منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سوره النمل ايه رقم 1 الى ايه الاية 37 الشيخ سيدقطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سوره النمل ايه رقم 1 الى ايه الاية 37 الشيخ سيدقطب Empty تفسير سوره النمل ايه رقم 1 الى ايه الاية 37 الشيخ سيدقطب

مُساهمة  كمال العطار الأربعاء مايو 30, 2012 4:10 am

من الاية 1 الى الاية 16

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (Cool يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)

سورة النمل

الوحدة الأولى:1 - 6 الموضوع:إثبات مصدر القرآن وأهم صفات المؤمنين مقدمة سورة النمل

هذه السورة مكية نزلت بعد الشعراء ; وهي تمضي على نسقها في الأداء:مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه ; وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع , ويؤكده , ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتى الأمم , للعبرة والتدبر في سنن الله وسنن الدعوات .

وموضوع السورة الرئيسي - كسائر السور المكية - هو العقيدة:الإيمان بالله , وعبادته وحده , والإيمان بالآخرة , وما فيها من ثواب وعقاب . والإيمان بالوحي وأن الغيب كله لله , لا يعلمه سواه . والإيمان بأن الله هو الخالق الرازق واهب النعم ; وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر . والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله , وأن لا حول ولا قوة إلا بالله .

ويأتي القصص لتثبيت هذه المعاني ; وتصوير عاقبة المكذبين بها , وعاقبة المؤمنين .

تأتي حلقة من قصة موسى - عليه السلام - تلي مقدمة السورة . حلقة رؤيته النار وذهابه إليها , وندائه من الملأ الأعلى , وتكليفه الرسالة إلى فرعون وملئه . ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله وهم على يقين من صدقها وعاقبة التكذيب مع اليقين . .(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين). وكذلك شأن المشركين في مكة كان مع آيات القرآن المبين .

وتليها إشارة إلى نعمة الله على دواد وسليمان - عليهما السلام - ثم قصة سليمان مع النملة , ومع الهدهد ,ومع ملكة سبأ وقومها . وفيها تظهر نعمة الله على داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة . وهي نعمة العلم والملك والنبوة مع تسخير الجن والطير لسليمان . وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول . ويبرز بصفة خاصة استقبال ملكة سبأ وقومها لكتاب سليمان - وهو عبد من عباد الله - واستقبال قريش لكتاب الله . هؤلاء يكذبون ويجحدون . وأولئك يؤمنون ويسلمون . والله هو الذي وهب سليمان ما وهب , وسخر له ما سخر . وهو الذي يملك كل شيء , وهو الذي يعلم كل شيء . وما ملك سليمان وما علمه إلا قطرة من ذلك الفيض الذي لا يغيض .

وتليها قصة صالح مع قومه ثمود . ويبرز فيها تآمر المفسدين منهم عليه وعلى أهله , وتبييتهم قتله ; ثم مكر الله بالقوم , ونجاة صالح والمؤمنين معه , وتدمير ثمود مع المتآمرينSadفتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا). . وقد كانت قريش تتآمر على رسول الله [ ص ] وتبيت له , كما بيتت ثمود لصالح وللمؤمنين .

ويختم القصص بقصة لوط مع قومه . وهمهم بإخراجه من قريتهم هو والمؤمنون معه , بحجة أنهم أناس يتطهرون ! وما كان من عاقبتهم بعد إذ هاجر لوط من بينهم , وتركهم للدمارSadوأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين). . ولقد همت قريش بإخراج الرسول [ ص ] وتآمرت في ذلك قبل هجرته من بين ظهرانيهم بقليل .

فإذا انتهى القصص بدأ التعقيب بقولهSadقل:الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . آلله خير أما يشركون ?). . ثم أخذ يطوف معهم في مشاهد الكون , وفي أغوار النفس . يريهم يد الصانع المدبر الخالق الرازق , الذي يعلم الغيب وحده , وهم إليه راجعون . ثم عرض عليهم أحد أشراط الساعة وبعض مشاهد القيامة , وما ينتظر المكذبين بالساعة في ذلك اليوم العظيم .

ويختم السورة بإيقاع يناسب موضوعها وجوهاSadإنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء , وأمرت أن أكون من المسلمين . وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل:إنما أنا من المنذرين . وقل:الحمد لله . سيريكم آياته فتعرفونها , وما ربك بغافل عما تعملون). .

والتركيز في هذه السورة على العلم . علم الله المطلق بالظاهر والباطن , وعلمه بالغيب خاصة . وآياته الكونية التي يكشفها للناس . والعلم الذي وهبه لداود وسليمان . وتعليم سليمان منطق الطير وتنويهه بهذا التعليم . . ومن ثم يجيء في مقدمة السورةSadوإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم). ويجيء في التعقيب (قل:لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون . بل ادارك علمهم في الآخرة). .(وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون . وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين)ويجيء في الختام: (سيريكم آياته فتعرفونها). . ويجيء في قصة سليمانSadولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا:الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين). . وفي قول سليمان: (يا أيها الناس علمنا منطق الطير). . وفي قول الهدهدSadألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون). وعندما يريد سليمان استحضار عرش الملكة , لا يقدر على إحضاره في غمضة عين عفريت من الجن , إنما يقدر على هذه: (الذي عنده علم من الكتاب).

وهكذا تبرز صفة العلم في جو السورة تظللها بشتى الظلال في سياقها كله من المطلع إلى الختام . ويمضي سياق السورة كله في هذا الظل , حسب تتابعه الذي أسلفنا . فنأخذ في استعراضها تفصيلا .

(طا . سين). . الأحرف المقطعة للتنبيه على المادة الأولية التي تتألف منها السورة والقرآن كله . وهي متاحة لجميع الناطقين بالعربية . وهم يعجزون أن يؤلفوا منها كتابا كهذا القرآن , بعد التحدي والإفحام . .

ويلي ذلك التنبيه ذكر القرآن:

(تلك آيات القرآن وكتاب مبين). .

والكتاب هو نفسه القرآن . وذكره بهذه الصفة هنا يبدو لنا أنه للموازنة الخفية بين استقبال المشركين للكتاب المنزل عليهم من عند الله ; واستقبال ملكة سبأ وقومها للكتاب الذي أرسله إليهم سليمان . وهو عبد من عباد الله .

ثم يصف القرآن أو يصف الكتاب بأنه:

(هدى وبشرى للمؤمنين). .

وهذه أبلغ مما لو قيل:فيه هدى وبشرى للمؤمنين . فالتعبير القرآني على هذا النحو يجعل مادة القرآن وماهيته هدى وبشرى للمؤمنين . والقرآن يمنح المؤمنين هدى في كل فج , وهدى في كل طريق . كما يطلع عليهم بالبشري في الحياتين الأولى والآخرة .

وفي تخصيص المؤمنين بالهدى والبشرى تكمن حقيقة ضخمة عميقة . . إن القرآن ليس كتاب علم نظري أو تطبيقي ينتفع به كل من يقرؤه ويستوعب ما فيه . إنما القرآن كتاب يخاطب القلب , أول ما يخاطب ; ويسكب نوره وعطره في القلب المفتوح , الذي يتلقاه بالإيمان واليقين . وكلما كان القلب نديا بالإيمان زاد تذوقه لحلاوة القرآن ; وأدرك من معانيه وتوجيهاته ما لا يدركه منه القلب الصلد الجاف ; واهتدى بنوره إلى ما لا يهتدي إليه الجاحد الصادف . وانتفع بصحبته ما لا ينتفع القارئ المطموس !

وإن الإنسان ليقرأ الآية أو السورة مرات كثيرة , وهو غافل أو عجول , فلا تنض له بشيء ; وفجأة يشرق النور في قلبه , فتتفتح له عن عوالم ما كانت تخطر له ببال . وتصنع في حياته صنع المعجزة فى تحويلها من منهج إلى منهج , ومن طريق إلى طريق .

وكل النظم والشرائع والآداب التي يتضمنها هذا القرآن , إما تقوم قبل كل شيء على الإيمان . فالذي لا يؤمن قلبه بالله , ولا يتلقى هذا القرآن على أنه وحي من عند الله وعلى أن ما جاء فيه إنما هو المنهج الذي يريده الله . الذي لا يؤمن هذا الإيمان لا يهتدي بالقرآن كما ينبغي ولا يستبشر بما فيه من بشارات .

إن في القرآن كنوزا ضخمة من الهدى والمعرفة والحركة والتوجيه . والإيمان هو مفتاح هذه الكنوز . ولن تفتح كنوز القرآن إلا بمفتاح الإيمان . والذين آمنوا حق الإيمان حققوا الخوارق بهذا القران . فأما حين أصبح القرآن كتابا يترنم المترنمون بأياته , فتصل إلى الآذان , ولا تتعداها إلى القلوب . فإنه لم يصنع شيئا , ولم ينتفع به أحد . . لقد ظل كنزا بلا مفتاح !

والسورة تعرض صفة المؤمنين الذين يجدون القرآن هدى وبشرى . . إنهم هم:

(الذين يقيمون الصلاة , ويؤتون الزكاة , وهم بالآخرة هم يوقنون). .

يقيمون الصلاة . . فيؤدونها حق أدائها , يقظة قلوبهم لموقفهم بين يدي الله , شاعرة أرواحهم بأنهم في حضرة
من الاية 17 الى الاية 18

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)

هبة لدنية منه , بلا محاولة ولا اجتهاد . وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع . و هو خالق هذه الأنواع !

على أن هذا كله لم يكن إلا شقا واحدا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان . أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته , وطوع أمره , كجنوده من الإنس سواء بسواء . والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكا خاصا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير .

يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم . وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز . .

حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه , ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان ; وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام . وإنها خاضعة - كحلقة مفردة - للناموس العام , الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به .

وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم , هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين , منذ أن وجدت الهداهد . وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول . ومهما بلغ التحوير فيه , فهو لا يخرج من نوعه , ليرتقي إلى نوع آخر . . وإن هذا - كما يبدو - طرف من سنة الله في الخلق , ومن الناموس العام المنسق للكون .

ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عندما يريدها الله خالق السنن والنواميس . وقد تكون الخارقة ذاتها جزءا من الناموس العام , الذي لا نعرف أطرافه . جزءا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله , يخرق المألوف المعهود للبشر , ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام . وهكذا وجد هدهد سليمان , وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان .

ونعود من هذا الاستطراد إلى تفصيل قصة سليمان بعد وراثته لداود وإعلانه ما حباه الله به من علم وتمكين وإفضال

(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون). .

فهذا هو موكب سليمان محشود محشور . يتألف من الجن والإنس والطير . والإنس معروفون , أما الجن فهم خلق لا نعرف عنهم إلا ما قصه الله علينا من أمرهم في القرآن . وهو أنه خلقهم من مارج من نار . أي من لهيب متموج من النار . وأنهم يرون البشر والبشر لا يرونهم (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم)[ الكلام عن إبليس أو الشيطان وإبليس من الجن ] وأنهم قادرون على الوسوسة في صدور الناس بالشر عادة والإيحاء لهم بالمعصية - ولا ندري كيف - وأن منهم طائفة آمنت برسول الله [ ص ] ولم يرهم هو أو يعرف منهم إيمانهم ولكن أخبره الله بذلك إخباراSadقل:أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا:إنا سمعنا قرآنا عجبا , يهدي إلى الرشد فآمنا به , ولن نشرك بربنا أحدا . .)ونعرف أن الله سخر طائفة منهم لسليمان يبنون له المحاريب والتماثيل والجفان الكبيرة للطعام , ويغوصون له في البحر , ويأتمرون بأمره بإذن الله . ومنهم هؤلاء الذين يظهرون هنا في موكبه مع إخوانهم من الإنس والطير .

ونقول:إن الله سخر لسليمان طائفة من الجن وطائفة من والطير كما سخر له طائفة من الإنس . وكما أنه لم يكن كل أهل الأرض من الإنس جندا لسليمان - إذ أن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق إلى ضفة الفرات - فكذلك لم يكن جميع الجن ولا جميع الطير مسخرين له , إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء .

ونستند في مسألة الجن إلى أن إبليس وذريته من الجن كما قال القرآن . . (إن إبليس كان من الجن). . وقال في سورة "الناس"Sadالذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس)وهؤلاء كانوا يزاولون الإغواء والشر والوسوسة للبشر في عهد سليمان . وما كانوا ليزاولوا هذا وهم مسخرون له مقيدون بأمره . وهو نبي يدعو إلى الهدى . فالمفهوم إذن أن طائفة من الجن هي التي كانت مسخرة له .

ونستند في مسألة الطير إلى أن سليمان حين تفقد الطير علم بغيبة الهدهد . ولو كانت جميع الطيور مسخرة له , محشورة في موكبه , ومنها جميع الهداهد , ما استطاع أن يتبين غيبة هدهد واحد من ملايين الهداهد فضلا على بلايين الطير . ولما قال:ما لي لا أرى الهدهد ? فهو إذن هدهد خاص بشخصه وذاته , وقد يكون هو الذي سخر لسليمان من أمة الهداهد , أو يكون صاحب النوبة في ذلك الموكب من المجموعة المحدودة العدد من جنسه . ويعين على هذا ما ظهر من أن ذلك الهدهد موهوب إدراكا خاصا ليس من نوع إدراك الهداهد ولا الطير بصفة عامة . ولا بد أن هذه الهبة كانت للطائفة الخاصة التي سخرت لسليمان . لا لجميع الهداهد وجميع الطيور . فإن نوع الإدراك الذي ظهر من ذلك الهدهد الخاص في مستوى يعادل مستوى العقلاء الأذكياء الأتقياء من الناس !

حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير . وهو موكب عظيم , وحشد كبير , يجمع أوله على آخره (فهم يوزعون)حتى لا يتفرقوا وتشيع فيهم الفوضى . فهو حشد عسكري منظم . يطلق عليه اصطلاح الجنود , إشارة الحشد والتنظيم .

حتى إذا أتوا على وادي النمل . قالت نملة:يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم , لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون . فتبسم ضاحكا من قولها , وقال:رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي , وأن أعمل صالحا ترضاه , وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين . .

لقد سار الموكب . موكب سليمان من الجن والإنس والطير . في ترتيب ونظام , يجمع آخره على أوله , وتضم صفوفه , وتتلاءم خطاه . حتى إذا أتوا على واد كثير النمل , حتى لقد أضافه التعبير إلى النمل فسماه (وادي النمل)قالت نملة . لها صفة الإشراف والتنظيم على النمل السارح في الوادي - ومملكة النمل كمملكة النحل دقيقة التنظيم , تتنوع فيها الوظائف , وتؤدى كلها بنظام عجيب , يعجز البشر غالبا عن اتباع مثله , على ما أوتوا من عقل راق وإدراك عال - قالت هذه النملة للنمل , بالوسيلة التي تتفاهم بها أمة النمل , وباللغة المتعارفة بينها . قالت للنمل:ادخلو ا مساكنكم - كي لا يحطمنكم سليمان وجنوده . وهم لا يشعرون بكم .

فأدرك سليمان ما قالت النملة وهش له وانشرح صدره بإدراك ما قالت , وبمضمون ما قالت . هش لما قالت كما يهش الكبير للصغير الذي يحاول النجاة من أذاه وهو لا يضمر أذاه . وانشرح صدره لإدراكه . فهي نعمة الله عليه تصله بهذه العوالم المحجوبة المعزولة عن الناس لاستغلاق التفاهم بينها وقيام الحواجز . وانشرح صدره له لأنه عجيبة من العجائب أن يكون للنملة هذا الإدراك , وأن يفهم عنها النمل فيطيع !

أدرك سليمان هذا (فتبسم ضاحكا من قولها). . وسرعان ما هزته هذه المشاهدة , وردت قلبه إلى ربه الذي أنعم عليه بنعمة المعرفة الخارقة ; وفتح بينه وبين تلك العوالم المحجوبة المعزولة من خلقه ; واتجه إلى ربه في إنابة يتوسل إليه:

(رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي). .

(رب). . بهذا النداء القريب المباشر المتصل . .(أوزعني)اجمعني كلي . اجمع جوارحي ومشاعري
من الاية 19 الى الاية 19

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

ولساني وجناني وخواطري وخلجاتي , وكلماتي وعباراتي , وأعمالي وتوجهاتي . اجمعني كلي . اجمع طاقاتي كلها . أولها على أخرها وآخرها على أولها [ وهو المدلول اللغوي لكلمة أوزعني ] لتكون كلها في شكر نعمتك علي وعلى والدي . .

وهذا التعبير يشي بنعمة الله التي مست قلب سليمان - عليه السلام - في تلك اللحظة ويصور نوع تأثره , وقوة توجهه , وارتعاشة وجدانه , وهو يستشعر فضل الله الجزيل , ويتمثل يد الله عليه وعلى والديه , ويحس مس النعمة والرحمة في ارتياع وابتهال .

(رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي). . (وأن أعمل صالحا ترضاه). . فالعمل الصالح هو كذلك فضل من الله يوفق إليه من يشكر نعمته , وسليمان الشاكر الذي يستعين ربه ليجمعه ويقفه على شكر نعمته يستعين ربه كذلك ليوفقه إلى عمل صالح يرضاه . وهو يشعر أن العمل الصالح توفيق ونعمة أخرى من الله

. (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين). .

أدخلني برحمتك . . فهو يعلم أن الدخول في عباد الله الصالحين , رحمة من الله , تتدارك العبد فتوفقه إلى العمل الصالح , فيسلك في عداد الصالحين . يعلم هذا , فيضرع إلى ربه أن يكون من المرحومين الموفقين السالكين في هذا الرعيل . يضرع إلى ربه وهو النبي الذي أنعم الله عليه وسخر له الجن والإنس والطير . غير آمن مكر الله - حتى بعد أن اصطفاه . خائفا أن يقصر به عمله , وأن يقصر به شكره . . وكذلك تكون الحساسية المرهفة بتقوى الله وخشيته والتشوق إلى رضاه ورحمته في اللحظة التي تتجلى فيها نعمته كما تجلت والنملة تقول وسليمان يدرك عنها ما تقول بتعليم الله له وفضله عليه .

ونقف هنا أمام خارقتين لا خارقة واحدة . خارقة إدراك سليمان لتحذير النملة لقومها . وخارقة إدراك النملة أن هذا سليمان وجنوده . فأما الأولى فهي مما علمه الله لسليمان . وسليمان إنسان ونبي , فالأمر بالقياس إليه أقرب من الخارقة الأخرى البادية في مقالة النملة . فقد تدرك النملة أن هؤلاء خلق أكبر ; وأنهم يحطمون النمل إذا داسوه . وقد يهرب النمل من الخطر بحكم ما أودع الله فيه من القوى الحافظة للحياة . أما أن تدرك النملة أن هذه الشخوص هي سليمان وجنوده , فتلك هي الخارقة الخاصة التي تخرج على المألوف . وتحسب في عداد الخوارق في مثل هذه الحال .

الدرس الثاني:20 - 44 مشاهد قصة سليمان والهدهد وملكة سبأ

والآن نأتي إلى قصة سليمان مع الهدهد وملكة سبأ وهي مقطعة إلى ستة مشاهد , بينها فجوات فنية , تدرك من المشاهد المعروضة , وتكمل جمال العرض الفني في القصة , وتتخللها تعقيبات على بعض المشاهد تحمل التوجيه الوجداني المقصود بعرضها في السورة ; وتحقق العبرة التي من أجلها يساق القصص في القرآن الكريم . وتتناسق التعقيبات مع المشاهد والفجوات تنسيقا بديعا , من الناحيتين:الفنية الجمالية , والدينية الوجدانية .

ولما كان افتتاح الحديث عن سليمان قد تضمن الإشارة إلى الجن والإنس والطير , كما تضمن الإشارة إلى نعمة العلم , فإن القصة تحتوي دورا لكل من الجن والإنس والطير . ويبرز فيها دور العلم كذلك . وكأنما كانت تلك المقدمة إشارة إلى أصحاب الأدوار الرئيسية في القصة . . وهذه سمة فنية دقيقة في القصص القرآني .

كذلك تتضح السمات الشخصية والمعالم المميزة لشخصيات القصة:شخصية سليمان , وشخصية الملكة ,

من الاية 20 الى الاية 24

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)

وشخصية الهدهد , وشخصية حاشية الملكة . كما تعرض الانفعالات النفسية لهذه الشخصيات في شتى مشاهد القصة ومواقفها .

يبدأ المشهد الأول في مشهد العرض العسكري العام لسليمان وجنوده , بعدما أتوا على وادي النمل , وبعد مقالة النملة , وتوجه سليمان إلى ربه بالشكر والدعاء والإنابة:

وتفقد الطير فقال:مالي لا أرى الهدهد ? أم كان من الغائبين ? لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه , أو ليأتيني بسلطان مبين . .

فها هو ذا الملك النبي . سليمان . في موكبه الفخم الضخم . ها هو ذا يتفقد الطير فلا يجد الهدهد . ونفهم من هذا أنه هدهد خاص , معين في نوبته في هذا العرض . وليس هدهدا ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد . كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته:سمة اليقظة والدقة والحزم . فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن والإنس والطير , الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق وينتكث .

وهو يسأل عنه في صيغة مترفعة مرنة جامعة: (ما لي لا أرى الهدهد ? أم كان من الغائبين ?).

ويتضح أنه غائب , ويعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنه غائب بغير إذن ! وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم , كي لا تكون فوضى . فالأمر بعد سؤال الملك هذا السؤال لم يعد سرا . وإذا لم يؤخذ بالحزم كان سابقة سيئة لبقية الجند . ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف: (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه). . ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض , إنما هو نبي . وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب , فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع منه , ويتبين عذره . . ومن ثم تبرز سمة النبي العادل: أو ليأتيني بسلطان مبين . أي حجة قوية توضح عذره , وتنفي المؤاخذة عنه .

ويسدل الستار على هذا المشهد الأول في القصة [ أو لعله كان ما يزال قائما ] ويحضر الهدهد . ومعه نبأ عظيم , بل مفاجأة ضخمة لسليمان , ولنا نحن الذين نشهد أحداث الرواية الآن !

(فمكث غير بعيد فقال:أحطت بما لم تحط به , وجئتك من سبأ بنبأ يقين . إني وجدت امرأة تملكهم , وأوتيت من كل شيء , ولها عرش عظيم . وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله , وزين لهم الشيطان أعمالهم , فصدهم عن السبيل , فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض , ويعلم ما تخفون وما تعلنون . الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم). .

إنه يعرف حزم الملك وشدته . فهو يبدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته , وتضمن إصغاء الملك له: (أحطت بما لم تحط به , وجئتك من سبأ بنبأ يقين). . فأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له: (أحطت بما لم تحط به)?!

فإذا ضمن إصغاء الملك بعد هذه المفاجأة أخذ في تفصيل النبأ اليقين الذي جاء به من سبأ - ومملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن - فذكر أنه وجدهم تحكمهم امرأة , (أوتيت من كل شيء)وهي كناية عن عظمة ملكها وثرائها وتوافر أسباب الحضارة والقوة والمتاع . (ولها عرش عظيم). أي سرير ملك فخم ضخم , يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة . وذكر أنه وجد الملكة وقومها (يسجدون للشمس من دون الله)وهنا يعلل ضلال القوم بأن الشيطان زين لهم أعمالهم , فأضلهم , فهم لا يهتدون إلى عبادة الله العليم الخبير (الذي يخرج

من الاية 25 الى الاية 31

أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

الخبء في السماوات والأرض). والخبء:المخبوء إجمالا سواء أكان هو مطر السماء ونبات الأرض , أم كان هو أسرار السماوات والأرض . وهي كناية عن كل مخبوء وراء ستار الغيب في الكون العريض . (ويعلم ما تخفون وما تعلنون)وهي مقابلة للخبء في السماوات والأرض بالخبء في أطواء النفس . ما ظهر منه وما بطن .

والهدهد إلى هذه اللحظة يقف موقف المذنب , الذي لم يقض الملك في أمره بعد ; فهو يلمح في ختام النبأ الذي يقصه , إلى الله الملك القهار , رب الجميع , صاحب العرش العظيم , الذي لا تقاس إليه عروش البشر . ذلك كي يطامن الملك من عظمته الإنسانية أمام هذه العظمة الإلهية:

(الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم). .

فيلمس قلب سليمان - في سياق التعقيب على صنع الملكة وقومها - بهذه الإشارة الخفية !

ونجد أنفسنا أمام هدهد عجيب . صاحب إدراك وذكاء وإيمان , وبراعة في عرض النبأ , ويقظة إلى طبيعة موقفه , وتلميح وإيماء أريب . . فهو يدرك أن هذه ملكة وأن هؤلاء رعية . ويدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله . ويدرك أن السجود لا يكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض , وأنه هو رب العرش العظيم . . وما هكذا تدرك الهداهد . إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص , على سبيل الخارقة التي تخالف المألوف .

ولا يتسرع سليمان في تصديقه أو تكذيبه ; ولا يستخفه النبأ العظيم الذي جاءه به . إنما يأخذ في تجربته , للتأكد من صحته . شأن النبي العادل والملك الحازم:

(قال:سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين . اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم , ثم تول عنهم , فانظر ماذا يرجعون).

ولا يعلن في هذا الموقف فحوى الكتاب , فيظل ما فيه مغلقا كالكتاب نفسه , حتى يفتح ويعلن هناك . وتعرض المفاجأة الفنية في موعدها المناسب !

ويسدل الستار على هذا المشهد ليرفع فإذا الملكة وقد وصل إليها الكتاب , وهي تستشير الملأ من قومها في هذا الأمر الخطير:

قالت:يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم . إنه من سليمان , وإنه باسم الله الرحمن الرحيم . ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين . .

فهي تخبرهم أنه ألقي إليها كتاب . ومن هذا نرجح أنها لم تعلم من ألقى إليها الكتاب , ولا كيف ألقاه . ولو كانت تعرف أن الهدهد هو الذي جاء به - كما تقول التفاسير - لأعلنت هذه العجيبة التي لا تقع كل يوم . ولكنها قالت بصيغة المجهول . مما يجعلنا نرجح أنها لم تعلم كيف ألقي إليها ولا من ألقاه .

وهي تصف الكتاب بأنه(كريم). وهذا الوصف ربما خطر لها من خاتمه أو شكله . أو من محتوياته التي أعلنت عنها للملأ: إنه من سليمان , وإنه بسم الله الرحمن الرحيم . ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين . . وهي كانت لا تعبد الله . ولكن صيت سليمان كان ذائعا في هذه الرقعة , ولغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء وحزم وجزم . مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته .

وفحوى الكتاب في غاية البساطة والقوة فهو مبدوء باسم الله الرحمن الرحيم . ومطلوب فيه أمر واحد:

من الاية 32 الى الاية 37

قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)

ألا يستكبروا على مرسله ويستعصوا , وأن يأتوا إليه مستسلمين لله الذي يخاطبهم باسمه .

ألقت الملكة إلى الملأ من قومها بفحوى الكتاب ; ثم استأنفت الحديث تطلب مشورتهم , وتعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر إلا بعد هذه المشورة , برضاهم وموافقتهم:

قالت:يا أيها الملأ أفتوني في أمري ماكنت قاطعة أمرا حتى تشهدون . .

وفي هذا تبدو سمة الملكة الأريبة ; فواضح منذ اللحظة الأولى أنها أخذت بهذا الكتاب الذي ألقي إليها من حيث لا تعلم , والذي يبدو فيه الحزم والاستعلاء . وقد نقلت هذا الأثر إلى نفوس الملأ من قومها وهي تصف الكتاب بأنه(كريم)وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة , ولكنها لا تقول هذا صراحة , إنما تمهد له بذلك الوصف . ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة !

وعلى عادة رجال الحاشية أبدوا استعدادهم للعمل . ولكنهم فوضوا للملكة الرأي:

قالوا:نحن أولو قوة وأولو بأس شديد . والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين .

وهنا تظهر شخصية "المرأة " من وراء شخصية الملكة . المرأة التي تكره الحروب والتدمير , والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة:

قالت:إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها , وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون . وإني مرسله إليهم بهدية فناظره بم يرجع المرسلون !

فهي تعرف أن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية [ والقرية تطلق على المدينة الكبيرة ] أشاعوا فيها الفساد , وأباحوا ذمارها , وانتهكوا حرماتها , وحطموا القوة المدافعة عنها , وعلى رأسها رؤساؤها ; وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة . وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه .

والهدية تلين القلب , وتعلن الود , وقد تفلح في دفع القتال . وهي تجربة . فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا , ووسائل الدنيا إذن تجدي . وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة , الذي لا يصرفه عنه مال , ولا عرض من أعراض هذه الأرض .

ويسدل الستار على المشهد , ليرفع , فإذا مشهد رسل الملكة وهديتهم أمام سليمان . وإذا سليمان ينكر عليهم اتجاههم إلى شرائه بالمال , أو تحويله عن دعوتهم إلى الإسلام . ويعلن في قوة وإصرار تهديده ووعيده الأخير .

(فلما جاء سليمان قال:أتمدونن بمال ? فما آتاني الله خير مما آتاكم . بل أنتم بهديتكم تفرحون . ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها , ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون). .

وفي الرد استهزاء بالمال , واستنكار للاتجاه إليه في مجال غير مجاله . مجال العقيدة والدعوة: (أتمدونن بمال ?)أتقدمون لي هذا العرض التافه الرخيص ? (فما آتاني الله خير مما آتاكم)لقد آتاني من المال خيرا مما لديكم . ولقد آتاني ما هو خير من المال على الإطلاق:العلم والنبوة . وتسخير الجن والطير , فما عاد شيء من عرض الأرض يفرحني (بل أنتم بهديتكم تفرحون). وتهشون لهذا النوع من القيم الرخيصة التي تعني أهل الأرض , الذين لا يتصلون بالله , ولا يتلقون هداياه !

ثم يتبع هذا الاستنكار بالتهديد: ارجع إليهم بالهدية وانتظروا المصير المرهوب: (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها)جنود لم تسخر للبشر في أي مكان , ولا طاقة للملكة وقومها بهم في نضال: (ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون)مدحورون مهزومون .

ال
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى