منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة سبا ايه رقم1 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة سبا ايه رقم1 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة سبا ايه رقم1 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الأربعاء يونيو 13, 2012 1:09 am

من الاية 1 الى الاية 2

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)

موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية:توحيد الله , والإيمان بالوحي , والاعتقاد بالبعث . وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية . وبيان أن الإيمان والعمل الصالح - لا الأموال ولا الأولاد - هما قوام الحكم والجزاء عند الله . وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله وما من شفاعة عنده إلا بإذنه .

والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء ; وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه . وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة , وأساليب شتى ; وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية .

فعن قضية البعث يقول: (وقال الذين كفروا:لا تأتينا الساعة . قل:بلى وربي لتأتينكم). .

وعن قضية الجزاء يقولSadليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات , أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم). .

وفي موضع آخر قريب في سياق السورةSadوقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ? أفترى على الله كذبا أم به جنة ? بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد).

ويورد عدة مشاهد للقيامة , وما فيها من تأنيب للمكذبين بها , ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به , أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول . يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا:لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا:أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ? بل كنتم مجرمين . وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا:بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً . وأسروا الندامة لما رأوا العذاب , وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ?). .

وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك: ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب . وقالوا:آمنا به . وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ? وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل . إنهم كانوا في شك مريب .

وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها , وما ينزل من السماء وما يعرج فيها). .

ويرد تعقيباً على التكذيب بمجيء الساعة: (قل:بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب , لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). .

ويرد قرب ختام السورةSadقل:إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب). .

وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله (الذي له ما في السماوات وما في الأرض , وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير). .

ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون اللهSadقل:ادعوا الذين زعمتم من دون الله , لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض , وما لهم فيهما من شرك , وما له منهم من ظهير). .

وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة: (ويوم يحشرهم جميعاًثم يقول للملائكة:أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ? قالوا:سبحانك ! أنت ولينا من دونهم . بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون).

وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهمSadولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له , حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا:ماذا قال ربكم ? قالوا:الحق وهو العلي الكبير). .

وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له , وعجزهم عن معرفة موتهSadفلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته . فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين). .

وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله: (وقال الذين كفروا:لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه). . وقولهSadوإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا:ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . وقالوا:ما هذا إلا إفك مفترى , وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم:إن هذا إلا سحر مبين). .

ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالةSadويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق , ويهدي إلى صراط العزيز الحميد). .(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً . ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .

وفي موضوع تقرير القيم يرد قولهSadوما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها:إنا بما أرسلتم به كافرون . وقالوا:نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين . قل:إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر , ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً , فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون . والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون). .

ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض:قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله . وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون . وما وقع لهؤلاء وهؤلاء . وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد .

هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى , تعرض في كل سورة في مجال كوني , مصحوبة بمؤثرات منوعة , جديدة على القلب في كل مرة . ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال , ممثلاً في رقعة السماوات والأرض الفسيحة , وفي عالم الغيب المجهول المرهوب . وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة . وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة . وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة , وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة . وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري , موقظ له من الغفلة والضيق والهمود .

فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل ; وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله , وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها , وما ينزل من السماء وما يعرج فيها). .(وقال الذين كفروا:لا تأتينا الساعة . قل:بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). .

والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمةSadأفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ? إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآية لكل عبد منيب). .

والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جناً يقفهم وجهاً لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلىSadولاتنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا:ماذا قال ربكم ? قالوا:الحق . وهو العلي الكبير). .

أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة: (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة:أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) . . . الخ.

والمكذبون لرسول الله [ ص ] الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم , وأمام منطق قلوبهم بعيداً عن الغواشي والمؤثرات المصطنعةSadقل:إنما أعظكم بواحدة . أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة . إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد). .

وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة , وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة . حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسلفنا . .

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة ; يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط لتيسير عرضها وشرحها . وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديداً دقيقاً . . وهذا هو طابع السورة الذي يميزها . .

تبدأ السورة بالحمد لله , المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة , وهو الحكيم الخبير . وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها , وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين , عن علم دقيق . وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق . وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث , وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد ; وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفاً عليهم . .

وبذلك ينتهي الشوط الأول .

فأما الشوط الثاني فيتناول طرفاً من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته , بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله . غير متبطرين ولا مستكبرين , ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين , ويستفتونهم في أمر الغيب . وهم لا يعلمون الغيب . وقد ظلوا يعملون لسليمان عملاً شاقاً مهيناً بعد موته وهم لا يعلمون . . . وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر . قصة سبأ . وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه: (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق). . وذلك أنهم اتبعوا الشيطان , وما كان له عليهم من سلطان , لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين !

ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله . وهم (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير). . وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله - ولو كانوا من الملائكة - فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف ; ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق . . ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض . والله مالك السماوات والأرض , وهو الذي يرزقهم بلا شريك . . ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله , وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون . . ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه , أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء . (كلا بل هو الله العزيز الحكيم). .

والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معاً قضية الوحي والرسالة , وموقفهم منها , وموقف المترفين من كل دعوة , واعتزازهم بأموالهم وأولادهم ; ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء , وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد . ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة , يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين . كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين . . ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل . وهو لا يطلب إليهم أجراً على الهدى , وليس بكاذب ولا مجنون . . ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة . وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية: قل:إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب . قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد . قل:إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب . . وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف .

والآن نأخذ بعد هذا العرض الإجمالي في التفصيل . .

الدرس الأول:1 - 2 حمد الله وشمول علمه لكل شيء

لحمد لله , الذي له ما في السماوات , وما في الأرض , وله الحمد في الآخرة , وهو الحكيم الخبير . يعلم ما يلج في الأرض , وما يخرج منها , وما ينزل من السماء , وما يعرج فيها , وهو الرحيم الغفور . .

ابتداء السورة التي تستعرض إشراك المشركين بالله , وتكذيبهم لرسوله , وشكهم في الآخرة , واستبعادهم للبعث والنشور . ابتداء بالحمد لله . والله محمود لذاته - ولو لم يقم بحمده أحد من هؤلاء البشر - وهو محمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده ومحمود من شتى الخلائق ولو شذ البشر عن سائر خلائق الله .

ومع الحمد صفة الملك لما في السماوات وما في الأرض ; فليس لأحد معه شيء , وما لأحد في السماوات والأرض من شرك , فله - سبحانه - كل شيء فيهما . . وهذه هي القضية الأولى في العقيدة . قضية التوحيد . والمالك لكل شيء هو الله الذي لا مالك لشيء سواه في هذا الكون العريض .

(وله الحمد في الآخرة). . الحمد الذاتي . والحمد المرتفع من عباده . حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا , أو يشركون معه غيره عن ضلالة , تتكشف في الآخرة , فيتمحض له الحمد والثناء .

(وهو الحكيم الخبير). . الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحكمة ; ويصرف الدنيا والآخرة بحكمة ; ويدبر أمر الوجود كله بحكمة . . الخبير الذي يعلم بكل شيء , وبكل أمر , وبكل تدبير علماً كاملاً شاملاً عميقاً يحيط بالأمور .

ثم يكشف صفحة من صحائف علم الله , مجالها الأرض والسماء:

(يعلم ما يلج في الأرض , وما يخرج منها , وما ينزل من السماء , وما يعرج فيها). .

ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة , فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء , والحركات , والأحجام , والأشكال , والصور , والمعاني , والهيئات , لا يصمد لها الخيال !

ولو أن أهل الأرض جميعا وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة , مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين !

فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض ? وكم من شيء في هذا اللحظة يخرج منها ? وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء ? وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها ?

كم من شيء يلج في الأرض ? كم من حبة تختبى ء أو تخبأ في جنبات هذه الأرض ? كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية ? كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز , ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة ? وكم وكم مما يلج في الأرض وعين الله عليه ساهرة لا تنام ?

وكم يخرج منها ? كم من نبتة تنبثق ? وكم من نبع يفور ? وكم من بركان يتفجر ? وكم من غاز يتصاعد ? وكم من مستور ينكشف ? وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور ? وكم وكم مما يرى ومما لا يرى , ومما يعلمه البشر ومما يجهلونه وهو كثير ?

وكم مما ينزل من السماء ? كم من نقطة مطر ? وكم من شهاب ثاقب ? وكم من شعاع محرق , وكم من شعاع منير ? وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور ? وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد . وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر . . وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله .

وكم مما يعرج فيها ? كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان ? وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه .

وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة . وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله . وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله .

ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر , ومن ذرة غاز صاعدة من جسم ? وكم وكم مما لا يعلمه سواه ?!

كم في لحظة واحدة ? وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء ? وعلم الله الشامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان . . وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وما له من حركات وسكنات تحت عين الله , وهو مع هذا يستر ويغفر . . (وهو الرحيم الغفور). .

وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر . فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر ; ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر , ومثل هذه الإحاطة باللمسة الواحدة تتجلى فيها صنعة الله بارىء هذا الوجود ! التي لا تشبهها صنعة العبيد !

الدرس الثاني:3 - 5 مجيء الساعة التي أنكرها الكفار ومجازاة المحسن والمسيء فيها

وبعد تقرير تلك الحقيقة في تلك الصورة الرائعة الواسعة المدى الفسيحة المجال يحكي إنكار الذين كفروا بمجيء الساعة ; وهم القاصرون الذين لا يعلمون ماذا يأتيهم به الغد والله هو العليم بالغيب الذي لا يند عن علمه شيء في السماء ولا في الأرض ; والساعة لا بد منها ليلاقي المحسن والمسيء جزاء ما قدما في هذه الأرض:

(وقال الذين كفروا:لا تأتينا الساعة:قل:بلى وربي لتأتينكم , عالم الغيب , لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم). .

وإنكار الذين كفروا للآخرة ناشيء من عدم إدراكهم لحكمة الله وتقديره . فحكمة الله لا تترك الناس سدى , يحسن منهم من يحسن ويسيء منهم من يسيء ; ثم لا يلقى المحسن جزاء إحسانه , ولا يلقى المسيء جزاء إساءته . وقد أخبر الله على لسان رسله:أنه يستبقي الجزاء كله أو بعضه للآخرة . فكل من يدرك حكمة الله في خلقه يدرك أن الآخرة ضرورية لتحقيق وعد الله وخبره . . ولكن الذين كفروا محجوبون عن تلك الحكمة .
من الاية 3 الى الاية 5

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (5)

ومن ثم يقولون قولتهم هذه: (لا تأتينا الساعة). . فيرد عليهم مؤكداً جازماً: (قل:بلى وربي لتأتينكم). . وصدق الله تعالى وصدق رسول الله - عليه صلوات الله - وهم لا يعلمون الغيب ومع ذلك يتأولون على الله , ويجزمون بما لا علم لهم به . والله الذي يؤكد مجيء الساعة هو: عالم الغيب . . فقوله الحق عن علم بما هنالك وعن يقين .

ثم يعرض هذا العلم في صورة كونية كالتي سبقت في مطلع السورة , تشهد هي الأخرى بأن هذا القرآن لا يكون من صنع بشر , لأن خيال البشر لا تخطر له عادة مثل هذه الصور:

(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ; ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). .

ومرة أخرى نقول:إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية . وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء . فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة: (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . . .). . ولست أعرف في كلام البشر إتجاهاً إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل . فهو الله , سبحانه , الذي يصف نفسه , ويصف علمه , بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر ! وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال .

وأقرب تفسير لقوله تعالى: (إلا في كتاب مبين)أنه علم الله الذي يقيد كل شيء , ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر .

ونقف أمام لفتة في قوله تعالى: مثقال ذرة . . . ولا أصغر من ذلك . والذرة كان معروفاً - إلى عهد قريب - أنها أصغر الأجسام . فالآن يعرف البشر - بعد تحطيم الذرة - أن هناك ما هو أصغر من الذرة , وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك ! وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عندما يشاء .

مجيء الساعة حتماً وجزماً , وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة:

(ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات . أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين , أولئك لهم عذاب من رجز أليم). .

فهناك حكمة وقصد وتدبير . وهناك تقدير في الخلق لتحقيق الجزاء الحق للذين آمنوا وعملوا الصالحات , وللذين سعوا في آيات الله معاجزين . .

فأما الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح فلهم(مغفرة)لما يقع منهم من خطايا ولهم (رزق كريم)والرزق يجيء ذكره كثيراً في هذه السورة , فناسب أن يعبر عن نعيم الآخرة بهذا الوصف , وهو رزق من رزق الله على كل حال .

وأما الذين سعوا باذلين جهدهم للصد عن آيات الله , فلهم عذاب من أليم العذاب وسيئه . والرجز هو العذاب السيّىء . جزاء اجتهادهم ومعاجزتهم وكدهم في سبيل السوء !

وبهذا وذلك تتحقق حكمة الله وتدبيره , وحكمة الساعة التي يجزمون بأنها لا تأتيهم ; وهي لا بد أن تجيء . .

الدرس الثالث:6 شهادة أولي العلم بالحق الذي مع الرسول عليه السلام

وبمناسبة جزمهم بأن الساعة لا تأتيهم - وهي غيب من غيب الله - وتأكيد الله لمجيئها - وهو عالم الغيب -

من الاية 6 الى الاية 6

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

وتبليغ رسول الله [ ص ] ما أمره ربه بتبليغه من أمرها يقرر أن (الذين أوتوا العلم)يدركون ويشهدون بأن ما جاءه من ربه هو الحق وأنه يهدي إلى طريق العزيز الحميد:

(ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق , ويهدي إلى صراط العزيز الحميد). .

وقد ورد أن المقصود بالذين أوتوا العلم هم أهل الكتاب , الذين يعلمون من كتابهم أن هذا القرآن هو الحق , وأنه يقود إلى صراط العزيز الحميد .

ومجال الآية أكبر وأشمل . فالذين أوتوا العلم في أي زمان وفي أي مكان , من أي جيل ومن أي قبيل , يرون هذا متى صح علمهم واستقام ; واستحق أن يوصف بأنه(العلم)! والقرآن كتاب مفتوح للأجيال . وفيه من الحق ما يكشف عن نفسه لكل ذي علم صحيح . وهو يكشف عن الحق المستكن في كيان هذا الوجود كله . وهو أصدق ترجمة وصفية لهذا الوجود وما فيه من حق أصيل .

(ويهدي إلى صراط العزيز الحميد). .

وصراط العزيز الحميد هو المنهج الذي أراده للوجود ; واختاره للبشر لينسق خطاهم مع خطى هذا الكون الذي يعيشون فيه . وهو الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون كله , بما فيه من الحياة البشرية التي لا تنفصل في أصلها ونشأتها , ولا في نظامها وحركتها عن هذا الكون وما فيه ومن فيه .

يهدي إلى صراط العزيز الحميد بما ينشئه في إدراك المؤمن من تصور للوجود وروابطه وعلاقاته وقيمه ; ومكان هذا الإنسان منه , ودوره فيه ; وتعاون أجزاء هذا الكون من حوله - وهو معها - في تحقيق مشيئة الله وحكمته في خلقه ; وتناسق حركات الجميع وتوافقها في الاتجاه إلى باريء الوجود .

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بتصحيح منهج التفكير , وإقامته على أسس سليمة , متفقة مع الإيقاعات الكونية على الفطرة البشرية ; بحيث يؤدي هذا المنهج بالفكر البشري إلى إدراك طبيعة هذا الكون وخواصه وقوانينه , والاستعانة بها , والتجاوب معها بلا عداء ولا اصطدام ولا تعويق .

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بمنهجه التربوي الذي يعد الفرد للتجاوب والتناسق مع الجماعة البشرية . ويعد الجماعة البشرية للتجاوب والتناسق - أفراداً وجماعات - مع مجموعة الخلائق التي تعمر هذا الكون ! ويعد هذه الخلائق كلها للتجاوب والتناسق مع طبيعة الكون الذي تعيش فيه . . كل ذلك في بساطة ويسر ولين .

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بما فيه من نظم وتشريعات مستقيمة مع فطرة الإنسان وظروف حياته ومعاشه الأصيلة , متناسقة مع القوانين الكلية التي تحكم بقية الأحياء , وسائر الخلائق ; فلا يشذ عنها الإنسان بنظمه وتشريعاته . وهو أمة من هذه الأمم في نطاق هذا الكون الكبير .

إن هذا الكتاب هو الدليل إلى هذا الصراط . الدليل الذي وضعه خالق الإنسان وخالق الصراط , العارف بطبيعة هذا وذاك . وإنك لتكون حسن الطالع وأنت تقوم برحلة في طريق لو حصلت على دليل من وضع المهندس الذي أنشأ هذا الطريق . فكيف بمنشىء الطريق ومنشىء ء السالك في الطريق ?!

الدرس الرابع:7 - 8 الرد على استغراب وإنكار الكفار للبعث

وبعد هذه اللمسة الموقظة الموجهة يستأنف حكاية حديثهم عن البعث , ودهشتهم البالغة لهذا الأمر , الذي يرونه عجيباً غريباً , لا يتحدث به إلا من أصابه طائف من الجن , فهو يتفوه بكل غريب عجيب , أو يفتري

سبأ

من الاية 7 الى الاية 8

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (Cool

الكذب ويقول بما لا يمكن أن يكون .

(وقال الذين كفروا:هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ! أفترى على الله كذباً أم به جنة ? بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد). .

إلى هذا الحد من الاستغراب والدهش كانوا يقابلون قضية البعث . فيعجبون الناس من أمر القائل بها في أسلوب حاد من التهكم والتشهير: (هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ?)هل ندلكم على رجل عجيب غريب , ينطق بقول مستنكر بعيد , حتى ليقول:إنكم بعد الموت والبلى والتمزق الشديد تخلقون من جديد , وتعودون للوجود ?!

ويمضون في العجب والتعجيب , والاستنكار والتشهير: (أفترى على الله كذباً أم به جنة ?). . فما يقول مثل هذا الكلام - بزعمهم - إلا كاذب يفتري على الله ما لم يقله , أو مسته الجن فهو يهذي أو ينطق بالعجيب الغريب !

ولم هذا كله ? لأنه يقول لهم:إنكم ستخلقون خلقاً جديداً ! وفيم العجب وهم قد خلقوا ابتداء ? إنهم لا ينظرون هذه العجيبة الواقعة . عجيبة خلقهم الأول . ولو قد نظروها وتدبروها ما عجبوا أدنى عجب للخلق الجديد . ولكنهم ضالون لا يهتدون . ومن ثم يعقب على تشهيرهم وتعجيبهم تعقيباً شديداً مرهوباً:

(بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد). .

وقد يكون المقصود بالعذاب الذي هم فيه عذاب الآخرة , فهو لتحققه كأنهم واقعون فيه , وقوعهم في الضلال البعيد الذي لا يرجى معه اهتداء . . وقد يكون هذا تعبيراً عن معنى آخر . معنى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في عذاب كما يعيشون في ضلال . وهي حقيقة عميقة . فالذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي . لا أمل له ولا رجاء في نصفة ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة . وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة , وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء . وإلا ابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر , الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة (وإن تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله). والذي يحرم هذه النافذة المضيئة الندية المريحة يعيش ولا ريب في العذاب كما يعيش في الضلال . يعيش فيهما وهو حي على هذه الأرض قبل أن يلقى عذاب الآخرة جزاء على هذا العذاب الذي لقيه في دنياه !

إن الإعتقاد بالآخرة رحمة ونعمة يهبهما الله لمن يستحقهما من عباده بإخلاص القلب , وتحري الحق , والرغبة في الهدى . وأرجح أن هذا هو الذي تشير إليه الآية , وهي تجمع على الذين لا يؤمنون بالآخرة بين العذاب والضلال البعيد .

الدرس الخامس:9 تهديد منكري البعث بالعذاب والخسف

هؤلاء المكذبون بالآخرة يوقظهم بعنف على مشهد كوني يصور لهم أنه واقع بهم - لو شاء الله - وظلوا هم في ضلالهم البعيد . مشهد الأرض تخسف بهم والسماء تتساقط قطعاً عليهم:

(أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ? إن نشأ نخسف بهم الأرض , أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآية لكل عبد منيب). .

وهو مشهد كوني عنيف , منتزع في الوقت ذاته من مشاهداتهم أو من مدركاتهم المشهودة على كل حال .

من الاية 9 الى الاية 9

أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (9)

فخسف الأرض يقع ويشهده الناس . وترويه القصص والروايات أيضاً . وسقوط قطع من السماء يقع كذلك عند سقوط الشهب وحدوث الصواعق . وهم رأوا شيئاً من هذا أو سمعوا عنه . فهذه اللمسة توقظ الغفاة الغافلين , الذين يستبعدون مجيء الساعة . والعذاب أقرب إليهم لو أراد الله أن يأخذهم به في هذه الأرض قبل قيام الساعة . يمكن أن يقع بهم من هذه الأرض وهذه السماء التي يجدونها من بين أيديهم ومن خلفهم , محيطة بهم , وليست بعيدة عنهم بعد الساعة المغيبة في علم الله . ولا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون .

وفي هذا الذي يشهدونه من السماء والأرض , والذي يتوقع من خسف الأرض في أية لحظة أو سقوط قطع من السماء . في هذا آية للقلب الذي يرجع ويثوب:

(إن في ذلك لآية لكل عبد منيب). . لا يضل ذلك الضلال البعيد . .

الوحدة الثانية:10 - 21 لقطات من قصة داود وسليمان وسبأ

من الاية 10 الى الاية 10

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)

يحوي هذا الشوط صوراً من الشكر والبطر ; وصوراً من تسخير الله لمن يشاء من عباده قوى وخلقا لا تسخر عادة للبشر . ولكن قدرة الله ومشيئته لا يقيدهما مألوف البشر . وتتكشف من خلال هذه الصور وتلك حقائق عن الشياطين الذين كان يعبدهم بعض المشركين , أو يطلبون عندهم علم الغيب وهم عن الغيب محجوبون . وعن أسباب الغواية التي يتسلط بها الشيطان على الإنسان , وما له عليه من سلطان إلا ما يعطيه من نفسه باختياره . وعن تدبير الله في كشف ما هو مكنون من عمل الناس وبروزه في صورة واقعة لينالوا عليه الجزاء في الآخرة .

وبذكر الآخرة ينتهي هذا الشوط كما انتهى الشوط الأول في السورة . .

الدرس الأول:10 - 11 فضل الله على نبيه داود

(ولقد آتينا داود منا فضلاً . يا جبال أوبي معه والطير . وألنا له الحديد أن اعمل سابغات , وقدّر في السرد , واعملوا صالحاً . إني بما تعملون بصير). .

وداود عبد منيب , كالذي ختم بذكره الشوط الأول: (إن في ذلك لآية لكل عبد منيب). . والسياق يعقب بقصته بعد تلك الإشارة ; ويقدم لها بذكر ما آتاه الله له من الفضل . ثم يبين هذا الفضل:

(يا جبال أوبي معه والطير). .

وتذكر الروايات أن داود عليه السلام أوتي صوتاً جميلاً خارقاً في الجمال ; كان يرتل به مزاميره , وهي تسابيح دينية , ورد منها في كتاب "العهد القديم" ما الله أعلم بصحته . وفي الصحيح أن رسول الله [ ص ] سمع صوت أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته . ثم قال [ ص ]:" لقد أوتي هذا مزماراً من زمامير آل داود " .

والآية تصور من فضل الله على داود - عليه السلام - أنه قد بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الكائنات ; فاتصلت حقيقتها بحقيقته , في تسبيح بارئها وبارئه ; ورجّعت معه الجبال والطير , إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز , حين اتصلت كلها بالله صلة واحدة مباشرة ; تنزاح معها الفوارق بين نوع من خلق الله ونوع , وبين كائن من خلق الله وكائن ; وترتد كلها إلى حقيقتها اللدنية الواحدة , التي كانت تغشى عليها الفواصل والفوارق ; فإذا هي تتجاوب في تسبيحها للخالق , وتتلاقى في نغمة واحدة , وهي درجة من الإشراق والصفاء والتجرد لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله , يزيح عنه حجاب كيانه المادي , ويرده إلى كينونته اللدنية التي يلتقي فيها بهذا الوجود , وكل ما فيه وكل من فيه بلا حواجز ولا سدود .

وحين انطلق صوت داود - عليه السلام - يرتل مزاميره ويمجد خالقه , رجّعت معه الجبال والطير , وتجاوب الكون بتلك الترانيم السارية في كيانه الواحد , المتجهة إلى بارئه الواحد . . وإنها للحظات عجيبة لا يتذوقها إلا من عنده بها خبر , ومن جرب نوعها ولو في لحظة من حياته !

(وألنا له الحديد).

وهو طرف آخر من فضل الله عليه . وفي ظل هذا السياق يبدو أن الأمر كان خارقة ليست من مألوف البشر . فلم يكن الأمر أمر تسخين الحديد حتى يلين ويصبح قابلاً للطرق , إنما كان - والله أعلم - معجزة يلين بها الحديد من غير وسيلة اللين المعهودة . وإن كان مجرد الهداية لإلانة الحديد بالتسخين يعد فضلاً من الله يذكر . ولكننا إنما نتأثر جو السياق وظلاله وهو جو معجزات , وهي ظلال خوارق خارجة على المألوف .

(أن اعمل سابغات وقدّر في السرد).

من الاية 3 الى الاية 5

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (5)

ومن ثم يقولون قولتهم هذه: (لا تأتينا الساعة). . فيرد عليهم مؤكداً جازماً: (قل:بلى وربي لتأتينكم). . وصدق الله تعالى وصدق رسول الله - عليه صلوات الله - وهم لا يعلمون الغيب ومع ذلك يتأولون على الله , ويجزمون بما لا علم لهم به . والله الذي يؤكد مجيء الساعة هو: عالم الغيب . . فقوله الحق عن علم بما هنالك وعن يقين .

ثم يعرض هذا العلم في صورة كونية كالتي سبقت في مطلع السورة , تشهد هي الأخرى بأن هذا القرآن لا يكون من صنع بشر , لأن خيال البشر لا تخطر له عادة مثل هذه الصور:

(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ; ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين). .

ومرة أخرى نقول:إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية . وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء . فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة: (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . . .). . ولست أعرف في كلام البشر إتجاهاً إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل . فهو الله , سبحانه , الذي يصف نفسه , ويصف علمه , بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر ! وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال .

وأقرب تفسير لقوله تعالى: (إلا في كتاب مبين)أنه علم الله الذي يقيد كل شيء , ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر .

ونقف أمام لفتة في قوله تعالى: مثقال ذرة . . . ولا أصغر من ذلك . والذرة كان معروفاً - إلى عهد قريب - أنها أصغر الأجسام . فالآن يعرف البشر - بعد تحطيم الذرة - أن هناك ما هو أصغر من الذرة , وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك ! وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عندما يشاء .

مجيء الساعة حتماً وجزماً , وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة:

(ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات . أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين , أولئك لهم عذاب من رجز أليم). .

فهناك حكمة وقصد وتدبير . وهناك تقدير في الخلق لتحقيق الجزاء الحق للذين آمنوا وعملوا الصالحات , وللذين سعوا في آيات الله معاجزين . .

فأما الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح فلهم(مغفرة)لما يقع منهم من خطايا ولهم (رزق كريم)والرزق يجيء ذكره كثيراً في هذه السورة , فناسب أن يعبر عن نعيم الآخرة بهذا الوصف , وهو رزق من رزق الله على كل حال .

وأما الذين سعوا باذلين جهدهم للصد عن آيات الله , فلهم عذاب من أليم العذاب وسيئه . والرجز هو العذاب السيّىء . جزاء اجتهادهم ومعاجزتهم وكدهم في سبيل السوء !

وبهذا وذلك تتحقق حكمة الله وتدبيره , وحكمة الساعة التي يجزمون بأنها لا تأتيهم ; وهي لا بد أن تجيء . .

الدرس الثالث:6 شهادة أولي العلم بالحق الذي مع الرسول عليه السلام

وبمناسبة جزمهم بأن الساعة لا تأتيهم - وهي غيب من غيب الله - وتأكيد الله لمجيئها - وهو عالم الغيب -

من الاية 6 الى الاية 6

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

وتبليغ رسول الله [ ص ] ما أمره ربه بتبليغه من أمرها يقرر أن (الذين أوتوا العلم)يدركون ويشهدون بأن ما جاءه من ربه هو الحق وأنه يهدي إلى طريق العزيز الحميد:

(ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق , ويهدي إلى صراط العزيز الحميد). .

وقد ورد أن المقصود بالذين أوتوا العلم هم أهل الكتاب , الذين يعلمون من كتابهم أن هذا القرآن هو الحق , وأنه يقود إلى صراط العزيز الحميد .

ومجال الآية أكبر وأشمل . فالذين أوتوا العلم في أي زمان وفي أي مكان , من أي جيل ومن أي قبيل , يرون هذا متى صح علمهم واستقام ; واستحق أن يوصف بأنه(العلم)! والقرآن كتاب مفتوح للأجيال . وفيه من الحق ما يكشف عن نفسه لكل ذي علم صحيح . وهو يكشف عن الحق المستكن في كيان هذا الوجود كله . وهو أصدق ترجمة وصفية لهذا الوجود وما فيه من حق أصيل .

(ويهدي إلى صراط العزيز الحميد). .

وصراط العزيز الحميد هو المنهج الذي أراده للوجود ; واختاره للبشر لينسق خطاهم مع خطى هذا الكون الذي يعيشون فيه . وهو الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون كله , بما فيه من الحياة البشرية التي لا تنفصل في أصلها ونشأتها , ولا في نظامها وحركتها عن هذا الكون وما فيه ومن فيه .

يهدي إلى صراط العزيز الحميد بما ينشئه في إدراك المؤمن من تصور للوجود وروابطه وعلاقاته وقيمه ; ومكان هذا الإنسان منه , ودوره فيه ; وتعاون أجزاء هذا الكون من حوله - وهو معها - في تحقيق مشيئة الله وحكمته في خلقه ; وتناسق حركات الجميع وتوافقها في الاتجاه إلى باريء الوجود .

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بتصحيح منهج التفكير , وإقامته على أسس سليمة , متفقة مع الإيقاعات الكونية على الفطرة البشرية ; بحيث يؤدي هذا المنهج بالفكر البشري إلى إدراك طبيعة هذا الكون وخواصه وقوانينه , والاستعانة بها , والتجاوب معها بلا عداء ولا اصطدام ولا تعويق .

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بمنهجه التربوي الذي يعد الفرد للتجاوب والتناسق مع الجماعة البشرية . ويعد الجماعة البشرية للتجاوب والتناسق - أفراداً وجماعات - مع مجموعة الخلائق التي تعمر هذا الكون ! ويعد هذه الخلائق كلها للتجاوب والتناسق مع طبيعة الكون الذي تعيش فيه . . كل ذلك في بساطة ويسر ولين .

ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بما فيه من نظم وتشريعات مستقيمة مع فطرة الإنسان وظروف حياته ومعاشه الأصيلة , متناسقة مع القوانين الكلية التي تحكم بقية الأحياء , وسائر الخلائق ; فلا يشذ عنها الإنسان بنظمه وتشريعاته . وهو أمة من هذه الأمم في نطاق هذا الكون الكبير .

إن هذا الكتاب هو الدليل إلى هذا الصراط . الدليل الذي وضعه خالق الإنسان وخالق الصراط , العارف بطبيعة هذا وذاك . وإنك لتكون حسن الطالع وأنت تقوم برحلة في طريق لو حصلت على دليل من وضع المهندس الذي أنشأ هذا الطريق . فكيف بمنشىء الطريق ومنشىء ء السالك في الطريق ?!

الدرس الرابع:7 - 8 الرد على استغراب وإنكار الكفار للبعث

وبعد هذه اللمسة الموقظة الموجهة يستأنف حكاية حديثهم عن البعث , ودهشتهم البالغة لهذا الأمر , الذي يرونه عجيباً غريباً , لا يتحدث به إلا من أصابه طائف من الجن , فهو يتفوه بكل غريب عجيب , أو يفتري

سبأ

من الاية 7 الى الاية 8

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (Cool

الكذب ويقول بما لا يمكن أن يكون .

(وقال الذين كفروا:هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ! أفترى على الله كذباً أم به جنة ? بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد). .

إلى هذا الحد من الاستغراب والدهش كانوا يقابلون قضية البعث . فيعجبون الناس من أمر القائل بها في أسلوب حاد من التهكم والتشهير: (هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ?)هل ندلكم على رجل عجيب غريب , ينطق بقول مستنكر بعيد , حتى ليقول:إنكم بعد الموت والبلى والتمزق الشديد تخلقون من جديد , وتعودون للوجود ?!

ويمضون في العجب والتعجيب , والاستنكار والتشهير: (أفترى على الله كذباً أم به جنة ?). . فما يقول مثل هذا الكلام - بزعمهم - إلا كاذب يفتري على الله ما لم يقله , أو مسته الجن فهو يهذي أو ينطق بالعجيب الغريب !

ولم هذا كله ? لأنه يقول لهم:إنكم ستخلقون خلقاً جديداً ! وفيم العجب وهم قد خلقوا ابتداء ? إنهم لا ينظرون هذه العجيبة الواقعة . عجيبة خلقهم الأول . ولو قد نظروها وتدبروها ما عجبوا أدنى عجب للخلق الجديد . ولكنهم ضالون لا يهتدون . ومن ثم يعقب على تشهيرهم وتعجيبهم تعقيباً شديداً مرهوباً:

(بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد). .

وقد يكون المقصود بالعذاب الذي هم فيه عذاب الآخرة , فهو لتحققه كأنهم واقعون فيه , وقوعهم في الضلال البعيد الذي لا يرجى معه اهتداء . . وقد يكون هذا تعبيراً عن معنى آخر . معنى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في عذاب كما يعيشون في ضلال . وهي حقيقة عميقة . فالذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي . لا أمل له ولا رجاء في نصفة ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة . وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة , وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء . وإلا ابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر , الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة (وإن تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله). والذي يحرم هذه النافذة المضيئة الندية المريحة يعيش ولا ريب في العذاب كما يعيش في الضلال . يعيش فيهما وهو حي على هذه الأرض قبل أن يلقى عذاب الآخرة جزاء على هذا العذاب الذي لقيه في دنياه !

إن الإعتقاد بالآخرة رحمة ونعمة يهبهما الله لمن يستحقهما من عباده بإخلاص القلب , وتحري الحق , والرغبة في الهدى . وأرجح أن هذا هو الذي تشير إليه الآية , وهي تجمع على الذين لا يؤمنون بالآخرة بين العذاب والضلال البعيد .

الدرس الخامس:9 تهديد منكري البعث بالعذاب والخسف

هؤلاء المكذبون بالآخرة يوقظهم بعنف على مشهد كوني يصور لهم أنه واقع بهم - لو شاء الله - وظلوا هم في ضلالهم البعيد . مشهد الأرض تخسف بهم والسماء تتساقط قطعاً عليهم:

(أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ? إن نشأ نخسف بهم الأرض , أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآية لكل عبد منيب). .

وهو مشهد كوني عنيف , منتزع في الوقت ذاته من مشاهداتهم أو من مدركاتهم المشهودة على كل حال .

من الاية 9 الى الاية 9

أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (9)

فخسف الأرض يقع ويشهده الناس . وترويه القصص والروايات أيضاً . وسقوط قطع من السماء يقع كذلك عند سقوط الشهب وحدوث الصواعق . وهم رأوا شيئاً من هذا أو سمعوا عنه . فهذه اللمسة توقظ الغفاة الغافلين , الذين يستبعدون مجيء الساعة . والعذاب أقرب إليهم لو أراد الله أن يأخذهم به في هذه الأرض قبل قيام الساعة . يمكن أن يقع بهم من هذه الأرض وهذه السماء التي يجدونها من بين أيديهم ومن خلفهم , محيطة بهم , وليست بعيدة عنهم بعد الساعة المغيبة في علم الله . ولا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون .

وفي هذا الذي يشهدونه من السماء والأرض , والذي يتوقع من خسف الأرض في أية لحظة أو سقوط قطع من السماء . في هذا آية للقلب الذي يرجع ويثوب:

(إن في ذلك لآية لكل عبد منيب). . لا يضل ذلك الضلال البعيد . .

الوحدة الثانية:10 - 21 لقطات من قصة داود وسليمان وسبأ

من الاية 10 الى الاية 10

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)

يحوي هذا الشوط صوراً من الشكر والبطر ; وصوراً من تسخير الله لمن يشاء من عباده قوى وخلقا لا تسخر عادة للبشر . ولكن قدرة الله ومشيئته لا يقيدهما مألوف البشر . وتتكشف من خلال هذه الصور وتلك حقائق عن الشياطين الذين كان يعبدهم بعض المشركين , أو يطلبون عندهم علم الغيب وهم عن الغيب محجوبون . وعن أسباب الغواية التي يتسلط بها الشيطان على الإنسان , وما له عليه من سلطان إلا ما يعطيه من نفسه باختياره . وعن تدبير الله في كشف ما هو مكنون من عمل الناس وبروزه في صورة واقعة لينالوا عليه الجزاء في الآخرة .

وبذكر الآخرة ينتهي هذا الشوط كما انتهى الشوط الأول في السورة . .

الدرس الأول:10 - 11 فضل الله على نبيه داود

(ولقد آتينا داود منا فضلاً . يا جبال أوبي معه والطير . وألنا له الحديد أن اعمل سابغات , وقدّر في السرد , واعملوا صالحاً . إني بما تعملون بصير). .

وداود عبد منيب , كالذي ختم بذكره الشوط ال
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى