أنذرتكم النار عبد الوهاب الطريري
صفحة 1 من اصل 1
أنذرتكم النار عبد الوهاب الطريري
بسم الله الرحمن الرحيم
أنذرتكم النار
عبد الوهاب الطريري
الحمد لله الذي أنشأ خلقه وبرا ..
الحمد لله الذي خلق الخلق بقدرته .. وصرف أمورهم بحكمته ..
الحمد لله الذي ذلت لعظمته الرقاب .. ولانت لقوته الصعاب .. وجرى بأمره السحاب ..
الحمد لله .. الذي تسبحه البحار الزاخرات .. والأنهار الجاريات .. والجبال الراسيات ..
أحمده سبحانه وحلاوة محامده تزداد مع التكرار .. وأشكره وفضله على من شكر مدرار ..
والصلاة والسلام على النعمة المهداة .. والرحمة المسداة .. محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم ..
أما بعد أيها الأخوة والأخوات ..
خلق الله تعالى الخلق من أصل واحد .. وجعلهم يختلفون في أشكالهم وأحوالهم ..
منهم الغني ومنهم الفقير .. ومنهم والأبيض والأسود .. والبخيل والكريم .. والشاكر واللئيم .. منهم التقي العابد .. الفاجر الفاسد ..
ومنهم الصالح الزاهد .. والكافر الحاقد ..
لكن هؤلاء جميعاً يتفقون في أنهم يسعون سعياً حثيثاً لتحصيل غاية واحدة .. هي السعادة ..
فالتاجر الذي يمضي نهاره في التجارات .. والطالب الذي يقضي السنين بين المدارس والجامعات .. والموظف الذي يبحث عن أرفع المرتبات ..
والرجل الذي يتزوج امرأة حسناء .. أو يبني منزلاً فاخراً .. كل هؤلاء إنما يبحثون عن السعادة ..
بل والشباب والفتيات الذين يستمعون الأغنيات .. وينظرون إلى المحرمات .. إنما يبحثون عن السعادة ..
سعة الصدر .. وراحة البال .. وصفاء النفس .. غايات تسعى النفوس لتحصيلها ..
فعجباً لهذه السعادة الذي يكثر طلابها .. ويزدحم الناس في طريق الوصول إليها ..
ولكن السؤال الكبير .. هل حصل أحد من هؤلاء على السعادة التي يرجوها ؟!
هل هو في أنس وفرح حقيقي ليس فيه تصنع ولا تظاهر ؟
كلا بل - والله - أكثر هؤلاء كما قال أحدهم :
ما لقيت الأنــام إلا رأوا مني ابتساماً وليس يدرون ما بي
أُظهر الانشراح للنــاس حـتى يتمنــوا أنهم في ثيابي
لو دروا أني شـقي حزين ضاق في صدره فسيح الرحاب
لتناءوا عـني ولم يقربوني ثم زادوا نفـــورهم باغتيابي
فكـأني آتي بأعظم ذنب لو تبدت تعاستي للصــحاب
هكذا الناس يطلبون المنايا للذي بينهم جليل المصــاب
وأول من يفقد السعادة هو من التمسها بمعصية الله تعالى ..
فأصحاب المعاصي في الحقيقة ليسوا سعداء .. وإن أظهروا الانشراح والفرح ..
ولا تغتر بظاهر عبيد الشهوة .. فإنهم يبتسمون ويضحكون ..
ولكن قلوبهم على غير ذلك ..
ووالله لو شاهدت هاتيك الصدور رأيتهــا كمراجل النـــيران
ووقودها الشهوات والحسرات والالآم لا تخبو مدى الأزمـــان
أرواحهم في وحشة وجسومهم في كدحها لا في رضى الرحــمن
ما سعيهم إلا لطيب العيش في الدنيـا ولو أفضى إلى النـــيران
هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق النفس والشيطـــان
لا ترض ما اختاروه هم لنفوسهم فقد ارتضوا بالذل والحرمــان
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة لم يسق منها الرب ذا الكفـــران
لكنــها والله أحقـر عنده من ذا الجناح القاصر الطـــيران
طبعت على كدر فكيف تنالها صفواً أهذا قـط في الإمكـــان
والله لو أن القلوب سليمة لتقطعت أسفا من الحرمــــــان
لكنها سكرى بحب حياتها الدنيا وسوف تفيق بعد زمـــــان
بالله ما عذر امرئ هو مؤمن حقا بهذا ليس باليقظــــــان
تالله لو شاقتك جنات النعيم طلبتهـا بنفائس الأثمــــــان
ولكن لله تعالى أقوام عاشوا عيش سعداء ..
أذاقهم الله طعم محبّته .. ونعّمهم بمناجاته .. وطهّر سرائرهم بمراقبته .. وزين رؤوسهم بتيجان مودّته ..
فذاقوا نعيم الجنة قبل أن يدخلوها ..
فلله درهم من أقوام عرفوا طريق السعادة فسلكوه ..
وقد اشتاق النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا العيش فكان يدعو كما عند الترمذي وغيره ويقول : اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء .. ونزل الشهداء .. وعيش السعداء .. ومرافقة الأنبياء .. والنصر على الأعداء ..
أولئك السعداء .. إذا ضاق صدر أحدهم بمصيبة .. أو اشتاقت نفسه إلى حاجة ..
بسط في ظلمة الليل يداً سائلة .. وسجد بنفس واجلة .. وسأل ربه من خير كل نائلة ..
وأحسن الظن بربه .. وعلم بأنه واقف بين يدي ملك .. لا تشتبه عليه اللغات .. ولا تختلط عنده الأصوات .. ولا يتبرم بكثرة السائلين وتنوع المسئولات ..
إذا جن عليهم الليل .. وفتح ربهم أبواب مغفرته .. كانوا أولَ الداخلين .. فهم المؤمنون بآيات الله حقاً ..
] إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون * أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون * ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون [ ..
روى البخاري ومسلم ..
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وكنت غلاماً شاباً .. وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني .. فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر .. وإذا لها قرنان .. وإذا فيها أناس قد عرفتهم .. فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار .. قال : فلقينا ملك آخر .. فقال لي : لم ترع .. فقصصتُها على حفصة .. فقصّتها حفصةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال : نعم الرجل عبد الله .. لو كان يصلي من الليل ..
فكان عبد الله بعدها لا ينام من الليل إلا قليلاً ..
قال عنه مولاه نافع : كبر سنّ عبد الله بن عمر ..
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الوتر فقال فيما رواه الترمذي وأصله في الصحيحين : ( إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن ) ..
ويجمع الله لمن يصلي الوتر بين نعمتي الدنيا والآخرة .. استمع إلى هذا الحديث الحسن .. الذي رواه الترمذي قال صلى الله عليه وسلم : ( قال عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد ) ..
والعجب .. أن صلاة الوتر هي أسهل العبادات .. ومع ذلك يهملها كثير من الناس ..
لو إن إنساناً صلى المغرب ..
ولو حدثت رجلاً بفضل صلاة الضحى ..
صلاة الوتر أفضل ..
ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها أحد عشرة ركعة .. فإن ثقلت عليك فصلها تسع ركعات فإن شقّت فصلها سبعاً أو خمساً أو صلها ثلاثاً .. فإن تكاسلت نفسك عن ذلك فصلها ولو ركعة واحدة ..
الله أكبر ركعة وتكتب عند الله ممن صلوا الليل ..
وبعض الناس إذا قلنا صلاة الليل ظن بأنه لا بدَّ أن يقوم قبل الفجر ..
فكن من هؤلاء السعداء .. الذين أحسنوا علاقتهم بربهم ..
فإذا نزلت بك حاجة ..
فصفَّ قدميك في المحراب .. وعفر وجهك في التراب .. واستعن بالملك الغلاب ..
واصدق في لجئك .. وابك بين يدي ربك ..
فإذا رأى الله منك الذل والانكسار .. وصدق الحاجة والاعتذار ..
كشف عنك الضر .. ومنَّ عليك بانشراح الصدر ..
فعندها تذوق لذائذ الصالحين .. وتحيا حياة المطمئنين ..
وفي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه .. والإنابة إليه ..
ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه :
أن رجلاً فقيراً كان له بغل يكاري عليه من دمشق إلى الزبداني قال هذا الرجل :
فركب معي ذات مرة رجل فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب .. فقلت: لا خبرة لي فيها .. فقال: بل هي أقرب .. فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل .. فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكيناً معه وقصدني .. ففررت من بين يديه وتبعني .. فناشدته الله وقلت : خذ البغل بما عليه .. فقال هو لي : وإنما أريد قتلك .. فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل .. فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال: عجل .. فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد .. فبقيت واقفاً متحيراً وهو يقول: هيا افرغ .. فأجرى الله على لساني قوله تعالى: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء" فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعاً .. فتعلقت بالفارس وقلت: بالله من أنت ؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر وضاق صدره .. فزع إلى الصلاة ..
وكان يقول أرحنا بالصلاة يا بلال .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : جعلت قرة عيني في الصلاة ..
وكان للصالحين مع الصلاة شأن عجيب ..
قال أبو صالح ابن أخت مالك بن دينار : كان خالي إذا جنَّ عليه الليل ..
وقال أبو سليمان الداراني يقول : بينما أنا ساجد بالليل إذ غلبني النوم .. فإذا أنا بحوراء .. فركضتني برجلها وقالت :حبيبي أترقد عيناك .. والـمَـلِك يقظان ينظر إلى المتهجدين ؟ بؤساً لعين آثرت لذة نوم على لذة مناجاة العزيز .. قم فقد دنا الفراغ .. ولقي المحبون بعضهم بعضاً .. فما هذا الرقاد ؟ حبيبي وقرةَ عيني .. أترقد عيناك ؟؟ وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام ؟ ..
الله أكبر تعب هؤلاء في الصلوات .. وفارقوا الشهوات .. حتى تزينت لهم الحور في الجنات ..
] إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور [ ..
وأينما جالست هؤلاء السعداء .. وجدت أنهم أبعدُ الناس عما يغضب ربهم ..
قطع خوف الله قلوبهم .. وملأت محبته نفوسهم ..
علموا أن الله غافرُ الذنب .. وقابلُ التوب .. لكن ذلك لم ينسهم أنه شديد العقاب ..دقيق الحساب ..
إذا رضي رحم .. ورحمته وسعت كل شيء .. وإذا غضب لعن .. ولعنته لا يقوم لها شيء ..
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .. في يوم خيبر .. غلام ..
كلا .. والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها يوم خيبر .. من المغانم لم تصبها المقاسم .. لتشتعل عليه ناراً ..
ولا يجر العبد إلى المعاصي الكبار إلا تساهلُه بالصغار ..
وقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال وهو يكلم التابعين .. وحسبك بهم عبادة وورعاً .. يقول لهم :
إنكم لتعملون أعمالاً .. هي أدق في أعينكم من الشعر .. إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات يعني المهلكات ..
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاباً قال له فيه :
وإذا أحببت أن تحقر عملك .. فتفكر فيما أنعم الله عليك .. وقدر ما عمل الصالحون قبلك .. وقدر عقوبته في الذنوب ..
إنما فعل الله بآدم الذي فعل بأكلة أكلها .. فقال عنه : [ وعصى آدم ربه فغوى ] ..
وإنما لعن إبليس وجعله شيطاناً رجيماً .. من أجل سجدة أبى أن يسجدها ..
ولعن اليهود .. وجعل منهم قردة وخنازير من أجل حيتان أصابوها يوم السبت وقد نهوا أن يصيدوا فيه ..
فتفكر في نعيم الجنة .. وملكها .. وكرامتها ..
فإذا فكرت في هذا كله عرفت نفسك ..
وعلمت أن عملك لن يغني عنك شيئاً .. إلا أن يتغمدك الله برحمته وبعفوه ..
وكم من الناس – أيها الأخوة - يتساهل بالمحرمات فإذا نُصح قال :
أنا ما فعلت إلا شيئاً يسيراً .. والناس يفعلون أكبر مما أفعل ..
والله تعالى يقول : [ وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ] ..
ومن هانت عظمة ربه في نفسه .. فتساهل بالمعاصي والمخالفات .. فليعلم أنه ما ضرّ إلا نفسه ..
وأن لله تعالى عباداً لا يعصون الله ما أمرهم .. ويفعلون ما يؤمرون ..
وهم أكثر منا عدداً .. وأكثر تعبداً وخوفاً ..
روى البخاري ومسلم أن في السماء بيتاً يسمى بالبيت المعمور يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك فيصلون ثم يخرجون منه .. ولا يعودون إلى يوم القيامة ..
وصحّ فيما رواه أبو داود والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام ) ..
وصح عند الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إني لأرى ما لا ترون .. وأسمع ما لا تسمعون .. إن السماء أطت ( يعني ثقلت من شدة ما فوقها ) وحق لها أن تئط .. ما منها موضع أربع أصابع .. إلإ وعليه ملك واضع جبهته ساجداً لله .. والله لو تعلمون ما أعلم .. لضحكتم قليلاً .. ولبكيتم كثيراً .. ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل ) ..
وأخرج المروزي بإسناد حسّنه ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن لله تعالى ملائكةٌ ترعد فرائصهم من خيفته .. ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه .. إلا وقعت على ملك يصلي ..
وإن لله عز وجل ملائكةٌ سجود لله مذ يومَ خلق الله السماوات والأرض .. لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعون إلى يوم القيامة ..
وملائكةٌ ركوع لم يرفعوا رؤوسهم .. ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ..
وصفوفٌ لم ينصرفوا عن مصافهم .. ولا ينصرفون عنها إلى يوم القيامة ..
وإذا رفعوا ونظروا إلى وجه الله تعالى قالوا : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ) ..
والله تعالى يقول : ] فإن استكبروا فالذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون [ ..
ولما عظم هؤلاء السعداءُ ربهم حق التعظيم .. قاموا على أقدام الخوف .. فخافوا من ويلات الذنوب .. وتركوا لذة عيشهم .. في سبيل أن يلقوا ربهم وهو راض عنهم ..
ماعز بن مالك رضي الله عنه ..
أصل قصته في الصحيحين وأسوقها لكم من مجموع رواياتها ..
كان ماعز شاباً من الصحابة .. متزوج في المدينة ..
وسوس له الشيطان يوماً .. وأغراه بجارية لرجل من الأنصار ..
فخلا بها عن أعين الناس .. وكان الشيطان ثالثَهما .. فلم يزل يزين كلاً منهما لصاحبه حتى زنيا ..
فلما فرغ ماعز من جرمه .. تخلى عنه الشيطان .. فبكى وحاسب نفسه .. ولامها .. وخاف من عذاب الله .. وضاقت عليه حياته .. وأحاطت به خطيئته .. حتى أحرق الذنب قلبه ..
فجاء إلى طبيب القلوب .. ووقف بين يديه وصاح من حرّ ما يجد وقال :
يا رسول الله .. إن الأبعد قد زنى .. فطهرني ..
فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. فجاء من شقه الآخرَ فقال : يا رسول الله .. زنيت .. فطهرني ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ويحك ارجع .. فاستغفر الله وتب إليه ..
فرجع غير بعيد .. فلم يطق صبراً ..
فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله طهرني ..
فقال رسول الله : ويحك .. ارجع فاستغفر الله وتب إليه ..
قال : فرجع غير بعيد .. ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني ..
فصاح به النبي صلى الله عليه وسلم .. وقال : ويلك .. وما يدريك ما الزنى ؟ ..
ثم أمر به فطرد .. وأخرج ..
ثم أتاه الثانية ، فقال : يا رسول الله ، زنيت .. فطهرني ..
فقال : ويلك .. وما يدريك ما الزنى ؟ ..
وأمر به .. فطُرد .. وأخرج ..
ثم أتاه الثالثةَ .. والرابعةَ كذلك .. فلما أكثر عليه ..
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومَه : أبه جنون ؟ قالوا : يا رسول الله .. ما علمنا به بأساً ..
فقال : أشرب خمراً ؟ فقام رجل فاستنكهه وشمّه فلم يجد منه ريح خمر ..
فقال صلى الله عليه وسلم : هل تدري ما الزنى ؟
قال : نعم .. أتيت من امرأة حراماً ، مثلَ ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً ..
فقال صلى الله عليه وسلم : فما تريد بهذا القول ؟
قال : أريد أن تطهرني ..
قال صلى الله عليه وسلم : نعم .. فأمر به أن يرجم .. فرجم حتى مات ..
فلما صلوا عليه ودفنوه مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على موضعه مع بعض أصحابه ..
فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه :
أنظر إلى هذا .. الذي ستر الله عليه ولم تدعه نفسه حتى رُجم رَجم الكلاب ..
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم سار ساعة .. حتى مر بجيفة حمار .. قد أحرقته الشمس حتى انتفخ وارتفعت رجلاه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : أين فلان وفلان ؟
قالا : نحن ذانِ .. يا رسول الله ..
قال : انزلا .. فكلا من جيفة هذا الحمار ..
قالا : يا نبي الله !! غفر الله لك .. من يأكل من هذا ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : ما نلتما .. من عرض أخيكما .. آنفا أشدُّ من أكل الميتة .. لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم .. والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ..
فطوبى .. لماعز بن مالك .. نعم وقع في الزنى .. وهتك الستر الذي بينه وبين ربه ..
فلما فرغ من معصيته .. ذهبت اللذات .. وبقيت الحسرات ..
لكنه تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم ..
صبروا قليلا فاستراحوا دائما يا عزة التوفيق للإنسان
والرب ليس يضيع ما يتحمل المتحملون من أجله من شان
ويذكر الرحمن واحدهم مذاكرة الحبيب يقول يا بن فلان
هل تذكر اليوم الذي قد كنت فيه مبارزا بالذنب والعصيان
فيقول رب أما مننت بغفرة قدما فانك واسع الغفران
فيجيبه الرحمن مغفرتي التي قد أوصلتك إلى المحل الداني
ولا يعني كلامنا عن ماعز رضي الله عنه أننا نطلب من كل من وقع في كبيرة أن يطالب بإقامة الحدّ عليه .. لكن الذي نريده هو أن لا تتمكن المعصية من القلب حتى يألفها ولا يحدث منها توبة .. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أحوال القلوب فقال كما في صحيح مسلم :
تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا .. فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء .. وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء .. حتى تصير على قلبين ..
على أبيض مثلِ الصفا .. فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ..
والآخر أسود مرباداً .. كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ..
فأين تلك القلوب البيضاء التي ترتجف إذا وقعت في المعصية .. فتسارع إلى التوبة والإنابة ..
فإن التساهل بالذنوب هو طريق السوء والخذلان .. في الدنيا والآخرة ..
ذكر ابن الجوزي في ذم الهوى ..
أنه كان ببغداد رجل يطلق بصره في المحرمات .. ويتتبع الشهوات .. ذكر فلم يدكر .. وزجر فلم بنزجر ..
فاجتاز يوماً بباب رجل نصراني .. فاطلع داخل البيت فرأى ابنة النصراني فتعلق بها قلبه ..
فقال لي : قد جاء الأجل .. وحان الوقت .. وما لقيت صاحبتي في الدنيا .. وأنا أريد أن ألقاها في الآخرة .. فقلت : ستلقى خيراً منها في الآخرة ..
فقال : لا أريد إلا هي ..
قلت : لا سبيل لك إلى ذلك .. وأنت مسلم وهي نصرانية ..
فشهق بأعلى صوته وقال : فإني أرجع عن دين محمد .. وأؤمن بعيسى والصليبِ الأعظم ..
فصحت به اتق الله .. ولا تكفر .. ما عند الله خير وأبقى .. فبكى وأخذ يشهق حتى مات ..
فتولى أهل المارستان أمره ..
ومضيت أنا إلى تلك المرأة .. فوجدتها مريضة .. فدخلت عليها وجعلت أحدثها عنه ..
فلما علمت بموته صاحت وقالت :
أنا ما لقيت صاحبي في الدنيا .. وأريد أن ألقاه في الآخرة .. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..وأنا بريئة من دين النصرانية ..
فنهرها أبوها ..فبكت .. واشتدَّ بكاها ..
فقال أبوها : خذها إليكم فلا أساكن من فارقت دينها .. قال : فلم تلبث بعد ذلك إلا يسيراً .. وماتت ..
نعوذ بالله من الخذلان .. ووساوس الشيطان ..
وكم من امرأة ورجل تلذذت منهما العينان .. وأطربت الأذنان .. لكن عاقبة ذلك الذلُ والهوان .. وعذابُ النيران .. ولا يظلم ربك أحداً ..
فمن استقام على دين الله عاش عيش السعداء .. وختم بخاتمة الأتقياء .. وحشر مع الأتقياء .. ورافق الأنبياء ..
] إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم [ ..
والسعداء قوم كثر في الدنيا اجتهادهم .. فعلت بين الناس رتبهم .. حتى أصبحوا لا يقاسون عند الله بأشكالهم وأحجامهم وإنما يرتفعون عند الله بأعمالهم ..
روى الإمام أحمد وغيرُه .. أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .. كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فمرا بشجرة فأمره النبي أن يصعدها ويحتزَّ له عوداً يتسوك به ..
فرقى ابن مسعود وكان خفيفاً نحيل الجسم .. فأخذ يعالج العود لقطعه .. فأتت الريح فحركت ثوبه وكشفت ساقيه .. فإذا هما ساقان دقيقتان صغيرتان ..
فضحك القوم من دقة ساقيه ..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ممّ تضحكون ؟! .. من دقة ساقيه ؟! والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد ..
ما الذي أثقلهما في الميزان .. إنه طول القيام .. ومداومة الصيام ..
ما حملته ساقاه إلى حرام ..
أما غير ابن مسعود ممن زينوا ظواهرهم .. وأهملوا بواطنهم .. بيّضوا ثيابهم وسوّدوا قلوبهم .. فقد قال فيهم أبو القاسم صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة .. ثم قال صلى الله عليه وسلم : اقرءوا إن شئتم ] فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً [ ..
وإن الإنسان كلما أعرض عن طاعة مولاه .. وازداد انخراطاً في اللذات .. واتباعاً للشهوات .. نزع الله منه أسباب السعادة . وسلط عليه الضيق والهموم .. ولا يرُفع عنه ذلك إلا بالتوبة إلى الله والرجوع إليه ..
لماذا ؟ لأن انشراح الصدر .. ولذة العمر .. نعم عظيمة لا يعطيها الله إلا لمن يحب .. لذا امتن الله بها على رسوله وقال له ] ألم نشرح لك صدرك [ ..
وأول عقوبات المعاصي ضيق الصدر .. ولو علم العاصي والعاصية .. ما في العفاف والطاعة من اللذة والسرور .. والانشراح والحبور .. لعلموا أن الذي فاتهم من لذة الإيمان .. أضعافُ ما حصل لهم من لذة معصية عابرة .. فضلاً عما يكون يوم القيامة ..
قال ابن عباس رضي الله عنه : إن للحسنة نوراً في القلب .. وضياء في الوجه .. وسعة في الرزق .. ومحبة في قلوب الناس .. وإن للسيئة ظلمة في القلب .. وسواداً في الوجه .. ووهناً في البدن .. وبغضة في قلوب الخلق ..
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ..
وصدق الله إذ قال : ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون [ ..
فأهل الهدى والإيمان لهم انشراح الصدر واتساعه .. وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والبلاء .. والكربة والشقاء .. وانفراط الأمر .. وتعاسة العمر .. وقد قال الله : ] ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً [ ..
إن الملل الدائم الذي ينزله الله بمن عصاه .. أو طلب السعادة والأنس في غير رضاه .. ليضيق على أهل المعصية دنياهم .. وينغص عليهم عيشهم .. حتى يتحول ما يسعون وراءه من متع إلى عذاب يتعذبون به .
لماذا ..
لماذا يتحول سماعهم للغناء .. ومواقعتهم للفحشاء .. وشربهم للخمر .. ونظرهم إلى الحرام ..
لماذا يتحول هذا إلى ضيق بعد أن كان سعة .. وحزن بعد أن كان فرحة ..
لماذا ؟ لأن الله تعالى خلق الإنسان لوظيفة واحدة .. لا يمكن أن تستقيم حياته لو اشتغل بغيرها .. ] وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ ..
فإذا استعمل الإنسان جسده وروحه لغير الوظيفة التي خالق لأجلها تحولت حياته إلى جحيم ..
لو أن رجلاً يمشي في طريق فانقطع نعله فجأة فلما رأى ذلك قال : لا مشكلة أستعمل القلم بدل النعل ثم وضع نعله تحت رجله وأراد المشي لقلنا له : أنت مجنون لأن القلم صنع للكتابة ولم يصنع للمشي ..
وكذلك احتاج قلماً فلم يجد فقال : لا مشكلة أكتب بحذائي ثم تناول حذاءه وبدأ يجرّه على الورق !! لقلنا له : أنت مجنون لأن الحذاء إنما صنع لوظيفة واحدة هي المشي ولم يصنع للكتابة ..
وكذلك الإنسان خلق لوظيفة واحدة هي طاعة لله وعبادته .. فمن استعمل حياته لغير هذه الوظيفة فلا بدَّ أن يضل ويشقى ..
ولو نظرت في حال من استعملوا حياتهم لغير ما خلقوا له لوجدت في حياتهم من الفساد والضياع ما لا يوجد عند غيرهم ..
لماذا يكثر الانتحار في بلاد الإباحية والفجور ..
لماذا ينتحر في أمريكا سنويا أكثر من خمسة وعشرين ألف شخص ..
وقل مثل ذلك في بريطانيا .. وقل مثله في فرنسا .. وفي السويد .. وإيطاليا ..وغيرها ..
لماذا .. ألم يجدوا خموراً يشربون ؟ كلا الخمور كثيرة ..
ألم يجدوا بلاداً يسافرون ؟ كلا البلاد واسعة ..
أو منعوا من الزنى ؟
أم حيل بينهم وبين الملاعب والملاهي ..
أو أقفلت في وجوههم الحانات والبارات ..
كلا .. بل هم يفعلون ما شاءوا .. يتقلبون بين متع أعينهم .. وأبصارهم وفروجهم ..
إذن لماذا ينتحرون .. لماذا يملون من حياتهم ؟
لماذا يتركون الخمور والزنى والملاهي .. ويختارون الموت .. لماذا ..
الجواب واضح ] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً [ ..
تلاحقه المعيشة الضنك في ذهابه ومجيئه .. وسفره وإقامته .. تأكل معه وتشرب ..
تقوم معه وتقعد .. تلازمه في نومه ويقظته ..
تنغّص عليه حياته حتى الموت .. ومن أعرض عن الله وتكبر .. ألقى الله عليه الرعب الدائم .. قال الله ] سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب [ .. لماذا ؟ ] بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين [ ..
أما العارفون لربهم .. المقبلون عليه بقلوبهم فهم السعداء ] من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ ..
حدثني أحد الدعاة أنه ذهب للعلاج في بريطانيا ..
قال : فأدخلت إلى مستشفى من أكبر المستشفيات هناك .. لا يكاد يدخله إلا كبير أو وزير .. فلما دخل عليَّ الطبيب ورأى مظهري قال : أنت مسلم ؟
قلت : نعم ..
فقال : هناك مشكلة تحيرني منذ عرفت نفسي .. هل يمكن أن تسمعها مني ؟
قلت : نعم ..
فقال : أنا عندي أموال كثيرة .. ووظيفة مرموقة .. وشهادة عالية .. وقد جربت جميع المتع .. شربت الخمور المتنوعة .. وواقعت الزنى ..وسافرت إلى بلاد كثيرة .. ومع ذلك .. لا أزال أشعر بضيق دائم .. وملل من هذه المتع .. حتى عرضت نفسي على عدة أطباء نفسيين .. وفكرت في الانتحار عدة مرات لعلي أجد حياة أخرى .. ليس فيها ملل .. ألا تشعر أنت بمثل هذا الملل والضيق ؟!
فقلت له : لا .. بل أنا في سعادة دائمة .. وسوف أذلك على حل المشكلة .. ولكن أجبني ..
أنت إذا أردت أن تمتع عينيك فماذا تفعل ؟ قال : نظر إلى امرأة حسناء أو منظر جميل ..
قلت : فإذا أردت أن تمتع أذنيك فماذا تفعل ؟ قال : أستمع إلى موسيقى هادئة ..
قلت : فإذا أردت أن تمتع أنفك فماذا تفعل ؟ قال : أشم عطراً .. أو أذهب إلى حديقة ..
قلت له : حسناً .. إذا أردت أن تمتع عينك لماذا لا تستمع إلى موسيقى ؟
فعجب مني وقال : لا يمكن لأن هذه متعة خاصة بالأذن ..
قلت : فإذا أردت أن تمتع أنفك لماذا لا تنظر إلى منظر جميل ؟ فعجب أكثر وقال : لا يمكن لأن هذه متعة خاصة بالعين .. ولا يمكن أن يتمتع بها الأنف ..
قلت له : حسناً .. وصلت إلى ما أريده منك ..
أنت تحس بهذا الضيق والملل في عينك ؟
قال : لا .. قلت : تحس به في أذنك .. في أنفك .. فمك .. فرجك ..
قال : لا أحس به في قلبي .. في صدري ..
قلت : أنت تحس بهذا الضيق في قلبك .. والقلب له متعة خاصة به .. لا يمكن أن يتمتع بغيرها .. ولا بدَّ أن تعرف الشيء الذي يمتع القلب .. لأنك بسماعك للموسيقى .. وشربك للخمر .. ونظرك وزناك .. لست تمتع قلبك وإنما تمتع هذه الأعضاء ..
فعجب الرجل .. وقال : صحيح .. فكيف أمتع قلبي ؟
قلت : بأن تشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمداً رسول الله .. وتسجد بين يدي خالقك .. وتشكو بثك وهمك إلى الله .. فإنك بذلك تعيش في راحة واطمئنان وسعادة ..
فهزّ الرجل رأسه وقال : أعطني كتباً عن الإسلام .. وادعُ لي .. وسوف أسلم ..
وصدق الله إذ قال : ] يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ ..
فعجباً لأقوام يلتمسون الأنس والانشراح .. ويبحثون عن السعادة في غير طريقها .. والله يقول : ] أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ ..
ففرّق الله بين عيش السعداء .. وعيش الأشقياء .. في المحيا والممات ..
بل إن المحسن كلما ازداد إحساناً في الدنيا .. عظمت لذته وسعادته .. وأحسن الله إليه في رزقه .. وولده .. ووظيفته .. ومسكنه .. أحسن إليه في كل شيء ..
قال تعالى : ] قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ ..
ذكر أصحاب السير وأصل القصة في صحيح مسلم ..
أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه الصحابي الجليل .. قتل أبوه في معركة أحد .. وخلف عنده سبع أخوات ليس لهن عائل غيره .. وخلف ديناً كثيراً .. على ظهر هذا الشاب الذي لا يزال في أول شبابه ..
فكان جابر دائماً ساهم الفكر .. منشغل البال بأمر دَينه وأخواته .. والغرماء يطالبونه صباحاً ومساءً ..
خرج جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع .. وكان لشدة فقره على جمل كليل ضعيف ما يكاد يسير .. ولم يجد جابر ما يشتري به جملاً .. فسبقه الناس وصار هو في آخر القافلة ..
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في آخر الجيش .. فأدرك جابراً يدبّ به جمله .. والناس قد سبقوه .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مالك يا جابر ؟
قال : يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا ..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنخه .. فأناخه جابر وأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته .. ثم قال : أعطني العصا من يدك أو اقطع لي عصا من شجرة ..فناوله جابر العصا ..
فما زالا يتزايدان حتى بالغا به أربعين درهماً .. أوقية من ذهب ..
فقال جابر : نعم .. ولكن أشترط عليك أن أبقى عليه إلى المدينة ..
قال صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم : نعم ..
فلما وصلوا إلى المدينة .. مضى جابر إلى منزله وأنزل متاعه من على الجمل ومضى ليصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وربط الجمل عند المسجد ..
فما خرج النبي صلى الله عليه وسلم قال جابر : يا رسول الله هذا جملك ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا بلال .. أعط جابراً أربعين درهماً وزده ..
أتراني ماكستك لآخذ جملك ..
يعني أنا لم أكن أطالبك بخفض السعر لأجل أن آخذ الجمل وإنما لأجل أن أقدر كم أعطيك من المال معونة لك على أمورك ..
ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ..
وإنك لتحزن .. إذا رأيت مسلمين عقلاء .. يلتمسون السرور وسعة الصدر ..
بالاجتماع على مشاهدة محرم .. أو الحديث عنه .. أو مزاولته .. في بيت أو بستان .. أو متنزّه .. أو في جلسة على طريق أو شاطئ ..
في مجالس لا تقربها الملائكة .. ولا تغشاها الرحمة ..
ويتفرقون عنها بصدور ضيقة .. وأنفسٍ مكتئبة ..
ويزين بعضهم لبعض هذا المنكر .. وكأنهم قد اجتمعوا على مباح أو طاعة ..
وكأن ليس لهم إله يراقبهم .. ولا ربٌ يحاسبهم .. وتبحث عنهم في مجالس الذكر فلا تجدهم ..
ثم يوم القيامة يكفر بعضه ببعض ويلعن بعضهم بعضاً ..
وقد قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم : ( أيما قوم جلسوا .. فأطالوا الجلوس .. ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله .. ويصلوا على نبيه صلى الله عليه وسلم .. إلا كانت عليهم من الله ترة ( أي ثأر وعقوبة ) إن شاء الله عذبهم .. وإن شاء غفر لهم ) ..
وإنه ليشتدّ حزنك أكثر .. إذا رأيت فتيات مسلمات .. هن حفيدات خديجة وفاطمة .. وأخوات حفصة وعائشة .. قد طهّر الله قلوبهن من الشرك .. وأعينهن من الخيانة .. وحفظ فروجهن من الفجور ..
قد سلم لهن الأسماع والأبصار .. وتفضل عليهن بالستر والعافية .. لم تروّع إحداهن في بلدها .. ولم تفجع في أبيها ولا ولدها .. لم يغتصبها فاجر .. ولم يعتدِ عليها كافر ..
ومع كل هذه النعم تجد إحداهن تتسكع سوق .. وتنساق وراء شهوة .. في هاتف .. أو مجلة .. أو صداقة فاجرة ..
وتخالف ربها بتقليد الكافرات .. في اللباس والمظهر ..
وقد يكون نظرها إلى القنوات .. وتقليبها للمجلات .. أكثرَ من نظرها في السور والآيات .. وحضور مجالس الصالحات ..
وتظن المسكينة أن السعادة فيما تفعله .. أو تزينه لها صديقاتها .. أو يحتال به عليها ذئب فاجر .. أو شاب غادر ..
ولا يلبث كل ذلك أن ينقلب عليها شقاءً وضيقاً ..
والعبد حتى لو حصل شيئاً من ملاذه فتمتع بها .. وسعِد بتحصيلها .. فإنه لا يلبث حتى يملها .. ويذهب عنه ذهوله .. وتتحول هذه الملاذّ إلى أسباب ضيق وملل وتعاسة ..
ذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن المسلمين غزو حصناً من حصون الروم .. وكان حصناً منيعاً .. فحاصروه وأطالوا الحصار وتمنع عليهم ..
وأثناء حصارهم أطلت امرأة من نساء الروم فرآها رجل من المسلمين اسمه ابن عبد الرحيم ..
فأعجبته .. وتعلق قلبه بها .. فراسلها : كيف السبيل إليك ؟
فقالت : أن تتنصر .. وتصعد إليَّ ..
فتنصّر وتسلل إليها ..
مسكين ظن أن السعادة في امرأة ينكحها .. وخمر يشربها .. ونسي أن السعادة العظمى هي مصاحبته لهؤلاء الأخيار يصوم ويصلي .. ويقرأ ويجاهد ..
فلما فقده المسلمون اغتموا لذلك غماً شديداً ..
ثم طالت بهم الأيام ولم يستطيعوا فتح الحصن فذهبوا ..
فلما كان بعد مدة مرّ فريق منهم بالحصن فتذاكروا ابن عبد الرحيم .. فتساءلوا عنه .. وعلى أي حال هو الآن ؟! ..
فنادوا باسمه : يا ابن عبد الرحيم .. فأطلَّ عليهم ..
فقالوا : قد حصلت ما تريد .. فأين قرآنك وعلمك ؟ ما فعلت صلاتك ؟
فقال : لقد أنسيت القرآن كله .. ولا أذكر منه إلا آية واحدة .. قوله تعالى : ] ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [ قال الله : ] ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ ..
فهذه هي السعادة الحقيقية .. واللذة الأبدية .. التي ضيع طريقها الكثيرون ..
هذه هي السعادة التي يعيش بها المرء حياة المطمئنين ..
فيا من فقد السعادة .. إن كنت تريد السعادة .. فقد عرفت طريقها ..
واحذر من خداع إبليس الذي يوسوس لك بالنظر إلى المحرمات .. والوقوع في الشهوات .. يمنيك بالمتعة والسرور .. والأنس والحبور ..
فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور .. ويحصل ما في الصدور .. وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله .. وينظر كل عبد ما قدمت يداه ..
واعلم بأن السعداء إذا ذكروا تذكروا ..
فذاك إبراهيم بن أدهم كان أبوه من ملوك خراسان .. وكان في سهو وغفلة .. فصاح به صائح يوماً فقال له : يا إبراهيم .. ما للهو خلقت .. ] أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون [ .. فخف من ربك وأعدّ الزاد لقبرك .. فتاب إبراهيم من ساعته وأصبح من العباد ..
وذاك الفضيل بن عياض .. كان سارقاً قاطع طريق .. فقفز في بيت في ظلمة الليل .. فسمع قارئاً يقرأ قوله تعالى : ] ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [ .. فبكى الفضيل وقال : ربِّ قد آن .. ربِّ قد آن .. ثم قصد المسجد من ساعته وتاب واستعدَّ للقاء ربه ..
وذاك زاذان الكندي الإمام المحدث كان صاحب لهو وطرب ..
ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى .
فقام و ضرب بالعود على الأرض فكسره ثم أسرع فأدركه وجعل يبكي بين يدي عبد الله بن مسعود ..
فاعتنقه عبد الله بن مسعود .. وبكى وقال : كيف لا أحب من قد أحبه الله .. ثم لازم زاذان ابن مسعود حتى تعلم القرآن .. وصار إماماً في العلم ..
وذاك القعنبي الإمام المحدث .. كان في شبابه يشرب النبيذ ويصحب الأحداث ..
فدعى أصحابه يوماً .. وقعد على الباب ينتظرهم ..
فمر شعبة بن الحجاج الإمام المحدث على والناس خلفه يهرعون ..
فقال القعنبي : من هذا ؟
قيل : شعبة ..
قال : وأيش شعبة ؟
قالوا : محدث ..
فقام إليه وعليه إزار أحمر .. فقال له : حدثني .. يعني ما دمت محدثاً فحدّثني ..
فقال له : ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك ..
فأشهر سكينة وقال: تحدثني أو أطعنك ؟
فالتفت إليه شعبة وقال : حدثنا منصور .. عن ربعي .. عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت ..
فلما سمع القعنبي هذا الحديث .. وافق منه قلباً صافياً .. وتذكر ما يحارب به ربَّه منذ سنين ..
ورمى سكينه ورجع إلى منزله . فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فهراقه ..
ثم استأذن أمه بالسفر إلى المدينة لطلب العلم .. ومضى من وقته ولزم مالك بن أنس .. حتى حفظ عنه وأصبح من كبار العلماء المحدثين ..
وسبب هدايته موعظة عابرة .. لكنها صادفت قلباً حياً ..
فأدم ذكر ربك على جميع أحوالك .. واحرص على مجالسة الصالحين .. وحضور دروس العلم والدين .. فإن للذكر من شرح الصدر .. ولذة العمر .. ما لا يوصف ..
فابكِ بين يدي ربك .. واعترف بتقصيرك وذنبك .. واعترف بنعمته عليك .. وقل :
يا مـنزل الآيـات والفـرقان بـيني وبينـك حـرمة القرآن
اشرح به صـدري لمعرفة الهدى واعصـم به قلبي من الشيطـان
يســر به أمري واقض مآربي وأجرْ به جسدي من النيران
واحطط به وزري وأخلص نيتي واشدد به أزري وأصلح شاني
واكشف به ضري وحقق توبتي أربِح به بيعي بلا خسران
طهر به قلبي وصفِّ سريرتي أجمل به ذكري وأعلِ مكاني
واقطع به طمعي وشرِّف همتي كثِّر به ورعي وأحيي جناني
أسهر به ليلي وأظم جوارحي أسبِل بفيض دموعها أجفاني
أمزجه يا ربي بلحمي مع دمي واغسل به قلبي من الأضغان
أنت الذي صوَّرتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمان
أنت الذي علمتني ورحمتني وجعلت صدري واعي القرآن
أنت الـذي أطـعمتني وسقيتني من غـير كسب يد ولا دكـان
وجبرتني وسترتني ونصرتني وغمرتني بالفضل والإحسان
أنت الـذي آويتــني وحبوتني وهـديتني من حيرة الخذلان
وزرعـت لي بين القلوب مودة والـعطفَ منـك برحمـة وحنان
ونشـرت لي في العالمين محامداً وسترت عن أبصــارهم عصيـاني
وجعلت ذِكري في البريّة شائعاً حـتى جعـلت جميعهـم إخـواني
والله لو علــموا قبيح سريرتي لأبى السـلام علـيَّ مـن يلقـاني
ولأعرضوا عني ومـلّوا صحـبتي ولبؤت بعـد كـرامـة بهــوان
لكن سترت معـايبي ومثـالـبي وحلُـمتَ عـن سقطي وعن طغياني
فـــلك المحامد والمدائح كلها بخواطـــري وجوارحي ولساني
ولقـد مننت عليَّ ربِّ بأنعُــمٍ مـا لـي بشكـر أقلِّـهن يـدان
فوَحـق حكمتـك التي آتيتـني حـتى شـددت بنـورها أركـاني
لإن اجتبتني من رضاك مـــعونة حــــــتى يقوي أيدُها إيماني
لأُسبحنـك بكــرة وعشيـة ولَـتخدمنك في الـدجـى أركـاني
ولأذكرنـك قائمـاً أو قـاعداً ولأشـكـرنك سـائر الأحيــان
ولأكتمنَّ عن الـــبرية خِلّتي ولأشكــــونّ إليك جهد زماني
ولأجعلنّ المقلتين كـلاهــما من خشيـة الــرحمـن باكيتـان
ولأجعلن رضاك أكبر هـِمـتي ولأقبضـنّ عـن الفـجـور عنـاني
ولأمنعن النفس عن شهواتهـــا ولأجعـلن الـزهد مـن أعــواني
ولأحسمن عن الأنام مطامعي بحســـــام يأس لم تشبه بنان
ولأقصدنك في جميع حوائجــي من دون قصـد فــلانة وفــلان
ولأتلونَّ حروف وحيك في الـدجى ولأُحـرِقــنّ بنـوره شيـطـاني
اللهم إنا نسألك عيش السعداء .. وموت الشهداء .. والحشر مع الأتقياء .. ومرافقة الأنبياء .. اللهم إنا نسألك من الخير كله ..
كتبه / د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
أنذرتكم النار
عبد الوهاب الطريري
الحمد لله الذي أنشأ خلقه وبرا ..
الحمد لله الذي خلق الخلق بقدرته .. وصرف أمورهم بحكمته ..
الحمد لله الذي ذلت لعظمته الرقاب .. ولانت لقوته الصعاب .. وجرى بأمره السحاب ..
الحمد لله .. الذي تسبحه البحار الزاخرات .. والأنهار الجاريات .. والجبال الراسيات ..
أحمده سبحانه وحلاوة محامده تزداد مع التكرار .. وأشكره وفضله على من شكر مدرار ..
والصلاة والسلام على النعمة المهداة .. والرحمة المسداة .. محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم ..
أما بعد أيها الأخوة والأخوات ..
خلق الله تعالى الخلق من أصل واحد .. وجعلهم يختلفون في أشكالهم وأحوالهم ..
منهم الغني ومنهم الفقير .. ومنهم والأبيض والأسود .. والبخيل والكريم .. والشاكر واللئيم .. منهم التقي العابد .. الفاجر الفاسد ..
ومنهم الصالح الزاهد .. والكافر الحاقد ..
لكن هؤلاء جميعاً يتفقون في أنهم يسعون سعياً حثيثاً لتحصيل غاية واحدة .. هي السعادة ..
فالتاجر الذي يمضي نهاره في التجارات .. والطالب الذي يقضي السنين بين المدارس والجامعات .. والموظف الذي يبحث عن أرفع المرتبات ..
والرجل الذي يتزوج امرأة حسناء .. أو يبني منزلاً فاخراً .. كل هؤلاء إنما يبحثون عن السعادة ..
بل والشباب والفتيات الذين يستمعون الأغنيات .. وينظرون إلى المحرمات .. إنما يبحثون عن السعادة ..
سعة الصدر .. وراحة البال .. وصفاء النفس .. غايات تسعى النفوس لتحصيلها ..
فعجباً لهذه السعادة الذي يكثر طلابها .. ويزدحم الناس في طريق الوصول إليها ..
ولكن السؤال الكبير .. هل حصل أحد من هؤلاء على السعادة التي يرجوها ؟!
هل هو في أنس وفرح حقيقي ليس فيه تصنع ولا تظاهر ؟
كلا بل - والله - أكثر هؤلاء كما قال أحدهم :
ما لقيت الأنــام إلا رأوا مني ابتساماً وليس يدرون ما بي
أُظهر الانشراح للنــاس حـتى يتمنــوا أنهم في ثيابي
لو دروا أني شـقي حزين ضاق في صدره فسيح الرحاب
لتناءوا عـني ولم يقربوني ثم زادوا نفـــورهم باغتيابي
فكـأني آتي بأعظم ذنب لو تبدت تعاستي للصــحاب
هكذا الناس يطلبون المنايا للذي بينهم جليل المصــاب
وأول من يفقد السعادة هو من التمسها بمعصية الله تعالى ..
فأصحاب المعاصي في الحقيقة ليسوا سعداء .. وإن أظهروا الانشراح والفرح ..
ولا تغتر بظاهر عبيد الشهوة .. فإنهم يبتسمون ويضحكون ..
ولكن قلوبهم على غير ذلك ..
ووالله لو شاهدت هاتيك الصدور رأيتهــا كمراجل النـــيران
ووقودها الشهوات والحسرات والالآم لا تخبو مدى الأزمـــان
أرواحهم في وحشة وجسومهم في كدحها لا في رضى الرحــمن
ما سعيهم إلا لطيب العيش في الدنيـا ولو أفضى إلى النـــيران
هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق النفس والشيطـــان
لا ترض ما اختاروه هم لنفوسهم فقد ارتضوا بالذل والحرمــان
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة لم يسق منها الرب ذا الكفـــران
لكنــها والله أحقـر عنده من ذا الجناح القاصر الطـــيران
طبعت على كدر فكيف تنالها صفواً أهذا قـط في الإمكـــان
والله لو أن القلوب سليمة لتقطعت أسفا من الحرمــــــان
لكنها سكرى بحب حياتها الدنيا وسوف تفيق بعد زمـــــان
بالله ما عذر امرئ هو مؤمن حقا بهذا ليس باليقظــــــان
تالله لو شاقتك جنات النعيم طلبتهـا بنفائس الأثمــــــان
ولكن لله تعالى أقوام عاشوا عيش سعداء ..
أذاقهم الله طعم محبّته .. ونعّمهم بمناجاته .. وطهّر سرائرهم بمراقبته .. وزين رؤوسهم بتيجان مودّته ..
فذاقوا نعيم الجنة قبل أن يدخلوها ..
فلله درهم من أقوام عرفوا طريق السعادة فسلكوه ..
وقد اشتاق النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا العيش فكان يدعو كما عند الترمذي وغيره ويقول : اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء .. ونزل الشهداء .. وعيش السعداء .. ومرافقة الأنبياء .. والنصر على الأعداء ..
أولئك السعداء .. إذا ضاق صدر أحدهم بمصيبة .. أو اشتاقت نفسه إلى حاجة ..
بسط في ظلمة الليل يداً سائلة .. وسجد بنفس واجلة .. وسأل ربه من خير كل نائلة ..
وأحسن الظن بربه .. وعلم بأنه واقف بين يدي ملك .. لا تشتبه عليه اللغات .. ولا تختلط عنده الأصوات .. ولا يتبرم بكثرة السائلين وتنوع المسئولات ..
إذا جن عليهم الليل .. وفتح ربهم أبواب مغفرته .. كانوا أولَ الداخلين .. فهم المؤمنون بآيات الله حقاً ..
] إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون * أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون * ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون [ ..
روى البخاري ومسلم ..
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وكنت غلاماً شاباً .. وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني .. فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر .. وإذا لها قرنان .. وإذا فيها أناس قد عرفتهم .. فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار .. قال : فلقينا ملك آخر .. فقال لي : لم ترع .. فقصصتُها على حفصة .. فقصّتها حفصةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال : نعم الرجل عبد الله .. لو كان يصلي من الليل ..
فكان عبد الله بعدها لا ينام من الليل إلا قليلاً ..
قال عنه مولاه نافع : كبر سنّ عبد الله بن عمر ..
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الوتر فقال فيما رواه الترمذي وأصله في الصحيحين : ( إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن ) ..
ويجمع الله لمن يصلي الوتر بين نعمتي الدنيا والآخرة .. استمع إلى هذا الحديث الحسن .. الذي رواه الترمذي قال صلى الله عليه وسلم : ( قال عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد ) ..
والعجب .. أن صلاة الوتر هي أسهل العبادات .. ومع ذلك يهملها كثير من الناس ..
لو إن إنساناً صلى المغرب ..
ولو حدثت رجلاً بفضل صلاة الضحى ..
صلاة الوتر أفضل ..
ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها أحد عشرة ركعة .. فإن ثقلت عليك فصلها تسع ركعات فإن شقّت فصلها سبعاً أو خمساً أو صلها ثلاثاً .. فإن تكاسلت نفسك عن ذلك فصلها ولو ركعة واحدة ..
الله أكبر ركعة وتكتب عند الله ممن صلوا الليل ..
وبعض الناس إذا قلنا صلاة الليل ظن بأنه لا بدَّ أن يقوم قبل الفجر ..
فكن من هؤلاء السعداء .. الذين أحسنوا علاقتهم بربهم ..
فإذا نزلت بك حاجة ..
فصفَّ قدميك في المحراب .. وعفر وجهك في التراب .. واستعن بالملك الغلاب ..
واصدق في لجئك .. وابك بين يدي ربك ..
فإذا رأى الله منك الذل والانكسار .. وصدق الحاجة والاعتذار ..
كشف عنك الضر .. ومنَّ عليك بانشراح الصدر ..
فعندها تذوق لذائذ الصالحين .. وتحيا حياة المطمئنين ..
وفي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه .. والإنابة إليه ..
ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه :
أن رجلاً فقيراً كان له بغل يكاري عليه من دمشق إلى الزبداني قال هذا الرجل :
فركب معي ذات مرة رجل فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب .. فقلت: لا خبرة لي فيها .. فقال: بل هي أقرب .. فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل .. فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكيناً معه وقصدني .. ففررت من بين يديه وتبعني .. فناشدته الله وقلت : خذ البغل بما عليه .. فقال هو لي : وإنما أريد قتلك .. فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل .. فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال: عجل .. فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد .. فبقيت واقفاً متحيراً وهو يقول: هيا افرغ .. فأجرى الله على لساني قوله تعالى: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء" فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعاً .. فتعلقت بالفارس وقلت: بالله من أنت ؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر وضاق صدره .. فزع إلى الصلاة ..
وكان يقول أرحنا بالصلاة يا بلال .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : جعلت قرة عيني في الصلاة ..
وكان للصالحين مع الصلاة شأن عجيب ..
قال أبو صالح ابن أخت مالك بن دينار : كان خالي إذا جنَّ عليه الليل ..
وقال أبو سليمان الداراني يقول : بينما أنا ساجد بالليل إذ غلبني النوم .. فإذا أنا بحوراء .. فركضتني برجلها وقالت :حبيبي أترقد عيناك .. والـمَـلِك يقظان ينظر إلى المتهجدين ؟ بؤساً لعين آثرت لذة نوم على لذة مناجاة العزيز .. قم فقد دنا الفراغ .. ولقي المحبون بعضهم بعضاً .. فما هذا الرقاد ؟ حبيبي وقرةَ عيني .. أترقد عيناك ؟؟ وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام ؟ ..
الله أكبر تعب هؤلاء في الصلوات .. وفارقوا الشهوات .. حتى تزينت لهم الحور في الجنات ..
] إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور [ ..
وأينما جالست هؤلاء السعداء .. وجدت أنهم أبعدُ الناس عما يغضب ربهم ..
قطع خوف الله قلوبهم .. وملأت محبته نفوسهم ..
علموا أن الله غافرُ الذنب .. وقابلُ التوب .. لكن ذلك لم ينسهم أنه شديد العقاب ..دقيق الحساب ..
إذا رضي رحم .. ورحمته وسعت كل شيء .. وإذا غضب لعن .. ولعنته لا يقوم لها شيء ..
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .. في يوم خيبر .. غلام ..
كلا .. والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها يوم خيبر .. من المغانم لم تصبها المقاسم .. لتشتعل عليه ناراً ..
ولا يجر العبد إلى المعاصي الكبار إلا تساهلُه بالصغار ..
وقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال وهو يكلم التابعين .. وحسبك بهم عبادة وورعاً .. يقول لهم :
إنكم لتعملون أعمالاً .. هي أدق في أعينكم من الشعر .. إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات يعني المهلكات ..
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاباً قال له فيه :
وإذا أحببت أن تحقر عملك .. فتفكر فيما أنعم الله عليك .. وقدر ما عمل الصالحون قبلك .. وقدر عقوبته في الذنوب ..
إنما فعل الله بآدم الذي فعل بأكلة أكلها .. فقال عنه : [ وعصى آدم ربه فغوى ] ..
وإنما لعن إبليس وجعله شيطاناً رجيماً .. من أجل سجدة أبى أن يسجدها ..
ولعن اليهود .. وجعل منهم قردة وخنازير من أجل حيتان أصابوها يوم السبت وقد نهوا أن يصيدوا فيه ..
فتفكر في نعيم الجنة .. وملكها .. وكرامتها ..
فإذا فكرت في هذا كله عرفت نفسك ..
وعلمت أن عملك لن يغني عنك شيئاً .. إلا أن يتغمدك الله برحمته وبعفوه ..
وكم من الناس – أيها الأخوة - يتساهل بالمحرمات فإذا نُصح قال :
أنا ما فعلت إلا شيئاً يسيراً .. والناس يفعلون أكبر مما أفعل ..
والله تعالى يقول : [ وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ] ..
ومن هانت عظمة ربه في نفسه .. فتساهل بالمعاصي والمخالفات .. فليعلم أنه ما ضرّ إلا نفسه ..
وأن لله تعالى عباداً لا يعصون الله ما أمرهم .. ويفعلون ما يؤمرون ..
وهم أكثر منا عدداً .. وأكثر تعبداً وخوفاً ..
روى البخاري ومسلم أن في السماء بيتاً يسمى بالبيت المعمور يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك فيصلون ثم يخرجون منه .. ولا يعودون إلى يوم القيامة ..
وصحّ فيما رواه أبو داود والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام ) ..
وصح عند الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إني لأرى ما لا ترون .. وأسمع ما لا تسمعون .. إن السماء أطت ( يعني ثقلت من شدة ما فوقها ) وحق لها أن تئط .. ما منها موضع أربع أصابع .. إلإ وعليه ملك واضع جبهته ساجداً لله .. والله لو تعلمون ما أعلم .. لضحكتم قليلاً .. ولبكيتم كثيراً .. ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل ) ..
وأخرج المروزي بإسناد حسّنه ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن لله تعالى ملائكةٌ ترعد فرائصهم من خيفته .. ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه .. إلا وقعت على ملك يصلي ..
وإن لله عز وجل ملائكةٌ سجود لله مذ يومَ خلق الله السماوات والأرض .. لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعون إلى يوم القيامة ..
وملائكةٌ ركوع لم يرفعوا رؤوسهم .. ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ..
وصفوفٌ لم ينصرفوا عن مصافهم .. ولا ينصرفون عنها إلى يوم القيامة ..
وإذا رفعوا ونظروا إلى وجه الله تعالى قالوا : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ) ..
والله تعالى يقول : ] فإن استكبروا فالذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون [ ..
ولما عظم هؤلاء السعداءُ ربهم حق التعظيم .. قاموا على أقدام الخوف .. فخافوا من ويلات الذنوب .. وتركوا لذة عيشهم .. في سبيل أن يلقوا ربهم وهو راض عنهم ..
ماعز بن مالك رضي الله عنه ..
أصل قصته في الصحيحين وأسوقها لكم من مجموع رواياتها ..
كان ماعز شاباً من الصحابة .. متزوج في المدينة ..
وسوس له الشيطان يوماً .. وأغراه بجارية لرجل من الأنصار ..
فخلا بها عن أعين الناس .. وكان الشيطان ثالثَهما .. فلم يزل يزين كلاً منهما لصاحبه حتى زنيا ..
فلما فرغ ماعز من جرمه .. تخلى عنه الشيطان .. فبكى وحاسب نفسه .. ولامها .. وخاف من عذاب الله .. وضاقت عليه حياته .. وأحاطت به خطيئته .. حتى أحرق الذنب قلبه ..
فجاء إلى طبيب القلوب .. ووقف بين يديه وصاح من حرّ ما يجد وقال :
يا رسول الله .. إن الأبعد قد زنى .. فطهرني ..
فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. فجاء من شقه الآخرَ فقال : يا رسول الله .. زنيت .. فطهرني ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ويحك ارجع .. فاستغفر الله وتب إليه ..
فرجع غير بعيد .. فلم يطق صبراً ..
فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله طهرني ..
فقال رسول الله : ويحك .. ارجع فاستغفر الله وتب إليه ..
قال : فرجع غير بعيد .. ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني ..
فصاح به النبي صلى الله عليه وسلم .. وقال : ويلك .. وما يدريك ما الزنى ؟ ..
ثم أمر به فطرد .. وأخرج ..
ثم أتاه الثانية ، فقال : يا رسول الله ، زنيت .. فطهرني ..
فقال : ويلك .. وما يدريك ما الزنى ؟ ..
وأمر به .. فطُرد .. وأخرج ..
ثم أتاه الثالثةَ .. والرابعةَ كذلك .. فلما أكثر عليه ..
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومَه : أبه جنون ؟ قالوا : يا رسول الله .. ما علمنا به بأساً ..
فقال : أشرب خمراً ؟ فقام رجل فاستنكهه وشمّه فلم يجد منه ريح خمر ..
فقال صلى الله عليه وسلم : هل تدري ما الزنى ؟
قال : نعم .. أتيت من امرأة حراماً ، مثلَ ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً ..
فقال صلى الله عليه وسلم : فما تريد بهذا القول ؟
قال : أريد أن تطهرني ..
قال صلى الله عليه وسلم : نعم .. فأمر به أن يرجم .. فرجم حتى مات ..
فلما صلوا عليه ودفنوه مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على موضعه مع بعض أصحابه ..
فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه :
أنظر إلى هذا .. الذي ستر الله عليه ولم تدعه نفسه حتى رُجم رَجم الكلاب ..
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم سار ساعة .. حتى مر بجيفة حمار .. قد أحرقته الشمس حتى انتفخ وارتفعت رجلاه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : أين فلان وفلان ؟
قالا : نحن ذانِ .. يا رسول الله ..
قال : انزلا .. فكلا من جيفة هذا الحمار ..
قالا : يا نبي الله !! غفر الله لك .. من يأكل من هذا ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : ما نلتما .. من عرض أخيكما .. آنفا أشدُّ من أكل الميتة .. لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم .. والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ..
فطوبى .. لماعز بن مالك .. نعم وقع في الزنى .. وهتك الستر الذي بينه وبين ربه ..
فلما فرغ من معصيته .. ذهبت اللذات .. وبقيت الحسرات ..
لكنه تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم ..
صبروا قليلا فاستراحوا دائما يا عزة التوفيق للإنسان
والرب ليس يضيع ما يتحمل المتحملون من أجله من شان
ويذكر الرحمن واحدهم مذاكرة الحبيب يقول يا بن فلان
هل تذكر اليوم الذي قد كنت فيه مبارزا بالذنب والعصيان
فيقول رب أما مننت بغفرة قدما فانك واسع الغفران
فيجيبه الرحمن مغفرتي التي قد أوصلتك إلى المحل الداني
ولا يعني كلامنا عن ماعز رضي الله عنه أننا نطلب من كل من وقع في كبيرة أن يطالب بإقامة الحدّ عليه .. لكن الذي نريده هو أن لا تتمكن المعصية من القلب حتى يألفها ولا يحدث منها توبة .. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أحوال القلوب فقال كما في صحيح مسلم :
تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا .. فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء .. وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء .. حتى تصير على قلبين ..
على أبيض مثلِ الصفا .. فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ..
والآخر أسود مرباداً .. كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ..
فأين تلك القلوب البيضاء التي ترتجف إذا وقعت في المعصية .. فتسارع إلى التوبة والإنابة ..
فإن التساهل بالذنوب هو طريق السوء والخذلان .. في الدنيا والآخرة ..
ذكر ابن الجوزي في ذم الهوى ..
أنه كان ببغداد رجل يطلق بصره في المحرمات .. ويتتبع الشهوات .. ذكر فلم يدكر .. وزجر فلم بنزجر ..
فاجتاز يوماً بباب رجل نصراني .. فاطلع داخل البيت فرأى ابنة النصراني فتعلق بها قلبه ..
فقال لي : قد جاء الأجل .. وحان الوقت .. وما لقيت صاحبتي في الدنيا .. وأنا أريد أن ألقاها في الآخرة .. فقلت : ستلقى خيراً منها في الآخرة ..
فقال : لا أريد إلا هي ..
قلت : لا سبيل لك إلى ذلك .. وأنت مسلم وهي نصرانية ..
فشهق بأعلى صوته وقال : فإني أرجع عن دين محمد .. وأؤمن بعيسى والصليبِ الأعظم ..
فصحت به اتق الله .. ولا تكفر .. ما عند الله خير وأبقى .. فبكى وأخذ يشهق حتى مات ..
فتولى أهل المارستان أمره ..
ومضيت أنا إلى تلك المرأة .. فوجدتها مريضة .. فدخلت عليها وجعلت أحدثها عنه ..
فلما علمت بموته صاحت وقالت :
أنا ما لقيت صاحبي في الدنيا .. وأريد أن ألقاه في الآخرة .. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..وأنا بريئة من دين النصرانية ..
فنهرها أبوها ..فبكت .. واشتدَّ بكاها ..
فقال أبوها : خذها إليكم فلا أساكن من فارقت دينها .. قال : فلم تلبث بعد ذلك إلا يسيراً .. وماتت ..
نعوذ بالله من الخذلان .. ووساوس الشيطان ..
وكم من امرأة ورجل تلذذت منهما العينان .. وأطربت الأذنان .. لكن عاقبة ذلك الذلُ والهوان .. وعذابُ النيران .. ولا يظلم ربك أحداً ..
فمن استقام على دين الله عاش عيش السعداء .. وختم بخاتمة الأتقياء .. وحشر مع الأتقياء .. ورافق الأنبياء ..
] إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم [ ..
والسعداء قوم كثر في الدنيا اجتهادهم .. فعلت بين الناس رتبهم .. حتى أصبحوا لا يقاسون عند الله بأشكالهم وأحجامهم وإنما يرتفعون عند الله بأعمالهم ..
روى الإمام أحمد وغيرُه .. أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .. كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فمرا بشجرة فأمره النبي أن يصعدها ويحتزَّ له عوداً يتسوك به ..
فرقى ابن مسعود وكان خفيفاً نحيل الجسم .. فأخذ يعالج العود لقطعه .. فأتت الريح فحركت ثوبه وكشفت ساقيه .. فإذا هما ساقان دقيقتان صغيرتان ..
فضحك القوم من دقة ساقيه ..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ممّ تضحكون ؟! .. من دقة ساقيه ؟! والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد ..
ما الذي أثقلهما في الميزان .. إنه طول القيام .. ومداومة الصيام ..
ما حملته ساقاه إلى حرام ..
أما غير ابن مسعود ممن زينوا ظواهرهم .. وأهملوا بواطنهم .. بيّضوا ثيابهم وسوّدوا قلوبهم .. فقد قال فيهم أبو القاسم صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة .. ثم قال صلى الله عليه وسلم : اقرءوا إن شئتم ] فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً [ ..
وإن الإنسان كلما أعرض عن طاعة مولاه .. وازداد انخراطاً في اللذات .. واتباعاً للشهوات .. نزع الله منه أسباب السعادة . وسلط عليه الضيق والهموم .. ولا يرُفع عنه ذلك إلا بالتوبة إلى الله والرجوع إليه ..
لماذا ؟ لأن انشراح الصدر .. ولذة العمر .. نعم عظيمة لا يعطيها الله إلا لمن يحب .. لذا امتن الله بها على رسوله وقال له ] ألم نشرح لك صدرك [ ..
وأول عقوبات المعاصي ضيق الصدر .. ولو علم العاصي والعاصية .. ما في العفاف والطاعة من اللذة والسرور .. والانشراح والحبور .. لعلموا أن الذي فاتهم من لذة الإيمان .. أضعافُ ما حصل لهم من لذة معصية عابرة .. فضلاً عما يكون يوم القيامة ..
قال ابن عباس رضي الله عنه : إن للحسنة نوراً في القلب .. وضياء في الوجه .. وسعة في الرزق .. ومحبة في قلوب الناس .. وإن للسيئة ظلمة في القلب .. وسواداً في الوجه .. ووهناً في البدن .. وبغضة في قلوب الخلق ..
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ..
وصدق الله إذ قال : ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون [ ..
فأهل الهدى والإيمان لهم انشراح الصدر واتساعه .. وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والبلاء .. والكربة والشقاء .. وانفراط الأمر .. وتعاسة العمر .. وقد قال الله : ] ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً [ ..
إن الملل الدائم الذي ينزله الله بمن عصاه .. أو طلب السعادة والأنس في غير رضاه .. ليضيق على أهل المعصية دنياهم .. وينغص عليهم عيشهم .. حتى يتحول ما يسعون وراءه من متع إلى عذاب يتعذبون به .
لماذا ..
لماذا يتحول سماعهم للغناء .. ومواقعتهم للفحشاء .. وشربهم للخمر .. ونظرهم إلى الحرام ..
لماذا يتحول هذا إلى ضيق بعد أن كان سعة .. وحزن بعد أن كان فرحة ..
لماذا ؟ لأن الله تعالى خلق الإنسان لوظيفة واحدة .. لا يمكن أن تستقيم حياته لو اشتغل بغيرها .. ] وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ ..
فإذا استعمل الإنسان جسده وروحه لغير الوظيفة التي خالق لأجلها تحولت حياته إلى جحيم ..
لو أن رجلاً يمشي في طريق فانقطع نعله فجأة فلما رأى ذلك قال : لا مشكلة أستعمل القلم بدل النعل ثم وضع نعله تحت رجله وأراد المشي لقلنا له : أنت مجنون لأن القلم صنع للكتابة ولم يصنع للمشي ..
وكذلك احتاج قلماً فلم يجد فقال : لا مشكلة أكتب بحذائي ثم تناول حذاءه وبدأ يجرّه على الورق !! لقلنا له : أنت مجنون لأن الحذاء إنما صنع لوظيفة واحدة هي المشي ولم يصنع للكتابة ..
وكذلك الإنسان خلق لوظيفة واحدة هي طاعة لله وعبادته .. فمن استعمل حياته لغير هذه الوظيفة فلا بدَّ أن يضل ويشقى ..
ولو نظرت في حال من استعملوا حياتهم لغير ما خلقوا له لوجدت في حياتهم من الفساد والضياع ما لا يوجد عند غيرهم ..
لماذا يكثر الانتحار في بلاد الإباحية والفجور ..
لماذا ينتحر في أمريكا سنويا أكثر من خمسة وعشرين ألف شخص ..
وقل مثل ذلك في بريطانيا .. وقل مثله في فرنسا .. وفي السويد .. وإيطاليا ..وغيرها ..
لماذا .. ألم يجدوا خموراً يشربون ؟ كلا الخمور كثيرة ..
ألم يجدوا بلاداً يسافرون ؟ كلا البلاد واسعة ..
أو منعوا من الزنى ؟
أم حيل بينهم وبين الملاعب والملاهي ..
أو أقفلت في وجوههم الحانات والبارات ..
كلا .. بل هم يفعلون ما شاءوا .. يتقلبون بين متع أعينهم .. وأبصارهم وفروجهم ..
إذن لماذا ينتحرون .. لماذا يملون من حياتهم ؟
لماذا يتركون الخمور والزنى والملاهي .. ويختارون الموت .. لماذا ..
الجواب واضح ] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً [ ..
تلاحقه المعيشة الضنك في ذهابه ومجيئه .. وسفره وإقامته .. تأكل معه وتشرب ..
تقوم معه وتقعد .. تلازمه في نومه ويقظته ..
تنغّص عليه حياته حتى الموت .. ومن أعرض عن الله وتكبر .. ألقى الله عليه الرعب الدائم .. قال الله ] سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب [ .. لماذا ؟ ] بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين [ ..
أما العارفون لربهم .. المقبلون عليه بقلوبهم فهم السعداء ] من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ ..
حدثني أحد الدعاة أنه ذهب للعلاج في بريطانيا ..
قال : فأدخلت إلى مستشفى من أكبر المستشفيات هناك .. لا يكاد يدخله إلا كبير أو وزير .. فلما دخل عليَّ الطبيب ورأى مظهري قال : أنت مسلم ؟
قلت : نعم ..
فقال : هناك مشكلة تحيرني منذ عرفت نفسي .. هل يمكن أن تسمعها مني ؟
قلت : نعم ..
فقال : أنا عندي أموال كثيرة .. ووظيفة مرموقة .. وشهادة عالية .. وقد جربت جميع المتع .. شربت الخمور المتنوعة .. وواقعت الزنى ..وسافرت إلى بلاد كثيرة .. ومع ذلك .. لا أزال أشعر بضيق دائم .. وملل من هذه المتع .. حتى عرضت نفسي على عدة أطباء نفسيين .. وفكرت في الانتحار عدة مرات لعلي أجد حياة أخرى .. ليس فيها ملل .. ألا تشعر أنت بمثل هذا الملل والضيق ؟!
فقلت له : لا .. بل أنا في سعادة دائمة .. وسوف أذلك على حل المشكلة .. ولكن أجبني ..
أنت إذا أردت أن تمتع عينيك فماذا تفعل ؟ قال : نظر إلى امرأة حسناء أو منظر جميل ..
قلت : فإذا أردت أن تمتع أذنيك فماذا تفعل ؟ قال : أستمع إلى موسيقى هادئة ..
قلت : فإذا أردت أن تمتع أنفك فماذا تفعل ؟ قال : أشم عطراً .. أو أذهب إلى حديقة ..
قلت له : حسناً .. إذا أردت أن تمتع عينك لماذا لا تستمع إلى موسيقى ؟
فعجب مني وقال : لا يمكن لأن هذه متعة خاصة بالأذن ..
قلت : فإذا أردت أن تمتع أنفك لماذا لا تنظر إلى منظر جميل ؟ فعجب أكثر وقال : لا يمكن لأن هذه متعة خاصة بالعين .. ولا يمكن أن يتمتع بها الأنف ..
قلت له : حسناً .. وصلت إلى ما أريده منك ..
أنت تحس بهذا الضيق والملل في عينك ؟
قال : لا .. قلت : تحس به في أذنك .. في أنفك .. فمك .. فرجك ..
قال : لا أحس به في قلبي .. في صدري ..
قلت : أنت تحس بهذا الضيق في قلبك .. والقلب له متعة خاصة به .. لا يمكن أن يتمتع بغيرها .. ولا بدَّ أن تعرف الشيء الذي يمتع القلب .. لأنك بسماعك للموسيقى .. وشربك للخمر .. ونظرك وزناك .. لست تمتع قلبك وإنما تمتع هذه الأعضاء ..
فعجب الرجل .. وقال : صحيح .. فكيف أمتع قلبي ؟
قلت : بأن تشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمداً رسول الله .. وتسجد بين يدي خالقك .. وتشكو بثك وهمك إلى الله .. فإنك بذلك تعيش في راحة واطمئنان وسعادة ..
فهزّ الرجل رأسه وقال : أعطني كتباً عن الإسلام .. وادعُ لي .. وسوف أسلم ..
وصدق الله إذ قال : ] يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ ..
فعجباً لأقوام يلتمسون الأنس والانشراح .. ويبحثون عن السعادة في غير طريقها .. والله يقول : ] أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ ..
ففرّق الله بين عيش السعداء .. وعيش الأشقياء .. في المحيا والممات ..
بل إن المحسن كلما ازداد إحساناً في الدنيا .. عظمت لذته وسعادته .. وأحسن الله إليه في رزقه .. وولده .. ووظيفته .. ومسكنه .. أحسن إليه في كل شيء ..
قال تعالى : ] قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ ..
ذكر أصحاب السير وأصل القصة في صحيح مسلم ..
أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه الصحابي الجليل .. قتل أبوه في معركة أحد .. وخلف عنده سبع أخوات ليس لهن عائل غيره .. وخلف ديناً كثيراً .. على ظهر هذا الشاب الذي لا يزال في أول شبابه ..
فكان جابر دائماً ساهم الفكر .. منشغل البال بأمر دَينه وأخواته .. والغرماء يطالبونه صباحاً ومساءً ..
خرج جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع .. وكان لشدة فقره على جمل كليل ضعيف ما يكاد يسير .. ولم يجد جابر ما يشتري به جملاً .. فسبقه الناس وصار هو في آخر القافلة ..
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في آخر الجيش .. فأدرك جابراً يدبّ به جمله .. والناس قد سبقوه .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مالك يا جابر ؟
قال : يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا ..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنخه .. فأناخه جابر وأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته .. ثم قال : أعطني العصا من يدك أو اقطع لي عصا من شجرة ..فناوله جابر العصا ..
فما زالا يتزايدان حتى بالغا به أربعين درهماً .. أوقية من ذهب ..
فقال جابر : نعم .. ولكن أشترط عليك أن أبقى عليه إلى المدينة ..
قال صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم : نعم ..
فلما وصلوا إلى المدينة .. مضى جابر إلى منزله وأنزل متاعه من على الجمل ومضى ليصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وربط الجمل عند المسجد ..
فما خرج النبي صلى الله عليه وسلم قال جابر : يا رسول الله هذا جملك ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا بلال .. أعط جابراً أربعين درهماً وزده ..
أتراني ماكستك لآخذ جملك ..
يعني أنا لم أكن أطالبك بخفض السعر لأجل أن آخذ الجمل وإنما لأجل أن أقدر كم أعطيك من المال معونة لك على أمورك ..
ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ..
وإنك لتحزن .. إذا رأيت مسلمين عقلاء .. يلتمسون السرور وسعة الصدر ..
بالاجتماع على مشاهدة محرم .. أو الحديث عنه .. أو مزاولته .. في بيت أو بستان .. أو متنزّه .. أو في جلسة على طريق أو شاطئ ..
في مجالس لا تقربها الملائكة .. ولا تغشاها الرحمة ..
ويتفرقون عنها بصدور ضيقة .. وأنفسٍ مكتئبة ..
ويزين بعضهم لبعض هذا المنكر .. وكأنهم قد اجتمعوا على مباح أو طاعة ..
وكأن ليس لهم إله يراقبهم .. ولا ربٌ يحاسبهم .. وتبحث عنهم في مجالس الذكر فلا تجدهم ..
ثم يوم القيامة يكفر بعضه ببعض ويلعن بعضهم بعضاً ..
وقد قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم : ( أيما قوم جلسوا .. فأطالوا الجلوس .. ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله .. ويصلوا على نبيه صلى الله عليه وسلم .. إلا كانت عليهم من الله ترة ( أي ثأر وعقوبة ) إن شاء الله عذبهم .. وإن شاء غفر لهم ) ..
وإنه ليشتدّ حزنك أكثر .. إذا رأيت فتيات مسلمات .. هن حفيدات خديجة وفاطمة .. وأخوات حفصة وعائشة .. قد طهّر الله قلوبهن من الشرك .. وأعينهن من الخيانة .. وحفظ فروجهن من الفجور ..
قد سلم لهن الأسماع والأبصار .. وتفضل عليهن بالستر والعافية .. لم تروّع إحداهن في بلدها .. ولم تفجع في أبيها ولا ولدها .. لم يغتصبها فاجر .. ولم يعتدِ عليها كافر ..
ومع كل هذه النعم تجد إحداهن تتسكع سوق .. وتنساق وراء شهوة .. في هاتف .. أو مجلة .. أو صداقة فاجرة ..
وتخالف ربها بتقليد الكافرات .. في اللباس والمظهر ..
وقد يكون نظرها إلى القنوات .. وتقليبها للمجلات .. أكثرَ من نظرها في السور والآيات .. وحضور مجالس الصالحات ..
وتظن المسكينة أن السعادة فيما تفعله .. أو تزينه لها صديقاتها .. أو يحتال به عليها ذئب فاجر .. أو شاب غادر ..
ولا يلبث كل ذلك أن ينقلب عليها شقاءً وضيقاً ..
والعبد حتى لو حصل شيئاً من ملاذه فتمتع بها .. وسعِد بتحصيلها .. فإنه لا يلبث حتى يملها .. ويذهب عنه ذهوله .. وتتحول هذه الملاذّ إلى أسباب ضيق وملل وتعاسة ..
ذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن المسلمين غزو حصناً من حصون الروم .. وكان حصناً منيعاً .. فحاصروه وأطالوا الحصار وتمنع عليهم ..
وأثناء حصارهم أطلت امرأة من نساء الروم فرآها رجل من المسلمين اسمه ابن عبد الرحيم ..
فأعجبته .. وتعلق قلبه بها .. فراسلها : كيف السبيل إليك ؟
فقالت : أن تتنصر .. وتصعد إليَّ ..
فتنصّر وتسلل إليها ..
مسكين ظن أن السعادة في امرأة ينكحها .. وخمر يشربها .. ونسي أن السعادة العظمى هي مصاحبته لهؤلاء الأخيار يصوم ويصلي .. ويقرأ ويجاهد ..
فلما فقده المسلمون اغتموا لذلك غماً شديداً ..
ثم طالت بهم الأيام ولم يستطيعوا فتح الحصن فذهبوا ..
فلما كان بعد مدة مرّ فريق منهم بالحصن فتذاكروا ابن عبد الرحيم .. فتساءلوا عنه .. وعلى أي حال هو الآن ؟! ..
فنادوا باسمه : يا ابن عبد الرحيم .. فأطلَّ عليهم ..
فقالوا : قد حصلت ما تريد .. فأين قرآنك وعلمك ؟ ما فعلت صلاتك ؟
فقال : لقد أنسيت القرآن كله .. ولا أذكر منه إلا آية واحدة .. قوله تعالى : ] ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [ قال الله : ] ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ ..
فهذه هي السعادة الحقيقية .. واللذة الأبدية .. التي ضيع طريقها الكثيرون ..
هذه هي السعادة التي يعيش بها المرء حياة المطمئنين ..
فيا من فقد السعادة .. إن كنت تريد السعادة .. فقد عرفت طريقها ..
واحذر من خداع إبليس الذي يوسوس لك بالنظر إلى المحرمات .. والوقوع في الشهوات .. يمنيك بالمتعة والسرور .. والأنس والحبور ..
فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور .. ويحصل ما في الصدور .. وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله .. وينظر كل عبد ما قدمت يداه ..
واعلم بأن السعداء إذا ذكروا تذكروا ..
فذاك إبراهيم بن أدهم كان أبوه من ملوك خراسان .. وكان في سهو وغفلة .. فصاح به صائح يوماً فقال له : يا إبراهيم .. ما للهو خلقت .. ] أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون [ .. فخف من ربك وأعدّ الزاد لقبرك .. فتاب إبراهيم من ساعته وأصبح من العباد ..
وذاك الفضيل بن عياض .. كان سارقاً قاطع طريق .. فقفز في بيت في ظلمة الليل .. فسمع قارئاً يقرأ قوله تعالى : ] ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [ .. فبكى الفضيل وقال : ربِّ قد آن .. ربِّ قد آن .. ثم قصد المسجد من ساعته وتاب واستعدَّ للقاء ربه ..
وذاك زاذان الكندي الإمام المحدث كان صاحب لهو وطرب ..
ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى .
فقام و ضرب بالعود على الأرض فكسره ثم أسرع فأدركه وجعل يبكي بين يدي عبد الله بن مسعود ..
فاعتنقه عبد الله بن مسعود .. وبكى وقال : كيف لا أحب من قد أحبه الله .. ثم لازم زاذان ابن مسعود حتى تعلم القرآن .. وصار إماماً في العلم ..
وذاك القعنبي الإمام المحدث .. كان في شبابه يشرب النبيذ ويصحب الأحداث ..
فدعى أصحابه يوماً .. وقعد على الباب ينتظرهم ..
فمر شعبة بن الحجاج الإمام المحدث على والناس خلفه يهرعون ..
فقال القعنبي : من هذا ؟
قيل : شعبة ..
قال : وأيش شعبة ؟
قالوا : محدث ..
فقام إليه وعليه إزار أحمر .. فقال له : حدثني .. يعني ما دمت محدثاً فحدّثني ..
فقال له : ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك ..
فأشهر سكينة وقال: تحدثني أو أطعنك ؟
فالتفت إليه شعبة وقال : حدثنا منصور .. عن ربعي .. عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت ..
فلما سمع القعنبي هذا الحديث .. وافق منه قلباً صافياً .. وتذكر ما يحارب به ربَّه منذ سنين ..
ورمى سكينه ورجع إلى منزله . فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فهراقه ..
ثم استأذن أمه بالسفر إلى المدينة لطلب العلم .. ومضى من وقته ولزم مالك بن أنس .. حتى حفظ عنه وأصبح من كبار العلماء المحدثين ..
وسبب هدايته موعظة عابرة .. لكنها صادفت قلباً حياً ..
فأدم ذكر ربك على جميع أحوالك .. واحرص على مجالسة الصالحين .. وحضور دروس العلم والدين .. فإن للذكر من شرح الصدر .. ولذة العمر .. ما لا يوصف ..
فابكِ بين يدي ربك .. واعترف بتقصيرك وذنبك .. واعترف بنعمته عليك .. وقل :
يا مـنزل الآيـات والفـرقان بـيني وبينـك حـرمة القرآن
اشرح به صـدري لمعرفة الهدى واعصـم به قلبي من الشيطـان
يســر به أمري واقض مآربي وأجرْ به جسدي من النيران
واحطط به وزري وأخلص نيتي واشدد به أزري وأصلح شاني
واكشف به ضري وحقق توبتي أربِح به بيعي بلا خسران
طهر به قلبي وصفِّ سريرتي أجمل به ذكري وأعلِ مكاني
واقطع به طمعي وشرِّف همتي كثِّر به ورعي وأحيي جناني
أسهر به ليلي وأظم جوارحي أسبِل بفيض دموعها أجفاني
أمزجه يا ربي بلحمي مع دمي واغسل به قلبي من الأضغان
أنت الذي صوَّرتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمان
أنت الذي علمتني ورحمتني وجعلت صدري واعي القرآن
أنت الـذي أطـعمتني وسقيتني من غـير كسب يد ولا دكـان
وجبرتني وسترتني ونصرتني وغمرتني بالفضل والإحسان
أنت الـذي آويتــني وحبوتني وهـديتني من حيرة الخذلان
وزرعـت لي بين القلوب مودة والـعطفَ منـك برحمـة وحنان
ونشـرت لي في العالمين محامداً وسترت عن أبصــارهم عصيـاني
وجعلت ذِكري في البريّة شائعاً حـتى جعـلت جميعهـم إخـواني
والله لو علــموا قبيح سريرتي لأبى السـلام علـيَّ مـن يلقـاني
ولأعرضوا عني ومـلّوا صحـبتي ولبؤت بعـد كـرامـة بهــوان
لكن سترت معـايبي ومثـالـبي وحلُـمتَ عـن سقطي وعن طغياني
فـــلك المحامد والمدائح كلها بخواطـــري وجوارحي ولساني
ولقـد مننت عليَّ ربِّ بأنعُــمٍ مـا لـي بشكـر أقلِّـهن يـدان
فوَحـق حكمتـك التي آتيتـني حـتى شـددت بنـورها أركـاني
لإن اجتبتني من رضاك مـــعونة حــــــتى يقوي أيدُها إيماني
لأُسبحنـك بكــرة وعشيـة ولَـتخدمنك في الـدجـى أركـاني
ولأذكرنـك قائمـاً أو قـاعداً ولأشـكـرنك سـائر الأحيــان
ولأكتمنَّ عن الـــبرية خِلّتي ولأشكــــونّ إليك جهد زماني
ولأجعلنّ المقلتين كـلاهــما من خشيـة الــرحمـن باكيتـان
ولأجعلن رضاك أكبر هـِمـتي ولأقبضـنّ عـن الفـجـور عنـاني
ولأمنعن النفس عن شهواتهـــا ولأجعـلن الـزهد مـن أعــواني
ولأحسمن عن الأنام مطامعي بحســـــام يأس لم تشبه بنان
ولأقصدنك في جميع حوائجــي من دون قصـد فــلانة وفــلان
ولأتلونَّ حروف وحيك في الـدجى ولأُحـرِقــنّ بنـوره شيـطـاني
اللهم إنا نسألك عيش السعداء .. وموت الشهداء .. والحشر مع الأتقياء .. ومرافقة الأنبياء .. اللهم إنا نسألك من الخير كله ..
كتبه / د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
مواضيع مماثلة
» أنذرتكم النار عبد الوهاب الطريري
» طباء المستقبل| عبد الوهاب الداودي
» خطباء المستقبل "3/6" عبد الوهاب الداود)
» يا أمة الله أنذرتك النار
» رجل لم تحرقه النار
» طباء المستقبل| عبد الوهاب الداودي
» خطباء المستقبل "3/6" عبد الوهاب الداود)
» يا أمة الله أنذرتك النار
» رجل لم تحرقه النار
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى