منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة الجن ايه رقم 1 الى 16 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة الجن ايه رقم 1 الى 16 الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة الجن ايه رقم 1 الى 16 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الخميس يونيو 14, 2012 10:41 pm

الجن

من الاية 1 الى الاية 3

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً (3)

سورة الجن

تعريف بسورة الجن

هذه السورة تبده الحس - قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها - بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها . . إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع , قوية التنغيم , ظاهرة الرنين ; مع صبغة من الحزن في إيقاعها , ومسحة من الأسى في تنغيمها , وطائف من الشجى في رنينها , يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها , ثم روح الإيحاء فيها . وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن , والاتجاه بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة , عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ , والرقابة الإلهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغSadقل:إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا . . قل:إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا . . قل:إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا , إلا بلاغا من الله ورسالاته , ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا , حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا . . قل:إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا , عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا , إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا , ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم , وأحاط بما لديهم , وأحصى كل شيء عددا). .

وذلك كله إلى جانب الإيقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن , وبيانهم الطويل المديد . وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور ; والاستجابة لها تغشى الحس بحاله من التدبر والتفكير , تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي !

وقراءة هذه السورة بشيء من الترتيل الهادئ , توقع في الحس هذا الذي وصفناه من المسحة الغالبة عليها . .

فإذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس ; إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات .

إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل , ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة , ويزعمون أحيانا أن محمدا [ ص ] يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها ! فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها ; وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا . والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد [ ص ] فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل , وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا , ولا الإجمال فيما عرفوا , ولا الاختصار فيما شعروا . فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ , ووهلة المشدوه , عن هذا الحادث العظيم , الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب . وترك آثاره ونتائجه في الكون كله ! . . وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما .

ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة , وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد ; ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف . فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض , فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر , لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض , فقال:أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه . . ثم بات آمنا ! كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبأون بما يتنبأون . وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين الله نسبا , وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة !

والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية , ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا !!!

وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم , وما تزال . . نجد في الصف الآخر اليوم منكرين لوجود الجن أصلا , يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة . .

وبين الإغراق في الوهم , والإغراق في الإنكار , يقرر الإسلام حقيقة الجن , ويصحح التصورات العامة عنهم , ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم:

فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا وهم كما يصفون أنفسهم هناSadوأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا). . ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعونSadوأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا , وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا). . وهم قابلون للهداية من الضلال , مستعدون لإدراك القرآن سماعا وفهما وتأثراSadقل:أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا:إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به , ولن نشرك بربنا أحدا). . وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان و الكفر فيهمSadوأنا لما سمعنا الهدى آمنا به , فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا . وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون , فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا , وأما القاسطون , فكانوا لجهنم حطبا). . وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهمSadوأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا). . وأنهم لا يعلمون الغيب , ولم تعد لهم صلة بالسماء: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا , وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع , فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا , وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا . . وأنهم لا صهر بينهم وبين الله - سبحانه وتعالى - ولا نسبSadوأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا). . وأن الجن لا قوة لهم مع قوة الله ولا حيلة: (وأنا ظننا أن لن نعجزالله في الأرض ولن نعجزه هربا). .

وهذا الذي ذكر في هذه السورة عن الجن بالإضافة إلى ما جاء في القرآن من صفات أخرى كتسخير طائفة من الشياطين لسليمان - وهم من الجن - وأنهم لم يعلموا بموته إلا بعد فترة , فدل هذا على أنهم لا يعلمون الغيب: فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته , فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين . .

ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله - وهو من الجن - غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم . . وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر , في حين أن كيان الإنس مرئي للجن .

هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قولهSadخلق الإنسان من صلصال كالفخار , وخلق الجان من مارج من نار). . يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب , تثبت وجوده , وتحدد الكثير من خصائصه ; وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير , العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق , وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة , ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك !

وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون . أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا , فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار , بصيغة الجزم والقطع , والسخرية من الاعتقاد بوجوده , وتسميته خرافة !

ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها ?! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم . وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم , ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام !

ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها ?! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى . فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم ; وهي كانت مجهولة بالأمس . والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية , وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها , أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون , وأنهم لم يكادوا يبدأون بعد !

ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها , فلم يروا الجن من بينها ?! ولا هذه . فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة . ولكن أحدا منهم لم ير الكهرب قط . وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها !

ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن ? ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء ? ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة ? إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم , لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس , بلا حجة ولا دليل ! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيدالموثوق بصحته , وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه . فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع .

والسورة التي بين أيدينا - بالإضافة إلى ما سبق - تساهم مساهمة كبيرة في إنشاء التصور الإسلامي عن حقيقة الألوهية , وحقيقة العبودية , ثم عن هذا الكون وخلائقه , والصلة بين هذه الخلائق المنوعة .

وفي مقالة الجن ما يشهد بوحدانية الله , ونفي الصاحبة والولد , وإثبات الجزاء في الآخرة ; وأن أحدا من خلق الله لا يعجزه في الأرض ولا يفلت من يديه ويفوته , فلا يلاقي جزاءه العادل . وتتكرر بعض هذه الحقائق فيما يوجه للرسول [ ص ] من الخطابSadقل:إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا). .(قل:إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا). . وذلك بعد شهادة الجن بهذه الحقيقة شهادة كاملة صريحة .

كما أن تلك الشهادة تقرر أن الألوهية لله وحده , وأن العبودية هي أسمى درجة يرتفع إليها البشرSadوأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا). . ويؤكد السياق هذه الحقيقة فيما يوجه للرسول [ ص ] من خطابSadقل:إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا). .

والغيب موكول لله وحده ; لا تعرفه الجنSadوأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا). . ولا تعرفه الرسل إلا ما يطلعهم الله عليه منه لحكمة يعلمهاSadقل:إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا . عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا , إلا من ارتضى من رسول , فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا . . .). .

"أما العباد والعبيد في هذا الكون , فقد علمتنا السورة أن بين بعضها والبعض الآخر مشاركات ومنافذ , ولو اختلف تكوينها , كالمشاركات التي بين الجن والإنس , مما حكته السورة وحكاه القرآن في مواضع أخرى . فالإنسان ليس بمعزل - حتى في هذه الأرض - عن الخلائق الأخرى . وبينه وبينها اتصال وتفاعل في صورة من الصور . وهذه العزلة التي يحسها الإنسان بجنسه - بله العزلة الفردية أو القبلية أو القومية - لا وجود لها في طبيعة الكون ولا في واقعه . وأحرى بهذا التصور أن يفسح في شعور الإنسان بالكون وما يعمره من أرواح وقوى وأسرار . قد يجهلها الإنسان , ولكنها موجودة بالفعل من حوله , فهو ليس الساكن الوحيد لهذا الكون كما يعن له أحيانا أن يشعر !!

ثم إن هناك ارتباطا بين استقامة الخلائق على الطريقة , وتحركات هذا الكون ونتائجها , وقدر الله في العبادSadوأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه . ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا). . وهذه الحقيقة تؤلف جانبا من التصور الإسلامي للارتباطات بين الإنسان والكون وقدر الله .

وهكذا تمتد إيحاءات السورة إلى مساحات ومسافات وأبعاد وآماد واسعة بعيدة , وهي سورة لا تتجاوز الثماني والعشرين آية , نزلت في حادثة معينة ومناسبة خاصة . .

فأما هذا الحادث الذي أشارت إليه السورة . حادث استماع نفر من الجن للقرآن . فتختلف بشأنه الروايات . قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه:"دلائل النبوة ":أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بنعبدان , أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار , حدثنا إسماعيل القاضي , أخبرنا مسدد , حدثنا أبو عوانة , عن أبي بشر , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:" ما قرأ رسول الله [ ص ] على الجن ولا رآهم . انطلق رسول الله [ ص ] في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ , وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء , أرسلت عليهم الشهب , فرجعت الشياطين إلى قومهم , فقالوا:ما لكم ? فقالوا:حيل بيننا وبين خبر السماء , وأرسلت علينا الشهب . قالوا:ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث , فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها , وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون مشارق الأرض و مغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء . فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله [ ص ] وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ , وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر , فلما سمعوا القرآن استمعوا إليه , فقالوا:هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء , فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا: (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا). . وأنزل الله على نبيه [ ص ]: (قل:أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن). . وإنما أوحي إليه قول الجن" [ ورواه البخاري عن مسدد بنحو هذا , وأخرجه مسلم عن شيبان ابن فروخ عن أبي عوانة بهذا النص ] .

فهذه رواية . وهناك رواية أخرى . . قال مسلم في صحيحه:حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى , حدثنا داود وهو ابن أبي هند , عن عامر , قال:سألت علقمة:هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله [ ص ] ليلة الجن ? قال:فقال علقمة:أنا سألت ابن مسعود - رضي الله عنه - فقلت:هل شهد أحد منكم مع رسول الله [ ص ] ليلة الجن ? قال:لا , ولكنا كنا مع رسول الله [ ص ] ذات ليلة , ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب , فقيل:استطير ? اغتيل ? قال:فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فلما أصبحنا إذا هو , جاء من قبل حراء . قال:فقلنا:يا رسول الله , فقدناك فطلبناك فلم نجدك , فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال:" أتاني داعي الجن , فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن " . قال:" فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم " وسألوه الزاد فقال:" كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما , وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " . قال رسول الله [ ص ]:" فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " . .

وهناك رواية أخرى عن ابن مسعود أنه كان تلك الليلة مع رسول الله [ ص ] ولكن إسناد الرواية الأولى أوثق . فنضرب عن هذه وأمثالها . . ومن الروايتين الواردتين في الصحيحين يتبين أن ابن عباس يقول:إن الرسول [ ص ] لم يعرف بحضور النفر من الجن , وأن ابن مسعود يقول:إنهم استدعوه . ويوفق البيهقي بين الروايتين بأنهما حادثان لا حادث واحد .

وهناك رواية ثالثة لابن اسحق قال:

" ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله [ ص ] من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب , فخرج رسول الله [ ص ] إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف , والمنعة بهم من قومه , ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل , فخرج إليهم وحده" .

" قال ابن اسحق:فحدثني يزيد بن زياد , عن محمد بن كعب القرظي قال:لما انتهى رسول الله [ ص ] إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم , وهم إخوة ثلاثة:"ياليل بن عمرو بن عمير , ومسعود بن عمرو بن عمير , وحبيب بن عمرو بن عمير . . . وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح . فجلس إليهم رسول الله [ ص ] فدعاهم إلى الله , وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام , والقيام معه على من خالفه من قومه . فقال له أحدهم:هو يمرط ثياب الكعبة [ أي يمزقها ] إن كان الله أرسلك ! وقال الآخر:أما وجد الله أحدا يرسله غيرك ? وقال الثالث:والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام . ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله [ ص ] من عندهم وقد يئس من خير ثقيف . وقد قال لهم - فيما ذكر لي -:" إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني " . وكره رسول الله [ ص ] أن يبلغ قومه عنه , فيذئرهم [ أي يحرشهم ] ذلك عليه ! "

" فلم يفعلوا , وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به , حتى اجتمع عليه الناس , وألجأوه إلى حائط [ أي بستان ] لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة - وهما فيه - ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه , فعمد إلى ظل حبلة من عنب [ أي طاقة من قضبان الكرم ] فجلس فيه , وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف . . . فلما اطمأن رسول الله [ ص ] قال - فيما ذكر لي -:" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي , وقلة حيلتي , وهواني على الناس , يا أرحم الراحمين , أنت رب المستضعفين وأنت ربي , إلى من تكلني ? إلى بعيد يتجهمني ? أم إلى عدو ملكته أمري ? إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي , ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات , وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك , أو يحل علي سخطك , لك العتبى حتى ترضى , ولا حول ولا قوة إلا بك " " . .

" قال:فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما , فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له:عداس . فقال له "خذ قطفا من هذا العنب , فضعه في هذا الطبق , ثم اذهب به إلى ذلك الرجل , فقل له يأكل منه . ففعل عداس , ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله [ ص ] ثم قال له:كل . فلما وضع رسول الله [ ص ] فيه يده قال:" بسم الله " ثم أكل . فنظر عداس في وجهه ثم قال:والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد . فقال له رسول الله [ ص ]:" ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس ? وما دينك ? " قال:نصراني , وأنا رجل من أهل نينوى . فقال له رسول الله [ ص ]:" من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ? " فقال عداس:وما يدريك ما يونس ابن متى ? فقال رسول الله [ ص ]:" ذاك أخي . كان نبيا وأنا نبي " فأكب عداس على رسول الله [ ص ] يقبل رأسه ويديه وقدميه . قال:يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك ! فلما جاءهما عداس قالا له:ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ? قال:يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا . لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي . قالا له:ويحك يا عداس ! لا يصرفنك عن دينك , فإن دينك خير من دينه ! "

" قال:ثم إن رسول الله [ ص ] انصرف من الطائف راجعا إلى مكة , حين يئس من خير ثقيف , حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي . فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى , وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين , فاستمعوا له , فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين , قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا . فقص الله خبرهم عليه [ ص ] قال الله عز وجل: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله (ويجركم من عذاب أليم). وقال تبارك وتعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة .

وقد علق ابن كثير في تفسيره على رواية ابن أسحاق هذه فقال:" هذا صحيح . ولكن قوله:إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر . فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور . وخروجه [ ص ] إلى الطائف كان بعد موت عمه . وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره . والله أعلم " .

وإذا صحت رواية ابن إسحاق عن أن الحادث وقع عقب عودة الرسول [ ص ] من الطائف , مكسور الخاطر من التصرف اللئيم العنيد الذي واجهه به كبراء ثقيف , وبعد ذلك الدعاء الكسير الودود لربه ومولاه , فإنه ليكون عجيبا حقا من هذا الجانب . أن يصرف الله إليه ذلك النفر من الجن , وأن يبلغه ما فعلوا وما قالوا لقومهم , وفيه من الدلالات اللطيفة الموحية ما فيه . .

وأيا كان زمان هذا الحادث وملابساته فهو أمر ولا شك عظيم . عظيم في دلالاته وفيما انطوى عليه . وفيما أعقبه من مقالة الجن عن هذا القرآن وعن هذا الدين . . فلنمض مع هذا كله كما يعرضه القرآن الكريم .

الدرس الأول:1 - 7 إيمان الجن لما سمعوا القرآن واعترافاتهم

(قل:أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا:إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به , ولن نشرك بربنا أحدا , وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا , وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا , وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا . وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا . وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا). .

والنفر ما بين الثلاثة والتسعة كالرهط . وقيل كانوا سبعة .

وهذا الافتتاح يدل على أن معرفة النبي [ ص ] بأمر استماع الجن له , وما كان منهم بعد أن سمعوا القرآن منه . . كانت بوحي من الله سبحانه إليه , وإخبارا عن أمر وقع ولم يعلم به الرسول [ ص ] ولكن الله أطلعه عليه . وقد تكون هذه هي المرة الأولى , ثم كانت هناك مرة أو مرات أخرى قرأ النبي فيها على الجن عن علم وقصد . ويشهد بهذا ما جاء بشأن قراءته [ ص ] سورة الرحمن "أخرجه الترمذي بإسناده - عن جابر رضي الله عنه قال:"خرج رسول الله [ ص ] على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن إلى آخرها , فسكتوا . فقال:" لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن ردودا منكم . كنت كلما أتيت على قوله تعالىSadفبأي آلاء ربكما تكذبان ?)قالوا:لا بشيء من نعمك ربنا نكذب , فلك الحمد " . . وهذه الرواية تؤيد رواية ابن مسعود - رضي الله عنه التي سبقت الإشارة إليها في المقدمة .

ولا بد أن هذه المرة التي تحكيها هذه السورة هي التي تحكيها آيات الأحقافSadوإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا:أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا:يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى , مصدقا لما بين يديه , يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء , أولئك في ضلال مبين). .

فإن هذه الآيات - كالسورة - تنبئ عن وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجن , مفاجأه أطارت تماسكهم , وزلزلت قلوبهم , وهزت مشاعرهم , وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثر امتلأ بها كيانهم كله وفاض , فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعا , ولا تملك عليه صبرا , قبل أن تفيضه على الآخرينفي هذا الأسلوب المتدفق , النابض بالحرارة والانفعال , وبالجد والاحتفال في نفس الأوان , وهي حالة من يفاجأ أول مرة بدفعة قوية ترج كيانه , وتخلخل تماسكه , وتدفعه دفعا إلى نقل ما يحسه إلى نفوس الآخرين في حماسة واندفاع , وفي جد كذلك واحتفال !

(إنا سمعنا قرآنا عجبا). .

فأول ما بدههم منه أنه(عجب)غير مألوف , وأنه يثير الدهش في القلوب , وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح , ومشاعر مرهفة , وذوق ذواق . . عجب ! ذو سلطان متسلط , وذو جاذبية غلابة , وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب . . عجب ! فعلا . يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون !

(يهدي إلى الرشد). .

وهذه هي الصفة الثانية البارزة كذلك في هذا القرآن , التي أحسها النفر من الجن , حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم . . وكلمة الرشد في ذاتها ذات دلاله واسعة المدى . فهو يهدي إلى الهدى والحق والصواب . ولكن كلمة الرشد تلقي ظلا آخر وراء هذا كله . ظل النضوج والاستواء والمعرفة الرشيدة للهدى والحق والصواب . ظل الإدراك الذاتي البصير لهذه الحقائق والمقومات , فهو ينشئ حالة ذاتية في النفس تهتدي بها إلى الخير والصواب .

والقرآن يهدي إلى الرشد بما ينشئه في القلب من تفتح وحساسية , وإدراك ومعرفة , واتصال بمصدر النور والهدى , واتساق مع النواميس الإلهية الكبرى . كما يهدي إلى الرشد بمنهجه التنظيمي للحياة وتصريفها . هذا المنهج الذي لم تبلغ البشرية في تاريخها كله , في ظل حضارة من الحضارات , أو نظام من الأنظمة , ما بلغته في ظله أفرادا وجماعات , قلوبا ومجتمعات , أخلاقا فردية ومعاملات اجتماعية . . على السواء .

فآمنا به . .

وهي الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن , وإدراك طبيعته , والتأثر بحقيقته . . يعرضها الوحي على المشركين الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ثم لا يؤمنون . وفي الوقت ذاته ينسبونه إلى الجن , فيقولون:كاهن أو شاعر أو مجنون . . وكلها صفات للجن فيها تأثير . وهؤلاء هم الجن مبهورين بالقرآن مسحورين متأثرين أشد التأثر , منفعلين أشد الانفعال , لا يملكون أنفسهم من الهزة التي ترج كيانهم رجا . . ثم يعرفون الحق , فيستجيبون له مذعنين معلنين هذا الإذعان: فآمنا به غير منكرين لما مس نفوسهم منه ولا معاندين , كما كان المشركون يفعلون !

(ولن نشرك بربنا أحدا). .

فهو الإيمان الخالص الصريح الصحيح . غير مشوب بشرك , ولا ملتبس بوهم , ولا ممتزج بخرافة , الإيمان الذي ينبعث من إدراك حقيقة القرآن , والحقيقة التي يدعو إليها القرآن , حقيقة التوحيد لله بلا شريك .

(وأنه تعالى جد ربنا , ما اتخذ صاحبة ولا ولدا). .

والجد:الحظ والنصيب . وهو القدر والمقام . وهو العظمة والسلطان . . وكلها إشعاعات من اللفظ تناسب المقام . والمعنى الإجمالي منها في الآية هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله - سبحانه - وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة - أي زوجة - وولدا بنين أو بنات !

وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله , جاءته من صهر مع الجن ! فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة

من الاية 4 الى الاية 6

وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6)

الأسطورية في تسبيح لله وتنزيه , واستنكاف من هذا التصور أن يكون ! وكانت الجن حرية أن تفخر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لو كان يشبه أن يكون ! فهي قذيفة ضخمة تطلق على ذلك الزعم الواهي في تصورات المشركين ! وكل تصور يشبه هذه التصورات , ممن زعموا أن لله ولدا سبحانه في أية صورة وفي أي تصوير !

(وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا , وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا). .

وهذه مراجعة من الجن لما كانوا يسمعون من سفهائهم من الشرك بالله , وادعاء الصاحبة والولد والشريك , بعدما تبين لهم من سماع القرآن أنه لم يكن حقا ولا صوابا , وأن قائليه إذن سفهاء فيهم خرق وجهل , وهم يعللون تصديقهم لهؤلاء السفهاء من قبل بأنهم كانوا لا يتصورون أن أحدا يمكن أن يكذب على الله من الإنس أو الجن . فهم يستعظمون ويستهولون أن يجرؤ أحد على الكذب على الله . فلما قال لهم سفهاؤهم:إن لله صاحبة وولدا , وإن له شريكا صدقوهم , لأنهم لم يتصوروا أنهم يكذبون على الله أبدا . . وهذا الشعور من هؤلاء النفر بنكارة الكذب على الله , هو الذي أهلهم للإيمان . فهو دلالة على أن قلوبهم نظيفة مستقيمة ; إنما جاءها الضلال من الغرارة والبراءة ! فلما مسها الحق انتفضت , وأدركت , وتذوقت وعرفت . وكان منهم هذا الهتاف المدوي: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به , ولن نشرك بربنا أحدا . وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا . .

وهذه الإنتفاضة من مس الحق , جديرة بأن تنبه قلوبا كثيرة مخدوعة في كبراء قريش , وزعمهم أن لله شركاء أو صاحبة وولدا . وأن تثير في هذه القلوب الحذر واليقظة , والبحث عن الحقيقة فيما يقوله محمد [ ص ] وما يقوله كبراء قريش , وأن تزلزل الثقة العمياء في مقالات السفهاء من الكبراء ! وقد كان هذا كله مقصودا بذكر هذه الحقيقة . وكان جولة من المعركة الطويلة بين القرآن وبين قريش العصية المعاندة ; وحلقة من حلقات العلاج البطيء لعقابيل الجاهلية وتصوراتها في تلك القلوب . التي كان الكثير منها غرا بريئا , ولكنه مضلل مقود بالوهم والخرافة وأضاليل المضللين من القادة الجاهليين !

(وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا). .

وهذه إشارة من الجن إلى ما كان متعارفا في الجاهلية - وما يزال متعارفا إلى اليوم في بيئات كثيرة - من أن للجن سلطانا على الأرض وعلى الناس , وأن لهم قدرة على النفع والضر , وأنهم محكمون في مناطق من الأرض أو البحر أو الجو . . إلى آخر هذه التصورات . مما كان يقتضي القوم إذا باتوا في فلاة أو مكان موحش , أن يستعيذوا بسيد الوادي من سفهاء قومه , ثم يبيتون بعد ذلك آمنين !

والشيطان مسلط على قلوب بني آدم - إلا من اعتصم بالله فهو في نجوة منه - وأما من يركن إليه فهو لا ينفعه . فهو عدو له . إنما يرهقه ويؤذيه . . وهؤلاء النفر من الجن يحكون ما كان يحدثSadوأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا). . ولعل هذا الرهق هو الضلال والقلق والحيرة التي تنوش قلوب من يركنون إلى عدوهم , ولا يعتصمون بالله منه ويستعيذون ! كما هم مأمورون منذ أبيهم آدم وما كان بينه وبين إبليس من العداء القديم !

والقلب البشري حين يلجأ إلى غير الله , طمعا في نفع , أو دفعا لضر , لا يناله إلا القلق والحيرة , وقلة الاستقرار والطمأنينة . . . وهذا هو الرهق في أسوأ صوره . . الرهق الذي لا يشعر معه القلب بأمن ولا راحة !

إن كل شيء - سوى الله - وكل أحد , متقلب غير ثابت , ذاهب غير دائم , فإذا تعلق به قلب بقي يتأرجح ويتقلب ويتوقع ويتوجس ; وعاد يغير اتجاهه كلما ذهب هذا الذي عقد به رجاءه . والله وحده هو

من الاية 7 الى الاية 9

وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (Cool وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً (9)

الباقي الذي لا يزول . الحي الذي لا يموت . الدائم الذي لا يتغير . فمن اتجه إليه اتجه إلى المستقر الثابت الذي لا يزول ولا يحول:

(وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا). .

يتحدثون إلى قومهم , عن أولئك الرجال من الإنس الذين كانوا يعوذون برجال من الجن , يقولون:إنهم كانوا يظنون - كما أنكم تظنون - أن الله لن يبعث رسولا . ولكن ها هو ذا قد بعث رسولا , بهذا القرآن الذي يهدي إلى الرشد . . أو أنهم ظنوا أنه لن يكون هناك بعث ولا حساب - كما ظننتم - فلم يعملوا للآخرة شيئا , وكذبوا ما وعدهم الرسول [ ص ] من أمرها , لأنهم كانوا لا يعتقدون من قبل فيها .

وكلا الظنين لا ينطبق على الحقيقة , وفيه جهل وقلة إدراك لحكمة الله في خلق البشر . فقد خلقهم باستعداد مزدوج للخير والشر والهدى والضلال [ كما نعرف من هذه السورة أن للجن هذه الطبيعة المزدوجة كذلك إلا من تمحض منهم للشر كإبليس , وطرد من رحمة الله بمعصيته الفاجرة , وانتهى إلى الشر الخالص بلا ازدواج ] ومن ثم اقتضت رحمة الله أن يعين أولئك البشر بالرسل , يستجيشون في نفوسهم عنصر الخير , ويستنقذون ما في فطرتهم من استعداد للهدى . فلا مجال للاعتقاد بأنه لن يبعث إليهم أحدا .

هذا إذا كان المعنى هو بعث الرسل . فأما بعث الآخرة فهو ضرورة كذلك لهذه النشأة التي لا تستكمل حسابها في الحياة الدنيا , لحكمة أرادها الله , وتتعلق بتنسيق للوجود يعلمه ولا نعلمه ; فجعل البعث في الآخرة لتستوفي الخلائق حسابها , وتنتهي إلى ما تؤهلها له سيرتها الأولى في الحياة الدنيا . فلا مجال للظن بأنه لن يبعث أحدا من الناس . فهذا الظن مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله . سبحانه ووتعالى . .

وهؤلاء النفر من الجن يصححون لقومهم ظنهم , والقرآن في حكايته عنهم يصحح للمشركين أوهامهم .

الدرس الثاني:8 - 10 اعترافات الجن عن حراسة السماء بعد البعثة

ويمضي الجن في حكاية ما لقوه وما عرفوه من شأن هذه الرسالة في جنبات الكون , وفي أرجاء الوجود , وفي أحوال السماء والأرض , لينفضوا أيديهم من كل محاولة لا تتفق مع إرادة الله بهذه الرسالة , ومن كل إدعاء بمعرفة الغيب , ومن كل قدرة على شيء من هذا الأمر:

(وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ?). .

وهذه الوقائع التي حكاها القرآن عن الجن من قولهم , توحي بأنهم قبل هذه الرسالة الأخيرة - ربما في الفترة بينها وبين الرسالة التي قبلها وهي رسالة عيسى عليه السلام - كانوا يحاولون الإتصال بالملأ الأعلى , واستراق شيء مما يدور فيه , بين الملائكة , عن شؤون الخلائق في الأرض , مما يكلفون قضاءه تنفيذا لمشيئة الله وقدره . ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين , ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة إبليس ! على أيدي هؤلاء الكهان والعرافين الذين يستغلون القليل من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل , ويروجونه بين جماهير الناس في الفترة بين الرسالتين , وخلو الأرض من رسول . . أما كيفية هذا وصورته فلم يقل لنا عنها شيئا , ولا ضرورة لتقصيها . إنما هي جملة هذه الحقيقة وفحواها .

وهذا النفر من الجن يقول:إن استراق السمع لم يعد ممكنا , وإنهم حين حاولوه الآن - وهو ما يعبرون

من الاية 10 الى الاية 12

وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً (12)

عنه بلمس السماء - وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد , يرجمهم بالشهب , فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم . ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشرSadوأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا). . فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه . فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض:قدر أن ينزل بهم الشر . فهم متروكون للضلال , أم قدر لهم الرشد - وهو الهداية - وقد جعلوها مقابلة للشر . فهي الخير , وعاقبتها هي الخير .

وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب , يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا , فقد انقطع كل قول , وبطل كل زعم , وانتهى أمر الكهانة والعرافة . وتمحض الغيب لله , لا يجترئ أحد على القول بمعرفته , ولا على التنبؤ به . وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل ! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير !

أما أين يقف ذلك الحرس ? ومن هو ? وكيف يرجم الشياطين بالشهب ? فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن ولا الأثر شيئا , وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئا ; ولو علم الله أن في تفصيله خيرا لنا لفعل . وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث ; لا يضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئا !

ولا مجال كذلك للاعتراض أو الجدل حول الشهب , وأنها تسير وفق نظام كوني , قبل البعثة وبعدها ووفق ناموس يحاول علماء الفلك تفسيره , بنظريات تخطئ وتصيب . وحتى على فرض صحة هذه النظريات فإن هذا لا يدخل في موضوعنا , ولا يمنع أن ترجم الشياطين بهذه الشهب عند انطلاقها . وأن تنطلق هذه الشهب رجوما وغير رجوم وفق مشيئة الله الذي يجري عليها القانون !

فأما الذين يرون في هذا كله مجرد تمثيل وتصوير لحفظ الله للذكر من الالتباس بأي باطل ; وأنه لا يجوز أن يؤخذ على ظاهره . . فسبب هذا عندهم أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم , أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن . ثم يحاولون أن يفسروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل . . ومن ثم يرون الملائكة تمثيلا لقوة الخير والطاعة . والشياطين تمثيلا لقوة الشر والمعصية . والرجوم تمثيلا للحفظ والصيانة . . . الخ لأن في مقرراتهم السابقة - قبل أن يواجهوا القرآن - أن هذه المسميات:الملائكة والشياطين أو الجن , لا يمكن أن يكون لها وجود مجسم على هذا النحو , وأن تكون لها هذه التحركات الحسية , والتأثيرات الواقعية !!!

من أين جاءوا بهذا ? من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث ?

إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره , وفي التصور الإسلامي وتكوينه . . أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق , وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة , وأن يبني مقرراته كلها حسبما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود . ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن . ولا ينفي شيئا يثبته القرآن ولا يؤوله ! ولا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله . وما عدا المثبت والمنفي في القرآن , فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته . .

نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن . . . وهم مع ذلك يؤلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة فيعقولهم , وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود . .

فأما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن , ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها , فهم مضحكون حقا ! فالعلم لا يعلم أسرار الموجودات الظاهرة بين يديه , والتي يستخدمها في تجاربه . وهذا لا ينفي وجودها طبعا ! فضلا على أن العلماء الحقيقيين أخذت كثرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين , أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون ! لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم - عن طريقة العلم ذاته - أمام مجاهيل فيما بين أيديهم مما كانوا يحسبون أنهم فرغوا من الإحاطة بعلمه ! فتواضعوا تواضعا علميا نبيلا ليست عليه سمة الادعاء , ولا طابع التطاول على المجهول , كما يتطاول مدعو العلم ومدعو التفكير العلمي , ممن ينكرون حقائق الديانات , وحقائق المجهول !

إن الكون من حولنا حافل بالأسرار , عامر بالأرواح , حاشد بالقوى . وهذه السورة من القرآن - كغيرها - تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود , تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود وما فيه من قوى وأرواح وحيوات تعج من حولنا , وتتفاعل مع حياتنا وذواتنا . وهذا التصور هو الذي يميز المسلم ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة , وبين الادعاء والتطاول . ومصدره هو القرآن والسنة . وإليهما يحاكم المسلم كل تصور آخر وكل قول وكل تفسير . .

وإن هنالك مجالا للعقل البشري معينا في ارتياد آفاق المجهول:والإسلام يدفعه إلى هذا دفعا . . ولكن وراء هذا المجال المعين ما لا قدرة لهذا العقل على ارتياده , لأنه لا حاجة به إلى ارتياده . وما لا حاجة له به في خلافة الأرض فلا مجال له إليه , ولا حكمة في إعانته عليه . لأنه ليس من شأنه , ولا داخلا في حدود اختصاصه . والقدر الضروري له منه ليعلم مركزه في الكون بالقياس إلى ما حوله ومن حوله , قد تكفل الله سبحانه ببيانه له , لأنه أكبر من طاقته . وبالقدر الذي يدخل في طاقته . ومنه هذا الغيب الخاص بالملائكة والشياطين والروح والمنشأ والمصير . .

فأما الذين اهتدوا بهدى الله , فقد وقفوا في هذه الأمور عند القدر الذي كشفه الله لهم في كتبه وعلى لسان رسله . وأفادوا منه الشعور بعظمة الخالق , وحكمته في الخلق , والشعور بموقف الإنسان في الأرض من هذه العوالم والأرواح . وشغلوا طاقاتهم العقلية في الكشف والعلم المهيأ للعقل في حدود هذه الأرض وما حولها من أجرام بالقدر الممكن لهم . واستغلوا ما علموه في العمل والإنتاج وعمران هذه الأرض والقيام بالخلافة فيها , على هدى من الله , متجهين إليه , مرتفعين إلى حيث يدعوهم للارتفاع .

وأما الذين لم يهتدوا بهدى الله فانقسموا فرقتين كبيرتين:

فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى , والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة . وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته , فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلا شاهقا لا غاية لقمته , أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء ! وكانت لهم تصورات مضحكة - وهم كبار فلاسفة - مضحكة حقا حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن . مضحكة بعثراتها . ومضحكة بمفارقاتها . ومضحكة بتخلخلها . ومضحكة بقزامتهابالقياس إلى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها . . لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار , ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير . ولا فلاسفة العصر الحديث ! وذلك حين يقاس تصورهم إلى التصور الإسلامي للوجود .

فهذه فرقة . فأما الفرقة الأخرى , فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة . فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي . ضاربة صفحا عن المجهول , الذي ليس إليه من سبيل وغير مهتدية فيه بهدى الله . لأنها لا تستطيع أن تدرك الله ! وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح , على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع "مجهول الكنه" ويكاد يكون مجهول القانون !

وبقي الإسلام ثابتا على صخرة اليقين . يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير . ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض . ويهيء لعقولهم المجال الذي تعمل فيه في أمن . ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول !

الدرس الثالث:11 - 15 الجن مسلمون صالحون وكافرون طاغون

بعد ذلك أخذ الجن يصفون حالهم وموقفهم من هدى الله ; بما نفهم منه أن لهم طبيعة مزدوجة كطبيعة الإنسان في الاستعداد للهدى والضلال . ويحدثنا هذا النفر عن عقيدتهم في ربهم وقد آمنوا به . وعن ظنهم بعاقبة من يهتدي ومن يضل:

(وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك , كنا طرائق قددا . وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا . وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به , فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا . وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون:فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا). .

وهذا التقرير من الجن بأن منهم صالحين وغير صالحين , مسلمين وقاسطين , يفيد ازدواج طبيعة الجن , واستعدادهم للخير والشر كالإنسان - إلا من تمحض للشر منهم وهو إبليس وقبيله - وهو تقرير ذو أهمية بالغة في تصحيح تصورنا العام عن هذا الخلق . فأغلبنا حتى الدارسين الفاقهين - على اعتقاد أن الجن يمثلون الشر , وقد خلصت طبيعتهم له . وأن الإنسان وحده بين الخلائق هو ذو الطبيعة المزدوجة . وهذا ناشئ عن مقررات سابقة في تصوراتنا عن حقائق هذا الوجود كما أسلفنا . وقد آن أن نراجعها على مقررات القرآن الصحيحة !

وهذا النفر من الجن يقول: (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك). . ويصف حالهم بصفة عامة: (كنا طرائق قددا). . أي لكل منا طريقته المنفصلة المقدودة المنقطعه عن طريقة الفريق الآخر .

ثم بين النفر معتقدهم الخاص بعد إيمانهم:

(وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض , ولن نعجزه هربا). .

فهم يعرفون قدرة الله عليهم في الأرض , ويعرفون عجزهم عن الهرب من سلطانه - سبحانه - والإفلات من قبضته , والفكاك من قدره . فلا هم يعجزون الله وهم في الأرض , ولا هم يعجزونه بالهرب منها . وهو ضعف العبد أمام الرب , وضعف المخلوق أمام الخالق . والشعور بسلطان الله القاهر الغالب .

من الاية 16 الى الاية 16

وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً (16)

ودل هذا على أن الجن يعذبون بالنار . ومفهومه أنهم كذلك ينعمون بالجنة . . هكذا يوحي النص القرآني . وهو الذي نستمد منه تصورنا . فليس لقائل بعد هذا أن يقول شيئا يستند فيه إلى تصور غير قرآني , عن طبيعة الجن وطبيعة النار أو طبيعة الجنة . . فسيكون ما قاله الله حقا بلا جدال !

وما ينطبق على الجن مما بينوه لقومهم , ينطبق على الإنس وقد قاله لهم الوحي بلسان نبيهم . .

الدرس الرابع:16 - 17 اعتراف الجن بآثار الهدى النافعة وآثار الضلال المدمرة

وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم ; ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل الله مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه , وذكرها بفحواها لا بألفاظها:

(وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه , ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا). .

يقول الله - سبحانه - إنه كان من مقالة الجن عنا:ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة , أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماءا موفورا نغدقه عليهم , فيفيض عليهم بالرزق والرخاء . . (لنفتنهم فيه). . ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون .

وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة , يزيد مدلولها توكيدا بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله سبحانه . ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني , لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها .

وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق , تدخل في تكوين عقيدة المؤمن , وتصوره عن مجريات الأمور وارتباطاتها .

والحقيقة الأولى:هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله , وبين إغداق الرخاء وأسبابه ; وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه . وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة . وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة , ولم تعد الزر
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى