منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة الشورى ايه 12 الى ايه 36 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

 تفسير سورة الشورى ايه 12 الى ايه 36 الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة الشورى ايه 12 الى ايه 36 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الأربعاء يونيو 13, 2012 6:48 pm

من الاية 12 الى الاية 12

لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

لمن يشاء ويقدر). . فهو رازقهم وكافلهم ومطعمهم وساقيهم . فلمن غيره يتجهون إذن ليحكم بينهم فيما يختلفون فيه ? وإنما يتجه الناس إلى الرازق الكافل المتصرف في الأرزاق . الذي يدبر هذا كله بعلم وتقدير: (إنه بكل شيء عليم). . والذي يعلم كل شيء هو الذي يحكم وحكمه العدل , وحكمه الفصل . .

وهكذا تتساوق المعاني وتتناسق بهذه الدقة الخفية اللطيفة العجيبة ; لتوقع على القلب البشري دقة بعد دقة , حتى يتكامل فيها لحن متناسق عميق .

الدرس الرابع:13 - 16 وحدة الرسالات والدعوة والإستقامة ومواجهة الكفار

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى:

شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً , والذي أوحينا إليك , وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى:أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم إليه . الله يجتبي إليه من يشاء , ويهدي إليه من ينيب . وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم - بغياً بينهم - ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم , وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب . فلذلك فادع واستقم كما أمرت , ولا تتبع أهواءهم , وقل:آمنت بما أنزل الله من كتاب ; وأمرت لأعدل بينكم , الله ربنا وربكم , لنا أعمالنا ولكم أعمالكم , لا حجة بيننا وبينكم , الله يجمع بيننا وإليه المصير . والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم , وعليهم غضب ولهم عذاب شديد . .

لقد جاء في مطلع السورةSadكذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم). . فكانت هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر , ووحدة المنهج , ووحدة الاتجاه . فالآن يفصل هذه الإشارة ; ويقرر أن ما شرعه الله للمسلمين هو - في عمومه - ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . وهو أن يقيموا دين الله الواحد , ولا يتفرقوا فيه . ويرتب عليها نتائجها من وجوب الثبات على المنهج الإلهي القديم , دون التفات إلى أهواء المختلفين . ومن هيمنة هذا الدين الواضح المستقيم , ودحض حجة الذين يحاجون في الله , وإنذارهم بالغضب والعذاب الشديد .

ويبدو من التماسك والتناسق في هذه الفقرة كالذي بدا في سابقتها بشكل ملحوظ:

(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا , والذي أوحينا إليك , وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى:أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه). .

وبذلك يقرر الحقيقة التي فصلناها في مطلع السورة . حقيقة الأصل الواحد , والنشأة الضاربة في أصول الزمان ويضيف إليها لمحة لطيفة الوقع في حس المؤمن . وهو ينظر إلى سلفه في الطريق الممتدة من بعيد . فإذا هم على التتابع هؤلاء الكرام . . نوح . إبراهيم . موسى عيسى , محمد - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ويستشعر أنه امتداد لهؤلاء الكرام وأنه على دربهم يسير . إنه سيستروح السير في الطريق , مهما يجد فيه من شوك ونصب , وحرمان من أعراض كثيرة . وهو برفقة هذا الموكب الكريم على الله . الكريم على الكون كله منذ فجر التاريخ .

ثم إنه السلام العميق بين المؤمنين بدين الله الواحد , السائرين على شرعه الثابت ; وانتفاء الخلاف والشقاق ; والشعور بالقربى الوثيقة , التي تدعو إلى التعاون والتفاهم , ووصل الحاضر بالماضي , والماضي بالحاضر , والسير جملة في الطريق .

من الاية 13 الى الاية 13

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13)

وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى ? وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى ; وفيم يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد ? وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين ? ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير ? والوصية الواحدة الصادرة للجميع: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)? فيقيموا الدين , ويقوموا بتكاليفه , ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به ; ويقفوا تحت رايته صفا , وهي راية واحدة , رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى - صلوات الله عليهم - حتى انتهت إلى محمد [ ص ] في العهد الأخير .

ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها - وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم - كانوا يقفون من الدعوة القديمة الجديدة موقفاً آخر:

(كبر على المشركين ما تدعوهم إليه). .

كبر عليهم أن يتنزل الوحي على محمد من بينهم ; وكانوا يريدون أن يتنزل (على رجل من القريتين عظيم)أي صاحب سلطان من كبرائهم . ولم تكن صفات محمد الذاتية وهو بإقرارهم الصادق الأمين , ولا كان نسبه وهو من أوسط بيت في قريش . ما كان هذا كله يعدل في نظرهم أن يكون سيد قبيلة ذا سلطان !

وكبر عليهم أن ينتهي سلطانهم الديني بانتهاء عهد الوثنية والأصنام والأساطير التي يقوم عليها هذا السلطان ; وتعتمد عليها مصالحهم الاقتصادية والشخصية . فتشبثوا بالشرك وكبر عليهم التوحيد الخالص الواضح الذي دعاهم إليه الرسول الكريم .

وكبر عليهم أن يقال:إن آباءهم الذين ماتوا على الشرك ماتوا على ضلالة وعلى جاهلية ; فتشبثوا بالحماقة , وأخذتهم العزة بالإثم , واختاروا أن يلقوا بأنفسهم إلى الجحيم , على أن يوصم آباؤهم بأنهم ماتوا ضالين .

والقرآن يعقب على موقفهم هذا بأن الله هو الذي يصطفي ويختار من يشاء ; وأنه كذلك يهدي إليه من يرغب في كنفه , ويتوب إلى ظله من الشاردين:

(الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب). .

وقد اجتبى محمداً [ ص ] للرسالة . وهو يفتح الطريق لمن ينيب إليه ويثوب .

ثم يعود إلى موقف أتباع الرسل , الذين جاءوا قومهم بدين واحد , فتفرق أتباعهم شيعاً وأحزابا:

(وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم - بغيا بينهم - ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم , وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب). .

فهم لم يتفرقوا عن جهل ; ولم يتفرقوا لأنهم لا يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم , ويربط رسلهم ومعتقداتهم . إنما تفرقوا بعد ما جاءهم العلم . تفرقوا بغيا بينهم وحسدا وظلما للحقيقة ولأنفسهم سواء . تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة , والشهوات الباغية . تفرقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة والمنهج القويم . ولو أخلصوا لعقيدتهم , واتبعوا منهجهم ما تفرقوا .

ولقد كانوا يستحقون أن يأخذهم الله أخذاً عاجلا , جزاء بغيهم وظلمهم في هذا التفرق والتفريق . ولكن كلمة سبقت من الله لحكمة أرادها , بإمهالهم إلى أجل مسمى (و لولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم). . فحق الحق وبطل الباطل وانتهى الأمر في هذه الحياة الدنيا . ولكنهم مؤجلون إلى يوم الوقت المعلوم .

من الاية 14 الى الاية 14

وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14)

فأما الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا وفرقوا من أتباع كل نبي , فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم ; إذ كانت الخلافات السابقة مثارا لعدم الجزم بشيء , وللشك والغموض والحيرة بين شتى المذاهب والاختلافات:

(وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب). .

وما هكذا تكون العقيدة . فالعقيدة هي الصخرة الصلبة التي يقف عليها المؤمن , فتميد الأرض من حوله وهو ثابت راسخ القدمين فوق الصخرة الصلبة التي لا تميد . والعقيدة هي النجم الهادي الثابت على الأفق يتجه إليه المؤمن وسط الأنواء والزوابع , فلا يضل ولا يحيد . فأما حين تصبح العقيدة ذاتها موضع شك ومثار ريبة , فلا ثبات لشيء ولا لأمر في نفس صاحبها , ولا قرار له على وجهة , ولا اطمئنان إلى طريق .

ولقد جاءت العقيدة ليعرف أصحابها طريقهم ووجهتهم إلى الله ; ويقودوا من وراءهم من البشر في غير ما تلجلج ولا تردد ولا ضلال . فإذا هم استرابوا وشكوا فهم غير صالحين لقيادة أحد , وهم أنفسهم حائرون .

وكذلك كان حال أتباع الرسل يوم جاء هذا الدين الجديد .

يقول الأستاذ الهندي أبو الحسن الندوي في كتابه:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين":

"أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين , ولعبة المحرفين والمنافقين , حتى فقدت روحها وشكلها , فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها , وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام , وعسف الحكام , وشغلت بنفسها , لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة وأفلست في معنوياتها , ونضب معين حياتها , لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي , ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري"

ويقول الكاتب الأوربي "ج . ه . دنيسون" في كتابه "العواطف كأساس للحضارة " :

"ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هارٍ من الفوضى , لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ; ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها . وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى , التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة , مشرفة على التفكك والانحلال ; وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ماكانت عليه من الهمجية , إذ القبائل تتحارب وتتناحر , لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار , بدلاً من الاتحاد والنظام . وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله . واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه " . . يعني محمداً - [ ص ] . .

ولأن أتباع الرسل تفرقوا - من بعد ما جاءهم العلم - ولأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم كانوا في شك منه مريب . . لهذا وذلك , ولخلو مركز القيادة البشرية من قائد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله . . أرسل الله محمداً [ ص ] ووجه إليه الأمر أن يدعو وأن يستقيم على دعوته , وألا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله وحول دعوته الواضحة المستقيمة ; وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة الواحدة التي شرعها الله للنبيين أجمعين:

من الاية 15 الى الاية 16

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)

(فلذلك فادع واستقم كما أمرت , ولا تتبع أهواءهم , وقل:آمنت بما أنزل الله من كتاب . وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم . لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . لا حجة بيننا وبينكم . الله يجمع بيننا , وإليه المصير). .

إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء . القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت . تدعو إلى الله على بصيرة . وتستقيم على أمر الله دون انحراف . وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك . القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق . والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد , وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد: (وقل:آمنت بما أنزل الله من كتاب). . ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل . (وأمرت لأعدل بينكم). . فهي قيادة ذات سلطان , تعلن العدل في الأرض بين الجميع . [ هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها . ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة ] . وتعلن الربوبية الواحدة: (الله ربنا وربكم). . وتعلن فردية التبعة: (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم). . وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل: (لا حجة بيننا وبينكم). . وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير: (الله يجمع بيننا وإليه المصير). .

وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة , في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق . فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر . وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض . وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات .

وبعد وضوح القضية على هذا النحو , واستجابة العصبة المؤمنة لله هذه الاستجابة , يبدو جدل المجادلين في الله مستنكراً لا يستحق الالتفات , وتبدو حجتهم باطلة فاشلة ليس لها وزن ولا حساب . فتنتهي هذه الفقرة بالفصل في أمرهم , وتركهم لوعيد الله الشديد:

(والذين يحاجون في الله . من بعد ما استجيب له . حجتهم داحضة عند ربهم , وعليهم غضب , ولهم عذاب شديد). .

ومن تكون حجته باطلة مغلوبة عند ربه فلا حجة له ولا سلطان . ووراء الهزيمة والبطلان في الأرض , الغضب والعذاب الشديد في الآخرة . وهو الجزاء المناسب على اللجاج بالباطل بعد استجابة القلوب الخالصة ; والجدل المغرض بعد وضوح الحق الصريح .

الدرس الخامس:17 - 20 الوحي والآخرة ودعوة لطلب حرث الآخرة

ثم يبدأ جولة جديدة مع الحقيقة الأولى:

(الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . وما يدريك لعل الساعة قريب . يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها , والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق , ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد . الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز . من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه , ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها , وما له في الآخرة من نصيب). .

فالله أنزل الكتاب بالحق وأنزل العدل ; وجعله حكما فيما يختلف فيه أصحاب العقائد السالفة , وفيما تختلف فيه آراء الناس وأهواؤهم ; وأقام شرائعه على العدل في الحكم . العدل الدقيق كأنه الميزان توزن به القيم , وتوزن به الحقوق . وتوزن به الأعمال والتصرفات .

من الاية 17 الى الاية 20

اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ (19) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20)

وينتقل من هذه الحقيقة . حقيقة الكتاب المنزل بالحق والعدل . إلى ذكر الساعة . والمناسبة بين هذا وهذه حاضرة , فالساعة هي موعد الحكم العدل والقول الفصل . والساعة غيب . فمن ذا يدري إن كانت على وشك:

(وما يدريك لعل الساعة قريب ?). .

والناس عنها غافلون , وهي منهم قريب , وعندها يكون الحساب القائم على الحق والعدل , الذي لا يهمل فيه شيء ولا يضيع . .

ويصور موقف المؤمنين من الساعة وموقف غير المؤمنين:

(يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها , والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق). .

والذين لا يؤمنون بها لا تحس قلوبهم هولها , ولا تقدر ما ينتظرهم فيها ; فلا عجب يستعجلون بها مستهترين . لأنهم محجوبون لا يدركون . وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها , ومن ثم هم يشفقون ويخافون , وينتظرونها بوجل وخشية , وهم يعرفون ما هي حين تكون .

وإنها لحق . وإنهم ليعلمون أنها الحق . وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون .

(ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد). .

فقد أوغلوا في الضلال وأبعدوا , فعسير أن يعودوا بعد الضلال البعيد . .

وينتقل من الحديث عن الآخرة والإشفاق منها أو الاستهتار بها , إلى الحديث عن الرزق الذي يتفضل الله به على عباده:

(الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز). .

وتبدو المناسبة بعيدة في ظاهر الأمر بين هذه الحقيقة وتلك . ولكن الصلة تبدو وثيقة عند قراءة الآية التالية:

من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه , ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب . .

فالله لطيف بعباده يرزق من يشاء . يرزق الصالح والطالح , والمؤمن والكافر . فهؤلاء البشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئاً ; وقد وهبهم الله الحياة , وكفل لهم اسبابها الأولية ; ولو منع رزقه عن الكافر والفاسق والطالح ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم ولماتوا جوعاً وعرياً وعطشاً , وعجزاً عن اسباب الحياة الأولى , ولما تحققت حكمة الله من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم . ومن ثم أخرج الرزق من دائرة الصلاح والطلاح , والإيمان والكفر , وعلقه باسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة واستعدادات الأفراد الخاصة . وجعله فتنة وابتلاء . يجزي عليهما الناس يوم الجزاء .

ثم جعل الآخرة حرثا والدنيا حرثا يختار المرء منهما ما يشاء . فمن كان يريد حرث الآخرة عمل فيه , وزاد له الله في حرثه , وأعانه عليه بنيته , وبارك له فيه بعمله . وكان له مع حرث الآخرة رزقه المكتوب له في هذه الأرض لا يحرم منه شيئاً . بل إن هذا الرزق الذي يعطاه في الأرض قد يكون هو بذاته حرث الآخرة بالقياس إليه , حين يرجو وجه الله في تثميره وتصريفه والاستمتاع به والإنفاق منه . . ومن كان يريد حرث الدنيا أعطاه الله من عرض الدنيا رزقه المكتوب له لا يحرم منه شيئاً . ولكن لم يكن له في الآخرة نصيب . فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئاً ينتظر عليه ذلك النصيب !

ونظرة إلى طلاب حرث الدنيا وطلاب حرث الآخرة , تكشف عن الحماقة في إرادة حرث الدنيا ! فرزق الدنيا

من الاية 21 الى الاية 22

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ (22)

يتلطف الله فيمنحه هؤلاء وهؤلاء . فلكل منهما نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله . ثم يبقى حرث الآخرة خالصا لمن أراده وعمل فيه .

ومن طلاب حرث الدنيا نجد الأغنياء والفقراء ; بحسب أسباب الرزق المتعلقة بالأوضاع العامة والاستعدادات الخاصة . وكذلك نجد الحال عند طلاب حرث الآخرة سواء بسواء . ففي هذه الأرض لا اختلاف بين الفريقين في قضية الرزق . إنما يظهر الاختلاف والامتياز هناك ! فمن هو الأحمق الذي يترك حرث الآخرة . وتركه لا يغير من أمره شيئاً في هذه الحياة ?!

والأمر في النهاية مرتبط بالحق والميزان الذي نزل به الكتاب من عند الله . فالحق والعدل ظاهران في تقدير الرزق لجميع الأحياء . وفي زيادة حرث الآخرة لمن يشاء . وفي حرمان الذين يريدون حرث الدنيا من حرث الآخرة يوم الجزاء . . .

الدرس السادس:21 - 23 إنكار الشرك وثواب المؤمنين وعذاب الكافرين والوصية بالقربى

ومن ثم يبدأ جولة أخرى حول الحقيقة الأولى:

أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ? ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم , وإن الظالمين لهم عذاب أليم . ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم , والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات , لهم ما يشاءون عند ربهم , ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات , قل:لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ; ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً , إن الله غفور شكور . .

في فقرة سابقة قرر أن ما شرعه الله للأمة المسلمة هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى , وهو ما أوحى به إلى محمد [ ص ] وفي هذه الفقرة يتساءل في استنكار عما هم فيه وما هم عليه , من ذا شرعه لهم ما دام الله لم يشرعه ? وهو مخالف لما شرعه منذ أن كان هناك رسالات وتشريعات ?

(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ?). .

وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان ; فالله وحده هو الذي يشرع لعباده . بما أنه - سبحانه - هو مبدع هذا الكون كله , ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له . والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير , فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس ; ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس . وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال . فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور .

ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة ; فإن الكثيرين يجادلون فيها , أو لا يقتنعون بها , وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله , زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم , ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم . كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله ! أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله ! وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله !

لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه , أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها . وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته . ومن ثم يحقق لهذه البشرية اقصى درجات التعاون فيما بينها , والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى . شرع في هذا كله أصولاً , وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة , في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة . فإذا ما اختلف البشر في شيء من هذا ردوه إلى الله ; ورجعوا به إلى تلكالأصول الكلية التي شرعها للناس , لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق .

بذلك يتوحد مصدر التشريع , ويكون الحكم لله وحده . وهو خير الحاكمين . وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله , وعلى دين الله , وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام .

(ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم). .

فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل . ولولاها لقضى الله بينهم , فأخذ المخالفين لما شرعه الله , المتبعين لشرع من عداه . لأخذهم بالجزاء العاجل . ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء .

(وإن الظالمين لهم عذاب أليم). .

فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم . وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه ?

ومن ثم يعرض هؤلاء الظالمين في مشهد من مشاهد القيامة . يعرضهم مشفقين خائفين من العذاب وكانوا من قبل لا يشفقون , بل يستعجلون ويستهترون:

(ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم). .

والتعبير العجيب يجعل إشفاقهم (مما كسبوا)فكأنما هو غول مفزع ; وهو هو الذي كسبوه وعملوه بأيديهم وكانوا به فرحين ! ولكنهم اليوم يشفقون منه ويفزعون (وهو واقع بهم). . وكأنه هو بذاته انقلب عذابا لا مخلص منه , وهو واقع بهم !

وفي الصفحة الأخرى نجد المؤمنين الذين كانوا يشفقون من هذا اليوم ويخافون . نجدهم في أمن وعافية ورخاء:

والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات , لهم ما يشاءون عند ربهم . ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات . .

والتعبير كله رُخاء يرسم ظلال الرخاء: (في روضات الجنات). . (لهم ما يشاءون عند ربهم)بلا حدود ولا قيود . (ذلك هو الفضل الكبير). . (ذلك الذي يبشر الله عباده)فهو بشرى حاضرة , مصداقاً للبشرى السالفة . وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال .

وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول [ ص ] أن يقول لهم:إنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم , وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم . إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه , وحسبه ذلك أجراً:

(قل:لا أسألكم عليه أجرا . إلا المودة في القربى . ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا . إن الله غفور شكور). .

والمعنى الذي أشرت إليه , وهو أنه لا يطلب منهم أجرا , إنما تدفعه المودة للقربى - وقد كانت لرسول الله [ ص ] قرابة بكل بطن من بطون قريش - ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى , ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم , وهذا أجره وكفى !

هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها . وهناك تفسير مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري:

قال البخاري حدثنا محمد بن بشار , حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن عبدالملك بن ميسرة , قال:

من الاية 23 الى الاية 24

ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)

سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سأل عن قوله تعالى: (إلا المودة في القربى)فقال سعيد بن جبير:" قربى آل محمد . فقال ابن عباس:عجلت . إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن بطن من بطون قريش إلا كان له فيهم قرابة . فقال:" إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " .

ويكون المعنى على هذا:إلا أن تكفوا أذاكم مراعاة للقرابة . وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه . فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم لا سواه .

وتأويل ابن عباس - رضي الله عنهما - أقرب من تأويل سعيد بن جبير - رضي الله عنه - ولكنني ما أزال أحس أن ذلك المعنى أقرب وأندى . . والله أعلم بمراده منا .

وعلى أية حال فهو يذكرهم - أمام مشهد الروضات والبشريات - أنه لا يسألهم على شيء من هذا أجراً . ودون هذا بمراحل يطلب عليه الأدلاء أجرا ضخماً ! ولكنه فضل الله الذي لا يحاسب العباد حساب التجارة , ولا حساب العدل , ولكن حساب السماحة وحساب الفضل:

(ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا). .

فليس هو مجرد عدم تناول الأجر . بل إنها الزيادة والفضل . . ثم هي بعد هذا كله المغفرة والشكر:

(إن الله غفور شكور). .

الله يغفر . ثم . . الله يشكر ويشكر من ? يشكر لعباده . وهو وهبهم التوفيق على الإحسان . ثم هو يزيد لهم في الحسنات , ويغفر لهم السيئات . ويشكر لهم بعد هذا وذاك . . فيا للفيض الذي يعجز الإنسان عن متابعته . فضلاً على شكره وتوفيته !

الدرس السابع:24 رد اعتراضات الكفار على القرآن وإثبات أنه كلام الله

ثم يعود إلى الحديث عن تلك الحقيقة الأولى:

(أم يقولون:افترى على الله كذبا ? فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل , ويحق الحق بكلماته , إنه عليم بذات الصدور).

هنا يأتي على الشبهة الأخيرة , التي قد يعللون بها موقفهم من ذلك الوحي , الذي تحدث عن مصدره وعن طبيعته وعن غايته في الجولات الماضية:

(أم يقولون:افترى على الله كذبا ?). .

فهم من ثم لا يصدقونه , لأنهم يزعمون أنه لم يوح إليه , ولم يأته شيء من الله ?

ولكن هذا قول مردود . فما كان الله ليدع أحدا يدعي أن الله أوحى إليه , وهو لم يوح إليه شيئاً , وهو قادر على أن يختم على قلبه , فلا ينطق بقرآن كهذا . وأن يكشف الباطل الذي جاء به ويمحوه . وأن يظهر الحق من ورائه ويثبته:

(فإن يشأ الله يختم على قلبك , ويمح الله الباطل , ويحق الحق بكلماته)

وما كان ليخفى عليه ما يدور في خلد محمد [ ص ] حتى قبل أن يقوله:

(إنه عليم بذات الصدور). .

فهي شبهة لا قوام لها . وزعم لا يقوم على أساس . ودعوى تخالف المعهود عن علم الله بالسرائر , وعن قدرته

من الاية 25 الى الاية 25

وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)

على ما يريد , وعن سنته في إقرار الحق وإزهاق الباطل . . وإذن فهذا الوحي حق , وقول محمد صدق ; وليس التقول عليه إلا الباطل والظلم والضلال . . وبذلك ينتهي القول - مؤقتاً - في الوحي . ويأخذ بهم في جولة أخرى وراء هذا القرار .

الوحدة الثانية 25 - 53 الموضوع:دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق وإثبات مصدر القرآن الدرس الأول:25 - 27 دعوة العباد إلى التوبة والإزدياد من الإيمان والله الرازق

هذا القسم الثاني من السورة يمضي في الحديث عن دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس , وفيما يتعلق مباشرة بحياتهم ومعاشهم , وفي صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم . . وذلك بعد الحديث في القسم الأول عن الوحي والرسالة من جوانبها المتعددة . . ثم يعود في نهاية السورة إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته . وبين القسمين اتصال ظاهر , فهما طريقان إلى القلب البشري , يصلانه بالوحي والإيمان .

(وهو الذي يقبل التوبة عن عباده , ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون . ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله , والكافرون لهم عذاب شديد . ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض .

من الاية 26 الى الاية 28

وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

ولكن ينزل بقدر ما يشاء , إنه بعباده خبير بصير). .

تجيء هذه اللمسة بعد ما سبق من مشهد الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم , ومشهد الذين آمنوا في روضات الجنات . ونفي كل شبهة عن صدق رسول الله [ ص ] فيما بلغهم به عن الله . وتقرير علم الله بذوات الصدور .

تجيء لترغيب من يريد التوبة والرجوع عما هو فيه من ضلالة , قبل أن يقضى في الأمر القضاء الأخير . ويفتح لهم الباب على مصراعيه:فالله يقبل عنهم التوبة , ويعفو عن السيئات ; فلا داعي للقنوط واللجاج في المعصية , والخوف مما أسلفوا من ذنوب . والله يعلم ما يفعلون . فهو يعلم التوبة الصادقة ويقبلها . كما يعلم ما اسلفوا من السيئات ويغفرها .

وفي ثنايا هذه اللمسة يعود إلى جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين . فالذين آمنوا وعملوا الصالحات يستجيبون لدعوة ربهم , وهو يزيدهم من فضله . (والكافرون لهم عذاب شديد). . وباب التوبة مفتوح للنجاة من العذاب الشديد , وتلقي فضل الله لمن يستجيب .

وفضل الله في الآخرة بلا حساب وبلا حدود ولا قيود . فأما رزقه لعباده في الأرض فهو مقيد محدود ; لما يعلمه - سبحانه - من أن هؤلاء البشر لا يطيقون - في الأرض - أن يتفتح عليهم فيض الله غير المحدود:

(ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض , ولكن ينزل بقدر ما يشاء . إنه بعباده خبير بصير). .

وهذا يصور نزارة ما في هذه الحياة الدنيا من أرزاق - مهما كثرت - بالقياس إلى ما في الآخرة من فيض غزير . فالله يعلم أن عباده , هؤلاء البشر , لا يطيقون الغنى إلا بقدر , وأنه لو بسط لهم في الرزق - من نوع ما يبسط في الآخرة - لبغوا وطغوا . إنهم صغار لا يملكون التوازن . ضعاف لا يحتملون إلا إلى حد . والله بعباده خبير بصير . ومن ثم جعل رزقهم في هذه الأرض مقدراً محدوداً , بقدر ما يطيقون . واستبقى فيضه المبسوط لمن ينجحون في بلاء الأرض , ويجتازون امتحانها , ويصلون إلى الدار الباقية بسلام . ليتلقوا فيض الله المذخور لهم بلا حدود ولا قيود .

الدرس الثاني:28 الله ينزل الغيث وينشر رحمته

(وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا , وينشر رحمته , وهو الولي الحميد). .

وهذه لمسة أخرى كذلك تذكرهم بجانب من فضل الله على عباده في الأرض . وقد غاب عنهم الغيث , وانقطع عنهم المطر , ووقفوا عاجزين عن سبب الحياة الأول . . الماء . . وأدركهم اليأس والقنوط . ثم ينزل الله الغيث , ويسعفهم بالمطر , وينشر رحمته , فتحيا الأرض , ويخضر اليابس , وينبت البذر , ويترعرع النبات , ويلطف الجو , وتنطلق الحياة , ويدب النشاط , وتنفرج الأسارير , وتتفتح القلوب , وينبض الأمل , ويفيض الرجاء . . وما بين القنوط والرحمة إلا لحظات . تتفتح فيها أبواب الرحمة , فتتفتح أبواب السماء بالماء . . (وهو الولي الحميد). . وهو النصير والكافل المحمود الذات والصفات . .

واللفظ القرآني المختار للمطر في هذه المناسبة . .(الغيث). . يلقي ظل الغوث والنجدة , وتلبية المضطر في الضيق والكربة . كما أن تعبيره عن آثار الغيث . . (وينشر رحمته). . يلقي ظلال النداوة والخضرة والرجاء والفرح , التي تنشأ فعلا عن تفتح النبات في الأرض وارتقاب الثمار . وما من مشهد يريح الحس والأعصاب ,

من الاية 29 الى الاية 29

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)

ويندّي القلب المشاعر , كمشهد الغيث بعد الجفاف . وما من مشهد ينفض هموم القلب وتعب النفس كمشهد الأرض تتفتح بالنبت بعد الغيث , وتنتشي بالخضرة بعد الموات .

الدرس الثالث:29 - 31 من آيات الله الكونية والنفسية الدالة على الوحدانية

ومن آياته خلق السماوات والأرض , وما بث فيهما من دابة . وهو على جمعهم إذا يشاء قدير . وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم , ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض , وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير . .

وهذه الآية الكونية معروضة على الأنظار , قائمة تشهد بذاتها على ما جاء الوحي ليشهد به , فارتابوا فيه واختلفوا في تأويله . وآية السماوات والأرض لا تحتمل جدلا ولا ريبة . فهي قاطعة في دلالتها , تخاطب الفطرة بلغتها , وما يجادل فيها مجادل وهو جاد . إنها تشهد بأن الذي أنشأها ودبرها ليس هو الإنسان , ولا غيره من خلق الله . ولا مفر من الاعتراف بمنشىء مدبر . فإن ضخامتها الهائلة , وتناسقها الدقيق , ونظامها الدائب , ووحدة نواميسها الثابتة . . كل أولئك لا يمكن تفسيره عقلاً إلا على أساس أن هناك إلهاً أنشأها ويدبرها . أما الفطرة فهي تتلقى منطق هذا الكون تلقياً مباشراً , وتدركه وتطمئن إليه , قبل ان تسمع عنه كلمة واحدة من خارجها !

وتنطوي آية السماوات والأرض على آية أخرى في ثناياها: (وما بث فيهما من دابة). . والحياة في هذه الأرض وحدها - ودع عنك ما في السماوات من حيوات أخرى لا ندركها - آية اخرى . وهي سر لم ينفذ إلى طبيعته أحد , فضلاً على التطلع إلى إنشائه . سر غامض لا يدري أحد من أين جاء , ولا كيف جاء , ولا كيف يتلبس بالأحياء ! وكل المحاولات التي بذلت للبحث عن مصدره أو طبيعته أغلقت دونها الستر والأبواب ; وانحصرت البحوث كلها في تطور الأحياء - بعد وجود الحياة - وتنوعها ووظائفها ; وفي هذا الحيز الضيق المنظور اختلفت الآراء والنظريات . فأما ما وراء الستر فبقي سراً خافياً لا تمتد إليه عين , ولا يصل إليه إدراك . . إنه من أمر الله . الذي لا يدركه سواه .

هذه الأحياء المبثوثة في كل مكان . فوق سطح الأرض وفي ثناياها . وفي أعماق البحر وفي أجواز الفضاء - ودع عنك تصور الأحياء الأخرى في السماء - هذه الأحياء المبثوثة التي لا يعلم الإنسان منها إلا النزر اليسير , ولا يدرك منها بوسائله المحدودة إلا القليل المشهور . هذه الأحياء التي تدب في السماوات والأرض يجمعها الله حين يشاء , لا يضل منها فرد واحد ولا يغيب !

وبنو الإنسان يعجزهم أن يجمعوا سربا من الطير الأليف ينفلت من أقفاصهم , أو سرباً من النحل يطير من خلية لهم !

وأسراب من الطير لا يعلم عددها إلا الله . وأسراب من النحل والنمل وأخواتها لا يحصيها إلا الله . وأسراب من الحشرات والهوام والجراثيم لا يعلم مواطنها إلا الله . وأسراب من الأسماك وحيوان البحر لا يطلع عليها إلا الله . وقطعان من الأنعام والوحش سائمة وشاردة في كل مكان . وقطعان من البشر مبثوثة في الأرض في كل مكان . . ومعها خلائق أربى عدداً وأخفى مكاناً في السماوات من خلق الله . . كلها . . كلها . . يجمعها الله حين يشاء . .

وليس بين بثها في السماوات والأرض وجمعها إلا كلمة تصدر . والتعبير يقابل بين مشهد البث ومشهد الجمع

من الاية 30 الى الاية 35

وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (35)

في لمحة على طريقة القرآن ; فيشهد القلب هذين المشهدين الهائلين قبل أن ينتهي اللسان من آية واحدة قصيرة من القرآن !

وفي ظل هذين المشهدين يحدثهم عما يصيبهم في هذه الحياة بما كسبت أيديهم . لا كله . فإن الله لا يؤاخذهم بكل ما يكسبون . ولكن يعفو منه عن كثير . ويصور لهم عجزهم ويذكرهم به , وهم قطاع صغير في عالم الأحياء الكبير:

(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير).

وفي الآية الأولى يتجلى عدل الله , وتتجلى رحمته بهذا الإنسان الضعيف . فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه ; ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف ; وهو يعلم ضعفه وما ركب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان , فيعفو عن كثير , رحمة منه وسماحة .

وفي الآية الثانية يتجلى ضعف هذا الإنسان , فما هو بمعجز في الأرض , وما له من دون الله من ولي ولا نصير . فأين يذهب إلا أن يلتجىء إلى الولي والنصير ?

الدرس الرابع:32 - 35 آيات الله في البحار والسفن

(ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام . إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره . إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير . ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص). .

والسفن الجواري في البحر كالجبال آية أخرى من آيات الله . آية حاضرة مشهودة . آية تقوم على آيات كلها من صنع الله دون جدال . هذا البحر من أنشأه ? مَن مِن البشر أو غيرهم يدعي هذا الادعاء ? ومن أودعه خصائصه من كثافة وعمق وسعة حتى يحمل السفن الضخام ? وهذه السفن من أنشأ مادتها وأودعها خصائصها فجعلها تطفو على وجه الماء ? وهذه الريح التي تدفع ذلك النوع من السفن التي كانت معلومة وقتها للمخاطبين [ وغير الريح من القوى التي سخرت للإنسان في هذا الزمان من بخار أو ذرة أو ما يشاء الله بعد الآن ] من جعلها قوة في هذا الكون تحرك الجواري في البحر كالأعلام ? . .

(إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره). .

وإنها لتركد أحياناً فتهمد هذه الجواري وتركد كما لو كانت قد فارقتها الحياة !

(إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور). .

في إجرائهن وفي ركودهن على السواء آيات لكل صبار شكور . والصبر والشكر كثيراً ما يقترنان في القرآن . الصبر على الابتلاء والشكر على النعماء ; وهما قوام النفس المؤمنة في الضراء والسراء .

(أو يوبقهن بما كسبوا). .

فيحطمهن أو يغرقهن بما كسب الناس من ذنب ومعصية ومخالفة عن الإيمان الذي تدين به الخلائق كلها , فيما عدا بعض بني الإنسان !

(ويعف عن كثير). .

فلا يؤاخذ الناس بكل ما يصدر منهم من آثام , بل يسمح ويعفو ويتجاوز منها عن كثير .

(ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص). .

من الاية 36 الى الاية 36

فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)

لو شاء الله أن يقفهم أمام بأسه , ويوبق سفائنهم , وهم لا يملكون منها نجاة !

وهكذا يشعرهم بأن ما يملكون من أعراض هذه الحياة الدنيا , عرضة كله للذهاب . فلا ثبات ولا استقرار لشيء إلا الصلة الوثيقة بالله .

الدرس الخامس:36 - 43 ثواب الآخرة للمؤمنين وأهم صفاتهم

ثم يخطو بهم خطوة أخرى , وهو يلفتهم إلى أن كل ما أتوه في هذه الأرض متاع موقوت في هذه الحياة الدنيا . وأن القيمة الباقية هي التي يدخرها الله في الآخرة للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . ويستطرد فيحدد صفة المؤمنين هؤلاء , بما يميزهم , ويفردهم امة وحدهم ذات خصائص وسمات !

فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا , وما عند الله خير وابقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش , وإذا ما غضبوا هم يغفرون , والذين استجابوا لربهم , وأقاموا الصلاة , وأمرهم شورى بينهم , ومما رزقناهم ينفقون . والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون . وجزاء سيئة سيئة مثلها , فمن عفا وأصلح فأجره على الله , إنه لا يحب الظالمين . ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق , أولئك لهم عذاب أليم . ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور . .

لقد سبق في السورة أن صور القرآن حالة البشرية ; وهو يشير إلى أن الذين أوتوا الكتاب تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ; وكان تفرقهم بغيا بينهم لا جهلاً بما نزل الله لهم من الكتاب , وبما سن لهم من نهج ثابت مطرد من عهد نوح إلى عهد إبراهيم إلى عهد موسى إلى عهد عيسى - عليهم صلوات الله - وهو يشير كذلك إلى أن الذين أورثوا الكتاب بعد أولئك المختلفين , ليسوا على ثقة منه , بل هم في شك منه مريب .

وإذا كان هذا حال أهل الأديان المنزلة , وأتباع الرسل - صلوات الله عليهم - فحال أولئك الذين لا يتبعون رسولا ولا يؤمنون بكتاب أضل وأعمى .

ومن ثم كانت البشرية في حاجة إلى قيادة راشدة , تنقذها من تلك الجاهلية العمياء التي كانت تخوض فيها . وتأخذ بيدها إلى العروة الوثقى ; وتقود خطاها في الطريق الواصل إلى الله ربها ورب هذا الوجود جميعا .

ونزل الله الكتاب على عبده محمد [ ص ] قرآناً عربياً , لينذر أم القرى ومن حولها ; وشرع فيه ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى , ليصل بين حلقات الدعوة منذ فجر التاريخ , ويوحد نهجها وطريقها وغايتها ; ويقيم بها الجماعة المسلمة التي تهيمن وتقود ; وتحقق في الأرض وجود هذه الدعوة كما أرادها الله , وفي الصورة التي يرتضيها .

وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها . ومع أن هذه الآيات مكية , نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة , فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة: (وأمرهم شورى بينهم). . مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاماً سياسياً للدولة , فهو طابع اساسي للجماعة كلها , يقوم عليه أمرها كجماعة , ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة , بوصفها إفرازاً طبيعياً للجماعة . كذلك نجد من صفة هذه الجماعةSadوالذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون). . مع أن الأمر الذي كان صادراً للمسلمين في مكة هو أن يصبروا وألا يردوا العدوان بالعدوان ; إلى أن صدر لهم أمر آخر بعد الهجرة وأذن لهم في القتال . وقيل لهمSadأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير). وذكر هذه الصفةهنا في آيات مكية بصدد تصوير طابع الجماعة المسلمة يوحي بأن صفة الانتصار من البغي صفة أساسية ثابتة ; وأن الأمر الأول بالكف والصبر كان أمراً استثنائياً لظروف معينة . وأنه لما كان المقام هنا مقام عرض الصفات الأساسية للجماعة المسلمة ذكر منها هذه الصفة الأساسية الثابتة , ولو أن الآيات مكية , ولم يكن قد أذن لهم بعد في الانتصار من العدوان .

وذكر هذه الصفات المميزة لطابع الجماعة المسلمة , المختارة لقيادة البشرية وإخراجها من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام . ذكرها في سورة مكية وقبل أن تكون القيادة العملية في يدها فعلا , جدير بالتأمل . فهي الصفات التي يجب ان تقوم أولا , وأن تتحقق في الجماعة لكي تصبح بها صالحة للقيادة العملية . ومن ثم ينبغي أن نتدبرها طويلا . . ما هي ? ما حقيقتها ? وما قيمتها في حياة البشرية جميعاً ?

إنها الإيمان . والتوكل . واجتناب كبائر الإثم والفواحش . والمغفرة عند الغضب . والاستجابة لله . وإقامة الصلاة . والشورى الشاملة . والإنفاق مما رزق الله . والانتصار من البغي . والعفو . والإصلاح . والصبر .

فما حقيقة هذه الصفات وما قيمتها ? يحسن أن نبين هذا ونحن نستعرض الصفات في نسقها القرآني .

إنه يقف الناس أمام الميزان الإلهي الثابت لحقيقة القيم . والقيم الزائلة القيم الباقية ; كي لا يختلط الأمر في نفوسهم , فيختل كل شيء في تقديرهم . ويجعل هذا الميزان مقدمة لبيان صفة الجماعة المسلمة:

(فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا , وما عند الله خير وأبقى). .
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى