منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة الشورى ايه رقم 1 الى ايه 11 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة الشورى ايه رقم 1 الى ايه 11 الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة الشورى ايه رقم 1 الى ايه 11 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الأربعاء يونيو 13, 2012 6:40 pm

من الاية 1 الى الاية 3

حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)

تعريف سورة الشورى

هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية ; ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة , حتى ليصح أن يقال:إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها ; وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعاً لتلك الحقيقة الرئيسية فيها

هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية , وتعرضها من جوانب متعددة ; كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها ; ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها . وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها . كما تلم بقضية الرزق:بسطه وقبضه ; وصفة الإنسان في السراء والضراء .

ولكن حقيقة الوحي والرسالة , وما يتصل بها , تظل - مع ذلك - هي الحقيقة البارزة في محيط السورة , والتي تطبعها وتظللها . وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها .

ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة , وما يصاحبها من موضوعات أخرى بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبر والملاحظة . فهي تعرض من جوانب متعددة . يفترق بعضها عن بعض ببضع آيات تتحدث عن وحدانية الخالق . أو وحدانية الرازق . أو وحدانية المتصرف في القلوب . أو وحدانية المتصرف في المصير . . ذلك بينما يتجه الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة إلى تقرير وحدانية الموحي - سبحانه - ووحدة الوحي . ووحدة العقيدة . ووحدة المنهج والطريق . وأخيراً وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة .

ومن ثم يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزاً واضحاً , بشتى معانيه وشتى ظلاله وشتى إيحاءاته , من وراء موضوعات السورة جميعاً . . ونضرب بعض الأمثلة من السورة إجمالاً , قبل أن نأخذ في التفصيل:

تبدأ بالأحرف المقطعة: حا . ميم . عين . سين . قاف . . يليهاSadكذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم). . مقرراً وحدة مصدر الوحي في الأولين والآخرين: (إليك وإلى الذين من قبلك). .

ثم يستطرد السياق في صفة الله العزيز الحكيمSadله ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم). . مقرراً وحدانية المالك لما في السماوات والأرض واستعلاءه وعظمته على وجه الانفراد .

ثم يستطرد استطراداً آخر في وصف حال الكون تجاه قضية الإيمان بالمالك الواحد , وتجاه الشرك الذي يشذ به بعض الناسSadتكاد السماوات يتفطرن من فوقهن , والملائكة يسبحون بحمد ربهم , ويستغفرون لمن في الأرض , ألا إن الله هو الغفور الرحيم , والذين اتخذوا من دونه أولياء , الله حفيظ عليهم , وما أنت عليهم بوكيل). . فإذا الكون كله مشغول بقضية الإيمان والشرك حتى إن السماوات ليكدن يتفطرن من شذوذ بعض أهل الأرض , بينما الملائكة يستغفرون لمن في الأرض جميعاً من هذه الفعلة الشنعاء التي جاء بها بعض المنحرفين !

وبعد هذه الجولة يعود السياق إلى الحقيقة الأولىSadوكذلك أوحينا إليك , قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها , وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه , فريق في الجنة وفريق في السعير). .

ثم يستطرد مع (فريق في الجنة وفريق في السعير). . فيقرر أن لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة . ولكن مشيئته اقتضت - بما له من علم وحكمة - أن يدخل من يشاء في رحمته (والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير). . ويقرر أن الله وحده هو الولي (وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير). .

ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى , حقيقة الوحي والرسالة , فيقرر أن الحكم فيما يختلف فيه البشر من شيء هو الله الذي أنزل هذا القرآن ليرجع إليه الناس في كل اختلافSadوما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ذلكم الله ربي عليه توكلت , وإليه أنيب). .

ويستطرد مع الربوبية إلى وحدانية الخالق , وتفرد ذاته . ووحدانية المتصرف في مقادير السماوات والأرض , وفي بسط الرزق وقبضه . وفي علمه بكل شيء: (فاطر السماوات والأرض , جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ,ومن الأنعام أزواجاً , يذرؤكم فيه , ليس كمثله شيء , وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض , يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر , إنه بكل شيء عليم). .

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً , والذي أوحينا إليك , وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى:أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه . كبر على المشركين ما تدعوهم إليه . الله يجتبي إليه من يشاء , ويهدي إليه من ينيب . وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم , ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم , وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب . فلذلك فادع واستقم كما أمرت , ولا تتبع أهواءهم وقل:آمنت بما أنزل الله من كتاب . . . الخ. .

وعلى مثل هذا النسق تمضي السورة في عرض هذه الحقيقة ; محوطة بمثل هذا الجو , وهذه الاستطرادات المتعلقة بقضايا العقيدة الأخرى , المثبتة في الوقت ذاته للحقيقة الأولى التي تبدو كأنها موضوع السورة الرئيسي .

وهذا النسق واضح وضوحا كاملاً في هذا الدرس الأول من السورة . فالقارىء يلتقي بعد كل بضع آيات بحقيقة الوحي والرسالة في جانب من جوانبها .

فأما الدرس الثاني ويؤلف بقية السورة , فيبدأ باستعراض بعض آيات الله في بسط الرزق وقبضه وفي تنزيل الغيث برحمته(وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام . ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تفردهم وتميز جماعتهم . فإلى مشهد من مشاهد القيامة يعرض صورة الظالمين لما رأوا العذاب: (يقولون هل إلى مرد من سبيل , وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي). . واستعلاء المؤمنين يومئذ ووقوفهم موقف المقرر لحال الظالمين:

(وقال الذين آمنوا:إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة . ألا إن الظالمين في عذاب مقيم). . وفي ظل هذا المشهد يدعو الناس إلى إنقاذ انفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوانSadاستجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله , ما لكم من ملجأ يومئذ , وما لكم من نكير). .

ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى في السورة . حقيقة الوحي والرسالة . في جانب من جوانبها: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ . . .).

ويمضي سياق السورة حتى ختامها يدور حول هذا المحور مباشرة أو غير مباشرة , مع طابع الاستطراد بين كل إشارة وإشارة إلى تلك الحقيقة , حتى يكون ختام السورة هذا البيان في شأن الوحي والرسالة: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب , أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء , إنه عليّ حكيم . وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا , ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ; ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا , وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور). .

وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع .

هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة , ورسولها , والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم .

وتبدأ أول إشارة مع مطلع السورة(كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم). . لتقررأن الله هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل , وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم .

وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها). . لتقرر مركز القيادة الجديدة التي سترد الإشارة إليها فيما بعد .

وفي الإشارة الثالثة يقرر وحدة الرسالة بعد ما قرر في الإشارة الأولى وحدة المصدر: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه). .

وتستطرد هذه الإشارة إلى تقرير أن التفرق قد وقع , مخالفاً لهذه التوصية , ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم . وقع بغيا وظلما وحسدا: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم). .

ثم تستطرد كذلك إلى بيان حال الذين جاءوا من بعد أولئك الذين اختلفوا: (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب). .

وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب , ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم . . فرسالة السماء التي تقود البشرية قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها . والذين جاءوا من بعدهم تلقوها في ريبة وفي شك لا تستقيم معهما قيادة راشدة .

ومن ثم يعلن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها [ ص ] لهذه القيادة: فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم . وقل:آمنت بما أنزل الله من كتاب , وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم . . . الخ. . ومن ثم تجيء صفة الجماعة المؤمنة المميزة لها طبيعية في سياق هذه السورة - في الدرس الثاني - بوصفها الجماعة التي ستقوم على قيادة هذه البشرية على ذلك النهج الثابت القويم .

وعلى ضوء هذه الحقيقة يصبح سياق السورة وموضوعها الرئيسي والموضوعات الأخرى فيه واضحة القصد والاتجاه . وتتبع هذا السياق بالتفصيل يزيد هذا الأمر وضوحا . .

الدرس الأول:1 - 6 إنزال القرآن واستغفار الملائكة للمؤمنين

(حم . عسق . كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم . له ما في السماوات وما في الأرض , وهو العلي العظيم . تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن , والملائكة يسبحون بحمد ربهم , ويستغفرون لمن في الأرض . ألا إن الله هو الغفور الرحيم . والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم , وما أنت عليهم بوكيل). .

سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور بما فيه الكفاية . وهي تذكر هنا في مطلع السورة , ويليها قوله تعالى:

(كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم). .

أي مثل ذلك , وعلى هذا النسق , وبهذه الطريقة يكون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك . فهو كلمات وألفاظ وعبارات مصوغة من الأحرف التي يعرفها الناس ويفهمونها ويدركون معانيها ; ولكنهم لا يملكون أن يصوغوا مثلها مما بين أيديهم من أحرف يعرفونها .

ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي . وحدة مصدره فالموحي هو الله العزيز الحكيم . والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان . والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان: (إليك وإلى الذين من قبلك). .
من الاية 4 الى الاية 4

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)

إنها قصة بعيدة البداية , ضاربة في أطواء الزمان . وسلسلة كثيرة الحلقات , متشابكة الحلقات . ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع .

وهذه الحقيقة - على هذا النحو - حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته , ووحدة مصدره وطريقه . وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي: (الله العزيز الحكيم). . كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان , فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ , وتمتد جذورها في شعاب الزمن ; وتتصل كلها بالله في النهاية , فيلتقون فيه جميعاً . وهو(العزيز)القوي القادر(الحكيم)الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير . فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله ; ولا يعرف لها مصدر , ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم ?

ويستطرد في صفة الله الذي يوحي وحده إلى الرسل جميعاً ; فيقرر أنه المالك الوحيد لما في السماوات وما في الأرض , وأنه وحده العلي العظيم:

(له ما في السماوات وما في الأرض , وهو العلي العظيم). .

وكثيراً ما يُخدع البشر فيحسبون أنهم يملكون شيئاً , لمجرد أنهم يجدون أشياء في أيديهم , مسخرة لهم , ينتفعون بها , ويستخدمونها فيما يشاءون . ولكن هذا ليس ملكاً حقيقياً . إنما الملك الحقيقي لله ; الذي يوجد ويعدم , ويحيي ويميت ; ويملك أن يعطي البشر ما يشاء , ويحرمهم ما يشاء ; وأن يذهب بما في أيديهم من شيء , وأن يضع فى أيديهم بدلاً مما أذهب . . الملك الحقيقي لله الذي يحكم طبائع الأشياء , ويصرفها وفق الناموس المختار , فتلبي وتطيع وتتصرف وفق ذلك الناموس . وكل ما في السماوات وما في الأرض من شيء(لله)بهذا الاعتبار الذي لا يشاركه فيه أحد سواه . . (وهو العلي العظيم). . فليس هو الملك فحسب , ولكنه ملك العلو والعظمة على وجه التفرد كذلك . العلو الذي كل شيء بالقياس إليه سفول ; والعظمة التي كل شيء بالقياس إليها ضآلة !

ومتى استقرت هذه الحقيقة استقراراً صادقاً في الضمائر , عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم من خير ومن رزق ومن كسب . فكل ما في السماوات وما في الأرض لله . والمالك هو الذي بيده العطاء . ثم إنه هو (العلي العظيم)الذي لا يصغر ولا يسفل من يمد يده إليه بالسؤال ; كما لو مدها للمخاليق , وهم ليسوا بأعلياء ولا عظماء .

ثم يعرض مظهراً لخلوص الملكية لله في الكون , وللعلو والعظمة كذلك . يتمثل في حركة السماوات تكاد تتفطر من روعة العظمة التى تستشعرها لربها , ومن زيغ بعض من فى الأرض عنها . كما يتمثل فى حركة الملائكة يسبحون بحمد ربهم , ويستغفرون لأهل الأرض من انحرافهم وتطاولهم:

(تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن , والملائكة يسبحون بحمد ربهم , ويستغفرون لمن في الأرض . ألا إن الله هو الغفور الرحيم). .

والسماوات هي هذه الخلائق الضخمة الهائلة التي نراها تعلونا حيثما كنا على ظهر هذه الأرض , والتي لا نعلم إلا أشياء قليلة عن جانب منها صغير . وقد عرفنا حتى اليوم أن بعض ما في السماوات نحو من مئة ألف مليون مجموعة من الشموس . في كل منها نحو مئة ألف مليون شمس كشمسنا هذه , التي مبلغ حجمها أكثر من مليون ضعف من حجم أرضنا الصغيرة ! وهذه المجموعات من الشموس التي أمكن لنا - نحن البشر - أن نرصدها بمراصدنا الصغيرة , متناثرة في فضاء السماء مبعثرة , وبينها مسافات شاسعة تحسب بمئات الألوف والملايين
من الاية 5 الى الاية 6

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6)

من السنوات الضوئية . أي المحسوبة بسرعة الضوء , التي تبلغ 168 . 000 ميل في الثانية !

هذه السماوات التي عرفنا منها هذا الجانب الصغير المحدود يكدن يتفطرن من فوقهن . . من خشية الله وعظمته وعلوه , وإشفاقاً من انحراف بعض أهل الأرض ونسيانهم لهذه العظمة التي يحسها ضمير الكون , فيرتعش , وينتفض , ويكاد ينشق من أعلى مكان فيه !

(والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض). .

والملائكة أهل طاعة مطلقة , فقد كانوا أولى الخلق بالطمأنينة . ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم , لما يحسون من علوه وعظمته , ولما يخشون من التقصير في حمده وطاعته . ذلك بينما أهل الأرض المقصرون الضعاف ينكرون وينحرفون ; فيشفق الملائكة من غضب الله ; ويروحون يستغفرون لأهل الأرض مما يقع في الأرض من معصية وتقصير . ويجوز أن يكون المقصود هو استغفار الملائكة للذين آمنوا , كالذى جاء فى سورة غافر: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم , ويؤمنون به , ويستغفرون للذين آمنوا). . وفي هذه الحالة يبدو:كم يشفق الملائكة من أية معصية تقع في الأرض , حتى من الذين آمنوا , وكم يرتاعون لها , فيستغفرون ربهم وهم يسبحون بحمده استشعاراً لعلوه وعظمته ; واستهوالاً لأية معصية تقع في ملكه ; واستدرارا لمغفرته ورحمته ; وطمعاً فيهما:

(ألا إن الله هو الغفور الرحيم). .

فيجمع إلى العزة والحكمة , العلو والعظمة , ثم المغفرة والرحمة . . ويعرف العباد ربهم بشتى صفاته .

وفي نهاية الفقرة - بعد تقرير تلك الصفات وأثرها في الكون كله - يعرض للذين يتخذون من دون الله أولياء . وقد بدا أن ليس في الكون غيره من ولي . ليعفى رسول الله [ ص ] من أمرهم , فما هو عليهم بوكيل , والله هو الحفيظ عليهم , وهو بهم كفيل:

(والذين اتخذوا من دونه أولياء , الله حفيظ عليهم , وما أنت عليهم بوكيل). .

وتبدو للضمير صورة هؤلاء المناكيد التعساء(وهم يتخذون من دون الله أولياء وأيديهم مما أمسكت خاوية , وليس هنالك إلا الهباء ! تبدو للضمير صورتهم - في ضآلتهم وضآلة أوليائهم من دون الله . والله حفيظ عليهم . وهم في قبضته ضعاف صغار . فأما النبي [ ص ] والمؤمنون معه , فهم معفون من التفكير في شأنهم , والاحتفال بأمرهم , فقد كفاهم الله هذا الاهتمام .

ولا بد أن تستقر هذه الحقيقة في ضمائر المؤمنين لتهدأ وتطمئن من هذا الجانب في جميع الأحوال . سواء كان أولئك الذين يتخذون من دون الله أولياء اصحاب سلطان ظاهر في الأرض , أم كانوا من غير ذوي السلطان . تطمئن في الحالة الأولى لهوان شأن أصحاب السلطان الظاهر - مهما تجبروا - ما داموا لا يستمدون سلطانهم هذا من الله والله حفيظ عليهم ; وهو من ورائهم محيط والكون كله مؤمن بربه من حولهم , وهم وحدهم المنحرفون كالنغمة النشاز في اللحن المتناسق ! وتطمئن في الحالة الثانية من ناحية أن ليس على المؤمنين من وزر في تولي هؤلاء غير الله ; فهم ليسوا بوكلاء على من ينحرفون من الخلق ; وليس عليهم إلى النصح والبلاغ . والله هو الحفيظ على قلوب العباد .

ومن ثم يسير المؤمنون في طريقهم . مطمئنين إلى أنه الطريق الموصول بوحي الله . وأن ليس عليهم من ضير في انحراف المنحرفين عن الطريق . كائنا ما يكون هذا الانحراف . .
من الاية 7 الى الاية 10

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (Cool أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)

الدرس الثاني:7 - 9 مهمة الرسول والناس فريقان واختلاف المصير

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى:

وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها , وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه , فريق في الجنة وفريق في السعير . ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة , ولكن يدخل من يشاء في رحمته , والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير . أم اتخذوا من دونه أولياء ? فالله هو الولي . وهو يحي الموتى . وهو على كل شيء قدير . .

(وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً . . .). .

يعطف هذا الطرف من حقيقة الوحي على ذاك الطرف الذي بدأ به السورة . والمناسبة هنا بين تلك الأحرف المقطعة , وعربية القرآن , مناسبة ظاهرة . فهذه أحرفهم العربية , وهذا قرآنهم العربي . نزل الله به وحيه في هذه الصورة العربية , ليؤدي به الغاية المرسومة:

(لتنذر أم القرى ومن حولها). .

وأم القرى مكة المكرمة . المكرمة ببيت الله العتيق فيها . وقد اختار الله أن تكون هي - وما حولها من القرى - موضع هذه الرسالة الأخيرة ; وأنزل القرآن بلغتها العربية لأمر يعلمه ويريده . و (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

وحين ننظر اليوم من وراء الحوادث واستقرائها , ومن وراء الظروف ومقتضياتها , وبعد ما سارت هذه الدعوة في الخط الذي سارت فيه , وانتجت فيه نتاجها . . حين ننظر اليوم هذه النظرة ندرك طرفاً من حكمة الله في اختيار هذه البقعة من الأرض , في ذلك الوقت من الزمان , لتكون مقر الرسالة الأخيرة , التي جاءت للبشرية جميعاً . والتي تتضح عالميتها منذ أيامها الأولى .

كانت الأرض المعمورة - عند مولد هذه الرسالة الأخيرة - تكاد تتقسمها امبراطوريات اربع:الامبراطورية الرومانية في أوروبا وطرف من آسيا وإفريقية . والإمبراطورية الفارسية وتمد سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقية والامبراطورية الهندية . ثم الامبراطورية الصينية . وتكادان تكونان مغلقتين على أنفسهما ومعزولتين بعقائدهما واتصالاتهما السياسية وغيرهما وهذه العزلة كانت تجعل الامبراطوريتين الأوليين هما ذواتا الأثر الحقيقي في الحياة البشرية وتطوراتها .

وكانت الديانتان السماويتان قبل الاسلام - اليهودية والنصرانية - قد انتهتا الى أن تقعا - في صورة من الصور - تحت نفوذ هاتين الامبراطوريتين , حيث تسيطر عليهما الدولة في الحقيقة , ولا تسيطران على الدولة ! فضلا على ما أصابهما من انحراف وفساد .

ولقد وقعت اليهودية فريسة لاضطهاد الرومان تارة , ولاضطهاد الفرس تارة , ولم تعد تسيطر في هذه الأرض على شيء يذكر على كل حال ; وانتهت - بسبب عوامل شتى - إلى أن تكون ديانة مغلقة على بني إسرائيل , لا مطمع لها ولا رغبة في أن تضم تحت جناحها شعوبا أخرى .

وأما المسيحية فقد ولدت في ظل الدولة الرومانية . التي كانت تسيطر حين الميلاد على فلسطين وسورية ومصر وبقية المناطق التي انتشرت فيها المسيحية سرا ; وهي تتخفى من مطاردة الامبراطورية الرومانية التي اضطهدت العقيدة الجديدة اضطهاداً فظيعاً , تخللته مذابح شملت عشرات الألوف في قسوة ظاهرة . فلما انقضى عهد الاضطهاد الروماني , ودخل الامبراطور الروماني في المسيحية , دخلت معه أساطير الرومان الوثنية , ومباحث الفلسفة الإغريقية الوثنية كذلك ; وطبعت المسيحية بطابع غريب عليها ; فلم تعد هي المسيحية السماوية الأولى . كما أن الدولة ظلت في طبيعتها لا تتأثر كثيراً بالديانة ; وظلت هي المهيمنة , ولم تهيمن العقيدة عليها أصلا . وذلك كله فضلاً على ما انتهت إليه المذاهب المسيحية المتعددة من تطاحن شامل - فيما بينها - مزق الكنيسة ,وكاد يمزق الدولة كلها تمزيقاً . وأوقع في الاضطهاد البشع المخالفين للمذهب الرسمي للدولة . وهؤلاء وهؤلاء كانوا في الانحراف عن حقيقة المسيحية سواء !

وفي هذا الوقت جاء الاسلام . جاء لينقذ البشرية كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد وجاهلية عمياء في كل مكان معمور . وجاء ليهيمن على حياة البشرية ويقودها في الطريق إلى الله على هدى وعلى نور . ولم يكن هنالك بد من أن يسيطر الإسلام لتحقيق هذه النقلة الضخمة في حياة البشر . فلم يكن هنالك بد من أن يبدأ رحلته من أرض حرة لا سلطان فيها لامبراطورية من تلك الامبراطوريات ; وأن ينشأ قبل ذلك نشأة حرة لا تسيطر عليه فيها قوة خارجة على طبيعته ; بل يكون فيها هو المسيطر على نفسه وعلى من حوله . وكانت الجزيرة العربية , وأم القرى وما حولها بالذات , هي أصلح مكان على وجه الأرض لنشأة الإسلام يومئذ , وأصلح نقطة يبدأ منها رحلته العالمية التي جاء من أجلها منذ اللحظة الأولى .

لم تكن هناك حكومة منظمة ذات قوانين وتشريعات وجيوش وشرطة وسلطان شامل في الجزيرة . تقف للعقيدة الجديدة . بسلطانها المنظم , وتخضع لها الجماهير خضوعاً دقيقاً , كما هو الحال في الامبراطوريات الأربع .

ولم تكن هنالك ديانة ثابتة كذلك ذات معالم واضحة ; فقد كانت الوثنية الجاهلية ممزقة , ومعتقداتها وعباداتها شتى . وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام . ومع أنه كان للكعبة وقريش سلطان ديني عام في الجزيرة , فإنه لم يكن ذلك السلطان المحكم الذي يقف وقفة حقيقية في وجه الدين الجديد . ولولا المصالح الاقتصادية والأوضاع الخاصة لرؤساء قريش ما وقفوا هذه الوقفة في وجه الإسلام . فقد كانوا يدركون ما في عقائدهم من خلخلة واضطراب .

وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة إلى جانب خلخلة النظام الديني , أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد , متحرراً من كل سلطان عليه في نشأته , خارج عن طبيعته .

وفي وسط هذه الخلخلة كان للأوضاع الاجتماعية في الجزيرة قيمتها كذلك في حماية نشأة الدعوة الجديدة . كان النظام القبلي هو السائد . وكان للعشيرة وزنها في هذا النظام . فلما قام محمد [ ص ] بدعوته وجد من سيوف بني هاشم حماية له ; ووجد من التوازن القبلي فرصة , لأن العشائر كانت تشفق من إثارة حرب على بني هاشم بسبب حمايتهم لمحمد [ ص ] وهم على غير دينه . بل إنها كانت تشفق من الاعتداء على كل من له عصبية من القلائل الذين أسلموا في أول الدعوة , وتدع تأديبه - أو تعذيبه - لأهله أنفسهم . والموالي الذين عذبوا لإسلامهم عذبهم سادتهم . ومن ثم كان أبو بكر - رضي الله عنه - يشتري هؤلاء الموالي ويعتقهم , فيمتنع تعذيبهم بهذا الإجراء , وتمتنع فتنتهم عن دينهم . . ولا يخفى ما في هذا الوضع من ميزة بالقياس إلى نشأة الدين الجديد .

ثم كانت هنالك صفات الشعب العربي نفسه من الشجاعة والأريحية والنخوة . وهي استعدادات ضرورية لحمل العقيدة الجديدة والنهوض بتكاليفها .

وقد كانت الجزيرة في ذلك الزمان تزخر بحضانة عميقة لبذور نهضة ; وكانت تجيش بكفايات واستعدادات وشخصيات تتهيأ لهذه النهضة المذخورة لها في ضمير الغيب ; وكانت قد حفلت بتجارب إنسانية معينة من رحلاتها إلى أطراف امبراطوريتي كسرى وقيصر . وأشهرها رحلة الشتاء إلى الجنوب ورحلة الصيف إلى الشمال . المذكورتان في القرآن في قوله تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . فليعبدوا رب هذا البيت ,الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). . وتضافرت أسباب كثيرة لحشد رصيد ضخم من التجارب مع التفتح والتأهب لاستقبال المهمة الضخمة التي اختيرت لها الجزيرة . فلما جاءها الإسلام استغل هذا الرصيد كله , ووجه هذه الطاقة المختزنة , التي كانت تتهيأ كنوزها للتفتح ; ففتحها الله بمفتاح الإسلام . وجعلها رصيداً له وذخراً . ولعل هذا بعض ما يفسر لنا وجود هذا الحشد من الرجال العظام في الصحابة في الجيل الأول في حياة الرسول [ ص ] من أمثال:أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . وحمزة والعباس وأبي عبيدة . وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وسعد بن معاذ , وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم وغيرهم من تلك العصبة التي تلقت الإسلام ; فتفتحت له , وحملته , وكبرت به من غير شك وصلحت ; ولكنها كانت تحمل البذرة الصالحة للنمو والتمام .

وليس هنا مكان التفصيل في وصف استعداد الجزيرة لحمل الرسالة الجديدة , وصيانة نشأتها , وتمكينها من الهيمنة على ذاتها وعلى من حولها , مما يشير إلى بعض أسباب اختيارها لتكون مهد العقيدة الجديدة , التي جاءت للبشرية جميعها . وإلى اختيار هذا البيت بالذات ليكون منه حامل هذه الرسالة [ ص ] فذلك أمر يطول . ومكانه رسالة خاصة مستقلة . وحسبنا هذه الإشارة إلى حكمة الله المكنونة , التي يظهر التدبر والتفكر بعض أطرافها كلما اتسعت تجارب البشر وإدراكهم لسنن الحياة .

وهكذا جاء هذا القرآن عربياً لينذر أم القرى ومن حولها . فلما خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام , وخلصت كلها للإسلام , حملت الراية وشرقت بها وغربت ; وقدمت الرسالة الجديدة والنظام الإنساني الذي قام على أساسها , للبشرية جميعها - كما هي طبيعة هذه الرسالة - وكان الذين حملوها هم أصلح خلق الله لحملها ونقلها ; وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ونشأتها .

وليس من المصادفات أن يعيش الرسول [ ص ] حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام ; ويتمحض هذا المهد للعقيدة التي اختير لها على علم . كما اختير لها اللسان الذي يصلح لحملها إلى أقطار الأرض جميعا . فقد كانت اللغة العربية بلغت نضجها , وأصبحت صالحة لحمل هذه الدعوة والسير بها في أقطار الأرض . ولو كانت لغة ميتة أو ناقصة التكوين الطبيعي ما صلحت لحمل هذه الدعوة أولاً , وما صلحت بالذات لنقلها إلى خارج الجزيرة العربية ثانياً . . وقد كانت اللغة , كأصحابها , كبيئتها , أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم .

وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة , حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره ومصداق قوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). .

(لتنذر أم القرى ومن حولها , وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه , فريق في الجنة وفريق في السعير). .

وقد كان الإنذار الأكبر والأشد والأكثر تكراراً في القرآن هو الإنذار بيوم الجمع . يوم الحشر . يوم يجمع الله ما تفرق من الخلائق على مدار الأزمنة واختلاف الأمكنة , ليفرقهم من جديد: (فريق في الجنة وفريق في السعير). بحسب عملهم في دار العمل , في هذه الأرض , في فترة الحياة الدنيا .

(ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة . ولكن يدخل من يشاء في رحمته , والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير). .

فلو شاء الله لخلق البشر خلقة أخرى توحد سلوكهم , فتوحد مصيرهم , إما إلى جنة وإما إلى نار . ولكنه - سبحانه - خلق هذا الإنسان لوظيفة . خلقه للخلافة في هذه الأرض . وجعل من مقتضيات هذه الخلافة , على النحو الذي ارادها , أن تكون للإنسان استعدادات خاصة بجنسه , تفرقه عن الملائكة وعن الشياطين , وعنغيرهما من خلق الله ذوي الطبيعة المفردة الموحدة الاتجاه . استعدادات يجنح بها ومعها فريق إلى الهدى والنور والعمل الصالح ; ويجنح بها ومعها فريق إلى الضلال والظلام والعمل السِّيى ء كل منهما يسلك وفق أحد الاحتمالات الممكنة في طبيعة تكوين هذا المخلوق البشري ; وينتهي إلى النهاية المقررة لهذا السلوك: (فريق في الجنة وفريق في السعير). . وهكذا: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير). . وفق ما يعلمه الله من حال هذا الفريق وذاك , واستحقاقه للرحمة بالهداية أو استحقاقه للعذاب بالضلال .

ولقد سبق أن بعضهم يتخذ من دون الله أولياء . فهو يقرر هنا أن الظالمين: (ما لهم من ولي ولا نصير). . فأولياؤهم الذين يتخذونهم لا حقيقة لهم إذن ولا وجود .

ثم يعود فيسأل في استنكار:

(أم اتخذوا من دونه أولياء ?). .

ليقرر بعد هذا الاستنكار أن الله وحده هو الولي , وأنه هو القادر تتجلى قدرته في إحياء الموتى . العمل الذي تظهر فيه القدرة المفردة بأجلى مظاهرها:

(فالله هو الولي , وهو يحيي الموتى). .

ثم يعمم مجال القدرة ويبرز حقيقتها الشاملة لكل شيء والتي لا تنحصر في حدود:

(وهو على كل شيء قدير). .

الدرس الثالث:10 - 12 بيان الحكم عند الإختلاف وأساس فهم صفات الله

ثم يعود إلى الحقيقة الأولى , لبيان الجهة التي يرجع إليها عند كل اختلاف . وهي هذا الوحي الذي جاء من عند الله يتضمن حكم الله كي لا يكون للهوى المتقلب أثر في الحياة بعد ذلك المنهج الإلهي القويم:

(وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله . ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب . فاطر السماوات والأرض , جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً , يذرؤكم فيه , ليس كمثله شيء , وهو السميع البصير . له مقاليد السماوات والأرض , يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر , إنه بكل شيء عليم). .

وطريقة إيراد هذه الحقائق وتسلسلها وتجمعها في هذه الفقرة طريقة عجيبة , تستحق التدبر . فالترابط الخفي والظاهر بين أجزائها ترابط لطيف دقيق .

إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله). . والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن ; وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة ; وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية , وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم , وأخلاقهم وسلوكهم . وبيّن لهم هذا كله بياناً شافيا . وجعل هذا القرآن دستوراً شاملاً لحياة البشر , أوسع من دساتير الحكم وأشمل . فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله [ ص ] لتقوم الحياة على أساسه .

وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي قول رسول الله [ ص ] مسلما أمره كله لله , منيبا إلى ربه بكليته:

(ذلكم الله ربي عليه توكلت , وإليه أنيب). .

فتجيء هذه الإنابة , وذاك التوكل , وذلك الإقرار بلسان رسول الله [ ص ] في موضعها

من الاية 11 الى الاية 11

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)

النفسي المناسب للتعقيب على تلك الحقيقة . . . فها هو ذا رسول الله ونبيه يشهد أن الله هو ربه , وأنه يتوكل عليه وحده , وأنه ينيب إليه دون سواه . فكيف يتحاكم الناس إذن إلى غيره عند اختلافهم في شيء من الأمر , والنبي المهدي لا يتحاكم إلا إليه , وهو أولى من يتحاكم الناس إلى قوله الفصل , لا يتلفتون عنه لحظة هنا أو هناك ? وكيف يتجهون في أمر من أمورهم وجهة أخرى , والنبي المهدي يتوكل على الله وحده , وينيب إليه وحده , بما أنه هو ربه ومتولي أمره وكافله وموجهه إلى حيث يختار ?

واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن ينير له الطريق ويحدد معالمه , فلا يتلفت هنا أو هناك . ويسكب فيه الطمأنينة إلى طريقه , والثقة بمواقع خطواته , فلا يتشكك ولا يتردد ولا يحتار . ويشعره أن الله راعيه وحاميه ومسدد خطاه في هذا الاتجاه . والنبي المهدي سالك هذا الطريق إلى الله .

واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن يرفع من شعوره بمنهجه وطريقه , فلا يجد أن هناك منهجاً آخر أو طريقاً يصح أن يتلفت إليه ; ولا يجد أن هنالك حكماً غير قول الله وحكمه يرجع عند الاختلاف إليه . والنبي المهدي ينيب إلى ربه الذي شرع هذا المنهج وحكم هذا الحكم .

ثم يعقب مرة أخرى بما يزيد هذه الحقيقة استقراراً وتمكيناً:

(فاطر السماوات والأرض , جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً . يذرؤكم فيه . ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). .

فالله منزل ذلك القرآن ليكون حكمه الفصل فيما يختلفون فيه من شيء . . هو (فاطر السماوات والأرض). . وهو مدبر السماوات والأرض . والناموس الذي يحكم السماء والأرض هو حكمه الفصل في كل ما يختص بهما من أمر . وشؤون الحياة والعباد إن هي إلا طرف من أمر السماوات والأرض ; فحكمه فيها هو الحكم الذي ينسق بين حياة العباد وحياة هذا الكون العريض , ليعيشوا في سلام مع الكون الذي يحيط بهم , والذي يحكم الله في أمره بلا شريك .

والله الذي يجب أن يرجعوا إلى حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو خالقهم الذي سوى نفوسهم , وركبها: (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً). . فنظم لكم حياتكم من أساسها , وهو أعلم بما يصلح لها وما تصلح به وتستقيم . وهو الذي أجرى حياتكم وفق قاعدة الخلق التي اختارها للأحياء جميعا: (ومن الأنعام أزواجاً). . فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحدانية الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود . . إنه هو الذي جعلكم - أنتم والأنعام - تتكاثرون وفق هذا المنهج وهذا الأسلوب . ثم تفرد هو دون خلقه جميعا , فليس هنالك من شيء يماثله - سبحانه وتعالى -: (ليس كمثله شيء). . والفطرة تؤمن بهذا بداهة . فخالق الأشياء لا تماثله هذه الأشياء التي هي من خلقه . . ومن ثم فإنها ترجع كلها إلى حكمه عندما تختلف فيما بينها على أمر , ولا ترجع معه إلى أحد غيره ; لأنه ليس هناك أحد مثله , حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف .

ومع أنه - سبحانه - (ليس كمثله شيء). . فإن الصلة بينه وبين ما خلق ليست منقطعة لهذا الاختلاف الكامل . فهو يسمع ويبصر: (وهو السميع البصير). . ثم يحكم حكم السميع البصير .

ثم إنه إذ يجعل حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو الحكم الواحد الفصل . يقيم هذا على حقيقة أن مقاليد السماوات والأرض كلها إليه بعد ما فطرها أول مرة , وشرع لها ناموسها الذي يدبرها: (له مقاليد السماوات والأرض). . وهم بعض ما في السماوات والأرض , فمقاليدهم إليه .

ثم إنه هو الذي يتولى أمر رزقهم قبضاً وبسطاً - فيما يتولى من مقاليد السماوات والأرض -Sadيبسط الرزق

كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى