منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة النجم ايه 31 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة النجم ايه 31 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة النجم ايه 31 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الخميس يونيو 14, 2012 1:38 pm

من الاية 31 الى الاية 31

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)

(ولله ما في السماوات وما في الأرض . ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى). .

وهذا التقرير لملكية الله - وحده - لما في السماوات وما في الأرض , يمنح قضية الآخرة قوة وتأثيرا . فالذي جعل الآخرة وقدرها هو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض وحده , فهو القادر على الجزاء , المختص به , المالك لأسبابه . ومن شأن هذه الملكية أن تحقق الجزاء الكامل العادل: ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . .

ثم يحدد الذين أحسنوا هؤلاء , والذين يجزيهم بالحسنى . . فهم:

(الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . إلا اللمم). .

وكبائر الإثم هي كبار المعاصي . والفواحش كل ما عظم من الذنب وفحش . واللمم تختلف الأقوال فيه . فابن كثير يقول:وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغار الذنوب ومحقرات الأعمال . قال الإمام أحمد:حدثنا عبدالرزاق , أخبرنا معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس قال:ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة , عن النبي [ ص ] قال:" إن الله تعالى إذا كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة . فزنا العين النظر , وزنا اللسان النطق , والنفس تمنى وتشتهي , والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى , أخبرنا ابن ثور , حدثنا معمر , عن الأعمش , عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال:زنا العين النظر , وزنا الشفتين التقبيل , وزنا اليدين البطش , وزنا الرجلين المشي . ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه . فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم . وكذا قال مسروق والشعبي .

وقال عبدالرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي , قال:سألت أبا هريرة عن قول الله: إلا اللمم قال:القبلة والنظرة والغمزة والمباشرة . فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل . وهو الزنا .

فهذه أقوال متقاربة في تعريف اللمم .

وهناك أقوال أخرى:

قال علي بن طلحة عن ابن عباس: إلا اللمم إلا ما سلف . وكذا قال زيد بن أسلم .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن المثنى , حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن منصور , عن مجاهد , أنه قال في هذه الآية: إلا اللمم قال:الذي يلم بالذنب ثم يدعه .

وقال ابن جرير:حدثني سليمان بن عبدالجبار:حدثنا أبو عاصم , حدثنا زكريا عن ابن إسحاق , عن عمرو بن دينار , عن عطاء , عن ابن عباس: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم). . قال:هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب . وقال:قال رسول الله [ ص ]

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ?

وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل . ثم قال:هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق . وكذا قال البزار لا نعلمه يروى متصلا إلا من هذا الوجه .

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيع . حدثنا يزيد بن زريع . حدثنا يونس , عن الحسن ,

من الاية 32 الى الاية 32

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - [ اراه رفعه ] في (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم). قال:اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود . واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود . واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود . قال:فذلك الإلمام . .

وروي مثل هذا موقوفا على الحسن .

فهذه طائفة أخرى من الأقوال تحدد معنى اللمم تحديدا غير الأول .

والذي نراه أن هذا القول الأخير أكثر تناسبا مع قوله تعالى بعد ذلك: (إن ربك واسع المغفرة). . فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش , ثم التوبة . ويكون الاستثناء غير منقطع . ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . إلا أن يقعوا في شيء منها ثم يعودوا سريعا ولا يلجوا ولا يصروا . كما قال الله سبحانهSadوالذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون). . وسمى هؤلاء [ المتقين ] ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض . . فهذا هو الأقرب إلى رحمة الله ومغفرته الواسعة .

وختم الآية بأن هذا الجزاء بالسوءى وبالحسنى مستند إلى علم الله بحقيقة دخائل الناس في أطوارهم كلها .

(هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض , وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم). .

فهو العلم السابق على ظاهر أعمالهم . العلم المتعلق بحقيقتهم الثابتة , التي لا يعلمونها هم , ولا يعرفها إلا الذي خلقهم . علم كان وهو ينشيء أصلهم من الأرض وهم بعد في عالم الغيب . وكان وهم أجنة في بطون أمهاتهم لم يروا النور بعد . علم بالحقيقة قبل الظاهر . وبالطبيعة قبل العمل .

ومن كانت هذه طبيعة علمه يكون من اللغو - بل من سوء الأدب - أن يعرفه إنسان بنفسه , وأن يعلمه - سبحانه - بحقيقته ! وأن يثني على نفسه أمامه يقول له:أنا كذا وأنا كذا:

(فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى). .

فما هو بحاجة إلى أن تدلوه على أنفسكم , ولا أن تزنوا له أعمالكم ; فعنده العلم الكامل . وعنده الميزان الدقيق . وجزاؤه العدل . وقوله الفصل . وإليه يرجع الأمر كله .

الدرس الرابع:33 - 62 عرض حقائق إعتقادية دالة على الوحدانية

بعد ذلك يجيء المقطع الأخير في السورة . في إيقاع كامل التنغيم , أشبه بإيقاع المقطع الأول . يقرر الحقائق الأساسية للعقيدة كما هي ثابتة منذ إبراهيم صاحب الحنيفية الأولى . ويعرف البشر بخالقهم , بتعليمهم بمشيئته الفاعلة المبدعة المؤثرة في حياتهم ويعرض آثارها واحدا واحدا بصورة تلمس الوجدان البشري وتذكره وتهزه هزا عميقا . . حتى إذا كان الختام وكان الإيقاع الأخير تلقته المشاعر مرتجفة مرتعشة متأثرة مستجيبة:

(أفرأيت الذي تولى , وأعطى قليلا وأكدى ? أعنده علم الغيب فهو يرى ? أم لم ينبأ بما في صحف موسى , وإبراهيم الذي وفى . ألا تزر وازرة وزر أخرى . وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . وأن سعيه سوف يرى . ثم يجزاه الجزاء الأوفى . وأن إلى ربك المنتهى . وأنه هو أضحك وأبكى . وأنه هو أمات وأحيا . وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى . وأن عليه النشأة الأخرى , وأنه هو أغنى وأقنى . وأنه هو رب الشعرى .

من الاية 33 الى الاية 39

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)

وأنه أهلك عادا الأولى . وثمود فما أبقى . وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى . والمؤتفكة أهوى . فغشاها ما غشى . فبأي آلاء ربك تتمارى ? هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون , وتضحكون ولا تبكون , وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا). .

وذلك (الذي تولى , وأعطى قليلا وأكدى). . الذي يعجب الله من أمره الغريب , تذكر بعض الروايات أنه فرد معين مقصود , أنفق قليلا في سبيل الله , ثم انقطع عن البذل خوفا من الفقر . ويحدد الزمخشري في تفسيره "الكشاف" شخصه , أنه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ويذكر في ذلك قصة , لا يستند فيها إلى شيء , ولا يقبلها من يعرف عثمان - رضي الله عنه - وطبيعته وبذله الكثير الطويل في سبيل الله بلا توقف وبلا حساب كذلك ; وعقيدته في الله وتصوره لتبعة العمل وفرديته .

وقد يكون المقصود شخصا بذاته . وقد يكون نموذجا من الناس سواء . فالذي يتولى عن هذا النهج , ويبذل من ماله أو من نفسه لهذه العقيدة ثم يكدي - أي يضعف عن المواصلة ويكف - أمره عجيب , يستحق التعجيب ويتخذ القرآن من حاله مناسبة لعرض حقائق العقيدة وتوضيحها .

(أعنده علم الغيب فهو يرى ?). .

والغيب لله . لا يراه أحد سواه . فلا يأمن الإنسان ما خبئ فيه ; وعليه أن يواصل عمله وبذله , وأن يعيش حذرا موفيا طوال حياته ; وألا يبذل ثم ينقطع , ولا ضمان له في الغيب المجهول إلا حذره وعمله ووفاؤه , ورجاؤه بهذا كله في مغفرة الله وقبوله .

(أم لم ينبأ بما في صحف موسى , وإبراهيم الذي وفى . . .). .

وهذا الدين قديم , موصولة أوائله وأواخره , ثابتة أصوله وقواعده , يصدق بعضه بعضا على توالي الرسالات والرسل , وتباعد المكان والزمان . فهو في صحف موسى . وهو في ملة إبراهيم قبل موسى . إبراهيم الذي وفى . وفى بكل شيء . وفى وفاء مطلقا استحق به هذا الوصف المطلق . ويذكر الوفاء هنا في مقابل الإكداء والانقطاع , ويذكر بهذه الصيغة(وفى)بالتشديد تنسيقا للإيقاع المنغم وللقافية المطردة .

فماذا في صحف موسى , وإبراهيم الذي وفى ? فيها:

(ألا تزر وازرة وزر أخرى). .

فلا تحمل نفس حمل أخرى ; لا تخفيفا عن نفس ولا تثقيلا على أخرى . فلا تملك نفس أن تتخفف من حملها ووزرها . ولا تملك نفس أن تتطوع فتحمل عن نفس شيئا !

(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى). .
من الاية 40 الى الاية 43

وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)

كذلك . فما يحسب للإنسان إلا كسبه وسعيه وعمله . لا يزاد عليه شيء من عمل غيره . ولا ينقص منه شيء ليناله غيره . وهذه الحياة الدنيا هي الفرصة المعطاة له ليعمل ويسعى . فإذا مات ذهبت الفرصة وانقطع العمل . إلا ما نص عليه حديث رسول الله [ ص ] في قوله:" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث:من ولد صالح يدعو له . أو صدقة جارية من بعده . أو علم ينتفع به " . . وهذه الثلاثة في حقيقتها من عمله . ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي - رحمه الله - ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى , لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم . ولهذا لم يندب إليه رسول الله [ ص ] أمته , ولا حثهم عليه , ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء , ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولو كان خيرا لسبقونا إليه . وباب القربات يقتصر فيه على النصوص , ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء . فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما . .

(وأن سعيه سوف يرى . ثم يجزاه الجزاء الأوفى). .

فلن يضيع شيء من السعي والعمل والكسب ; ولن يغيب شيء عن علم الله وميزانه الدقيق . وسينال كل امرئ سعيه وافيا كاملا لا نقس فيه ولا ظلم .

وكذلك يتحدد مبدأ فردية التبعة , إلى جانب عدالة الجزاء . فتتحقق للإنسان قيمته الإنسانية . القائمة على اعتباره مخلوقا راشدا مسؤولا مؤتمنا على نفسه ; كريما تتاح له الفرصة للعمل ثم يؤخذ بما عمل وتتحقق له كذلك الطمأنينة على عدالة الجزاء . عدالة مطلقة لا يميل بها الهوى , ولا يقعد بها القصور , ولا ينقص منها الجهل بحقائق الأمور .

(وأن إلى ربك المنتهى). .

فلا طريق إلا الطريق الذي ينتهي إليه . ولا ملجأ من دونه . ولا مأوى إلا داره:في نعيم أو جحيم . . ولهذه الحقيقة قيمتها وأثرها في تكييف مشاعر الإنسان وتصوره فحين يحس أن المنتهى إلى الله منتهى كل شيء وكل أمر . وكل أحد . فإنه يستشعر من أول الطريق نهايته التي لا مفر منها ولا محيص عنها . ويصوغ نفسه وعمله وفق هذه الحقيقة ; أو يحاول في هذا ما يستطيع . ويظل قلبه ونظره معلقين بتلك النهاية منذ أول الطريق !

وبعدما يصل السياق بالقلب البشري إلى نهاية المطاف يكر راجعا به إلى الحياة , يريه فيها آثار مشيئة الله . في كل مرحلة , وفي كل حال:

(وأنه هو أضحك وأبكى). .

وتحت هذا النص تكمن حقائق كثيرة . ومن خلاله تنبعث صور وظلال موحية مثيرة . .

أضحك وأبكى . . فأودع هذا الإنسان خاصية الضحك وخاصية البكاء . وهما سر من أسرار التكوين البشري لا يدري أحد كيف هما , ولا كيف تقعان في هذا الجهاز المركب المعقد , الذي لا يقل تركيبه وتعقيده النفسي عن تركيبه وتعقيده العضوي . والذي تتداخل المؤثرات النفسية والمؤثرات العضوية فيه وتتشابكان وتتفاعلان في إحداث الضحك وإحداث البكاء .

من الاية 44 الى الاية 46

وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)

وأضحك وأبكى . . فأنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء . وجعله - وفق أسرار معقدة فيه - يضحك لهذا ويبكي لهذا . وقد يضحك غدا مما أبكاه اليوم . ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس . في غير جنون ولا ذهول إنما هي الحالات النفسية المتقلبة . والموازين والدواعي والدوافع والاعتبارات التي لا تثبت في شعوره على حال !

وأضحك وأبكى . . فجعل في اللحظة الواحدة ضاحكين وباكين . كل حسب المؤثرات الواقعة عليه . وقد يضحك فريق مما يبكي منه فريق . لأن وقعه على هؤلاء غير وقعه على أولئك . . وهو هو في ذاته . ولكنه بملابساته بعيد من بعيد !

وأضحك وأبكى . من الأمر الواحد صاحبه نفسه . يضحك اليوم من الأمر ثم تواجهه عاقبته غدا أو جرائره فإذا هو باك . يتمنى أن لم يكن وأن لم يكن ضحك وكم من ضاحك في الدنيا باك في الآخرة حيث لا ينفع البكاء !

هذه الصور والظلال والمشاعر والأحوال . . وغيرها كثير تنبثق من خلال النص القصير , وتتراءى للحس والشعور . وتظل حشود منها تنبثق من خلاله كلما زاد رصيد النفس من التجارب ; وكلما تجددت عوامل الضحك والبكاء في النفوس - وهذا هو الإعجاز في صورة من صوره الكثيرة في هذا القرآن .

(وأنه هو أمات وأحيا). .

وكذلك تنبثق من هذا النص صور لا عداد لها في الحس .

أمات وأحيا . . أنشأ الموت والحياة , كما قال في سورة أخرى: (الذي خلق الموت والحياة). وهما أمران معروفان كل المعرفة بوقوعهما المتكرر . ولكنهما خافيان كل الخفاء حين يحاول البشر أن يعرفوا طبيعتهما وسرهما الخافي على الأحياء . . فما الموت ? وما الحياة ? ما حقيقتهما حين يتجاوز الإنسان لفظهما وشكلهما الذي يراه ? كيف دبت الحياة في الكائن الحي ? ما هي ? ومن أين جاءت ? وكيف تلبست بهذا الكائن فكان ? وكيف سارت في طريقها الذي سارت فيه بهذا الكائن أو بهذه الكائنات الأحياء ? وما الموت ? وكيف كان . . قبل دبيب الحياة . وبعد مفارقتها للأحياء ? إنه السر الخافي وراء الستر المسبل , بيد الله !

أمات وأحيا . . وتنبثق ملايين الصور من الموت والحياة . في عوالم الأحياء كلها . في اللحظة الواحدة . في هذه اللحظة . كم ملايين الملايين من الأحياء ماتت . وكم ملايين الملايين بدأت رحلة الحياة . ودب فيها هذا السر من حيث لا تعلم ومن حيث لا يعلم أحد إلا الله ! وكم من ميتات وقعت فإذا هي ذاتها بواعث حياة ! وكم من هذه الصور يتراءى على مدار القرون , حين يستغرق الخيال في استعراض الماضي الطويل , الذي كان قبل أن يكون الإنسان كله على هذا الكوكب . وندع ما يعلمه الله في غير هذا الكوكب من أنواع الموت والحياة التي لا تخطر على بال الإنسان !

إنها حشود من الصور وحشود , تطلقها هذه الكلمات القلائل , فتهز القلب البشري من أعماقه . فلا يتمالك نفسه ولا يتماسك تحت إيقاعاتها المنوعة الأصداء !

(وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى). .

وهي الحقيقة الهائلة الواقعة المتكررة في كل لحظة . فينساها الإنسان لتكرارها أمام عينيه , وهي أعجب من كل عجيبة تبدعها شطحات الخيال !

نطفة تمنى . . تراق . . إفراز من إفرازات هذا الجسد الإنساني الكثيرة كالعرق والدمع والمخاط ! فإذا هي

من الاية 47 الى الاية 49

وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)

بعد فترة مقدورة في تدبير الله . . إذا هي ماذا ? إذا هي إنسان ! وإذا هذا الإنسان ذكر وأنثى ! كيف ? كيف تمت هذه العجيبة التي لم تكن - لولا وقوعها - تخطر على الخيال ? وأين كان هذا الإنسان المركب الشديد التركيب , المعقد الشديد التعقيد ? أين كان كامنا في النقطة المراقة من تلك النطفة . بل في واحد من ملايين من أجزائها الكثيرة ? أين كان كامنا بعظمه ولحمه وجلده , وعروقه وشعره وأظافره . وسماته وشياته وملامحه . وخلائقه وطباعه واستعداداته ?! أين كان في هذه الخلية الميكروسكوبية السابحة هي وملايين من أمثالها في النقطة الواحدة من تلك النطفة التي تمنى ?! وأين على وجه التخصيص كانت خصائص الذكر وخصائص الأنثى في تلك الخلية . تلك التي انبثقت وأعلنت عن نفسها في الجنين في نهاية المطاف ?!

وأي قلب بشري يقف أمام هذه الحقيقة الهائلة العجيبة . ثم يتمالك أو يتماسك . فضلا على أن يجحد ويتبجح , ويقول:إنها وقعت هكذا والسلام ! وسارت في طريقها هكذا والسلام ! واهتدت إلى خطها المرسوم هكذا والسلام ! أو يتعالم فيقول:إنها سارت هذه السيرة بحكم ما ركب فيها من استعداد لإعادة نوعها , شأنها شأن سائر الأحياء المزودة بهذا الاستعداد ! فهذا التفسير يحتاج بدوره إلى تفسير . فمن ذا أودعها هذا الاستعداد ? من ذا أودعها الرغبة الكامنة في حفظ نوعها بإعادته مرة أخرى ? ومن ذا أودعها القدرة على إعادته وهي ضعيفة ضئيلة ? ومن ذا رسم لها الطريق لتسير فيه على هدى , وتحقق هذه الرغبة الكامنة ? ومن ذا أودع فيها خصائص نوعها لتعيدها ? وما رغبتها هي وما مصلحتها في إعادة نوعها بهذه الخصائص ? لولا أن هنالك إرادة مدبرة من ورائها تريد أمرا , وتقدر عليه , وترسم له الطريق ?!

ومن النشأة الأولى . وهي واقعة مكرورة لا ينكرها منكر , يتجه مباشرة إلى النشأة الأخرى .

(وأن عليه النشأة الأخرى). .

والنشأة الأخرى غيب . ولكن عليه من النشأة الأولى دليل . دليل على إمكان الوقوع . فالذي خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى , قادر - ولا شك - على إعادة الخلق من عظام ورفات . فليست العظام والرفات بأهون من الماء المراق ! ودليل على حكمة الوقوع . فهذا التدبير الخفي الذي يقود الخلية الحية الصغيرة في طريقها الطويل الشاق حتى تكون ذكرا أو أنثى . هذا التدبير لا بد أن يكون مداه أبعد من رحلة الأرض التي لا يتم فيها شيء كامل ; ولا يجد المحسن جزاء أحسانه كاملا , ولا المسيء جزاء إساءته كاملا كذلك . لأن في حساب هذا التدبير نشأة أخرى يبلغ فيها كل شيء تمامه . فدلالة النشأة الأولى على النشأة الأخرى مزدوجة . ومن هنا جاء ذكرها هكذا قبل النشأة الأخرى . .

وفي النشأة الأولى . وفي النشأة الأخرى . يغني الله من يشاء من عباده ويقنيه:

(وأنه هو أغنى وأقنى). .

أغنى من عباده من شاء في الدنيا بأنواع الغنى وهي شتى . غنى المال . وغنى الصحة . وغى الذرية . وغنى النفس . وغنى الفكر . وغنى الصلة بالله والزاد الذي ليس مثله زاد .

وأغنى من عباده من شاء في الآخرة من غنى الآخرة !

وأقنى من شاء من عباده . من كل ما يقتنى في الدنيا كذلك وفي الآخرة !

والخلق فقراء ممحلون . لا يغتنون ولا يقتنون إلا من خزائن الله . فهو الذي أغنى . وهو الذي أقنى . وهي لمسة من واقع ما يعرفون وما تتعلق به أنظارهم وقلوبهم هنا وهناك . ليتطلعوا إلى المصدر الوحيد . ويتجهوا إلى الخزائن العامرة وحدها , وغيرها خواء !

من الاية 50 الى الاية 61

وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتْ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (61)

(وأنه هو رب الشعرى). .

والشعرى نجم أثقل من الشمس بعشرين مرة , ونوره خمسون ضعف نور الشمس . وهي أبعد من الشمس بمليون ضعف بعد الشمس عنا .

وقد كان هناك من يعبد هذا النجم . وكان هناك من يرصده كنجم ذي شأن . فتقرير أن الله هو رب الشعرى له مكانه في السورة التي تبدأ بالقسم بالنجم إذا هوى ; وتتحدث عن الرحلة إلى الملأ الأعلى ; كما تستهدف تقرير عقيدة التوحيد , ونفي عقيدة الشرك الواهية المتهافتة .

وبهذا تنتهي تلك الجولة المديدة في الأنفس والآفاق , لتبدأ بعدها جولة في مصارع الغابرين , بعدما جاءتهم النذر فكذبوا بها كما يكذب المشركون . وهي جولة مع قدرة الله ومشيئته وآثارها في الأمم قبلهم واحدة واحدة .

(وأنه أهلك عادا الأولى . وثمود فما أبقى . وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى . والمؤتفكة أهوى . فغشاها ما غشى . فبأي آلاء ربك تتمارى ?)

إنها جولة سريعة . تتألف من وقفة قصيرة على مصرع كل أمة , ولمسة عنيفة تخز الشعور وخزا .

وعاد وثمود وقوم نوح يعرفهم قارئ القرآن في مواضع شتى ! والمؤتفكة هي أمة لوط . من الإفك والبهتان والضلال . . وقد أهواها في الهاوية وخسف بها(فغشاها ما غشى). . بهذا التجهيل والتضخيم والتهويل , الذي تتراءى من خلاله صور الدمار والخسف والتنكيل , الذي يشمل كل شيء ويغشاه فلا يبين !

(فبأي آلاء ربك تتمارى ?). .

فلقد كانت إذن تلك المصارع آلاء لله وأفضالا . ألم يهلك الشر ? ألم يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ? ألم يترك فيها آيات لمن يتدبر ويعي ? أليست هذه كلها آلاء . فبأي آلاء ربك تتمارى ! الخطاب لكل أحد . ولكل قلب , ولكل من يتدبر صنع الله فيرى النعمة حتى في البلوى !

وعلى مصارع الغابرين المكذبين بالنذر - بعد استعراض مظاهر المشيئة وآثارها في الأنفس والآفاق - يلقي بالإيقاع الأخير قويا عميقا عنيفا . كأنه صيحة الخطر قبيل الطامة الكبرى:

(هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة). .

هذا الرسول الذي تتمارون في رسالته وفي نذارته . هذا نذير من النذر الأولى التي أعقبها ما أعقبها ! وقد أزفت الآزفة . واقتربت كاسحة جارفة . وهي الطامة والقارعة التي جاء هذا النذير يحذركم إياها أو هو هول العذاب الذي لا يعلم إلا الله نوعه وموعده . ولا يملك إلا الله كشفه ودفعهSadليس لها من دون الله كاشفة). .

وبينما الخطر الداهم قريب . والنذير الناصح يدعوكم إلى النجاة . إذا أنتم سادرون لاهون لا تقدرون الموقف ولا تفيقون .

(أفمن هذا الحديث تعجبون ? وتضحكون ولا تبكون ? وأنتم سامدون . . .). .

وهذا الحديث جد عظيم يلقي على كاهل الناس واجبات ضخمة وفي الوقت ذاته يقودهم إلى المنهج الكامل . فمم يعجبون ? ومم يضحكون ? وهذا الجد الصارم , وهذه التبعات الكبيرة , وما ينتظر الناس من حساب على حياتهم في الأرض . . كله يجعل البكاء أجدر بالموقف الجد , وما وراءه من الهول والكرب . .

وهنا يرسلها صيحة مدوية , ويصرخ في آذانهم وقلوبهم , ويهتف بهم إلى ما ينبغي أن يتداركوا به أنفسهم , وهم على حافة الهاوية:

من الاية 62 الى آخر السورة

فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

تعقيب على السجود والسيرة والتعليل (فاسجدوا لله واعبدوا).

وإنها لصيحة مزلزلة مذهلة في هذا السياق , وفي هذه الظلال , وبعد هذا التمهيد الطويل , الذي ترتعش له القلوب:

ومن ثم سجدوا . سجدوا وهم مشركون . وهم يمارون في الوحي والقرآن . وهم يجادلون في الله والرسول !

سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم والرسول [ ص ] يتلو هذه السورة عليهم . وفيهم المسلمون والمشركون . ويسجد فيسجد الجميع . مسلمين ومشركين . لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن ; ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان . . ثم أفاقوا بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون !

بهذا تواترت الروايات . ثم افترقت في تعليل هذا الحادث الغريب . وما هو في الحقيقة بالغريب . فهو تأثير القرآن العجيب ووقعه الهائل في القلوب !

هذا الحادث الذي تواترت به الروايات . حادث سجود المشركين مع المسلمين . كان يحتاج عندي إلى تعليل . قبل أن تقع لي تجربة شعورية خاصة عللته في نفسي , وأوضحت لي سببه الأصيل .

وكنت قد قرأت تلك الروايات المفتراة عما سمي بحديث الغرانيق , الذي أورده ابن سعد في طبقاته , وابن جرير الطبري في تاريخه . وبعض المفسرين عند تفسيرهم لقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته , فينسخ الله ما يلقي الشيطان , ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) . . . الخ. . وهي الروايات التي قال فيها ابن كثير - جزاه الله خيرا - [ ولكنها من طرق كلها مرسلة . ولم أرها مسندة من وجه صحيح ] .

وأكثر هذه الروايات تفصيلا وأقلها إغراقا في الخرافة والافتراء على رسول الله [ ص ] رواية ابن أبي حاتم . قال:حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي , حدثنا محمد بن اسحاق الشيبي , حدثنا محمد ابن فليح , عن موسى بن عقبة , عن ابن شهاب . قال:أنزلت سورة النجم , وكان المشركون يقولون:لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ; ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر . وكان رسول الله [ ص ] قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم , وأحزنه ضلالهم ; فكان يتمنى هداهم . فلما أنزل الله سورة النجم قالSadأفرأيتم اللات والعزى , ومناة الثالثة الأخرى ?)ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال:وإنهن لهن الغرانيق العلى , وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى . . وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته . . فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة . وزلت بها ألسنتهم . وتباشروا بها . وقالوا:إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه . . فلما بلغ رسول الله [ ص ] آخر النجم سجد , وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك . غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه . فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله [ ص ] فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين . ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين . . فاطمأنت أنفسهم - أي المشركون - لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله [ ص ] وحدثهم به الشيطان أن رسول الله [ ص ] قد قرأها في السورة , فسجدوا لتعظيم آلهتهم . ففشت تلك الكلمة في الناسواظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين:عثمان بن مظعون وأصحابه . وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم , وصلوا مع رسول الله [ ص ] وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه , وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة , فأقبلوا سراعا , وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان , وأحكم الله آياته , وحفظه من الفرية . وقال: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي . . . الخ . . فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان , انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين , واشتدوا عليهم" . . انتهى .

وهناك روايات أخرى أجرأ على الافتراء تنسب قولة الغرانيق . . تلك . . إلى رسول الله [ ص ] وتعلل هذا برغبته - حاشاه [ ص ] في مرضاة قريش ومهادنتها !!!

وقد رفضت منذ الوهلة الأولى تلك الروايات جميعا . . فهي فضلا عن مجافاتها لعصمة النبوة وحفظ الذكر من العبث والتحريف , فإن سياق السورة ذاته ينفيها نفيا قاطعا . إذ أنه يتصدى لتوهين عقيدة المشركين في هذه الآلهة وأساطيرهم حولها . فلا مجال لإدخال هاتين العبارتين في سياق السورة بحال . حتى على قول من قال:إن الشيطان ألقى بهما في أسماع المشركين دون المسلمين . فهؤلاء المشركون كانوا عربا يتذوقون لغتهم . وحين يسمعون هاتين العبارتين المقحمتين ويسمعون بعدهما: ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذا قسمة ضيزى . إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم , ما أنزل الله بها من سلطان . . الخ . ويسمعون بعد ذلك: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم . إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا . . ويسمعون قبلهSadوكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى). . حين يسمعون هذا السياق كله فإنهم لا يسجدون مع الرسول [ ص ] لأن الكلام لا يستقيم . والثناء على آلهتهم وتقرير أن لها شفاعة ترتجى لا يستقيم . وهم لم يكونوا أغبياء كغباء الذين افتروا هذه الروايات , التي تلقفها منهم المستشرقون مغرضين أو جاهلين !

لغير هذا السبب إذن سجد المشركون . ولغير هذا السبب عاد المهاجرون من الحبشة ثم عادوا إليها بعد حين مع آخرين .

وليس هنا مجال تحقيق سبب عودة المهاجرين , ثم عودتهم إلى الحبشة مع آخرين . .

فأما أمر السجود فهو الذي نتصدى له في هذه المناسبة . .

لقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود . ويخطر لي احتمال أنه لم يقع ; وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة بعد نحو شهرين أو ثلاثة . وهو أمر يحتاج إلى التعليل .

وبينما أنا كذلك وقعت لي تلك التجربة الشعورية الخاصة التي أشرت إليها من قبل . .

كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب , يتلو سورة النجم . فانقطع بيننا الحديث , لنستمع وننصت للقرآن الكريم . وكان صوت القارئ مؤثرا وهو يرتل القرآن ترتيلا حسنا .

وشيئا فشيئا عشت معه فيما يتلوه . عشت مع قلب محمد [ ص ] في رحلته إلى الملأ الأعلى . عشت معه وهو يشهد جبريل - عليه السلام - في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها . ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله ! وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة . عند سدرة المنتهى . وجنة المأوى . عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي , وتحلق بي رؤاي , وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي . .

وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها . . إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة , التي تتهاوى عند اللمسة الأولى .

ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض , وأمام الأجنة في بطون الأمهات . وعلم الله يتابعها ويحيط بها .

وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة . . الغيب المحجوب لا يراه إلا الله . والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء . والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد . والحشود الضاحكة والحشود الباكية . وحشود الموتى . وحشود الأحياء . والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها , وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر أو أنثى . والنشأة الأخرى . ومصارع الغابرين . والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى !

واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمةSadهذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة). .

ثم جاءت الصيحة الأخيرة . واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيبSadأفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون . وأنتم سامدون ?).

فلما سمعتSadفاسجدوا لله واعبدوا). . كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقا إلى أوصالي . واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي , لم أملك مقاومته . فظل جسمي كله يختلج , ولا أتمالك أن أثبته ولا أن أكفكف دموعا هاتنة , لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة !

وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح , وأن تعليله قريب . إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن , ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة . ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها . ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع , وكانت مني هذه الاستجابة . . وذلك سر القرآن . . فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة ; وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير . فيكون منها ما يكون !

لحظة كهذه مست قلوب الحاضرين يومها جميعا . ومحمد [ ص ] يقرأ هذه السورة يقرؤها بكيانه كله . ويعيش في صورها التي عاشها من قبل بشخصه . وتنصب كل هذه القوة الكامنة في السورة من خلال صوت محمد [ ص ] في أعصاب السامعين . فيرتجفون ويسمعونSadفاسجدوا لله واعبدوا)ويسجد محمد والمسلمون . . فيسجدون . .

ولقد يقال:إنك تقيس على لحظة مرت بك , وتجربة عانيتها أنت . وأنت مسلم . تعتقد بهذا القرآن , وله في نفسك تأثير خاص . . وأولئك كانوا مشركين يرفضون الإيمان ويرفضون القرآن !

ولكن هنالك اعتبارين لهما وزنهما في مواجهة هذا الذي يقال:

الاعتبار الأول:أن الذي كان يقرأ السورة كان هو محمد [ ص ] النبي . الذي تلقى هذا القرآن مباشرة من مصدره . وعاشه وعاش به . وأحبه حتى لكان يثقل خطاه إذا سمع من يرتله داخل داره , ويقف إلى جانب الباب يسمع له حتى ينتهي ! وفي هذه السورة بالذات كان يعيش لحظات عاشها في الملأ الأعلى . وعاشها مع الروح الأمين وهو يراه على صورته الأولى . . فأما أنا فقد كنت أسمع السورة من قارئ . والفارق ولا شك هائل !

والاعتبار الثاني:أن أولئك المشركين لم تكن قلوبهم ناجية من الرعشة والرجفة , وهم يستمعون إلى محمد [ ص ] إنما كان العناد المصطنع هو الذي يحول بينهم وبين الإذعان . . والحادثان التاليان شاهد على ما كان يخالج قلوبهم من الارتعاش .

روى ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب , من طريق محمد بن اسحاق , عن عثمان بن عروة , ابن الزبير , عن أبيه , عن هناد بن الأسود , قال:كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزوا إلى الشام , فتجهزت معهما , فقال ابنه عتبة:والله لأنطلقن إلى محمد , ولأوذينه في ربه "سبحانه وتعالى " . فانطلق حتى أتى النبي [ ص ] فقال:يا محمد . هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى . . فقال النبي [ ص ]:" اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " . . ثم انصرف عنه , فرجع إلى أبيه , فقال:يا بني , ما قلت له ? فذكر له ما قاله . فقال:فما قال لك ? قال:اللهم سلط عليه كلبا من كلابك . قال:يا بني والله ما آمن عليك دعاءه ! فسرنا حتى نزلنا أبراه - وهي في سدة - ونزلنا إلى صومعة راهب . فقال الراهب:يا معشر العرب , ما أنزلكم هذه البلاد ? فإنها يسرح فيها الأسد كما تسرح الغنم ! فقال أبو لهب:إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ; وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه , فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة , وافرشوا لابني عليها , ثم افرشوا حولها . ففعلنا . فجاء الأسد فشم وجوهنا , فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فوق المتاع , فشم وجهه , ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه . فقال أبو لهب:قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد !

هذا هو الحادث الأول صاحبه أبو لهب . أشد المخاصمين لمحمد [ ص ] المناوئين له , المؤلبين عليه هو وبيته . المدعو عليه في القرآن هو وبيتهSadتبت يدا أبي لهب وتب . ما أغنى عنه ماله وما كسب . سيصلى نارا ذات لهب . وامرأته حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد). . وذلك شعوره الحقيقي تجاه محمد وقول محمد . وتلك ارتجافة قلبه ومفاصله أمام دعوة محمد [ ص ] على ابنه .

والحادث الثاني:صاحبه عتبة بن أبي ربيعة . وقد أرسلته قريش إلى محمد [ ص ] يفاوضه في الكف عن هذا الذي فرق قريشا وعاب آلهتهم , على أن يكون له منهم ما يريد من مال أو رياسة أو زواج . فلما انتهى من عرضه قال له رسول الله [ ص ]:" أفرغت يا أبا الوليد ? " قال:نعم . قال:" فاستمع مني " . قال:أفعل . قال: بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون . بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . . ثم مضى حتى قوله تعالىSadفإن أعرضوا فقل:أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود). . عندئذ هب عتبة يمسك بفم النبي [ ص ] في ذعر وهو يقول:ناشدتك الرحم أن تكف . . وعاد إلى قريش يقص عليهم الأمر . ويعقب عليه يقول:وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب , فخشيت أن ينزل بكم العذاب .

فهذا شعور رجل لم يكن قد أسلم . والارتجاف فيه ظاهر . والتأثر المكبوت أمام العناد والمكابرة ظاهر .

ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة النجم من محمد [ ص ] فأقرب ما يحتمل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التي لا يملكون أنفسهم إزاءها . وأن يؤخذوا بسلطان هذا القرآن فيسجدوا مع الساجدين . . بلا غرانيق ولا غيرها من روايات المفترين !


كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى