الناس من سكت عن ابن حزم حين أفتى بما خالف كل أصحاب المذاهب من الأئمة السابقين، وحين شوه بعض الفقهاء والعلماء وأدانهم بالفسق، وذكر عنهم أخبارا مهينة .. لئن كان من الناس من سكت عن ابن حزم وهو يصنع هذا كله واكتفى بمجافاته والغضب منه، إن الناس الآن لا يستطيعون السكوت بعد، وهو يناصب علي بن أبي طالب العداء ...
ثار عليهم الناس جميعا، واتهموه بأنه "ناصبي" قد ناصب علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء العداء! فلا مقام له بعد في هذا الطرف من أطراف الأندلس.
أما في الأندلس فهم ينتظرونه لينزلوا به العقاب .. عسى أن يشفي العقاب صدور قوم موغرين! وهكذا وجد نفسه قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلا هو يستطيع البقاء بالقرب من المغرب، ولا هو يجسر على العودة إلى المدن الكبرى في الأندلس.!!
غير أن صديقه الذي كان مرشحا لتولي إمارة إحدى الإمارات، قد أصبح اليوم أميرا على "ميورقة" إحدى جزر الأندلس ...
ودعاه صديقه ليقيم في الجزيرة الجميلة الهادئة. وكان الأمير الجديد ذا مكانة في الدولة، فوعد ابن حزم بالحماية .. وشرط عليه ألا يشتغل بالسياسة، وألا يكتب ما يثير الناس، وأن يتفرغ للكتابة في الدين .. فهو مهما تكن مشاكل الكتابة فيه، أقل هما من الكتابة في السياسة.
إن هذا هو ما يريده ابن حزم على التحقيق: السكينة، والملجأ الأمين، في مكان هادئ جديد، بجوار صديق كريم، والعودة إلى الكتابة في الفقه والأصول.
ولقد أنضجته التجارب والمحن والقراءات والتأملات .. وأن له أن يصوغ منهجه وآراءه الفقهية المتناثرة في مجلدات متكاملة.
وسافر إلى "ميورقة" ليقيم في أطيب حال، في ظل ظليل من حماية أميرها ومودته .. وكان الأمير قد أعد قصرا فاخرا لابن حزم، وخزانة كتب جمع فيها كل ما يطيب لفقيه أديب كابن حزم..
وكما يعتكف العابد في المحراب، اعتكف ابن حزم في داره، لا يخرج منها إلا لحظات لصلاة الجمعة، أو للسمر مع صديقه الأمير، فيدراسه فيما اهتدى إليه من آراء وأفكار.
لقد خرج ابن حزم من كل ما مر به بعبرة جعلها دستورا لما تبقى من حياته: "ليس في العالم منذ كان إلى أن يتناهى، أحد يستحسن الهم، ولا يريد إلا طرحه عن نفسه، فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي ذلك السر العجيب وأنار الله لفكري هذا الكنز العظيم بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفسي فلم أجدها إلا في التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة".
علمته الأيام في تداولها بين الناس أن "لذة العالم بعمله، ولذة الحكيم بحكمته، ولذة المجتهد لله عز وجل، أعظم من كل لذة في الحياة الدنيا .. وإن فليمنح هو ما بقى له من العمر للذات العليا: العلم والحكمة والاجتهاد لله.
وأنه ليعرف فيما عرف من العجائب "أن الفضائل مستحسنة مستثقلة، والرذائل مستقبحة ومستحبة" .. فليكن إذن من النفر القلائل الذي يناضلون من أجل الفضائل مهما تكن مستثقلة، لكم صقلته السنوات!
فهاهو ذا ينصح من يلتمس عنده حسن النصيحة: "احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفظ من أن توصف بالدهاء، فيكثر المتحفظون منك حتى ربما أضر ذلك بك، وربما قتلك" .. ويقدم نصيحة أخرى: "إياك ومخالفة الجليس، ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك وأخراك وإن قل، فأنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة. وربما أدى ذلك إلى الضرر العظيم دون منفعة أصلا. وأن لم يكن لابد من إغضاب الناس أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق أو منافرة الخالق، فاغضب الناس ونافرهم ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق".
واعتذر للناس كافة عن حدته في الكتابة والجدل بمرض أصابه ولزمه، فبدل خلقه من دعة إلى عنف: "لقد أصابتني علة شديدة ولدت ربوا في الطحال شديدا، فولد ذلك على من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر، والنزق .. واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي. وصح عندي أن الطحال موضع الفرح وإذا فسد تولد ضده" .. ولكنه مع ذلك لم ينكر أن مصاولة المخالفين هي التي حفزته إلى كثرة القراءة وإمعان النظر، وقدحت ذهنه، فاندلعت منه الأفكار.
وما أعجب ما مر به في حياته المضطربة من أحوال الناس!..
وإنه في تلك الجزيرة الهادئة من جزر الأندلس، ليشعر بالطمأنينة والسكينة، وبالراحة، والأمن، في ظل جسارة صديق يتحدى الخطر .. إنه في إعجابه العميق بمروءة صديقه هذا الذي يحميه ويكرمه متفضلا عليه لا رادا لجميل سابق أو لسالف عارفة .. أنه في مكانه هذا ليذكر صديقا آخر في الزمن البعيد، كان كاتبا، ونمت بينهما المودة والمحبة وهما في السنوات الخضر من أول العمر .. ما أبعد الفرق بين الصديقين ..!
كتب ابن حزم عن ذلك الصديق القديم: "كان متصلا بي ومنقطعا إلى أيام وزارة أبي رحمة الله عليه، فلما وقع بقرطبة ما وقع، وتغيرت أحوالي، خرج إلى بعض النواحي، فاتصل بصاحبها وعرض جاهه. وحدثت له وجاهة وحالة حسنة. فحللت أنا تلك الناحية في بعض رحلتي، فلم يوفني حقي، بل ثقل عليه مكاني، وأساء معاملتي وصحبتي، وكلفته في خلال ذلك حاجة لم يقم فيها ولا قعد واشتغل عنها بما ليس مثل شغله .. فما كلفته حاجة بعدها..".
مهما يكن من الصعاب التي مرت به، فهاهو ذا الآن في لين من العيش لا ينقصه إلا أن يكتب، وينشغل بالعلم، والحكمة، والاجتهاد لله عز وجل .. وكل ما حوله من راحة ومتاع، ودعة، وطيب العيش، وجمال الطبيعة، وصباحة الوجوه، ودفء المودة .. كل ما حوله يعينه على ما يريد من تفرغ للكتابة..
على أنه لم يلبث غير قليل من معتكفه الرائع. ذلك، حتى أخرجه الناس منه، ليتلقوا عنه، وذهب إليه بعض العلماء ليناظروه .. لقد وجد في ميورقة تلاميذ واتباعا معجبين به على الرغم من كل ما يثار حوله .. ولقد ناظره أحد الفقهاء يوما فلما ظهر عليه ابن حزم قال الفقيه: "تعذرني، فإن أكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس" (جمع سراج). فقال ابن حزم "وتعذرني، فإن أكثر مطالعاتي كانت على منابر الذهب والفضة".
وامتدت عليه حماية صديقه أمير ميورقة إلى حيث أراد أن ينتقل من أرض الأندلس فذهب إلى بعض المدائن المجاورة يناظر ويعلم، ثم ذهب إلى قرطبة نفسها، في موكب من الأتباع، والدواب تحمل كتبه حيثما أنتقل.
وعاد إلى ميورقة ليعتكف من جديد .. ولقد لقي أحد الفقهاء في بعض رحلته، فتناظرا أمام الناس، وحين انتصر ابن حزم في المناظرة قال له الفقيه: "أنا أعظم منك همة في العلم، لأنك إنما طلبته وأنت معان عليه فتسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل السوق". فرد ابن حزم: "هذا الكلام عليك لا لك لأنك إنما طلبت العلم وأنت في هذه الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حال ما تعلمه وما ذكرته فلم أرجو به إلا علو القدر في الدنيا والآخرة." وعنى ابن حزم في تلك الفترة بصقل آرائه وأفكاره وصياغتها في الصورة التي سيتركها من بعده للتاريخ.
واتخذ لنفسه منهجا عقليا خالصا تأثر فيه بالإمام جعفر الصادق على الرغم من انتمائه وولائه الأموي. فأعتمد كما اختط الإمام الصادق جعفر بن محمد على الاستقرار والتجربة، وبصفة خاصة في دراسته عن الأخلاق التي ضمنها رسالة صغيرة عرفت باسم حكم ابن حزم أو مداواة النفوس. ولا ريب أنه أفاد من تراث الفكر المصري القديم، والفكر الفارسي والهندي، واليوناني، وكانت كل تلك الآثار قد ترجمت إلى العربية منذ أجيال .. ولم يعتمد على إلمامه بالفكر الإنساني فحسب، بل على فهمه لأحوال المجتمعات التي عاش فيها، وعلى تجاربه وحسن معرفته بالناس والحياة.
ومن هذا التجاريب والدراسات والمعارف استقرأ آراءه في الأخلاق. فهو يرى أن هدف النشاط الإنساني هو دفع الهم والحصول على اللذة، وهي عنده لذة الروح.
ويرى في الفضيلة رأي أرسطو ويقول: "الفضيلة وسط بين الإفراط والتفريط، وكلا الطرفين مذموم، والفضيلة بينهما .. حاشا العقل فإنه لا إفراط فيه ..
وهو يرى رأيا قريبا من رأي أفلاطون في أصول الفضائل وأصول الرذائل: "أصول الفضائل أربعة، عنها تتركب كل فضيلة وهي العدل والفهم والنجدة والجود.
وأصول الرذائل كلها أربعة عنها تتركب كل رذيلة، وهي اضداد الذي ذكرنا، وهي الجور، والجهل، والجبن، والشح، والعفة والأمانة نوعان من أنواع العدل والجود.
وأفلاطون يرى أن أصول الفضائل هي: المعرفة (وهي الفهم عند ابن حزم)، والعفة، والعدل. وابن حزم يضع السخاء أو الجود مكان العفة. ذلك أنه يرى أن العفة التي جعلها أفلاطون أصلا من أصول الفضائل، إنما تدخل في العدل والجود.
وابن حزم يدعو العلماء والفقهاء إلى التفقه في العلوم الإنسانية .. تأثر بالإمام الصادق الذي مارس الكيمياء وأسس قواعدها، وربى تلميذه جابر بن حيان على إتقان الكيمياء وأنشأ له معملا، وظل يرعاه حتى ترك جابر بن حيان في الكيمياء تراثا شارك في صنع التقدم الإنساني كله عبر العصور.
قال ابن حزم: "كشف العلوم النافعة يزيد العقل جودة ويعفيه من كل آفة، ويهلك ذا العقل الضعيف".
وهو في رسالته عن الأخلاق يضع ضوابط للخير والشر، وينتهي إلى أن الدين ضرورة الجماعات البشرية، فهو الذي يحميها وينشر فيها الثقة بين الأفراد ويعمها بالفضائل، ويجمعها على الحب والخير والحق.
وهو لا يخص الإسلام وحده بذلك، بل كل دين سماوي. قال: "ثق بالمتدين ولو كان على غير دينك. ولا تثق بالمستخف وأن أظهر أنه على دينك ومن استخف بحرمات الله تعالى فلا تأمنه على شيء تشفق عليه".
فهذا الفقيه الذي كان يتعصب لآرائه حتى ليصف نفسه بالنزق، والذي اشتد على بعض اليهود والنصارى الذين هاجموا الإسلام، وأخرجهم من ذمة الله ورسوله لتهجمهم على ما أوحي به الله إلى رسوله .. هذا الفقيه نفسه يطالب المسلمين ألا يثقوا بمسلم غير متدين، وألا يأتمنوه على شيء، ويدعوهم إلى الثقة بالمتدينين من اليهود والمسيحيين، وإلى أئتمانهم على كل ما هو غال وعزيز على المسلمين.!
وذلك أنه يرى الدين أساس الفضيلة، كل الديانات السماوية دعوة إلى الصدق، والإخلاص، والمحبة، والكرم، والمروءة وسائر الفضائل .. وأن كل دين سماوي إنما جاء مكملا لما قبله، حتى بعث الله خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم متمما لمكارم الأخلاق .. فالمتدين من اليهود والنصارى أدنى بها إلى مبادئ الإسلام وإلى الله تعالى من المسلم غير المتدين..!
ومكارم الأخلاق التي جاء بها القرآن مصدقا لما بين أيديهم من التوراة والإنجيل، يمكن التعرف عليها بالعقل.
المسلمون مأمورون بالتدبر، والتفكر، وإعمال العقول لمعرفة الخير والشر، والفضائل والرذائل .. على هذا نص القرآن الكريم والسنة الشريفة. فإذا أعمل الناس عقولهم اهتدوا إلى سواء السبيل .. قال تعالى عن الضالين:
{ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } ( الملك ، الآية : 10 ) .
وإذن فوظيفة العقل عنده هي هداية صاحبه إلى الخير والفضائل. أما الذين يشحذون عقولهم لاجتلاب المنافع، غير مبالين بالفضيلة فهؤلاء ليسوا هم أصحاب العقل، بل هم أصحاب الدهاء، فالعقل لا يقود إلا إلى الحق والخير..
وهو نفسه قد آثر العلم على جميع اللذات، وترك جمع المال إلى هموم العلم، وكان قادرا لو اهتم بجمع المال على أن يكون من أغنى أغنياء عصره. ولكن تصاريف الزمان علمته أن المال، واللذة الحسية، وكل فنون المتاع إنما هي عرض زائل، ولا يبقى إلا الحكمة والعلم. "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا." ويقول: "للعلم حصة في كل فضيلة، وللجهل حصة في كل رذيلة..".
ورأى ابن حزم. أهل زمانه يستخفون بمن يصرف جهده عن الاستزادة من المال ليستزيد من العلم والحكمة فيقول في هذا: "ترك المبالاة بكلام الناس والمبالاة بكلام الخالق عز وجل هو العقل كله، والراحة كلها. من قرر أن يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. ومن حقق النظر وراضى نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمته في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه. لأن مدحهم إن كان بحق وبلغة سرى فيه العجب، فأفسد بذلك فضائله، وإن كان بباطل فسره، فقد صار مسرورا تجنبه ما يعاب عليه، وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص، وأن كان بباطل فصبر، اكتسب فضلا زائدا بالحلم والصبر..".
وهو يرى من حسن الأخلاق أن يثبت الإنسان على الفكرة والعمل ما اقتنع بأنه على حق، فإذا اكتشف أنه على الباطل، فالثبات لجاج، وهو مذموم ...
ثم ينتهي ابن حزم في حديثه عن الأخلاق إلى أن خير ما يفعله المسلم ليستقيم له الخلق الفاضل، هو التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا الله بهذا: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ}( الأحزاب ، الآية : 21 ) ثم أن الله تعالى وصفه بقوله: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }( القلم ، الآية : 4 ) .
ويقول ابن حزم عن القواعد والضوابط التي وضعها للأخلاق أنه "أفاد فيها" مما منحني الله تعالى من العلم بتصاريف الزمان والأشراف على أحواله، حتى أنفقت في ذلك أكثر عمري، وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له، والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل إليها أكثر النفوس، وعلى الازدياد من فضول المال."
ويرى ابن حزم أن الإنسان عنده علم البديهة وهو علم النفس .. فالطفل يدرك بالبديهة أن الجزء أقل من الكل، وأن المكان الواحد لا يشغله جسمان في وقت واحد فهو يتنازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه. علما منه بأن هذا المكان لا يسعه مع غيره، وهو يدرك أنه لا يجتمع الأمران، المتضادان، فأنت إذا وقفته بغير إرادته بكى .. حتى إذا تخلص عاد إلى القعود. وإذا كبر الطفل أدرك أن الأخبار عما هو غائب لا يصح أن تتعارض، فإذا تعارضت شك في الجميع أو ألغاها .. وهكذا يعرف الإنسان أخبار الأنبياء ووقائع التاريخ، فإذا كبر عقله استطاع أن يعرف الصادق من المنقول عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وبذلك يتحقق أن علم العقل أساس لعلم النقل .. وابتعاد الخبر مدعاة لخطأ، كالأعداد في الحساب كلما كثرت الأعداد زادت مظنة الخطأ في أجزاء العمليات والمعادلات الحسابية والجبرية عليها.
ويضيف أن هذا ليس هو سبب الخطأ فقط، بل عوامل أخرى تفسد النقل وهي الشهوة والانحياز. على أن العقل يظل قادرا على التمييز أبدا.
وهو يؤمن بكل ما جاءت به النصوص، معملا العقل في تفسيرها بظاهرها. فإذا كانت النصوص قد أجمعت على أن الله هو خالق كل شيء فلا أحد يخلق فعلا من الأفعال، وإلا كان شريكا الله تعالى في الخلق، ولكنه يناقش هذا النظر ويقول أن الأخذ به يسقط التكليف، فلا حيلة للإنسان إذن والله يخلق أعماله، ولا إرادة للإنسان ولا اختيار، ولكنه الجبر قطعا.
ويصحح هذا الفهم بقوله أن الله خلق في العبد الاستطاعة والاختيار فهو يختار ما يفعله وما يستطيعه. وبذلك يكلف الله العباد ويحاسبهم على أعمالهم.
ثم يتحدث عن الاجتهاد بالرأي فيذهب إلى أنه ليس من الشريعة. لأن الله لم يفرط في الكتاب من شيء..
فلا مجال للرأي إذن لأن كل الأحكام واردة في نصوص القرآن والسنة أو إجماع الصحابة فإن لم يوجد فيها الحكم فقد نص القرآن على إباحة ما لم يحرمه الله فيكون الحكم في كل واقعة حيث لا نص هو الإباحة أو استصحاب الحال بحكم النص القرآني: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً} ( البقرة ، الآية : 29 ) .
على هذه الأصول يستنبط كل الأحكام الخاصة بالعقيدة وبالمعاملات، أي بالدين وبالشريعة .. وهو القضايا الفكرية التي تتعلق بالعقيدة يمتحن النصوص والإجماع فيجد فيها إجابة عن كل سؤال.
فقد زعم الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر مآله إلى النار.
وقالت المعتزلة أنه في منزلة بين المنزلتين فلا هو كافر ولا هو مؤمن. وذهب بعض أهل السنة إلى أنه ليس مؤمنا، ولكنه مسلم لم يخرج عن الإسلام إلى الكفر بل خرج عن الإيمان إلى الفسوق .. وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان.
وذهب آخرون إلى أن الحكم عليه يرجأ إلى يوم القيامة، فإن شاء الله أخذه بالكبيرة وأن شاء الله عفا عنه، وهؤلاء هم المرجئة.
أما ابن حزم فقد استنبط حكمه من النصوص، وأفتى في مرتكب الكبيرة بفتوى بعض أهل السنة: "فمن تاب بعد ارتكابه الكبيرة غفر الله له والله غفور رحيم" أما من قبل التوبة النصوح، فإن رجحت حسناته سقطت كبائره لأن للحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإلى أكثر من ذلك أضعافا مضاعفة .. هذا هو نص القرآن الكريم .. فإذا استوت حسناته مع سيئاته فهو على الأعراف ينتظر الجنة، وعلى الأعراف رجال ينتظرون، ثم يدخلون الجنة آخر الأمر، أما أن زادت سيئاته على حسناته فإلى النار. غير مخلد فيها أبدا، بل يخرج منها إلى الجنة بقدر ما تؤهله الحسنات."
ويعرض ابن حزم لمشكلة أخرى كانت مثارة من قبل عصره، وهي وحدانية ذات الله تعالى .. أله صفات منفصلة عن الذات؟ أم أن أسماء الله الحسنى هي صفاته، وكلها هي الذات الإلهية.؟!
قال ابن حزم: "وأما إطلاق لفظ الصفات لله عز وجل فمحال لا يجوز، لأن الله لم ينص في كلامه المنزل على لفظ الصفات وعلى لفظ الصفة. ولا حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله صفة أو صفات. نعم ولا جاء ذلك قط عن أحد الصحابة رضى الله عنهم، ولا عن أحد من خيار التابعين".
فهو يعتبر الألفاظ التي تدل على صفات إنما هي من أسماء الله تعالى، مثل السميع البصير القادر القدير الحكيم العليم الرحمن الرحيم إلى غير ذلك من أسماء الله الحسنى. وهذا بنص الآية:
{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ ْ} ( الأعراف ، الآية : 180 ) .
أما عن الألفاظ الموهمة للتشبيه مثل: "وجه ربك" و"يد الله" فهو يطالب من يريد أن يفهمها أن يتدبر النص القرآني في لغته، وأن يتعمق دراسة اللغة العربية، فقد نزل القرآن بلسان عربي مبين.
ومن يدرك أسرار اللغة، يفهم بالضرورة أن الله تعالى حين يتحدث عن وجهه ويده، لم يرد عضوا بعينه في الجسم المحسوس، بل أراد الذات نفسها. فعندما تقول العرب: "ما ملكت يميني مثلا" فالمعنى "ما ملكت أنا" لا ما ملكت يدي اليمنى دون يدي اليسرى.
وهكذا فسر قوله تعالى: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } (الرحمن ، الآية : 27 ) . أي يبقى ربك فهو وحده الذي لا يفني وفسر قوله تعالى: {يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}( الفتح ، الآية : 10 ) ، بقوله: "الله فوق أيديهم". وفسر:
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ َ} ( المائدة ، الآية : 64 ) بقوله: "الله ينفق كما يشاء".
ومن فهم غير ذلك فليعد دراسة أساليب العرب وآدابهم ليعرف أن للألفاظ في اللغة العربية دلالات مجازية، وهي من دلالات ظواهر الألفاظ.
إلى هذا انتهى ابن حزم في الخلاف الذي ظل مشتجرا حول الأسماء والصفات، واتهم كل من لم يوافقه، بأنه لا يعرف أساليب العرب، ولا أسرار اللغة التي نزل بها القرآن، ونصحه بأن يصنع ما صنع الليث بن سعد والشافعي: أن يخرج إلى بادية نجد أو الحجاز ليتقن اللغة، وأن يحفظ أشعار القدامى وبصفة خاصة شعر الهذليين.
فأسماء الله ليس فيها ما أسماه القرآن بالمتشابه، أي لا يعرف معناه ولا حكمه. فلا متشابه في القرآن إلا الحروف التي بدأت بها بعض السور مثل ألف لام ميم، (ألم)، وألف لام راء (ألر) وصاد (ص)، ونون (ن)، وقاف (ق) إلى غير ذلك، وإلا ما أقسم به الله تعالى: مثل "والذاريات"، و"الشمس وضحاها" و"الفجر". و"لا أقسم بهذا البلد". وليس لأحد الحق في أن يبحث في هذا المتشابه، فقد يقوده البحث إلى الزيغ والضلال.
بهذا أمرنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأتبعه الصحابة.
فإنه لا رأي فيما لم يوضحه الرسول .. وقد أمر المسلمين ألا يسألوه فيما سكت عنه، فما أهلك من قبلهم من الأمم إلى الشغب على أنبيائهم بكثرة السؤال.
قال تعالى: {فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ} ( الأنعام ، الآية 38 ) . فما مكان الرأي إذن، إلا إذا قلنا أن القرآن قد فرط في شيء!؟ .. وقال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِر} ( النساء ، الآية : 59 ) . فلا حكم إلا بما قضى به الله ورسوله، ثم أولو الأمر .. أي الإجماع.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : حج علينا عبد الله بن عمرو بن العاص فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعا , ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم , فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم , فيضلون ويضلون } .
ثم يستدل بأقوال الصحابة في النهي عن الأخذ بالرأي، ويرفض الأحاديث والأخبار التي تواترت عن الاجتهاد بالرأي، ويتهم رواتها بالضعف أو الكذب.
يذهب ابن حزم إلى أن القرآن وحده هو الأصل الوحيد للشريعة، وفيه أمر لنا باتباع الرسول. فالسنة حجة. قال تعالى يخاطب رسوله: {بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}( النحل ، الآية 44 ) فالرسول (ص) يبين القرآن، وأهل الذكر مسئولون عن بيان ما في القرآن والسنة، لما تعلموه من الرسول.
والبيان كما يقول ابن حزم: "يختلف في الوضوح، فيكون بعضه جليا، وبعضه خفيا، فيختلف الناس في فهمه، فيفهمه بعضهم بفهمه، وبعضهم يتأخر عن فهمه. كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إلا أن يؤتي رجلا فهما في دينه".
هاهو ذا يستشهد بقول الإمام علي كرم الله وجهه!
وفي الحق أن ابن حزم ما ناصب الإمام عليا العداء!...
فابن حزم قد اعتمد في بعض فقهه على أقضية للإمام علي، وفتياه، وعلى آراء لحفيده الإمام جعفر الصادق.
ولقد ذكر ابن حزم أن عمر بن الخطاب كان يستفتي علي بن أبي طالب فيما يغم عليه من الأحكام ويقول: "على أقضانا" فإذا عرضت لعمر قضية ولم يجد عليا قال: "قضية ولا أبا حسن لها" ..
وما اعتمد ابن حزم على آراء الإمام علي تكفيرا عما سلف منه، أو نفاقا للأمراء والعلماء ممن يفضلون عليا على سائر الصحابة، بل توقير للإمام علي، وعرفانا بمكانته من الرسول عليه الصلاة والسلام، وبمكانه في الإسلام، وفضله في إرساء قواعد الشريعة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
هو إذن يرى أن الأحكام كلها في القرآن، و القرآن هو الذي نص على حجية السنة إذ أمرنا باتباع الرسول، ونص على حجية الإجماع بنصه على أهل الذكر والصحابة، فإذا لم يمكن استنباط الحكم من القرآن أو السنة أو الإجماع، فلا سبيل إلا الاستصحاب وهو بقاء الحكم المبني على النص حتى يوجد دليل على نصوص تغيره. قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً} ( البقرة ، الآية : 29 ) .
وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ}( البقرة ، الآية : 36 ). وإذن فقد "أباح الله تعالى الأشياء بقوله أنها متاع لنا ثم حظر ما شاء. وكل ذلك بشرع. أي بنص..".
وقاده التزامه هذه الأصول التي خالف فيها جميع الأئمة والفقهاء إلى مخالفتهم في كثير من الفروع. فاعتبر التزام أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة يجب اتباعها، وإن لم يصطحب فعله أمر. وعاب على اتباع مالك ترك هذه السنة فقال: "اختاروا الصوم في رمضان في السفر، ورغبوا عن فعله عليه السلام في الفطر. ورغبوا عن فعله عليه السلام في التقبيل وهو صائم، وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من رغب عن ذلك أو تنزه عنه وخطب الناس ناهيا عن ذلك. وتركوا فعله عليه السلام في تطيبه في حجة الوداع وأخذوا بأمر له متقدم لو كان على ما ظنوه لكان منسوخا بفعله عليه الصلاة و السلام .. ولا يجوز أن يقال عن شيء فعله رسول الله أنه خصوصي إلا بنص في ذلك، لأنه عليه الصلاة و السلام قد غضب على من قال ذلك، وكل شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حرام.
ذلك مذكور في حديث الأنصاري الذي سأله عن قبلة الصائم فأخبره عليه السلام أنه يفعل ذلك. فقال الأنصاري: "يا رسول الله إنك لست مثلنا. قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر" فغضب عليه صلى الله عليه و سلم وقال: "والله أني لأتقاكم لله وأعلمكم بما أتى وما أذر" .. وقد روت عائشة: "أنه صلى الله عليه و سلم كان يترك الفعل وهو يحبه، خشية أن يفعله الناس فيفرض عليهم، كما فعل صلى الله عليه و سلم في قيام الليل في رمضان، قام ثم تركه خوف أن يفرض علينا. وإنما قلنا هذا لئلا يقول جاهل: أيجوز أن يترك صلى الله عليه و سلم الأفضل ويفعل الأقل فضلا؟ فأعلمناه أنه صلى الله عليه و سلم يفعل ذلك رفقا بنا .. وكذلك الشيء إذا تركه صلى الله عليه و سلم ولم ينه عنه ولا أمر به فهو مباح. وضرب مثلا لذلك: "من استمع زمارة الراعي، فلو كان حراما لما أباحه صلى الله عليه و سلم لغيره، ولو كان مستحبا لفعله صلى الله عليه و سلم " .. وكان ابن حزم يحضر مجالس الغناء في قرطبة اعتمادا على هذا.
وروي عن عائشة أنها سألت زوج بنت أختها وكانت من اجمل فتيات عصرها ألا يداعبها ويقبلها، فتحرج الفتى فقالت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وهو صائم في نهار رمضان.
وعاد اتباع مالك يغلظون له ويحاولون الإيقاع به في كل فقهه وأصوله .. وذهبوا إلى أنه يخالف إجماع أهل المدينة وإجماع أهل المدينة سنة، لأنهم نقلوا عن الرسول عليه الصلاة والسلام مئات عن مئات وآلافا عن آلاف، فهي سنة أقوى من النقل عنه عليه السلام واحدا عن واحد .. وهذا هو رأي الإمام مالك نفسه.
ولم يصبر ابن حزم على اتهامهم إياه بأنه يخالف السنة، فانقض يسفه من يقول بهذا، ويردد حجة الإمام الليث في رده على الإمام مالك أن الصحابة وفي صدورهم علم الدين والشريعة، تفرقوا في الأمصار يعلمون الناس، وملأوا المدائن، فليس لأهل المدينة امتياز عن أهل الكوفة التي أقام بها الإمام علي وعبد الله بن مسعود، ولا عن أهل مصر التي أقام بها عبد الله بن عمرو بن العاص. وغيره من الصحابة، ولا عن غيرها من أقطار الأرض التي عاش فيها صحابته .. وكان علم بعضهم أغزر من علم الذين بقوا في المدينة فضلا عن السابقة في الإسلام.
وأضاف بعد ذلك أن أهل المدينة ساروا على خلاف سنة الرسول في كثير من أمورهم، فعندما تولى عمرو بن الخطاب، أنكر على حسان بن ثابت إنشاده الشعر في المسجد، فلما قال له حسان: "قد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك"، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عمر ومضى.
فهذا يبين أنه لا حجة في قول أحد ولا في عمل بعد النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم أن ابن حزم انقض على أهل المدينة انقضاضا: "فأي برهان على أن المدينة افضل البلاد كما يقولون؟ أن مكة هي افضل البلاد بنص القرآن. ومع ذلك ففضلها لا يوجب اتباع أهلها دون غيرهم. ولا يختلف مسلمان في أنه كان في المدينة منافقون، وفيها شر الخلق. قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاق
مواضيع مماثلة
» الإمام ابن حزم الجزء الاول
» سورة هود الجزء الثاني عشر
» سورة هود الجزء الثاني عشر
» سورة هود الجزء الثاني عشر
» سورة يس الجزء الثاني و
» سورة هود الجزء الثاني عشر
» سورة هود الجزء الثاني عشر
» سورة هود الجزء الثاني عشر
» سورة يس الجزء الثاني و
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى