منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير فاطر ايه رقم 1 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

 تفسير فاطر ايه رقم 1 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب Empty تفسير فاطر ايه رقم 1 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الأربعاء يونيو 13, 2012 1:59 am

من الاية 1 الى الاية 2

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)

سورة فاطر

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة سورة فاطر

هذه السورة المكّية نسق خاص في موضوعها وفي سياقها . أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد . فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها . إيقاعات موحية مؤثرة تهزه هزاً , وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هذا الوجود , وروعة هذا الكون ; وليتدبر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه , المتناثرة في صفحاته ; وليتذكر آلاء الله , ويشعر برحمته ورعايته ; وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة ; وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع الله , وآثار يده في أطواء الكون , وفي أغوار النفس , وفي حياة البشر , وفي أحداث التاريخ . وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس , ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القديرة . . . ذلك كله في أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك , ويتأثر تأثر الأحياء .

والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات . يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات فهي كلها موضوع واحد . كلها إيقاعات على أوتار القلب البشري , تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث . فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع , إلى الإيمان والخشوع والإذعان .

والسمة البارزة الملحوظة في هذه الإيقاعات هي تجميع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة . وإظهار هذه اليدتحرك الخيوط كلها وتجمعها ; وتقبضها وتبسطها , وتشدها وترخيها . بلا معقب ولا شريك ولا ظهير .

ومنذ ابتداء السورة نلمح هذه السمة البارزة , وتطرد إلى ختامها . .

هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريدSadالحمد لله فاطر السماوات والأرض , جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع . يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير). .

وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض , وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض . بلا معقب ولا شريك:

(ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها , وما يمسك فلا مرسل له من بعده , وهو العزيز الحكيم). .

والهدى والضلال رحمة تتدفق أو تغيض: (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء). . (إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور . إن أنت إلا نذير). .

وهذه اليد تصنع الحياة الأولى وتنشر الموتى في الحياة الآخرةSadوالله الذي أرسل الرياح , فتثير سحاباً , فسقناه إلى بلد ميت , فأحيينا به الأرض بعد موتها . كذلك النشور). .

والعزة كلها لله ومنه وحده تستمد: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً). .

والخلق والتكوين والنسل والأجل خيوطها كلها في تلك اليد لا تند عنهاSadوالله خلقكم من تراب , ثم من نطفة , ثم جعلكم أزواجاً . وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يعمر من معمر , ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير):

وفي تلك القبضة تتجمع مقاليد السماوات والأرض وحركات الكواكب والأفلاك (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل , وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . ذلكم الله ربكم له الملك . والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . .

ويد الله المبدعة تعمل في هذا الكون بطريقتها المعلمة , وتصبغ وتلون في الجماد والنبات والحيوان والإنسان:

(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء , فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها , ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود , ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك).

وهذه اليد تنقل خطى البشر , وتورث الجيل الجيل: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا). . (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض). .

وهي تمسك بهذا الكون الهائل تحفظه من الزوال . (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا , ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده). .

وهي القابضة على أزمة الأمور لا يعجزها شيء على الإطلاق: (وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض). .

وهو (على كل شيء قدير). . وهو (العزيز الحكيم). . (وإلى الله ترجع الأمور)وهو (عليم بما يصنعون). . (وله الملك). . وهو (الغني الحميد). . (وإلى الله المصير). . وهو (عزيز غفور). . وهو (غفور شكور). . وإنه بعباده (لخبير بصير). . وهو (عالم غيب السماوات والأرض). . وهو (عليم بذات الصدور). . وكان (حليماً غفوراً). . وكان (عليماً قديراً). . وكان (بعباده بصيراً). .

ومن تلك الآيات وهذه التعقيبات يرتسم جو السورة , والسمة الغالبة عليها , والظل الذي تلقيه في النفس على وجه العموم .

ونظراً لطبيعة السورة فقد اخترنا تقسيمها إلى ستة مقاطع متجانسة المعاني لتيسير تناولها . وإلا فهي شوط واحد متصل الإيقاعات والحلقات من بدئها إلى نهايتها . . .

الدرس الأول:1 الثناء على الله وقدرته وخلقه للملائكة

(الحمد لله فاطر السماوات والأرض , جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع , يزيد في الخلق ما يشاء , إن الله على كل شيء قدير). .

تبدأ السورة بتقديم الحمد لله . فهي سورة قوامها توجيه القلب إلى الله , وإيقاظه لرؤية آلائه , واستشعار رحمته وفضله , وتملي بدائع صنعه في خلقه , وامتلاء الحس بهذه البدائع , وفيضه بالتسبيح والحمد والابتهال:

(الحمد لله). .

ويتلو حمد الله ذكر صفته الدالة على الخلق والإبداع:

(فاطر السماوات والأرض). .

فهو منشىء هذه الخلائق الهائلة التي نرى بعضها من فوقنا ومن تحتنا حيث كنا , والتي لا نعرف إلا القليل عن أصغرها وأقربها إلينا . . أمنا الأرض . . والتي ينتظمها ناموس واحد يحفظها في تناسق وتوافق , على ما بينها من أبعاد هائلة لا يتصورها خيالنا البشري إلا بمشقة عظيمة ; والتي تحوي - مع ضخامتها وتباعد أفلاكها ومداراتها - من أسرار التناسب فيما بينها ما لو اختلت فيه نسبة صغيرة لتحطمت كلها وتناثرت بدداً .

وإننا لنمر على مثل هذه الإشارة في القرآن الكريم إلى خلق السماوات والأرض , دون أن نقف أمامها طويلاً لنتدبر مدلولها الهائل ; كما نمر على مشاهد السماوات والأرض ذاتها بمثل هذه البلادة , لا نقف أمامها إلا قليلاً . ذلك أن حسنا قد تبلد , فلم تعد تلك المشاهد توقع على أوتاره تلك الإيقاعات الموقظة الموحية , التي توقعها على القلوب الموصولة بذكر الله , المتيقظة لآثار يده المبدعة في هذا الوجود . وذلك أن الألفة قد أفقدتنا الوهلة والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى مثل هذه البدائع للمرة الأولى .

ولا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء , وأحجامها ونسبها , ونسب الفضاء حولها , وطرق سيرها في مداراتها , وعلاقة بعضها ببعض في أحجامها وأوضاعها وحركاتها . . . لا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بهذا كله ليستشعر الروعة والرهبة أمام هذا الخلق الهائل الجميل العجيب . فحسبه إيقاع هذه المشاهد بذاتها على أوتاره . حسبه مشهد النجوم المتناثرة في الليلة الظلماء . حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء . حسبه الفجر المشقشق بالنور الموحي بالتنفس والانطلاق . حسبه الغروب الزاحف بالظلام الموحي بالوداع والانتهاء . . بل حسبه هذه الأرض وما فيها من مشاهد لا تنتهي ولا يستقصيها سائح يقضي عمره في السياحة والتطلع والتملي . . بل حسبه زهرة واحدة لا ينتهي التأمل في ألوانها وأصباغها وتشكيلها وتنسيقها . . .

والقرآن يشير إشاراته الموحية لتدبُّر هذه الخلائق . . . الجليل منها والدقيق . . . وحسب القلب واحدة منها لإدراك عظمة فاطرها , والتوجه إليه بالتسبيح والحمد والابتهال . .

(الحمد لله فاطر السماوات والأرض). . (جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع). .

والحديث في هذه السورة يتردد حول الرسل والوحي وما أنزل الله من الحق . . والملائكة هم رسل الله بالوحي إلى من يختاره من عباده في الأرض . وهذه الرسالة هي أعظم شيء وأجله . ومن ثم يذكر الله الملائكة بصفتهم رسلاً عقب ذكره لخلق السماوات والأرض . وهم صلة ما بين السماء والأرض . وهم يقومون بين فاطر السماوات والأرض , وأنبيائه ورسله إلى الخلق بأعظم وظيفة وأجلها .

ولأول مرة - فيما مر بنا من القرآن في هذه الظلال - نجد وصفاً للملائكة يختص بهيئتهم . وقد ورد وصفهم من قبل من ناحية طبيعتهم ووظيفتهم , مثل قوله تعالى: ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون , يسبحون الليل والنهار لا يفترون . . وقوله: إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . . أما هنا فنجد شيئاً يختص بتكوينهم الخلقي: (أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع). . وهو وصف لا يمثلهم للتصور . لأننا لا نعرف كيف هم ولا كيف أجنحتهم هذه . ولا نملك إلا الوقوف عند هذا الوصف , دون تصور معين له . فكل تصور قد يخطى ء . ولم يرد إلينا وصف محدد للشكل والهيئة من طريق معتمد . والذي ورد في القرآن هو هذا ; وهو قوله تعالى في وصف جهنم: عليها ملائكة غلاظ شداد , لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . . وهو كذلك لا يحدد شكلاً ولا هيئة . والذي ورد في الأثر:" أن النبي [ ص ] رأى جبريل في صورته مرتين " وفي رواية:" له ستمائة جناح " . . وهو كذلك لا يعين شكلاً ولا هيئة . فالأمر إذن مطلق . والعلم لله وحده في هذه الغيبيات .

وبمناسبة ذكر الأجنحة مثنى وثلاث ورباع . حيث لا يعرف الإنسان إلا شكل الجناحين للطائر . يذكر أن الله (يزيد في الخلق ما يشاء). . فيقرر طلاقة المشيئة , وعدم تقيدها بشكل من أشكال الخلق . . وفيما نشهده نحن ونعلمه أشكال لا تحصى من الخلق . ووراء ما نعلم أكثر وأكثر . . (إن الله على كل شيء قدير). . وهذا التعقيب أوسع من سابقه وأشمل . فلا تبقى وراءه صورة لا يتناولها مدلوله , من صور الخلق والإنشاء والتغيير والتبديل .

الدرس الثاني:2 حقيقة كون الرحمة بيد الله وحده

(ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها , وما يمسك فلا مرسل له من بعده , وهو العزيز الحكيم). .

في هذه الآية الثانية من السورة صورة من صور قدرة الله التي ختم بها الآية الأولى . وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعاً .

إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض وتصله بقوة الله . وتيئسه من مظنة كل رحمة في السماوات والأرض وتصله برحمة الله . وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض وتفتح أمامه باب الله . وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والأرض وتشرع له طريقه إلى الله .

ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد ; ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه , وتكريمه بما كرمه ; وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته ; وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير

ورحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح . ويجدها من يفتحها الله له في كل شيء , وفي كل وضع , وفي كل حال , وفي كل مكان . . يجدها في نفسه , وفي مشاعره ; ويجدها فيما حوله , وحيثما كان , وكيفما كان . ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان . . ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء , وفي كل وضع , وفي كل حالة , وفي كل مكان . ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان !

وما من نعمة - يمسك الله معها رحمته - حتى تنقلب هي بذاتها نقمة . وما من محنة - تحفها رحمة الله - حتى تكون هي بذاتها نعمة . . ينام الإنسان على الشوك - مع رحمة الله - فإذا هو مهاد . وينام على الحرير - وقد أمسكت عنه - فإذا هو شوك القتاد . ويعالج أعسر الأمور - برحمة الله - فإذا هي هوادة ويسر . ويعالج أيسر الأمور - وقد تخلت رحمة الله - فإذا هي مشقة وعسر . ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام . ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار !

ولا ضيق مع رحمة الله . إنما الضيق في إمساكها دون سواه . لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن , أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك . ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم , وفي مراتع الرخاء . فمن داخل النفس برحمة الله تتفجَّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة . ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة !

هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب , وتوصد جميع النوافذ , وتسد جميع المسالك . . فلا عليك . فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء . . وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع . وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء !

هذا الفيض يفتح , ثم يضيق الرزق . ويضيق السكن . ويضيق العيش , وتخشن الحياة , ويشوك المضجع . . فلا عليك . فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة . وهذا الفيض يمسك . ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء . فلا جدوى . وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء !

المال والولد , والصحة والقوة , والجاه والسلطان . . تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله . فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان .

يبسط الله الرزق - مع رحمته - فإذا هو متاع طيب ورخاء ; وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة . ويمسك رحمته , فإذا هو مثار قلق وخوف , وإذا هو مثار حسد وبغض , وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض , وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار .

ويمنح الله الذرية - مع رحمته - فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع , ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله . ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء , وسهر بالليل وتعب بالنهار !

ويهب الله الصحة والقوة - مع رحمته - فإذا هي نعمة وحياة طيبة , والتذاذ بالحياة . ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي , فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح , ويدخر السوء ليوم الحساب !

ويعطي الله السلطان والجاه - مع رحمته - فإذا هي أداة إصلاح , ومصدر أمن , ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر . ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما , ومصدر طغيان وبغي بهما , ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار , ولا يستمتع بجاه ولا سلطان , ويدخربهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار !

والعلم الغزير . والعمر الطويل . والمقام الطيب . كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال . . . مع الإمساك ومع الإرسال . . وقليل من المعرفة يثمر وينفع , وقليل من العمر يبارك الله فيه . وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة .

والجماعات كالآحاد . والأمم كالأفراد . في كل أمر وفي كل وضع , وفي كل حال . . ولا يصعب القياس على هذه الأمثال !

ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله ! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك . ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة . ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة . وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة . والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها . وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبداً . (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون).

ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال . وجدها إبراهيم - عليه السلام - في النار . ووجدها يوسف - عليه السلام - في الجب كما وجدها في السجن . ووجدها يونس - عليه السلام - في بطن الحوت في ظلمات ثلاث . ووجدها موسى - عليه السلام - في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة , كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه . ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور . فقال بعضهم لبعض: (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته). ووجدها رسول الله [ ص ] وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار . . ووجدها كل من آوى إليها يأساً من كل ما سواها . منقطعاً عن كل شبهة في قوة , وعن كل مظنة في رحمة , قاصداً باب الله وحده دون الأبواب .

ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها . ومتى أمسكها فلا مرسل لها . ومن ثم فلا مخافة من أحد . ولا رجاء في أحد . ولا مخافة من شيء , ولا رجاء في شيء . ولا خوف من فوت وسيلة , ولا رجاء مع الوسيلة . إنما هي مشيئة الله . ما يفتح الله فلا ممسك . وما يمسك الله فلا مرسل . والأمر مباشرة إلى الله . . (وهو العزيز الحكيم). . يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك . ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك .

(ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها). .

وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه , بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام .

(وما يمسك فلا مرسل له من بعده).

فلا رجاء في أحد من خلقه , ولا خوف لأحد من خلقه . فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله .

أية طمأنينة ? وأي قرار ? وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير ?!

آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة ; وتنشىء في الشعور قيماً لهذه الحياة ثابتة ; وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها . ذهبت أم جاءت . كبرت أم صغرت . جلت أم هانت . كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء !

صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات . ولو تضافر عليها الإنس والجن . وهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها , ولا يمسكونها حين

فاطر

من الاية 3 الى الاية 3

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)

يفتحها . . (وهو العزيز الحكيم). .

وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الآية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام . الفئة التي صنعت على عين الله بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة , تنشىء في الأرض ما شاء الله أن ينشىء من عقيدة وتصور , وقيم وموازين , ونظم وأوضاع . وتقر في الأرض ما شاء الله أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام . الفئة التي كانت قدراً من قدر الله يسلطه على من يشاء في الأرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء الله من محو ومن إثبات . ذلك أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن , ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها . . وكفى . . ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن , وتعيش في واقعها بها , ولها . .

وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس , قادراً على أن ينشىء بآياته تلك أفراداً وفئات تمحو وتثبت في الأرض - بإذن الله - ما يشاء الله . . ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب , فتأخذها جداً , وتتمثلها حقاً . حقاً تحسه , كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار . .

ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية . .

لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة . واجهتني في لحظة جفاف روحي , وشقاء نفسي , وضيق بضائقة , وعسر من مشقة . . واجهتني في ذات اللحظة . ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها . وأن تسكب حقيقتها في روحي ; كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني . حقيقة أذوقها لا معنى أدركه . فكانت رحمة بذاتها . تقدم نفسها لي تفسيراً واقعياً لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا . وقد قرأتها من قبل كثيراً . ومررت بها من قبل كثيراً . ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها , وتنزل بحقيقتها المجردة , وتقول:هأنذا . . نموذجاً من رحمة الله حين يفتحها . فانظر كيف تكون !

إنه لم يتغير شيء مما حولي . ولكن لقد تغير كل شيء في حسي ! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود , كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية . نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها ; ولكنه قلما يقدر على تصويرها , أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة . وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها . وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي . وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق . وأنا في مكاني ! إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته . آية من القرآن تفتح كوة من النور . وتفجر ينبوعاً من الرحمة . وتشق طريقاً ممهوداً إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة في ومضة عين وفي نبضة قلب وفي خفقة جنان . اللهم حمداً لك . اللهم منزل هذا القرآن . هدى ورحمة للمؤمنين . . .

الدرس الثالث:3 تذكير الناس بخلق الله ورزقه لهم

ونعود بعد تسجيل هذه الومضة إلى سياق السورة . . فنجده يؤكد في الآية الثالثة إيحاء الآيتين الأولى والثانية ; فيذكر الناس بنعمة الله عليهم ; وهو وحده الخالق وهو وحده الرازق . الذي لا إله إلا هو ; ويعجب كيف يصرفون عن هذا الحق الواضح المبين:

(يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم . هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ? لا إله إلا هو . فأنى تؤفكون ?). .
من الاية 4 الى الاية 7

وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

ونعمة الله على الناس لا تتطلب إلا مجرد الذكر ; فإذا هي واضحة بينة يرونها ويحسونها ويلمسونها , ولكنهم ينسون فلا يذكرون .

وحولهم السماء والأرض تفيضان عليهم بالنعم , وتفيضان عليهم بالرزق ; وفي كل خطوة , وفي كل لحظة فيض ينسكب من خيرات الله ونعمه من السماء والأرض . يفيضها الخالق على خلقه . فهل من خالق غيره يرزقهم بما في أيديهم من هذا الفيض العميم ? إنهم لا يملكون أن يقولوا هذا , وما كانوا يدعونه وهم في أغلظ شركهم وأضله . فإذا لم يكن هناك خالق رازق غير الله , فما لهم لا يذكرون ولا يشكرون ? وما لهم ينصرفون عن حمد الله والتوجه إليه وحده بالحمد والابتهال ? إنه (لا إله إلا هو)فكيف يصرفون عن الإيمان بهذا الحق الذي لا مراء فيه . . (فأنى تؤفكون ?). . وإنه لعجيب أن ينصرف منصرف عن مثل هذا الحق الذي يواجههم به ما بين أيديهم من الرزق وإنه لعجيب أن ينصرف عن حمد الله وشكره من لا يجد مفراً من الاعتراف بذلك الحق المبين !

هذه الإيقاعات الثلاثة القوية العميقة هي المقطع الأول في السورة . وفي كل منها صورة تخلق الإنسان خلقاً جديداً حين تستقر في ضميره على حقيقتها العميقة . وهي في مجموعها متكاملة متناسقة في شتى الاتجاهات

الوحدة الثالثة:4 - 8 الموضوع:بين اتباع الرسول واتباع الشيطان

انتهى المقطع الأول من السورة بتلك الإيقاعات الثلاثة العميقة , بتلك الحقائق الكبيرة الأصيلة:حقيقة وحدانية الخالق المبدع . وحقيقة الاختصاص بالرحمة . وحقيقة الانفراد بالرزق .

وفي المقطع الثاني يتجه أولاً إلى رسول الله [ ص ] بالتسلية والتسرية عن تكذيبهم له , ويرجع الأمر كله إلى الله . ويتجه ثانياً إلى الناس يهتف بهم:إن وعد الله حق , ويحذرهم لعب الشيطان بهم ليخدعهم عن تلك الحقائق الكبرى , ويذهب بهم إلى السعير - وهو عدوهم الأصيل - ويكشف لهم عن جزاء المؤمنين وجزاء المخدوعين بالعدو الأصيل ! ويتجه أخيراً إلى النبي [ ص ] ألا يأسى عليهم وتذهب نفسه حسرات فإن الهدى والضلال بيد الله . والله عليم بما يصنعون .

الدرس الأول:4 - 7 تحذير الناس من الكفر والتكذيب

يخاطب الرسول [ ص ]:

(وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك , وإلى الله ترجع الأمور). .

تلك هي الحقائق الكبرى واضحة بارزة ; فإن يكذبوك فلا عليك من التكذيب , فلست بدعاً من الرسل: (فقد كذبت رسل من قبلك)والأمر كله لله , وإليه ترجع الأمور , وما التبليغ والتكذيب إلا وسائل وأسباب . والعواقب متروكة لله وحده , يدبر أمرها كيف يريد .

ويهتف بالناس:

(يا أيها الناس إن وعد الله حق . فلا تغرنكم الحياة الدنيا , ولا يغرنكم بالله الغرور . إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً . إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير). .

إن وعد الله حق . . إنه آت لا ريب فيه . إنه واقع لا يتخلف . إنه حق والحق لا بد أن يقع , والحق لا يضيع ولا يبطل ولا يتبدد ولا يحيد . ولكن الحياة الدنيا تغر وتخدع . (فلا تغرنكم الحياة الدنيا). ولكن الشيطان يغر ويخدع فلا تمكنوه من أنفسكم (ولا يغرنكم بالله الغرور). . والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على عدائكم (فاتخذوه عدواً)لا تركنوا إليه , ولا تتخذوه ناصحاً لكم ولا تتبعوا خطاه , فالعدو لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل ! وهو لا يدعوكم إلى خير , ولا ينتهي بكم إلى نجاة: (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير)! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير ?!

إنها لمسة وجدانية صادقة . فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان , فإنه يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات . يتحفز لدفع الغواية والإغراء ; ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه , ويتوجس من كل هاجسة , ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين , فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم !

وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير . حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة الشيطان بالغواية ; كما يتوفز الإنسان ويتحفز لكل بادر ة من عدوه وكل حركة خفية ! حالة التعبئة الشعوريه ضد الشر ودواعيه , وضد هواتفه المستسرة في النفس , وأسبابه الظاهرة للعيان . حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبداً .

ثم يدعم هذه التعبئة وهذا الحذر وهذا التوفز ببيان عاقبة الكافرين الذين لبوا دعوة الشيطان , وحالة المؤمنين الذين طاردوه:

(الذين كفروا لهم عذاب شديد . والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير). .

الدرس الثاني:8 وسيلة الشيطان في تزيين السوء لأوليائه

ويعقب على هذا بتصوير طبيعة الغواية , وحقيقة عمل الشيطان , والباب الذي يفتح فيجيء منه الشر كله ; ويمتد منه طريق الضلال الذي لا يرجع منه سالك متى أبعدت فيه خطاه:

(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً . . . ?). .

هذا هو مفتاح الشر كله . . أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً . أن يعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها . ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه , لأنه واثق من أنه لا يخطىء ! متأكد أنه دائماً على صواب ! معجب بكل ما يصدر منه ! مفتون بكل ما يتعلق بذاته . لا يخطر على باله أن يراجع

من الاية 8 الى الاية 8

أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (Cool

نفسه في شيء , ولا أن يحاسبها على أمر . وبطبيعة الحال لا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في رأي يراه . لأنه حسن في عين نفسه . مزين لنفسه وحسه . لا مجال فيه للنقد , ولا موضع فيه للنقصان !

هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على إنسان ; وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال . فإلى البوار !

إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب . فلا يأمن مكر الله . ولا يأمن تقلب القلب . ولا يأمن الخطأ والزلل . ولا يأمن النقص والعجز . فهو دائم التفتيش في عمله . دائم الحساب لنفسه . دائم الحذر من الشيطان . دائم التطلع لعون الله .

وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلال , وبين الفلاح والبوار .

إنها حقيقة نفسية دقيقة عميقة يصورها القرآن في ألفاظ معدودة:

(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً). .

إنه نموذج الضال الهالك البائر الصائر إلى شر مصير . ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين . هو هذا الغرور . هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق . ولا يحسن عملاً لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء . ولا يصلح خطأ لأنه واثق أنه لا يخطىء ! ولا يصلح فاسداً لأنه مستيقن أنه لا يفسد ! ولا يقف عند حد لأنه يحسب أن كل خطوة من خطواته إصلاح !

إنه باب الشر . ونافذة السوء . ومفتاح الضلال الأخير . .

ويدع السؤال بلا جواب . . (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ?). . ليشمل كل جواب . كأن يقال:أفهذا يرجى له صلاح ومتاب ? أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب الله ? أفهذا يستوي مع المتواضعين الأتقياء ? . . . إلى آخر صور الإجابة على مثل هذا السؤال . وهو أسلوب كثير التردد في القرآن .

وتجيب الآية بأحد هذه الأجوبة من بعيد:

(فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات):

وكأنما يقول:إن مثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة ; مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله ; وبما فتح عليه هذا الباب الذي لا يعود منه ضال !

فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ; بما تقتضيه طبيعة الضلال في ذلك وطبيعة الهدى في هذا . طبيعة الضلال برؤية العمل حسنا وهو سوء . وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى . . وهو مفرق الطريق الحاسم بين الهدى والضلال .

وما دام الأمر كذلك (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات). .

إن هذا الشأن . شأن الهدى والضلال . ليس من أمر بشر . ولو كان هو رسول الله [ ص ] إنما هو من أمر الله . والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن . وهو مقلب القلوب والأبصار . . والله - سبحانه - يعزي رسوله ويسليه بتقرير هذه الحقيقة له . حتى يستقر قلبه الكبير الرحيم المشفق على قومه مما يراه من ضلالهم , ومصيرهم المحتوم بعد هذا الضلال . وحتى يدع ما يجيش في قلبه البشري من حرص على هداهم , ومن رؤية الحق الذي جاء به معروفاً بينهم ! وهو حرص بشري معروف . يرفق الله سبحانه برسوله من وقعه في حسه , فيبين له أن هذا ليس من أمره , إنما هو من أمر الله .

وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم , وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير . ورأوا الناسفي الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون ; ولا يرون ما فيها من الخير والجمال . ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال . وأولى أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى بها الله - سبحانه - رسوله . فيبلغوا دعوتهم باذلين فيها أقصى الجهد . ثم لا يأسوا بعد ذلك على من لم يقدر له الله الصلاح والفلاح .

(إن الله عليم بما يصنعون). .

وهو يقسم لهم الهدى أو الضلال وفق علمه بحقيقة صنعهم . والله يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم ; ويعلمها بعد أن تكون . وهو يقسم لهم وفق علمه الأزلي . ولكنه لا يحاسبهم على ما يكون منهم إلا بعد أن يكون .

وبذلك ينتهي المقطع الثاني في السورة . وهو متصل بالمقطع الأول . ومتسق كذلك مع المقطع الذي يليه . .

الوحدة الثالثة:9 - 14 الموضوع:آيات في الكون والنفس دالة على الوحدانية

هذا المقطع الثالث جولات متتابعة في المجال الكوني الذي يعرض فيه القرآن دلائل الإيمان ; ويتخذ من مشاهده المعروضة للبصائر والأبصار أدلته وبراهينه .

وهذه الجولات المتتابعة تجيء في السورة عقب الحديث عن الهدى والضلال , وعن تسلية الرسول [ ص ] عن إعراض المعرضين , وتفويض هذا الأمر لصاحبه العليم بما يصنعون . . فمن شاء أن يؤمن

من الاية 9 الى الاية 9

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)

فهذه أدلة الإيمان معروضة في صفحة الكون حيث لا خفاء فيها ولا غموض . ومن شاء أن يضل فهو يضل عن بينة وقد أخذته الحجة من كل جانب .

وفي مشهد الحياة النابضة بعد الموات حجة . وفيه دليل على البعث والنشور . وفي خلق الإنسان من تراب , ثم صيرورته إلى هذا الخلق الراقي حجة . وكل مرحلة من مراحل خلقه وحياته تمضي وفق قدر مرسوم في كتاب مبين .

وفي مشهد البحرين المتميزين وتنويعهما حجة . وفيهما من نعم الله على الناس ما يقتضي الشكر والعرفان .

وفي مشهد الليل والنهار يتداخلان ويطولان ويقصران حجة . وفيهما على التقدير والتدبير دليل . وكذلك مشهد الشمس والقمر مسخرين بهذا النظام الدقيق العجيب .

هذه كلها حجج ودلائل معروضة في المجال الكوني الفسيح . وهذا هو الله خالقها ومالكها . والذين يدعون من دون الله ما يملكون من قطمير . ولا يسمعون ولا يستجيبون . ويوم القيامة يتبرأون من عبادهم الضلاّل . فماذا بعد الحق إلا الضلال ?

الدرس الأول:9 لفت الأنظار إلى الرياح والمطر والنبات

(والله الذي أرسل الرياح , فتثير سحاباً , فسقناه إلى بلد ميت , فأحيينا به الأرض بعد موتها . كذلك النشور).

وهذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن . مشهد الرياح , تثير السحب ; تثيرها من البحار , فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار ; والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحاباً ; ثم يسوق الله هذا السحاب بالتيارات الهوائية في طبقات الجو المختلفة , فتذهب يميناً وشمالاً إلى حيث يريد الله لها أن تذهب , وإلى حيث يسخرها ويسخر مثيراتها من الرياح والتيارات , حتى تصل إلى حيث يريد لها أن تصل . . إلى بلد ميت . . مقدر في علم الله أن تدب فيه الحياة بهذا السحاب . والماء حياة كل شيء في هذه الأرض . (فأحيينا به الأرض بعد موتها). . وتتم الخارقة التي تحدث في كل لحظة والناس في غفلة عن العجب العاجب فيها . وهم مع وقوع هذه الخارقة في كل لحظة يستبعدون النشور في الآخرة . وهو يقع بين أيديهم في الدنيا . . (كذلك النشور). . في بساطة ويسر , وبلا تعقيد ولا جدل بعيد !

هذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن لأنه دليل واقعي ملموس , لا سبيل إلى المكابرة فيه . ولأنه من جانب آخر يهز القلوب حقاً حين تتملاه وهي يقظى ; ويلمس المشاعر لمساً موحياً حين تتجه إلى تأمله . وهو مشهد بهيج جميل مثير . وبخاصة في الصحراء حيث يمر عليها الإنسان اليوم وهي محل جدب جرداء . ثم يمر عليها غداً وهي ممرعة خضراء من آثار الماء . والقرآن يتخذ موحياته من مألوف البشر المتاح لهم , مما يمرون عليه غافلين . وهو معجز معجب حين تتملاه البصائر والعيون .

الدرس الثاني:10 العزة بيد الله وحده وانقلاب مكر الكفار على أنفسهم

ومن مشهد الحياة النابضة في الموات ينتقل نقلة عجيبة - شيئاً - إلى معنى نفسي ومطلب شعوري .

ينتقل إلى معنى العزة والرفعة والمنعة والاستعلاء . ويربط هذا المعنى بالقول الطيب الذي يصعد إلى الله والعمل الصالح الذي يرفعه الله . كما يعرض الصفحة المقابلة . صفحة التدبير السيّىء والمكر الخبيث , وهو يهلك ويبور:

(من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً , إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه , والذين يمكرون

فاطر

من الاية 10 الى الاية 10

مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

السيئات لهم عذاب شديد , ومكر أولئك هو يبور). .

ولعل الرابط الذي يصل بين الحياة النامية في الموات , والكلمة الطيبة والعمل الصالح , هو الحياة الطيبة في هذه وفي تلك ; وما بينهما من صلة في طبيعة الكون والحياة . وهي الصلة التي سبقت الإشارة إليها في سورة إبراهيم .(ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون , ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار). . وهو شبه حقيقي في طبيعة الكلمة وطبيعة الشجرة ; وما فيهما من حياة ونماء . والكلمة تنمو وتمتد وتثمر كما تنمو الشجرة وتمتد وتثمر سواء بسواء !

وقد كان المشركون يشركون استبقاء لمكانتهم الدينية في مكة , وما يقوم عليها من سيادة لقريش على القبائل بحكم العقيدة , وما تحققه هذه السيادة من مغانم متعددة الألوان . العزة والمنعة في أولها بطبيعة الحال . مما جعلهم يقولون: (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا). .

فالله يقول لهم:

(من كان يريد العزة فلله العزّة جميعاً)

وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها , وتبدل الوسائل والخطط أيضاً !

إن العزة كلها لله . وليس شيء منها عند أحد سواه . فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره . ليطلبها عند الله , فهو واجدها هناك وليس بواجدها عند أحد , ولا في أي كنف , ولا بأي سبب (فلله العزّة جميعاً). .

إن الناس الذين كانت قريش تبتغي العزة عندهم بعقيدتها الوثنية المهلهلة ; وتخشى اتباع الهدى - وهي تعترف أنه الهدى - خشية أن تصاب مكانتها بينهم بأذى . إن الناس هؤلاء , القبائل والعشائر وما إليها , إن هؤلاء ليسوا مصدراً للعزة , ولا يملكون أن يعطوها أو يمنعوها (فلله العزّة جميعاً). . وإذا كانت لهم قوة فمصدرها الأول هو الله . وإذا كانت لهم منعة فواهبها هو الله . وإذن فمن كان يريد العزة والمنعة فليذهب إلى المصدر الأول , لا إلى الآخذ المستمد من هذا المصدر . ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده كل العزة , ولا يذهب يطلب قمامة الناس وفضلاتهم . وهم مثله طلاب محاويج ضعاف !

إنها حقيقة أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية . وهي حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين , وتعديل الحكم والتقدير , وتعديل النهج والسلوك , وتعديل الوسائل والأسباب ! ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي قلب لتقف به أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً ثابتاً في وقفته غير مزعزع , عارفاً طريقه إلى العزة , طريقه الذي ليس هنالك سواه !

إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر . ولا لعاصفة طاغية . ولا لحدث جلل . ولا لوضع ولا لحكم . ولا لدولة ولا لمصلحة , ولا لقوة من قوى الأرض جميعاً . وعلام ? والعزة لله جميعاً . وليس لأحد منها شيء إلا برضاه ?

ومن هنا يذكر الكلم الطيب والعمل الصالح:

(إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه). .

ولهذا التعقيب المباشر بعد ذكر الحقيقة الضخمة مغزاه وإيحاؤه . فهو إشارة إلى أسباب العزة ووسائلها لمن يطلبها عند الله . القول الطيب والعمل الصالح . القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه ; والعمل الصالحالذي يرفعه الله إليه ويكرمه بهذا الارتفاع . ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء .

والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس . حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله . حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي . يستعلي بها على شهواته المذلة , ورغائبه القاهرة , ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس . ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه . فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم , ومخاوفهم ومطامعهم . ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان . . وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان !

إن العزة ليست عناداً جامحاً يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل . وليست طغياناً فاجراً يضرب في عتو وتجبر وإصرار . وليست اندفاعاً باغياً يخضع للنزوة ويذل للشهوة . وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح . . كلا ! إنما العزة استعلاء على شهوة النفس , واستعلاء على القيد والذل , واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله . ثم هي خضوع لله وخشوع ; وخشية لله وتقوى , ومراقبة لله في السراء والضراء . . ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه . ومن هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه . ومن هذه المراقبة لله لا تعنى إلا برضاه .

هذا مكان الكلم الطيب والعمل الصالح من الحديث عن العزة , وهذه هي الصلة بين هذا المعنى وذاك في السياق . ثم تكمل بالصفحة المقابلة:

(والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور).

ويمكرون هنا مضمنة معنى يدبرون . ولكنه عبر بها لغلبة استعمالها في السوء . فهؤلاء لهم عذاب شديد . فوق أن مكرهم وتدبيرهم يبور . فلا يحيا ولا يثمر . من البوار ومن البوران سواء . وذلك تنسيقاً مع إحياء الأرض وإثمارها في الآية السابقة .

والذين يمكرون السيئات يمكرونها طلباً للعزة الكاذبة , والغلبة الموهومة . وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء , وأنهم أعزاء وأنهم أقوياء . ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله , والعمل الصالح هو الذي يرفعه إليه . وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل . فأما المكر السيى ء قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزة ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان . إلا أن نهايته إلى البوار وإلى العذاب الشديد . وعد الله , لا يخلف الله وعده . وإن أمهل الماكرين بالسوء حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم .

الدرس الثالث:11 حياة الإنسان بيد الله وحده من البداية للنهاية

ثم يجيء مشهد النشأة الأولى للإنسان بعد الكلام عن نشأة الحياة كلها بالماء . ويذكر ما يلابس تلك النشأة من حمل في البطون ; ومن عمر طويل وعمر قصير . وكله في علم الله المكنون .

(والله خلقكم من تراب , ثم من نطفة , ثم جعلكم أزواجاً . وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير). .

والإشارة إلى النشأة الأولى من التراب تتردد كثيراً في القرآن ; وكذلك الإشارة إلى أول مراحل الحمل:النطفة . . والتراب عنصر لا حياة فيه , والنطفة عنصر فيه الحياة . والمعجزة الأولى هي معجزة هذه الحياة التي لا يعلم أحد كيف جاءت , ولا كيف تلبست بالعنصر الأول . وما يزال هذا سراً مغلقاً على البشر ; وهو حقيقة قائمة مشهودة , لا مفر من مواجهتها والاعتراف بها . ودلالتها على الخالق المحيي القدير دلالة لا يمكن دفعها ولا المماحكة فيها .
فاطر

من الاية 11 الى الاية 12

وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

هذا والنقلة من غير الحي إلى الحي نقلة بعيدة بعيدة أكبر وأضخم من كل أبعاد الزمان والمكان . وتأمل هذه النقلة لا ينتهي ولا يمله القلب الحي الذي يتدبر أسرار هذا الوجود العجيبة . وكل سر منها أضخم من الآخر وأعجب صنعاً .

والنقلة بعد ذلك من النطفة التي تمثل مرحلة الخلية الواحدة إلى الخلقة الكاملة السوية للجنين , حين يتميز الذكر من الأنثى , وتتحقق الصورة التي يشير إليها القرآن في هذه الآية: (ثم جعلكم أزواجاً). . سواء كان المقصود جعلكم ذكراً وأنثى وأنتم أجنة , أو كان المقصود جعلكم أزواجاً بعد ولادتكم وتزاوج الذكر والأنثى . . هذه النقلة من النطفة إلى هذين النوعين المتميزين نقلة بعيدة كذلك بعيدة ! فأين الخلية الواحدة في النطفة من ذلك الكائن الشديد التركيب والتعقيد , الكثير الأجهزة المتعدد الوظائف ? وأين تلك الخلية المبهمة من ذلك الخلق الحافل بالخصائص المتميزة ?

إن تتبع هذه الخلية الساذجة وهي تنقسم وتتوالد ; وتتركب كل مجموعة خاصة من الخلايا المتولدة منها لتكوين عضو خاص له وظيفة معينة وطبيعة معينة . ثم تعاون هذه الأعضاء وتناسقها وتجمعها لتكون مخلوقاً واحداً على هذا النحو العجيب ; ومخلوقاً متميزاً من سائر المخلوقات الأخرى من جنسه , بل من أقرب الناس إليه , بحيث لا يتماثل أبداً مخلوقان اثنان . . وكلهم من نطفة لا تميز فيها يمكن إدراكه ! . . ثم تتبع هذه الخلايا حتى تصير أزواجاً , قادرة على إعادة النشأة بنطف جديدة , تسير في ذات المراحل , دون انحراف . . إن هذا كله لعجب لا ينقضي منه العجب . ومن ثم هذه الإشارة التي تتردد في القرآن كثيراً عن تلك الخارقة المجهولة السر ; بل تلك الخوارق المجهولة الأسرار ! لعل الناس يشغلون قلوبهم بتدبرها , ولعل أرواحهم تستيقظ على الإيقاع المتكرر عليها !

وإلى جوار هذه الإشارة هنا يعرض صورة كونية لعلم الله [ كالصور التي جاء ذكرها في هذا الجزء في سورة سبأ ] صورة علم الله المحيط بكل حمل تحمله أنثى في هذه الأرض جميعاً:

(وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه).

والنص يتجاوز إناث الإنسان إلى إناث الحيوان والطير والأسماك والزواحف والحشرات . وسواها مما نعلمه ومما لا نعلمه وكلها تحمل وتضع حتى ما يبيض منها , فالبيضة حمل من نوع خاص . جنين لا يتم نموه في داخل جسم الأم ; بل ينزل بيضة , ثم يتابع نموه خارج جسم الأم بحضانتها هي أو بحضانة صناعية حتى يصبح جنيناً كاملاً ثم يفقس ويتابع نموه العادي .

وعلم الله على كل حمل وعلى
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى