وجه الاعجاز في القران الكريم زغلول النجار
صفحة 1 من اصل 1
وجه الاعجاز في القران الكريم زغلول النجار
وجه الاعجاز في القران الكريم
تتعدد اوجه الاعجاز في كتاب الله بتعدد جوانب النظر فيه, فكل ايه من اياته فيها اعجاز لفظي وبياني ودلالي, وكل مجموعه من الايات, وكل سوره من السور طالت ام قصرت, بما فيها من قواعد عقديه, او اوامر تعبديه, او قيم اخلاقيه, او ضوابط سلوكيه, او اشارات علميه, الي شيء من اشياء هذا الكون الفسيح ومافيه من ظواهر وكائنات, وكل تشريع, وكل قصه, وكل واقعه تاريخيه, وكل وسيله تربويه, وكل نبوءه مستقبليه, كل ذلك يفيض بجلال الربوبيه, ويتميز عن كل صياغه انسانيه ويشهد للقران بالتفرد كما يشهد بعجز الانسان عن ان ياتي بشيء من مثله.
وقد افاض المتحدثون عن اوجه الاعجاز في كتاب الله, وكان منهم من راي ذلك في جمال بيانه, ودقه نظمه, وكمال بلاغته, او في روعه معانيه وشمولها واتساقها ودقه صياغتها, وقدرتها علي مخاطبه الناس علي اختلاف مداركهم وازمانهم, واشعاعها بجلال الربوبيه في كل ايه من اياته.
ومنهم من ادرك ان اعجاز القران في كمال تشريعه, ودقه تفاصيل ذلك التشريع وحكمته وشموله, او في استعراضه الدقيق لمسيره البشريه ولتاريخ عدد من الامم السابقه من لدن ابينا ادم( عليه السلام) الي خاتم الانبياء والمرسلين(عليه وعليهم اجمعين افضل الصلاه وازكي السلام), مما لم يكن يعلم تفاصيله احد من الناس.
ومنهم من راي اعجاز القران الكريم في منهجه التربوي الفريد, واطره النفسيه الساميه والعلميه في نفس الوقت, والثابته علي مر الايام, او في انبائه بالغيب مما تحقق بعد نزوله بسنوات طويله, او في اشاراته الي العديد من حقائق الكون وسنن الله فيه مما لم يكن معروفا لاحد من البشر وقت نزول القران ولالمئات من السنين بعد ذلك النزول, ومنهم من راي اعجاز القران في صموده علي مدي يزيد علي اربعه عشر قرنا لكل محاولات التحريف التي قامت بها قوي الشر المتعدده متمثله في الكفره والمشركين والملاحده علي مدي تلك القرون العديده وذلك لان الله تعالي تعهد بحفظه فحفظ قال تعالي:
(انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون
[الحجر: ايه9]
ومن العلماء من يري اعجاز القران في ذلك كله وفي غيره مما يقصر الحديث دونه.
الاعجاز النظمي للقران الكريم
كانت الكثره الكاثره من القدامي والمعاصرين علي حد سواء قد ركزوا اهتمامهم علي ناحيه نظم القران الكريم فهذا ابن عطيه الاندلسي(ت546 ه) يذكر في مقدمه تفسيره(278/1) مانصه:
ان الله قد احاط بكل شيء علما, فاذا ترتبت اللفظه من القران, علم باحاطته اي لفظه تصلح ان تلي الاولي, وتبين المعني بعد المعني, ثم كذلك من اول القران الي اخره, والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول, ومعلوم ضروره ان احدا من البشر لايحيط بذلك, فبهذا جاء نظم القران في الغايه القصوي من الفصاحه, وبهذا يبطل قول من قال: ان العرب كان في قدرتهم الاتيان بمثله فصرفوا عن ذلك, والصحيح انه لم يكن في قدره احد قط, ولهذا نري البليغ ينقح القصيده او الخطبه حولا, ثم ينظر فيها فيغير منها, وهلم جرا, وكتاب الله لو نزعت منه لفظه, ثم ادير لسان العرب علي لفظه احسن منها لم يوجد... وقامت الحجه علي العالم بالعرب, اذ كانوا ارباب الفصاحه ومظنه المعارضه.
وهذا هوالاستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين احد العلماء المعاصرين يكتب فصلا في اعجاز القران( كتقديم لترجمته لكتاب الظاهره القرانيه للمفكر الاسلامي الاستاذ مالك بن نبي( يرحمه الله) يحدد فيه الاعجاز في دائره البيان والنظم حيث يقول: ان الايات القليله من القران, ثم الايات الكثيره, ثم القران كله, اي ذلك كان في تلاوته علي سامعيه من العرب, الدليل الذي يطالبه بان يقطع بان هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر, وذلك من وجه واحد, هو وجه البيان والنظم.
واذا صح ان قليل القران وكثيره سواء من هذا الوجه, ثبت ان ما في القران جمله, من حقائق الاخبار عن الامم السابقه, ومن انباء الغيب, ومن دقائق التشريع, ومن عجائب الدلالات علي مالم يعرفه البشر من اسرار الكون الا بعد القرون المتطاوله من تنزيله, كل ذلك بمعزل عن الذي طولب به العرب, وهو ان يستبينوا في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم, ومن وجه يحسم القضاء بانه كلام رب العالمين...
ولكن اذا جاز هذا التحديد علي موقف التحدي من مشركي العرب علي الرغم من عدم وجود الدليل علي ذلك فانه بالقطع لايجوز علي اطلاقه, خاصه ان العرب اليوم في جملتهم قد فقدوا الحس اللغوي الذي تميز به اسلافهم, وان التحدي بالقران للانس والجن متظاهرين هو تحد مستمر قائم الي يوم الدين, مما يؤكد ان ما في القران من امور الغيب, وحقائق التاريخ, ومن فهم دقيق لمكنون النفس البشريه وحسن الخطاب في هدايتها وارشادها وتربيتها, ومن مختلف الصور التي ضربت لعجائب ايات الله في خلقه, ومن غير ذلك مما اكتشفه ولايزال يكتشفه( في كتاب الله) متخصصون في كل حقل من حقول المعرفه, لايمكن ان يبقي بمعزل عن ذلك التحدي المفضي الي الاعجاز القراني, والدال علي ان القران كلام الله.
نشاه منهج التفسير العلمي لكتاب الله
يزخر القران الكريم بالعديد من الايات التي تشير الي الكون وما به من كائنات( احياء وجمادات), والي صور من نشاتها, ومراحل تكونها, والي العديد من الظواهر الكونيه التي تصاحبها, والسنن الالهيه التي تحكمها, وما يستتبعه كل ذلك من استخلاص للعبره, وتفهم للحكمه, وما يستوجبه من ايمان بالله, وشهاده بكمال صفاته وافعاله, وهو سبحانه وتعالي الخالق الباريء المصور الذي ابدع ذلك الخلق بعلم وقدره وحكمه لاتحدها حدود, ولايفيها حقها وصف.
وقد احصي الدارسون من هذه الاشارات الكونيه في كتاب الله مايقدر بحوالي الالف ايه صريحه, بالاضافه الي ايات اخري عديده تقرب دلالاتها من الصراحه, وبدوام اتساع دائره المعرفه الانسانيه, وتكرار تامل المتاملين في كتاب الله, وتدبر المتدبرين لاياته جيلا بعد جيل, وعصرا بعد عصر لن ينفك العلماء والمتخصصون يكتشفون من حقائق الكون الثابته في كتاب الله مايؤكد علي تحقق الوعد الالهي الذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي):
(سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتي يتبين لهم انه الحق او لم يكف بربك انه علي كل شيء شهيد)[ فصلت: ايه53]
وبدهي ان يتباين موقف العلماء من تلك الاشارات الكونيه في كتاب الله بتباين الافراد وخلفياتهم الثقافيه وازمانهم, وباتساع دائره المعرفه الانسانيه في مجال الدراسات الكونيه( التي تعرف اليوم باسم دراسات العلوم البحته والتطبيقيه) من عصر الي عصر, واول من بسط القول في ذلك الامام الغزالي(ت505ه) في كتابيه احياء علوم الدين وجواهر القران والذي رفع فيهما شعارات عديده منها ان القران الكريم يشمل العلوم جميعاو ان من صور اعجاز القران اشتماله علي كل شيء, وان كل شيء, وان كل العلوم تشعبت من القران, حتي علم الهيئه, والنجوم, والطب الي اخر ماذكر.
وتبع الامام الغزالي في ذلك كثيرون, كان من اشهرهم في القديم العلامه الشيخ الفخر الرازي( ت606 ه), وفي الحديث فضيله الشيخ طنطاوي جوهري( ت1359 ه), مما ادي الي بروزالمنهج العلمي في تفسير القران الكريم, والذي يعتمد في تفسير الاشارات الكونيه الوارده في كتاب الله علي ضوء من معطيات العلوم الحديثه, مع تفاوت في ذلك من عصر الي عصر. ويعتبر تفسير الرازي المعنونمفاتيح الغيب اول تفسير يفيض في بيان المسائل العلميه والفلسفيه, خاصه مايتعلق منها بعلم الهيئه, وغير ذلك من العلوم والفنون التي كانت معروفه في زمانه, والتي كان هو علي معرفه بها.
اما تفسير الشيخ طنطاوي جوهري والمعنون الجواهر في تفسير القران الكريم فيعتبر اضخم تفسير ينهج النهج العلمي, اذ يقع في خمسه وعشرين جزءا كبارا, حاول فيها الشيخ( يرحمه الله) تفسير القران الكريم تفسيرا يتجاوب مع روح العصر, وما وصلت اليه المعارف الانسانيه في مجال دراسات الكون ومافيه من اجرام سماويه, ومن عوالم الجمادات والاحياء, ومن الظواهر الكونيه التي تصاحبها, والسنن الالهيه التي تحكمها, ليبرهن للقاريء ان كتاب الله الخالد قد احاط بالكون في تفصيل وبيان وايضاح غفل عنه كثير من السابقين, وانه بحق ينطوي علي كل ما وصل, وماسيصل اليه البشر من معارف.
هذا, وقد نعي الشيخ الجوهري( يرحمه الله) علي علماء المسلمين اهمالهم للجانب العلمي في القران الكريم, وتركيز جهودهم علي الجوانب البيانيه والفقهيه فقط بقوله:لماذا الف علماء الاسلام عشرات الالوف من الكتب في علم الفقه, وعلم الفقه ليس له في القران الا ايات قلائل لاتصل الي مائه وخمسين ايه ؟ فلماذا كثر التاليف في علم الفقه, وقل جدا في علوم الكائنات التي لاتكاد تخلو منها سوره؟.
ولذا فاننا نجده في مطلع تفسيره يتوجه بنداء الي المسلمين يقول فيه: يا امه الاسلام, ايات معدودات في الفرائض( يقصد ايات الميراث) اجتذبت فرعا من علم الرياضيات, فما بالكم ايها الناس بسبعمائه ايه فيها عجائب الدنيا كلها... هذا زمان العلوم, وهذا زمان ظهور الاسلام... هذا زمان رقيه, ياليت شعري, لماذا لانعمل في ايات العلوم الكونيه مافعله اباؤنا في علوم الميراث؟ثم يضيف: ان نظام التعليم الاسلامي لابد من ارتقائه, فعلوم البلاغه ليست هي نهايه علوم القران بل هي علوم لفظه, وما نكتبها اليوم( يقصد في تفسيره), علوم معناه....
ولم يكتف الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره بتتبع الايات واستنتاج معانيها وفق ما ارتاه فيها من اشارات الي مختلف الدراسات الحديثه, بل انه قد استعان في هذا التفسير الفريد من نوعه بكثير من صور النباتات والحيوانات والمظاهر الكونيه, والوسائل التجريبيه, كما استخدم الاراء الفلسفيه عند مختلف المدارس الفكريه, وكذلك الارقام العدديه التي ينظمها حساب الجمل المعروف.
وقد اعتبر المفسرون من بني عصره ذلك المنهج العلمي في التفسير( كما اعتبر من قبل) جنوحا الي الاستطراد في تاويل بعض ايات القران الكريم علي غير مقاصدها التشريعيه والايمانيه, استنادا الي الحقيقه المسلمه ان القران لم يات لكي ينشر بين الناس القوانين العلميه ومعادلاتها, ولاجداول المواد وخصائصها, ولا قوائم باسماء الكائنات وصفاتها, وانما هو في الاصل كتاب هدايه, كتاب عقيده وعباده واخلاق ومعاملات, وهي ركائز الدين التي لا يستطيع الانسان ان يضع لنفسه فيها ضوابط صحيحه, والقران العظيم حين يلفت نظر الانسان الي مختلف مظاهر هذا الوجود انما يعرض لذلك من قبيل الاستدلال علي قدره الخالق العظيم وعلمه وحكمته وتدبيره ومن قبيل اقامه الحجه البينه علي الجاحدين من الكافرين والمشركين, ومن قبيل التاكيد علي احاطه القدره الالهيه بالكون وبكل مافيه وعلي حاجه الخلق في كل لحظه من لحظات الوجود الي رحمه ذلك الخالق العظيم.
فهذا هو الشيخ محمد رشيد رضا( يرحمه الله) يكتب في مقدمه تفسيره المنار مانصه:..... وقد زاد الفخر الرازي صارخا اخر عن القران هو مايورده في تفسيره من العلوم الرياضيه والطبيعيه وغيرها من العلوم الحادثه في المله علي ماكانت عليه في عهده, كالهيئه الفلكيه اليونانيه وغيرها, وقلده بعض المعاصرين(ويقصد الشيخ طنطاوي جوهري) بايراد مثل هذا من علوم العصر وفنونه الكثيره الواسعه, فهو يذكر فيما يسميه تفسير الايه, فصولا طويله بمناسبه كلمه مفرده, كالسماء او الارض من علوم الفلك والنبات والحيوان, تصد القاريء عما انزل الله لاجله القران.
وعلي الرغم من استنكار علماء التفسير لهذا المنهج العلمي قديما وحديثا, الا ان عددا كبيرا من العلماء المسلمين ظل مؤمنا بان الاشارات الكونيه في كتاب الله اي الايات المتعلقه ببعض اشياء هذا الكون علي اجمالها وتناثرها بين ايات الكتاب المجيد تبقي بيانا من الله, خالق الكون ومبدع الوجود, ومن ثم فهي حق مطلق, وصوره من صور الاعجاز في كتاب الله الذي لاياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وان ذلك قد لايتضح الا للراسخين في العلم من المتخصصين في مختلف مجالات العلوم البحته والتطبيقيه( كل في حقل تخصصه), وحتي هؤلاء يظل يتسع ادراكهم لذلك الاعجاز باتساع دائره المعرفه الانسانيه جيلا بعد جيل, وعصرا بعد عصر, مصداقا لقول الحق تبارك وتعالي:
(ان هو الا ذكر للعالمين* ولتعلمن نباه بعد حين)[ ص:87 و88]
ولقول رسول الله( صلي الله عليه وسلم) في وصفه للقران الكريم بانه لاتنقضي عجائبه, ولا يخلق من كثره الرد:.
ومن هنا كان واجب المتخصصين من المسلمين في مختلف مجالات المعرفه الانسانيه في كل عصر وفي كل جيل ان تنفر منهم طائفه للتسلح بمستلزمات تفسير كتاب الله من المام بقدر كاف من علوم اللغه العربيه وادابها, ومن الحديث وعلومه, والفقه واصوله, وعلم الكلام وقواعده, مع معرفه بعادات المجتمع العربي الاول, واحاطه باسباب النزول, وبالماثور في التفسير, وبالسيره النبويه المطهره, وباجتهاد اعلام السابقين من ائمه المفسرين, وغير ذلك من الشروط التي حددها علماء التفسير واصوله, ثم تقوم تلك الطائفه علي شرح ايات الكتاب الحكيم كل فيما يخصه حتي تستبين للناس جوانب من الاعجاز في كتاب الله, لم يكن من السهل بيانها قبل عصر العلم الذي نعيشه. وحتي يتحقق قول الله تعالي في محكم كتابه:
(لكل نبا مستقر وسوف تعلمون)[ الانعام: ايه67]
وانطلاقا من ذلك الفهم, ظهرت مؤلفات عديده تعالج قضيه الاعجاز العلمي في كتاب الله من اشهرها في القديم كتاب كشف الاسرار النورانيه القرانيه فيما يتعلق بالاجرام السماويه والارضيه والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنيه لمحمد بن احمد الاسكندراني الطبيب( وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري).
ورساله عبد الله فكري( وهو من وزراء المعارف السابقين في مصر في مطلع هذا القرن) والتي يقارن فيها بين بعض مباحث علم الهيئه( الفلك) وبين الوارد من نصوص القران الكريم في ذلك, وكتاب الاسلام والطب الحديث لعبد العزيز اسماعيل, ورياض المختار لاحمد مختار( الغازي), وكتابا معجزه القران في وصف الكائنات و التفسير العلمي للايات الكونيه لحنفي احمد, وكتابا في سنن الله الكونيه و الاسلام في عصر العلم لمحمد احمد الغمراوي, واعجاز القران في علم طبقات الارض لمحمد محمود ابراهيم, و العلوم الطبيعيه في القران ليوسف مروه, وسلسله كتب كل من محمد جمال الدين الفندي وعبد الرزاق نوفل في نفس الموضوع, وكتاب اضواء من القران علي الانسان ونشاه الكون والحياه لعبد الغني الخطيب, والقران والعلم لاحمد محمود سليمان, ومن اشارات العلوم في القران الكريم لعبدالعزيز سيد الاهل, و محاوله لفهم عصري للقران لمصطفي محمود, وتفسير الايات الكونيه لعبد الله شحاته, والاسلام والعلم التجريبي ليوسف السويدي, والقران تفسير الكون والحياه لمحمد العفيفي, وكتاب الانجيل والقران والعلم لموريس بوكاي, وكتاب خلق الانسان بين الطب والقران لمحمد علي البار, هذا بالاضافه الي ماظهر مؤخرا من كتب ومجلات عديده وابواب كثيره عن الاعجاز العلمي في القران وردت مجمعه في كتب اسلاميه متعدده, او متناثره في كثير من التفاسير التي حررت في النصف الاخير من هذا القرن.
هذا من جهه, ومن جهه اخري فقد تعرض هذا المنهج بحق احيانا, وبغير ذلك في احيان اخري كثيره للمزيد من النقد والتجريح الذي اسس علي ان معجزه القران هي في الاصل معجزه بيانه الذي ادرك اساطين اللغه العربيه فيه, ومنذ سماع اولي اياته, انه علامه فارقه بين كلام الله وكلام البشر, وان علينا ان نفهم الاسلام كما بينه نبي الاسلام( صلوات الله وسلامه عليه) وكان من شواهد ذلك ومبرراته حيود عدد من الذين تعرضوا للقضايا الكونيه في القران عن جاده الطريق اما عن قصور في فهم الحقائق العلميه, او انتفاء لشروط القدره علي الاجتهاد في التفسير, او لكليهما معا,
وعلي الرغم من ذلك كله, فقد تمكن هذا السيل من الكتابات عن الاعجاز العلمي في اي القران الكريم من تهيئه النفوس لقبول ذلك المنهج, حتي قام المجلس الاعلي للشئون الاسلاميه في مصر بتشكيل عدد من اللجان العلميه التي ضمت الي علماء القران وتفسيره, والحديث ورجاله والفقه واصوله, والشريعه وعلومها, واللغه العربيه وادابها, والتاريخ الاسلامي وتفاصيله, عددا من كبار العلماء والباحثين والمفكرين في مختلف جنبات المعرفه الانسانيه, وقد قام كل هؤلاء بمدارسه كتاب الله في اجتماعات طالت لسنين كثيره, ثم تبلورت في تفسير موجز تحت اسم المنتخب في تفسير القران, كتب باسلوب عصري وجيز, سهل مبسط, واضح العباره, بعيد عن الخلافات المذهبيه, والتعقيدات اللفظيه والمصطلحات الفنيه, وقد اشير في هوامشه الي ماترشد اليه الايات القرانيه من نواميس الحياه واسرار الكون, ووقائعه العلميه التي لم تعرف الا في السنوات الاخيره, والتي خصها ذلك التفسير في مقدمته بانه لايمكن الا ان يكون القران قد اشار اليها لانه ليس من كلام البشر, ولكنه من كلام خلاق القوي والقدر, الذي وعد بذلك في محكم هذا الكتاب فقال
(سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتي يتبين لهم انه الحق او لم يكف بربك انه علي كل شيء شهيد)[ فصلت: ايه53]
كما تمت الاشاره في مقدمه هذا التفسير الوجيز الي انه سيتلوه تفسير اخر وسيط في شيء من البسط والتفصيل يليه المفصل ان شاء الله تعالي.
حجه المعارضين لتعبير الاعجاز العلمي في القران الكريم
وقبل استعراض مواقف المفسرين في عصرنا الحاضر من الايات الكونيه في كتاب الله( اي الايات التي تحتوي علي اشارات لبعض اشياء هذا الكون من مثل السماوات والارض, والشمس والقمر, والنجوم والكواكب, والجبال والاحجار, والانهار والبحار, والرياح والسحاب والمياه, والرعد والبرق, ومراحل الجنين في الانسان, وبعض صور الحيوان ومنتجاته والنبات, ومحاصيله وثماره وغير ذلك) لابد لنا من الاشاره الي ان بعض الكتاب من القدامي والمعاصرين علي حد سواء.. قد اعترض علي استخدام لفظ معجزه ومشتقاته في الاشاره الي عجز الانسان عن الاتيان بمثل هذا القران او بشئ من مثله, او الي استعصاء تقليد القران الكريم علي الجهد البشري واستعلائه عليه, لانه كلام الله تعالي, المغاير لكلام البشر جمله وتفصيلا, ولو انه انزل باسلوب يفهمه البشر وقت نزوله وفي كل عصر من العصور التاليه لنزوله الي ان يرث الله تعالي الارض ومن عليها.
وحجه المعترضين علي لفظ معجزه ومشتقاته تقوم علي اساس من ان اللفظ لم يرد له ذكر في كتاب الله بالمعني الشائع اليوم, ولا في الصحيح من الاحاديث النبويه الشريفه وان وردت مشتقاته للدلاله علي عدد من المعاني القريبه او المغايره قليلا لذلك في سته وعشرين موضعا من القران الكريم بالفاظ اعجز, ومعجزين, ومعاجزين وعجوز واعجاز وتصريفاتها ودلالاتها في تلك المواضع قد تبعد قليلا عما اريد التعبير عنه بلفظ المعجزه عند علماء اللغه, خاصه ان القران الكريم قد اشار دوما الي مدلول المعجزه بلفظ ايه( بصيغه المفرد والمثني والجمع) في اكثر من380 موضعا منها قول الحق تبارك وتعالي:
(وقالوا لولا نزل عليه ايه من ربه)
[الانعام: ايه37]
وقوله( عز من قائل):
(وقال الذين لايعلمون لولا يكلمنا الله او تاتينا ايه)[ البقره: ايه118]
وقوله تعالي:
(ولئن اتيت الذين اوتوا الكتاب بكل ايه ماتبعوا قبلتك)[ البقره: ايه145]
وقوله:
(سل بني اسرائيل كم اتيناهم من ايه بينه)[ البقره: ايه211]
وقوله تعالي علي لسان احد انبياء بني اسرائيل:
(وقال لهم نبيهم ان ايه ملكه ان ياتيكم التابوت... ان في ذلك لايه لكم ان كنتم مؤمنين..)
[ البقره: ايه248]
قوله تعالي علي لسان نبيه صالح( عليه السلام) مخاطبا قومه:
(... هذه ناقه الله لكم ايه....)
[الاعراف: الايه73]
وقوله علي لسان فرعون وقومه وهم يعارضون سيدنا موسي( علي نبينا وعليه افضل الصلاه وازكي التسليم):
(وقالوا مهما تاتنا به من ايه لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين)[ الاعراف: ايه132]
وهذه حجه مردوده لان التعبير عن اعجاز القران قد استخدم منذ القرون الهجريه الاولي, ولم يجد علماء المسلمين من الصحابه والتابعين غضاضه في استخدام هذا التعبير علي الرغم من عدم وروده بهذا المعني في كتاب الله.
تتعدد اوجه الاعجاز في كتاب الله بتعدد جوانب النظر فيه, فكل ايه من اياته فيها اعجاز لفظي وبياني ودلالي, وكل مجموعه من الايات, وكل سوره من السور طالت ام قصرت, بما فيها من قواعد عقديه, او اوامر تعبديه, او قيم اخلاقيه, او ضوابط سلوكيه, او اشارات علميه, الي شيء من اشياء هذا الكون الفسيح ومافيه من ظواهر وكائنات, وكل تشريع, وكل قصه, وكل واقعه تاريخيه, وكل وسيله تربويه, وكل نبوءه مستقبليه, كل ذلك يفيض بجلال الربوبيه, ويتميز عن كل صياغه انسانيه ويشهد للقران بالتفرد كما يشهد بعجز الانسان عن ان ياتي بشيء من مثله.
وقد افاض المتحدثون عن اوجه الاعجاز في كتاب الله, وكان منهم من راي ذلك في جمال بيانه, ودقه نظمه, وكمال بلاغته, او في روعه معانيه وشمولها واتساقها ودقه صياغتها, وقدرتها علي مخاطبه الناس علي اختلاف مداركهم وازمانهم, واشعاعها بجلال الربوبيه في كل ايه من اياته.
ومنهم من ادرك ان اعجاز القران في كمال تشريعه, ودقه تفاصيل ذلك التشريع وحكمته وشموله, او في استعراضه الدقيق لمسيره البشريه ولتاريخ عدد من الامم السابقه من لدن ابينا ادم( عليه السلام) الي خاتم الانبياء والمرسلين(عليه وعليهم اجمعين افضل الصلاه وازكي السلام), مما لم يكن يعلم تفاصيله احد من الناس.
ومنهم من راي اعجاز القران الكريم في منهجه التربوي الفريد, واطره النفسيه الساميه والعلميه في نفس الوقت, والثابته علي مر الايام, او في انبائه بالغيب مما تحقق بعد نزوله بسنوات طويله, او في اشاراته الي العديد من حقائق الكون وسنن الله فيه مما لم يكن معروفا لاحد من البشر وقت نزول القران ولالمئات من السنين بعد ذلك النزول, ومنهم من راي اعجاز القران في صموده علي مدي يزيد علي اربعه عشر قرنا لكل محاولات التحريف التي قامت بها قوي الشر المتعدده متمثله في الكفره والمشركين والملاحده علي مدي تلك القرون العديده وذلك لان الله تعالي تعهد بحفظه فحفظ قال تعالي:
(انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون
[الحجر: ايه9]
ومن العلماء من يري اعجاز القران في ذلك كله وفي غيره مما يقصر الحديث دونه.
الاعجاز النظمي للقران الكريم
كانت الكثره الكاثره من القدامي والمعاصرين علي حد سواء قد ركزوا اهتمامهم علي ناحيه نظم القران الكريم فهذا ابن عطيه الاندلسي(ت546 ه) يذكر في مقدمه تفسيره(278/1) مانصه:
ان الله قد احاط بكل شيء علما, فاذا ترتبت اللفظه من القران, علم باحاطته اي لفظه تصلح ان تلي الاولي, وتبين المعني بعد المعني, ثم كذلك من اول القران الي اخره, والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول, ومعلوم ضروره ان احدا من البشر لايحيط بذلك, فبهذا جاء نظم القران في الغايه القصوي من الفصاحه, وبهذا يبطل قول من قال: ان العرب كان في قدرتهم الاتيان بمثله فصرفوا عن ذلك, والصحيح انه لم يكن في قدره احد قط, ولهذا نري البليغ ينقح القصيده او الخطبه حولا, ثم ينظر فيها فيغير منها, وهلم جرا, وكتاب الله لو نزعت منه لفظه, ثم ادير لسان العرب علي لفظه احسن منها لم يوجد... وقامت الحجه علي العالم بالعرب, اذ كانوا ارباب الفصاحه ومظنه المعارضه.
وهذا هوالاستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين احد العلماء المعاصرين يكتب فصلا في اعجاز القران( كتقديم لترجمته لكتاب الظاهره القرانيه للمفكر الاسلامي الاستاذ مالك بن نبي( يرحمه الله) يحدد فيه الاعجاز في دائره البيان والنظم حيث يقول: ان الايات القليله من القران, ثم الايات الكثيره, ثم القران كله, اي ذلك كان في تلاوته علي سامعيه من العرب, الدليل الذي يطالبه بان يقطع بان هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر, وذلك من وجه واحد, هو وجه البيان والنظم.
واذا صح ان قليل القران وكثيره سواء من هذا الوجه, ثبت ان ما في القران جمله, من حقائق الاخبار عن الامم السابقه, ومن انباء الغيب, ومن دقائق التشريع, ومن عجائب الدلالات علي مالم يعرفه البشر من اسرار الكون الا بعد القرون المتطاوله من تنزيله, كل ذلك بمعزل عن الذي طولب به العرب, وهو ان يستبينوا في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم, ومن وجه يحسم القضاء بانه كلام رب العالمين...
ولكن اذا جاز هذا التحديد علي موقف التحدي من مشركي العرب علي الرغم من عدم وجود الدليل علي ذلك فانه بالقطع لايجوز علي اطلاقه, خاصه ان العرب اليوم في جملتهم قد فقدوا الحس اللغوي الذي تميز به اسلافهم, وان التحدي بالقران للانس والجن متظاهرين هو تحد مستمر قائم الي يوم الدين, مما يؤكد ان ما في القران من امور الغيب, وحقائق التاريخ, ومن فهم دقيق لمكنون النفس البشريه وحسن الخطاب في هدايتها وارشادها وتربيتها, ومن مختلف الصور التي ضربت لعجائب ايات الله في خلقه, ومن غير ذلك مما اكتشفه ولايزال يكتشفه( في كتاب الله) متخصصون في كل حقل من حقول المعرفه, لايمكن ان يبقي بمعزل عن ذلك التحدي المفضي الي الاعجاز القراني, والدال علي ان القران كلام الله.
نشاه منهج التفسير العلمي لكتاب الله
يزخر القران الكريم بالعديد من الايات التي تشير الي الكون وما به من كائنات( احياء وجمادات), والي صور من نشاتها, ومراحل تكونها, والي العديد من الظواهر الكونيه التي تصاحبها, والسنن الالهيه التي تحكمها, وما يستتبعه كل ذلك من استخلاص للعبره, وتفهم للحكمه, وما يستوجبه من ايمان بالله, وشهاده بكمال صفاته وافعاله, وهو سبحانه وتعالي الخالق الباريء المصور الذي ابدع ذلك الخلق بعلم وقدره وحكمه لاتحدها حدود, ولايفيها حقها وصف.
وقد احصي الدارسون من هذه الاشارات الكونيه في كتاب الله مايقدر بحوالي الالف ايه صريحه, بالاضافه الي ايات اخري عديده تقرب دلالاتها من الصراحه, وبدوام اتساع دائره المعرفه الانسانيه, وتكرار تامل المتاملين في كتاب الله, وتدبر المتدبرين لاياته جيلا بعد جيل, وعصرا بعد عصر لن ينفك العلماء والمتخصصون يكتشفون من حقائق الكون الثابته في كتاب الله مايؤكد علي تحقق الوعد الالهي الذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي):
(سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتي يتبين لهم انه الحق او لم يكف بربك انه علي كل شيء شهيد)[ فصلت: ايه53]
وبدهي ان يتباين موقف العلماء من تلك الاشارات الكونيه في كتاب الله بتباين الافراد وخلفياتهم الثقافيه وازمانهم, وباتساع دائره المعرفه الانسانيه في مجال الدراسات الكونيه( التي تعرف اليوم باسم دراسات العلوم البحته والتطبيقيه) من عصر الي عصر, واول من بسط القول في ذلك الامام الغزالي(ت505ه) في كتابيه احياء علوم الدين وجواهر القران والذي رفع فيهما شعارات عديده منها ان القران الكريم يشمل العلوم جميعاو ان من صور اعجاز القران اشتماله علي كل شيء, وان كل شيء, وان كل العلوم تشعبت من القران, حتي علم الهيئه, والنجوم, والطب الي اخر ماذكر.
وتبع الامام الغزالي في ذلك كثيرون, كان من اشهرهم في القديم العلامه الشيخ الفخر الرازي( ت606 ه), وفي الحديث فضيله الشيخ طنطاوي جوهري( ت1359 ه), مما ادي الي بروزالمنهج العلمي في تفسير القران الكريم, والذي يعتمد في تفسير الاشارات الكونيه الوارده في كتاب الله علي ضوء من معطيات العلوم الحديثه, مع تفاوت في ذلك من عصر الي عصر. ويعتبر تفسير الرازي المعنونمفاتيح الغيب اول تفسير يفيض في بيان المسائل العلميه والفلسفيه, خاصه مايتعلق منها بعلم الهيئه, وغير ذلك من العلوم والفنون التي كانت معروفه في زمانه, والتي كان هو علي معرفه بها.
اما تفسير الشيخ طنطاوي جوهري والمعنون الجواهر في تفسير القران الكريم فيعتبر اضخم تفسير ينهج النهج العلمي, اذ يقع في خمسه وعشرين جزءا كبارا, حاول فيها الشيخ( يرحمه الله) تفسير القران الكريم تفسيرا يتجاوب مع روح العصر, وما وصلت اليه المعارف الانسانيه في مجال دراسات الكون ومافيه من اجرام سماويه, ومن عوالم الجمادات والاحياء, ومن الظواهر الكونيه التي تصاحبها, والسنن الالهيه التي تحكمها, ليبرهن للقاريء ان كتاب الله الخالد قد احاط بالكون في تفصيل وبيان وايضاح غفل عنه كثير من السابقين, وانه بحق ينطوي علي كل ما وصل, وماسيصل اليه البشر من معارف.
هذا, وقد نعي الشيخ الجوهري( يرحمه الله) علي علماء المسلمين اهمالهم للجانب العلمي في القران الكريم, وتركيز جهودهم علي الجوانب البيانيه والفقهيه فقط بقوله:لماذا الف علماء الاسلام عشرات الالوف من الكتب في علم الفقه, وعلم الفقه ليس له في القران الا ايات قلائل لاتصل الي مائه وخمسين ايه ؟ فلماذا كثر التاليف في علم الفقه, وقل جدا في علوم الكائنات التي لاتكاد تخلو منها سوره؟.
ولذا فاننا نجده في مطلع تفسيره يتوجه بنداء الي المسلمين يقول فيه: يا امه الاسلام, ايات معدودات في الفرائض( يقصد ايات الميراث) اجتذبت فرعا من علم الرياضيات, فما بالكم ايها الناس بسبعمائه ايه فيها عجائب الدنيا كلها... هذا زمان العلوم, وهذا زمان ظهور الاسلام... هذا زمان رقيه, ياليت شعري, لماذا لانعمل في ايات العلوم الكونيه مافعله اباؤنا في علوم الميراث؟ثم يضيف: ان نظام التعليم الاسلامي لابد من ارتقائه, فعلوم البلاغه ليست هي نهايه علوم القران بل هي علوم لفظه, وما نكتبها اليوم( يقصد في تفسيره), علوم معناه....
ولم يكتف الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره بتتبع الايات واستنتاج معانيها وفق ما ارتاه فيها من اشارات الي مختلف الدراسات الحديثه, بل انه قد استعان في هذا التفسير الفريد من نوعه بكثير من صور النباتات والحيوانات والمظاهر الكونيه, والوسائل التجريبيه, كما استخدم الاراء الفلسفيه عند مختلف المدارس الفكريه, وكذلك الارقام العدديه التي ينظمها حساب الجمل المعروف.
وقد اعتبر المفسرون من بني عصره ذلك المنهج العلمي في التفسير( كما اعتبر من قبل) جنوحا الي الاستطراد في تاويل بعض ايات القران الكريم علي غير مقاصدها التشريعيه والايمانيه, استنادا الي الحقيقه المسلمه ان القران لم يات لكي ينشر بين الناس القوانين العلميه ومعادلاتها, ولاجداول المواد وخصائصها, ولا قوائم باسماء الكائنات وصفاتها, وانما هو في الاصل كتاب هدايه, كتاب عقيده وعباده واخلاق ومعاملات, وهي ركائز الدين التي لا يستطيع الانسان ان يضع لنفسه فيها ضوابط صحيحه, والقران العظيم حين يلفت نظر الانسان الي مختلف مظاهر هذا الوجود انما يعرض لذلك من قبيل الاستدلال علي قدره الخالق العظيم وعلمه وحكمته وتدبيره ومن قبيل اقامه الحجه البينه علي الجاحدين من الكافرين والمشركين, ومن قبيل التاكيد علي احاطه القدره الالهيه بالكون وبكل مافيه وعلي حاجه الخلق في كل لحظه من لحظات الوجود الي رحمه ذلك الخالق العظيم.
فهذا هو الشيخ محمد رشيد رضا( يرحمه الله) يكتب في مقدمه تفسيره المنار مانصه:..... وقد زاد الفخر الرازي صارخا اخر عن القران هو مايورده في تفسيره من العلوم الرياضيه والطبيعيه وغيرها من العلوم الحادثه في المله علي ماكانت عليه في عهده, كالهيئه الفلكيه اليونانيه وغيرها, وقلده بعض المعاصرين(ويقصد الشيخ طنطاوي جوهري) بايراد مثل هذا من علوم العصر وفنونه الكثيره الواسعه, فهو يذكر فيما يسميه تفسير الايه, فصولا طويله بمناسبه كلمه مفرده, كالسماء او الارض من علوم الفلك والنبات والحيوان, تصد القاريء عما انزل الله لاجله القران.
وعلي الرغم من استنكار علماء التفسير لهذا المنهج العلمي قديما وحديثا, الا ان عددا كبيرا من العلماء المسلمين ظل مؤمنا بان الاشارات الكونيه في كتاب الله اي الايات المتعلقه ببعض اشياء هذا الكون علي اجمالها وتناثرها بين ايات الكتاب المجيد تبقي بيانا من الله, خالق الكون ومبدع الوجود, ومن ثم فهي حق مطلق, وصوره من صور الاعجاز في كتاب الله الذي لاياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وان ذلك قد لايتضح الا للراسخين في العلم من المتخصصين في مختلف مجالات العلوم البحته والتطبيقيه( كل في حقل تخصصه), وحتي هؤلاء يظل يتسع ادراكهم لذلك الاعجاز باتساع دائره المعرفه الانسانيه جيلا بعد جيل, وعصرا بعد عصر, مصداقا لقول الحق تبارك وتعالي:
(ان هو الا ذكر للعالمين* ولتعلمن نباه بعد حين)[ ص:87 و88]
ولقول رسول الله( صلي الله عليه وسلم) في وصفه للقران الكريم بانه لاتنقضي عجائبه, ولا يخلق من كثره الرد:.
ومن هنا كان واجب المتخصصين من المسلمين في مختلف مجالات المعرفه الانسانيه في كل عصر وفي كل جيل ان تنفر منهم طائفه للتسلح بمستلزمات تفسير كتاب الله من المام بقدر كاف من علوم اللغه العربيه وادابها, ومن الحديث وعلومه, والفقه واصوله, وعلم الكلام وقواعده, مع معرفه بعادات المجتمع العربي الاول, واحاطه باسباب النزول, وبالماثور في التفسير, وبالسيره النبويه المطهره, وباجتهاد اعلام السابقين من ائمه المفسرين, وغير ذلك من الشروط التي حددها علماء التفسير واصوله, ثم تقوم تلك الطائفه علي شرح ايات الكتاب الحكيم كل فيما يخصه حتي تستبين للناس جوانب من الاعجاز في كتاب الله, لم يكن من السهل بيانها قبل عصر العلم الذي نعيشه. وحتي يتحقق قول الله تعالي في محكم كتابه:
(لكل نبا مستقر وسوف تعلمون)[ الانعام: ايه67]
وانطلاقا من ذلك الفهم, ظهرت مؤلفات عديده تعالج قضيه الاعجاز العلمي في كتاب الله من اشهرها في القديم كتاب كشف الاسرار النورانيه القرانيه فيما يتعلق بالاجرام السماويه والارضيه والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنيه لمحمد بن احمد الاسكندراني الطبيب( وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري).
ورساله عبد الله فكري( وهو من وزراء المعارف السابقين في مصر في مطلع هذا القرن) والتي يقارن فيها بين بعض مباحث علم الهيئه( الفلك) وبين الوارد من نصوص القران الكريم في ذلك, وكتاب الاسلام والطب الحديث لعبد العزيز اسماعيل, ورياض المختار لاحمد مختار( الغازي), وكتابا معجزه القران في وصف الكائنات و التفسير العلمي للايات الكونيه لحنفي احمد, وكتابا في سنن الله الكونيه و الاسلام في عصر العلم لمحمد احمد الغمراوي, واعجاز القران في علم طبقات الارض لمحمد محمود ابراهيم, و العلوم الطبيعيه في القران ليوسف مروه, وسلسله كتب كل من محمد جمال الدين الفندي وعبد الرزاق نوفل في نفس الموضوع, وكتاب اضواء من القران علي الانسان ونشاه الكون والحياه لعبد الغني الخطيب, والقران والعلم لاحمد محمود سليمان, ومن اشارات العلوم في القران الكريم لعبدالعزيز سيد الاهل, و محاوله لفهم عصري للقران لمصطفي محمود, وتفسير الايات الكونيه لعبد الله شحاته, والاسلام والعلم التجريبي ليوسف السويدي, والقران تفسير الكون والحياه لمحمد العفيفي, وكتاب الانجيل والقران والعلم لموريس بوكاي, وكتاب خلق الانسان بين الطب والقران لمحمد علي البار, هذا بالاضافه الي ماظهر مؤخرا من كتب ومجلات عديده وابواب كثيره عن الاعجاز العلمي في القران وردت مجمعه في كتب اسلاميه متعدده, او متناثره في كثير من التفاسير التي حررت في النصف الاخير من هذا القرن.
هذا من جهه, ومن جهه اخري فقد تعرض هذا المنهج بحق احيانا, وبغير ذلك في احيان اخري كثيره للمزيد من النقد والتجريح الذي اسس علي ان معجزه القران هي في الاصل معجزه بيانه الذي ادرك اساطين اللغه العربيه فيه, ومنذ سماع اولي اياته, انه علامه فارقه بين كلام الله وكلام البشر, وان علينا ان نفهم الاسلام كما بينه نبي الاسلام( صلوات الله وسلامه عليه) وكان من شواهد ذلك ومبرراته حيود عدد من الذين تعرضوا للقضايا الكونيه في القران عن جاده الطريق اما عن قصور في فهم الحقائق العلميه, او انتفاء لشروط القدره علي الاجتهاد في التفسير, او لكليهما معا,
وعلي الرغم من ذلك كله, فقد تمكن هذا السيل من الكتابات عن الاعجاز العلمي في اي القران الكريم من تهيئه النفوس لقبول ذلك المنهج, حتي قام المجلس الاعلي للشئون الاسلاميه في مصر بتشكيل عدد من اللجان العلميه التي ضمت الي علماء القران وتفسيره, والحديث ورجاله والفقه واصوله, والشريعه وعلومها, واللغه العربيه وادابها, والتاريخ الاسلامي وتفاصيله, عددا من كبار العلماء والباحثين والمفكرين في مختلف جنبات المعرفه الانسانيه, وقد قام كل هؤلاء بمدارسه كتاب الله في اجتماعات طالت لسنين كثيره, ثم تبلورت في تفسير موجز تحت اسم المنتخب في تفسير القران, كتب باسلوب عصري وجيز, سهل مبسط, واضح العباره, بعيد عن الخلافات المذهبيه, والتعقيدات اللفظيه والمصطلحات الفنيه, وقد اشير في هوامشه الي ماترشد اليه الايات القرانيه من نواميس الحياه واسرار الكون, ووقائعه العلميه التي لم تعرف الا في السنوات الاخيره, والتي خصها ذلك التفسير في مقدمته بانه لايمكن الا ان يكون القران قد اشار اليها لانه ليس من كلام البشر, ولكنه من كلام خلاق القوي والقدر, الذي وعد بذلك في محكم هذا الكتاب فقال
(سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتي يتبين لهم انه الحق او لم يكف بربك انه علي كل شيء شهيد)[ فصلت: ايه53]
كما تمت الاشاره في مقدمه هذا التفسير الوجيز الي انه سيتلوه تفسير اخر وسيط في شيء من البسط والتفصيل يليه المفصل ان شاء الله تعالي.
حجه المعارضين لتعبير الاعجاز العلمي في القران الكريم
وقبل استعراض مواقف المفسرين في عصرنا الحاضر من الايات الكونيه في كتاب الله( اي الايات التي تحتوي علي اشارات لبعض اشياء هذا الكون من مثل السماوات والارض, والشمس والقمر, والنجوم والكواكب, والجبال والاحجار, والانهار والبحار, والرياح والسحاب والمياه, والرعد والبرق, ومراحل الجنين في الانسان, وبعض صور الحيوان ومنتجاته والنبات, ومحاصيله وثماره وغير ذلك) لابد لنا من الاشاره الي ان بعض الكتاب من القدامي والمعاصرين علي حد سواء.. قد اعترض علي استخدام لفظ معجزه ومشتقاته في الاشاره الي عجز الانسان عن الاتيان بمثل هذا القران او بشئ من مثله, او الي استعصاء تقليد القران الكريم علي الجهد البشري واستعلائه عليه, لانه كلام الله تعالي, المغاير لكلام البشر جمله وتفصيلا, ولو انه انزل باسلوب يفهمه البشر وقت نزوله وفي كل عصر من العصور التاليه لنزوله الي ان يرث الله تعالي الارض ومن عليها.
وحجه المعترضين علي لفظ معجزه ومشتقاته تقوم علي اساس من ان اللفظ لم يرد له ذكر في كتاب الله بالمعني الشائع اليوم, ولا في الصحيح من الاحاديث النبويه الشريفه وان وردت مشتقاته للدلاله علي عدد من المعاني القريبه او المغايره قليلا لذلك في سته وعشرين موضعا من القران الكريم بالفاظ اعجز, ومعجزين, ومعاجزين وعجوز واعجاز وتصريفاتها ودلالاتها في تلك المواضع قد تبعد قليلا عما اريد التعبير عنه بلفظ المعجزه عند علماء اللغه, خاصه ان القران الكريم قد اشار دوما الي مدلول المعجزه بلفظ ايه( بصيغه المفرد والمثني والجمع) في اكثر من380 موضعا منها قول الحق تبارك وتعالي:
(وقالوا لولا نزل عليه ايه من ربه)
[الانعام: ايه37]
وقوله( عز من قائل):
(وقال الذين لايعلمون لولا يكلمنا الله او تاتينا ايه)[ البقره: ايه118]
وقوله تعالي:
(ولئن اتيت الذين اوتوا الكتاب بكل ايه ماتبعوا قبلتك)[ البقره: ايه145]
وقوله:
(سل بني اسرائيل كم اتيناهم من ايه بينه)[ البقره: ايه211]
وقوله تعالي علي لسان احد انبياء بني اسرائيل:
(وقال لهم نبيهم ان ايه ملكه ان ياتيكم التابوت... ان في ذلك لايه لكم ان كنتم مؤمنين..)
[ البقره: ايه248]
قوله تعالي علي لسان نبيه صالح( عليه السلام) مخاطبا قومه:
(... هذه ناقه الله لكم ايه....)
[الاعراف: الايه73]
وقوله علي لسان فرعون وقومه وهم يعارضون سيدنا موسي( علي نبينا وعليه افضل الصلاه وازكي التسليم):
(وقالوا مهما تاتنا به من ايه لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين)[ الاعراف: ايه132]
وهذه حجه مردوده لان التعبير عن اعجاز القران قد استخدم منذ القرون الهجريه الاولي, ولم يجد علماء المسلمين من الصحابه والتابعين غضاضه في استخدام هذا التعبير علي الرغم من عدم وروده بهذا المعني في كتاب الله.
مواضيع مماثلة
» الاعجاز العلمي في القران الكريم ( الظلمات الثلاث )3
» الاعجاز العلمي في القران الكريم ( الضغط الجوي
» الاعجاز العلمي في مشاهد يوم القيامة زغلول النجار 1 / 5
» الاعجاز العلمي في مشاهد يوم القيامة زغلول النجار 1 / 5
» الاعجاز العلمي في مشاهد يوم القيامة زغلول النجار 2 / 5
» الاعجاز العلمي في القران الكريم ( الضغط الجوي
» الاعجاز العلمي في مشاهد يوم القيامة زغلول النجار 1 / 5
» الاعجاز العلمي في مشاهد يوم القيامة زغلول النجار 1 / 5
» الاعجاز العلمي في مشاهد يوم القيامة زغلول النجار 2 / 5
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى