منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسيرسورة القصص ايه 39 الى ايه 62 الشسح سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسيرسورة القصص ايه 39 الى ايه 62 الشسح سيد قطب Empty تفسيرسورة القصص ايه 39 الى ايه 62 الشسح سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الخميس مايو 31, 2012 4:58 am

من الاية 39 الى الاية 43

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

وفي هذا الموضع كانت حلقة المباراة مع السحرة . وهي محذوفة هنا للتعجيل بالنهاية:

(واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق , وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون). .
من الاية 44 الى الاية 46

وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)

يعجز عن صدها الهداة . وهي المعاني التي كانت الجماعة المسلمة الصغيرة المستضعفة في مكة في حاجة إلى الاطمئنان إليها . وكان المشركون المستكبرون في حاجة إلى تدبرها . وهي المعاني المتجددة الدائمة حيثما كانت دعوة إلى الهدى , وحيثما كان طغيان يقف في وجه الهدى .

وهكذا يجيء القصص في القرآن مادة تربية للنفوس , وتقرير لحقائق وسنن في الوجود (لعلهم يتذكرون). .

الوحدة الثانية:44 - 75 الموضوع:حقائق إعتقادية ومواجهة المشركين مقدمة الوحدة

مضت قصة موسى - عليه السلام - بدلالاتها التي وضحت في الدرس الماضي . فأما في هذا الدرس فتبدأ التعقيبات عليها ; ثم يمضي السياق في طريقه على محور السورة الأصيل , يبين أين يكون الأمن وأين تكون المخافة ; ويجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير . يجول معهم جولات
القصص

من الاية 47 الى الاية 47

وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)

شتى في مشاهد الكون , وفي مشاهد الحشر , وفيما هم فيه من الأمر ; بعد أن يعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم [ ص ] وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود . وهو رحمة لهم من العذاب , لو أنهم كانوا يتذكرون .

الدرس الأول:44 - 51 قصة موسى في القرآن دليل على الوحي

والتعقيب الأول على القصة يدور حول دلالتها على صدق دعوى الوحي . فرسول الله [ ص ] يتلو عليهم تفصيلات الأحداث كما يقصها شاهد العيان ; وما كان حاضر أحداثها , ولكنه الوحي يقصها عليه من لدن عليم خبير , رحمة بقومه أن يصيبهم العذاب بما هم فيه من الشرك (فيقولوا:ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين). .

وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الإمر , وما كنت من الشاهدين . ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر . وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ; ولكنا كنا مرسلين . وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ; ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون . ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم , فيقولوا:ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين . فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا:لولا أوتي مثلما أوتي موسى ! أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ? قالوا:سحران:تظاهرا . وقالوا:إنا بكل كافرون . قل:فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه . إن كنتم صادقين . فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم . ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين . ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون . .

والغربي هو الجانب الغربي للطور الذي جعله الله ميقاتا مع موسى - عليه السلام - بعد أجل محدد . . ثلاثين ليلة , أتمها بعشر . فكانت أربعين ليلة [ على ما ذكر في سورة الأعراف ] وفي هذا الميقات قضي الأمر لموسى في الألواح , لتكون شريعته في بني إسرائيل . وما كان رسول الله [ ص ] شاهدا لهذا الميقات , حتى يعلم نبأه المفصل , كما ورد في القرآن الكريم . وإن بينه وبين هذا الحادث لقرونا من الناس - أي أجيالا متطاولة: (ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر). فتلك دلالة على أن الذي نبأه به هو العليم الخبير , الذي يوحي إليه بالقرآن الكريم .

ولقد تحدث القرآن كذلك بأنباء مدين , ومقام موسى - عليه السلام - بها وتلاها رسول الله [ ص ] وما كان مقيما في أهل مدين , يتلقى عنهم أخبار هذه الفترة بمثل ذلك التفصيل الذي جاءت فيه: (ولكنا كنا مرسلين)بهذا القرآن وما فيه من أنباء السابقين .

كذلك صور القرآن موقف المناداة والمناجاة من جانب الطور بدقة وعمق: (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا)وما سمع رسول الله [ ص ] النداء , وما سجل في وقتها تفصيلاته . ولكنها رحمة الله بقومه هؤلاء , أن قص عليه تلك الأنباء الدالة على صدقه [ ص ] فيما يدعوهم إليه , لينذر هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله - فقد كانت الرسالات في بني إسرائيل من حولهم , ولم يرسل إليهم رسول منذ أمد طويل , منذ أبيهم إسماعيل: (لعلهم يتذكرون).

فهي رحمة الله بالقوم . وهي حجته كذلك عليهم , كي لا يعتذروا بأنهم أخذوا على غرة , وأنهم لم ينذروا قبل أخذهم بالعذاب - وما هم فيه من جاهلية وشرك ومعصية يستوجب العذاب - فأراد الله أن يقطع حجتهم , وأن يعذر إليهم , وأن يقفهم أمام أنفسهم مجردين من كل عائق يعوقهم عن الإيمان:

من الاية 48 الى الاية 50

فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

(ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم , فيقولوا:ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا , فنتبع آياتك , ونكون من المؤمنين !). .

كذلك كانوا سيقولون لو لم يأتهم رسول . ولو لم يكن مع هذا الرسول من الآيات ما يلزم الحجة . ولكنهم حين جاءهم الرسول , ومعه الحق الذي لا مرية فيه لم يتبعوه:

فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا:لولا أوتي مثلما أوتي موسى ! أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ? قالوا:سحران تظاهرا , وقالوا:إن بكل كافرون . .

وهكذا لم يذعنوا للحق , واستمسكوا بالتعلات الباطلة: قالوا:لولا أوتي مثلما أوتي موسى إما من الخوارق المادية , وإما من الألواح التي نزلت عليه جملة , وفيها التوراة كاملة .

ولكنهم لم يكونوا صادقين في حجتهم , ولا مخلصين في اعتراضهم: (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ?)ولقد كان في الجزيرة يهود , وكان معهم التوراة , فلم يؤمن لهم العرب , ولم يصدقوا بما بين أيديهم من التوراة . ولقد علموا أن صفة محمد [ ص ] مكتوبة في التوراة , واستفتوا بعض أهل الكتاب فيما جاءهم به فأفتوهم بما يفيد أنه الحق , وأنه مطابق لما بين أيديهم من الكتاب ; فلم يذعنوا لهذا كله , وادعوا أن التوراة سحر , وأن القرآن سحر , وأنهما من أجل هذا يتطابقان , ويصدق أحدهما الآخر:

(قالوا:سحران تظاهرا . وقالوا:إنا بكل كافرون)!

فهو المراء إذن واللجاجة , لا طلب الحق ولا نقصان البراهين , ولا ضعف الدليل .

ومع هذا فهو يسير معهم خطوة أخرى في الإفحام والإحراج . يقول لهم:إن لم يكن يعجبكم القرآن , ولم تكن تعجبكم التوراة ; فإن كان عندكم من كتب الله ما هو أهدى من التوراة والقرآن فأتوا به أتبعه:

(قل:فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه . إن كنتم صادقين)!

وهذه نهاية الإنصاف , وغاية المطاولة بالحجة , فمن لم يجنح إلى الحق بعد هذا فهو ذو الهوى المكابر , الذي لا يستند إلى دليل:

(فإن لم يستجيبوا لك , فاعلم أنما يتبعون أهواءهم . ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .

إن الحق في هذا القرآن لبين ; وإن حجة هذا الدين لواضحة , فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده . وإنهما لطريقان لا ثالث لهما:إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى , وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم . وإما مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق . ولا حجة من غموض في العقيدة , أو ضعف في الحجة , أو نقص في الدليل . كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون .

(فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم). .

وهكذا جزما وقطعا . كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها . . إن الذين لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين . متجنون لا حجة لهم ولامعذرة , متبعون للهوى , معرضون عن الحق الواضح:

(ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ?). .

وهم في هذا ظالمون باغون:

(إن الله لا يهدي القوم الظالمين).
من الاية 51 الى الاية 51

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)

إن هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن , ولم يحيطوا علما بهذا الدين . فما هو إلا أن يصل إليهم , ويعرض عليهم , حتى تقوم الحجة , وينقطع الجدل , وتسقط المعذرة . فهو بذاته واضح واضح , لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه , ولا يكذب به إلا متجن يظلم نفسه , ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله . (إن الله لا يهدي القوم الظالمين).

ولقد انقطع عذرهم بوصول الحق إليهم , وعرضه عليهم , فلم يعد لهم من حجة ولا دليل . .

(ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون). .

الدرس الثاني:52 ثناء على مؤمنين صالحين

وحين تنتهي هذه الجولة , فيتبين منها التواؤهم ومراؤهم , يأخذ معهم في جولة أخرى تعرض عليهم صورة من استقامة الطبع وخلوص النية . تتجلى هذه الصورة في فريق من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم , وطريقة استقبالهم للقرآن المصدق لما بين أيديهم:

الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ; وإذا يتلى عليهم قالوا:آمنا به , إنه الحق من ربنا , إنا كنا من قبله مسلمين . أؤلئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا , ويدرأون بالحسنة السيئة , ومما رزقناهم ينفقون ; وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه , وقالوا:لنا أعمالنا , ولكم أعمالكم , سلام عليكم , لا نبتغي الجاهلين . .

قال سعيد بن جبير - رضي الله عنه - نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي , فلما قدموا على النبي [ ص ] قرأ عليهم:"(يس والقرآن الحكيم)حتى ختمها , فجعلوا يبكون وأسلموا ; ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . . . إلخ " . . .

وروى محمد بن إسحاق في السيرة:" ثم قدم على رسول الله [ ص ] وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى , حين بلغهم خبره من الحبشة , فوجدوه في المسجد , فجلسوا إليه وكلموه , وسألوه , ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة , فلما فرغوا من مساءلة النبي [ ص ] عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى , وتلا عليهم القرآن . فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع , ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره . فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام , في نفر من قريش , فقالوا لهم:خيبكم الله من ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل , فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ? ما نعلم ركبا أحمق منكم ! فقالوا لهم:سلام عليكم لا نجاهلكم , لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه , لم نأل أنفسنا خيرا " .

قال:ويقال:إن النفر النصارى من أهل نجران . فالله أعلم أي ذلك كان . قال:ويقال والله أعلم:إن فيهم نزلت هذه الآيات: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . . . إلخ .

قال:وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت ? قال:ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه - رضي الله عنه - والآيات اللاتي في سورة المائدة: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا . . . إلى قوله - فاكتبنا مع الشاهدين .

وأيا من كان الذين نزلت في أمرهم هذه الآيات , فالقرآن يرد المشركين إلى حادث وقع , يعلمونه ولا ينكرونه . كي يقفهم وجها لوجه أمام نموذج من النفوس الخالصة كيف تتلقى هذا القرآن , وتطمئن إليه , وترى فيه الحق , وتعلم مطابقته لما بين أيديها من الكتاب . ولا يصدها عنه صاد من هوى ولا من كبرياء ; وتحتمل في سبيل الحق
من الاية 52 الى الاية 54

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54)

الذي آمنت به ما يصيبها من أذى وتطاول من الجهلاء , وتصبر على الحق في وجه الأهواء ووجه الإيذاء .

(الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون). .

وهذه إحدى الآيات على صحته , فالكتاب كله من عند الله , فهو متطابق , ومن أوتي أوله عرف الحق في آخره , فاطمأن له , وآمن به , وعلم أنه من عند الله الذي نزل الكتاب كله .

(وإذا يتلى عليهم قالوا:آمنا به . إنه الحق من ربنا . إنا كنا من قبله مسلمين). . .

فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من تلاوته فيعرف الذين عرفوا الحق من قبل أنه من ذلك المعين , وأنه صادر من ذلك المصدر الواحد الذي لا يكذب . (إنه الحق من ربنا). . (إنا كنا من قبله مسلمين). والإسلام لله هو دين المؤمنين بكل دين .

هؤلاء الذين أسلموا لله من قبل , ثم صدقوا بالقرآن بمجرد سماعه:

أؤلئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا . .

الصبر على الإسلام الخالص . إسلام القلب والوجه . ومغالبة الهوى والشهوة . والاستقامة على الدين في الأولى والآخرة . أولئك يؤتون أجرهم مرتين , جزاء على ذلك الصبر , وهو عسير على النفوس , وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة والالتواء والانحراف . وهؤلاء صبروا عليها جميعا , وصبروا على السخرية والإيذاء كما سبقت الرواية , وكما يقع دائما للمستقيمين على دينهم في المجتمعات المنحرفة الضالة الجاهلة في كل زمان ومكان:

ويدرأون بالحسنة السيئة . .

وهذا هو الصبر كذلك . وهو أشد مؤنة من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية . إنه الاستعلاء على كبرياء النفس , ورغبتها في دفع السخرية , ورد الأذى , والشفاء من الغيظ , والبرد بالانتقام ! ثم درجة أخرى بعد ذلك كله . درجة السماحة الراضية . التي ترد القبيح بالجميل وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء وبالرحمة والإحسان ; وهو أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم ويرضونه , فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين .

(ومما رزقناهم ينفقون). .

وكأنما أراد أن يذكر سماحة نفوسهم بالمال , عقب ذكره لسماحة نفوسهم بالإحسان . فهما من منبع واحد:منبع الاستعلاء على شهوة النفس , والاعتزاز بما هو أكبر من قيم الأرض . الأولى في النفس , والثانية في المال . وكثيرا ما يردان متلازمين في القرآن .

وصفة أخرى من صفة النفوس المؤمنة الصابرة على الإسلام الخالصة للعقيدة:

وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه , وقالوا:لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . سلام عليكم لانبتغي الجاهلين . .

واللغو فارغ الحديث , الذي لا طائل تحته , ولا حاصل وراءه . وهو الهذر الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب أو العقل زادا جديدا , ولا معرفة مفيدة . وهو البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان , سواء:أوجه إلى مخاطب أم حكي عن غائب .

والقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو , ولا تستمع إلى ذاك الهذر , ولا تعنى بهذا البذاء . فهي مشغولة بتكاليف الإيمان , مرتفعة بأشواقه , متطهرة بنوره:

(وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه).
من الاية 55 الى الاية 56

وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

ولكنهم لا يهتاجون ولا يغتاظون ولا يجارون أهل اللغو فيردون عليهم بمثله , ولا يدخلون معهم في جدل حوله , لأن الجدل مع أهل اللغو لغو ; إنما يتركونهم في موادعة وسلام .

(وقالوا:لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . سلام عليكم). .

هكذا في أدب , وفي دعاء بالخير , وفي رغبة في الهداية . . مع عدم الرغبة في المشاركة:

(لا نبتغي الجاهلين). .

ولا نريد أن ننفق معهم وقتنا الثمين , ولا أن نجاريهم في لغوهم أو نسمع إليه صامتين ! .

إنها صورة وضيئة للنفس المؤمنة المطمئنة إلى إيمانها . تفيض بالترفع عن اللغو . كما تفيض بالسماحة والود . وترسم لمن يريد أن يتأدب بأدب الله طريقه واضحا لا لبس فيه . فلا مشاركة للجهال , ولا مخاصمة لهم , ولا موجدة عليهم , ولا ضيق بهم . إنما هو الترفع والسماحة وحب الخير حتى للجارم المسيء .

الدرس الثالث:56 الهداية بين قدر الله واختيار الإنسان

هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لم يزد الرسول [ ص ] في جهاده معهم للإيمان على أن يتلو عليهم القرآن . ووراءه من قومه من جهد جهده ليؤمن ; ومن أحب بكل نفسه أن يهديه للإسلام . فلم يقدر الله له ذلك لأمر يعلمه من نفسه . وما كان النبي [ ص ] ليهدي من يحب . إنما يهدي الله من يعلم من نفسه ما يستحق به الهدى ومن هو مستعد للإيمان . .

(إنك لا تهدي من أحببت , ولكن الله يهدي من يشاء . وهو أعلم بالمهتدين). .

ورد في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي [ ص ] وقد كان يحوطه وينصره , ويقف دونه في وجه قريش , ويحميه حتى يبلغ دعوته , ويحتمل في سبيل ذلك مقاطعة قريش له ولبني هاشم وحصارهم في الشعب . ولكنه إنما يفعل ذلك كله حبا لابن أخيه , وحمية وإباء ونخوة . فلما حضرته الوفاة دعاه رسول الله [ ص ] إلى الإيمان والدخول في الإسلام , فلم يكتب الله له هذا , لما يعلمه سبحانه من أمره . .

قال الزهري:حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن المخزومي - رضي الله عنه - قال:لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله [ ص ] فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدالله بن أمية ابن المغيرة . فقال رسول الله [ ص ]:" يا عم قل:لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبدالله بن أمية:يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ? فلم يزل رسول الله [ ص ] يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال:على ملة عبد المطلب . وأبى أن يقول:لا إله إلا الله . فقال رسول الله [ ص ]:" والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى). وأنزل في أبي طالب: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) . . [ أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ] .

ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال":لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله [ ص ] فقال:" يا عماه . قل:لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة " فقال:لولا أن تعيرني بها قريش يقولون:ما حمله عليها إلا جزع الموت لأقررت بها عينك . لا أقولها إلا لأقر بها عينك " . ونزل قول الله تعالىSadإنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).

من الاية 57 الى الاية 58

وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)

وروى عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب . وكان آخر ما قاله:هو على ملة عبد المطلب .

وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذا بصرامة هذا الدين واستقامته . فهذا عم رسول الله [ ص ] وكافله وحاميه والذائد عنه , لا يكتب الله له الإيمان , على شدة حبه لرسول الله [ ص ] وشدة حب رسول الله له أن يؤمن . ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة , ولم يقصد إلى العقيدة . وقد علم الله هذا منه , فلم يقدر له ما كان يحبه له رسول الله [ ص ] ويرجوه . فأخرج هذا الأمر - أمر الهداية - من حصة رسول الله [ ص ] وجعله خاصا بإرادته سبحانه وتقديره . وما على الرسول إلا البلاغ . وما على الداعين بعده إلا النصيحة . والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن , والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد واستعدادهم للهدى أو للضلال .

الدرس الرابع:57 - 61 أمن قريش في مكة ولفت نظرهم لمصارع السابقين

والآن يجيء السياق إلى قولتهم التي قالوها للرسول [ ص ] معتذرين عن اتباعه مخافة أن يفقدوا سلطانهم على قبائل العرب المجاورة , التي تعظم الكعبة , وتدين لسدنتها , وتعظم أصنامها , فتتخطفهم تلك القبائل , أو يتخطفهم أعداؤهم من وراء شبه الجزيرة دون أن تساندهم هذه القبائل . فيبين لهم أين يكون الأمن وأين يكون الخوف من واقعهم التاريخي , ومن حاضرهم الذي يشهدونه , بعدما أبان لهم في هذه السورة عن ذلك في قصة موسى وفرعون . ويجول معهم جولة في مصارع الغابرين تكشف لهم كذلك عن أسباب الهلاك الحقيقية ممثلة في البطر وقلة الشكر والتكذيب بالرسل والإعراض عن الآيات . ثم جولة أخرى أبعد تكشف عن حقيقة القيم وتبدو فيها ضآلة الحياة الدنيا كلها ومتاعها إلى جوار ما عند الله .

(وقالوا:إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا . أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ? ولكن أكثرهم لا يعلمون . وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها , فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا , وكنا نحن الوارثين . وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا , وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون . وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها , وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ? أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ?). .

إنها النظرة السطحية القريبة , والتصور الأرضي المحدود , هو الذي أوحى لقريش وهو الذي يوحي للناس أن اتباع هدى الله يعرضهم للمخافة , ويغري بهم الأعداء , ويفقدهم العون والنصير , ويعود عليهم بالفقر والبوار:

(وقالوا:إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا). .

فهم لا ينكرون أنه الهدى , ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس . وهم ينسون الله , وينسون أنه وحده الحافظ , وأنه وحده الحامي ; وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله ; وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله . ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم , ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى , ولاختلف تقديرهم للأمور , ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله , وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه . وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة ; وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب . إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه , والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة . فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له . والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة , ويأوي إلى ركن شديد , في واقع الحياة .

إن هدى الله منهج حياة صحيحة . حياة واقعة في هذه الأرض . وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ; ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة . إنما هو يربطهما معا برباط واحد:صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض . ومن ثم يكون الطريق إلى الأخرة . فالدنيا مزرعة الآخرة , وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها . بشرط اتباع هدى الله . والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه .

وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف ; بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة . أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة .

وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه . يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم , ويشفقون من تألب الخصوم عليهم , ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية ! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله [ ص ]: (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا). فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان .

وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم . فمن الذي وهبهم الأمن ? ومن الذي جعل لهم البيت الحرام ? ومن الذي جعل القلوب تهوى إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا ? تتجمع في الحرم من كل أرض , وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة:

(أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ?). .

فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله , والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم ? أفمن أمنهم وهم عصاة , يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة ?!

(ولكن أكثرهم لا يعلمون). .

لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة . ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله .

فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقا , وأن يأمنوا التخطف حقا , فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها:

(وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا , وكنا نحن الوارثين). .

إن بطر النعمة , وعدم الشكر عليها , هو سبب هلاك القرى . وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن ; فليحذروا إذن أن يبطروا , وألا يشكروا , فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها , ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية . .(لم تسكن من بعدهم إلا قليلا). وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها , وتروي قصة البطر بالنعمة ; وقد فنى أهلها فلم يعقبوا أحدا , ولم يرثها بعدهم أحد (وكنا نحن الوارثين).

على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل في أمها رسولا . فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده:

(وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا , وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون). .

وحكمة إرسال الرسول في أم القرى - أي كبراها أو عاصمتها - أن تكون مركزا تبلغ منه الرسالة إلى الأطراف فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد . وقد أرسل النبي [ ص ] في مكة أم القرى العربية . فهو

من الاية 59 الى الاية 62

وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (62)

ينذرهم عاقبة المكذبين قبلهم بعد ما جاءهم النذير: (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون). . يكذبون بالآيات عن معرفة وعن يقين !

على أن متاع الحياة الدنيا بكامله , وعرض الحياة الدنيا جميعه , وما مكنهم الله فيه من الأرض , وما وهبهم إياه من الثمرات , وما يتسنى للبشر كلهم طوال هذه الحياة , إن هو إلا شيء ضئيل زهيد , إذا قيس بما عند الله:

(وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها . وما عند الله خير وأبقى . أفلا تعقلون ?).

وهذا هو التقويم الأخير لا لما يخشون فوته من الأمن والأرض والمتاع وحده ; ولا لما يمن به الله عليهم من التمكين والثمار والأمان وحده ; ولا لما وهبه الله للقرى ثم أهلكها بالتبطر فيه وحده . إنما هو التقويم الأخير لكل ما في هذه الحياة الدنيا حتى لو ساغ وحتى لو كمل , وحتى لو دام , فلم يعقبه الهلاك والدمار . إنه كله(متاع الحياة الدنيا وزينتها). . (وما عند الله خير وأبقى)خير في طبيعته وأبقى في مدته .

(أفلا تعقلون ?). .

والمفاضلة بين هذا وذاك تحتاج إلى عقل يدرك طبيعة هذا وذاك . ومن ثم يجيء التعقيب في هذه الصيغة للتنبيه لإعمال العقل في الاختيار !

وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم صفحتي الدنيا والآخرة , ولمن شاء أن يختار:

(أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ?). .

فهذه صفحة من وعده الله وعدا حسنا فوجده في الآخرة حقا وهو لا بد لاقيه . وهذه صفحة من نال متاع الحياة الدنيا القصير الزهيد , ثم ها هو ذا في الآخرة محضر إحضارا للحساب . والتعبير يوحي بالإكراه (من المحضرين)الذين يجاء بهم مكرهين خائفين يودون أن لم يكونوا محضرين , لما ينتظرهم من وراء الحساب على ذلك المتاع القصير الزهيد !

وتلك نهاية المطاف في الرد على مقالتهم: (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)فحتى لو كان ذلك كذلك فهو خير من أن يكونوا في الآخرة من المحضرين ! فكيف واتباع هدى الله معه الأمن في الدنيا والتمكين , ومعه العطاء في الآخرة والأمان ? ألا إنه لا يترك هدى الله إذن إلا الغافلون الذين لا يدركون حقيقة القوى في هذا الكون . ولا يعرفون أين تكون المخافة وأين يكون الأمن . وإلا الخاسرون الذين لا يحسنون الاختيار لأنفسهم ولا يتقون البوار .

الدرس الخامس:62 - 67 لقطات لأحوال الكفار يوم القيامة

وعندما يصل بهم إلى الشاطىء الآخر يجول بهم جولة أخرى في مشهد من مشاهد القيامة , يصور مغبة ما هم فيه من الشرك والغواية:

ويوم يناديهم فيقول:أين شركائي الذين كنتم تزعمون ? قال الذين حق عليهم القول:ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا , تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون . وقيل:ادعوا شركاءكم . فدعوهم فلم يستجيبوا لهم , ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون .

ويوم يناديهم فيقول:ماذا أجبتم المرسلين ? فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون . فأما من تاب وآمن وعمل صالحا , فعسى أن يكون من المفلحين . .

والسؤال الأول للتوبيخ والتأنيب:


فلما توهموا عدم الرجعة إلى الله استكبروا في الأرض بغير الحق , وكذبوا بالآيات والنذر [ التي جاء ذكرها في مطلع هذه الحلقة , ووردت بالتفصيل في سور أخرى ] .

(فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم).

هكذا في اختصار حاسم . أخذ شديد ونبذ في اليم . نبذ كما تحذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر . اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع , فكان مأمنا وملجأ . وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة . فالأمن إنما يكون في جناب الله , والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب . (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين). .

فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين . وفيها عبرة للمعتبرين , ونذير للمكذبين . وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر , وفي أقل من نصف سطر !

وفي لمحة أخرى يجتاز الحياة الدنيا ; ويقف بفرعون وجنوده في مشهد عجيب . . يدعون إلى النار , ويقودون إليها الأتباع والأنصار:

(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار). .

فيا بئساها دعوة ! ويا بئساها إمامة !

(ويوم القيامة لا ينصرون). .

فهي الهزيمة في الدنيا , وهي الهزيمة في الآخرة , جزاء البغي والاستطالة . وليست الهزيمة وحدها , إنما هي اللعنة في هذه الأرض , والتقبيح في يوم القيامة:

(وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة , ويوم القيامة هم من المقبوحين).

ولفظة(المقبوحين)ترسم بذاتها صورة القبح والفضيحة والتشنيع , وجو التقزز والاشمئزاز . ذلك في مقابل الاستعلاء والاستكبار في الأرض , وفتنة الناس بالمظهر والجاه , والتطاول على الله وعلى عباد الله .

الدرس السادس:43 إشارة إلى أبعاد رسالة موسى

ويعبر السياق هنا مرحلة الخروج ببني إسرائيل من مصر , وما حدث خلالها من أحداث , ليعجل بعرض نصيب موسى بعد عرض نصيب فرعون:

(ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى , بصائر للناس , وهدى ورحمة , لعلهم يتذكرون). .

هذا نصيب موسى . وهو نصيب عظيم . وهذه عاقبة موسى . وهي عاقبة كريمة . . كتاب من الله يبصر الناس كأنه بصائرهم التي بها يهتدون , (وهدى ورحمة). . (لعلهم يتذكرون). . يتذكرون كيف تتدخل يد القدرة بين الطغاة والمستضعفين , فتختم للطغاة بالهلاك والتدمير , وتختم للمظلومين بالخير والتمكين .

وهكذا تنتهي قصة موسى وفرعون في هذه السورة . شاهدة بأن الأمن لا يكون إلا في جانب الله . وأن المخافة لا تكون إلا في البعد عن الله . ذلك إلى تدخل يد القدرة سافرة متحدية للطغيان والطغاة , حين تصبح القوة فتنة
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى