تفسير سورة الحشر ايه رقم واحد الى ايه 10 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الحشر ايه رقم واحد الى ايه 10 الشيخ سيد قطب
من الاية 1 الى الاية 1
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سورة الحشر
مقدمة لسورة الحشر نزلت هذه السورة في حادث بني النضير - حي من أحياء اليهود - في السنة الرابعة من الهجرة . تصف كيف وقع ? ولماذا وقع ? وما كان في أعقابه من تنظيمات في الجماعة الإسلامية . . ترويها بطريقة القرآن الخاصة , وتعقب على الأحداث والتنظيمات بطريقة القرآن كذلك في تربية تلك الجماعة تربية حية بالأحداث والتوجيهات والتعقيبات .
وقبل أن نستعرض النصوص القرآنية في السورة , نعرض شيئا مما ذكرته الروايات عن ذلك الحادث الذي نزلت السورة بشأنه ; لنرى ميزة العرض القرآني , وبعد آماده وراء الأحداث التي تتنزل بشأنها النصوص , فتفي بمقتضيات الأحداث , وتمتد وراءها وحولها في مجالات أوسع وأشمل من مقتضيات تلك الأحداث المحدودةبالزمان والمكان .
كانت وقعة بني النضير في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب . ومما يذكر عنها أن رسول الله [ ص ] ذهب مع عشرة من كبار أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - إلى محلة بني النضير , يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين بحكم ما كان بينه وبينهم من عهد في أول مقدمه على المدينة . فاستقبله يهود بني النضير بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم , بينما كانوا يدبرون أمرا لاغتيال رسول الله [ ص ] ومن معه . وكان [ ص ] جالسا إلى جدار من بيوتهم . فقال بعضهم لبعض:إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه . فمن رجل منكم يعلو هذا البيت , فيلقي عليه صخرة , فيريحنا منه ? فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب . فقال:أنا لذلك . فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال . فألهم رسول الله [ ص ] ما يبيت اليهود من غدر . فقام كأنما ليقضي أمرا . فلما غاب استبطأه من معه , فخرجوا من المحلة يسألون عنه , فعلموا أنه دخل المدينة .
وأمر رسول الله [ ص ] بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم , ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم . وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف - من بني النضير - في هجاء رسول الله [ ص ] وتأليبه الأعداء عليه . وما قيل من أن كعبا ورهطا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي [ ص ] مع قيام ذلك العهد بينهم وبينه . مما جعل رسول الله [ ص ] يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف . فقتله .
فلما كان التبييت للغدر برسول الله في محلة بني النضير لم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم . وفق القاعدة الإسلاميةوإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين). . فتجهز رسول الله [ ص ] وحاصر محلة بني النضير , وأمهلهم ثلاثة أيام - وقيل عشرة - ليفارقوا جواره ويجلوا عن المحلة على أن يأخذوا أموالهم , ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم . ولكن المنافقين في المدينة - وعلى رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول رأس النفاق - أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة , وقالوا لهم:أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم . وإن قوتلتم قاتلنا معكم , وإن أخرجتم خرجنا معكم .
وفي هذا يقول الله تعالىألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب:لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا , وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون . لئن أخرجوا لا يخرجون معهم , ولئن قوتلوا لا ينصرونهم , ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون . لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله , ذلك بأنهم قوم لا يفقهون . . .).
فتحصن اليهود في الحصون ; فأمر رسول الله [ ص ] بقطع نخيلهم والتحريق فيها . فنادوه:أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه:فما بال قطع النخيل وتحريقها ? وفي الرد عليهم نزل قوله تعالىما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين). .
ولما بلغ الحصار ستا وعشرين ليلة , يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم , وقذف الله في قلوبهم الرعب , فسألوا رسول الله [ ص ] أن يجليهم ويكف عن دمائهم , كما سبق جلاء بني قينقاع - وقد ذكرنا سببه وظروفه في تفسير سورة الأحزاب في الجزء الحادي والعشرين - على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم
من الاية 2 الى الاية 4
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
إلا السلاح . فأجابهم رسول الله [ ص ] فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل . فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه فيحمله على ظهر بعيره ; أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين ; وكان المسلمون قد هدموا وخربوا بعض الجدران التي اتخذت حصونا في أيام الحصار .
وفي هذا يقول الله في هذه السورةهو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله , فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا , وقذف في قلوبهم الرعب , يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين , فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب). .
وكان منهم من سار إلى خيبر , ومنهم من سار إلى الشام . وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق , وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق , وحي بن أخطب , ممن ورد ذكرهم بعد ذلك في تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب ووقعة بني قريظة "في سورة الأحزاب" وكان لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر "في سورة الفتح" .
وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله وللرسول ; لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا جمال . فقسمها رسول الله [ ص ] على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما سهل بن حنيف , وأبو دجانة سماك بن خرشة . وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة وتجردوا منه كله لعقيدتهم . وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية عالية , وأخوة صادقة , وإيثار عجيب . فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله [ ص ] لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع الإسلامي , كي يكون للفقراء مال خاص , وكي لا يكون المال متداولا في الأغنياء وحدهم . ولم يعط من الأنصار إلا الفقيرين اللذين يستحقان لفقرهما . .
وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم - والراجح أنهم من المنافقين - فقال تعالىوما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب , ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير). .
وقال رسول الله [ ص ] للأنصار:" إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة . وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم , ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة " فقالت الأنصار:بل نقسم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها .
وفي هذا نزل قوله تعالى: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا , وينصرون الله ورسوله , أولئك هم الصادقون . والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا , ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .
فهذا هو الحادث الذي نزلت فيه هذه السورة , وتعلقت به نصوصها , بما في ذلك خاتمة السورة التي يتوجه فيها الخطاب للذين آمنوا ممن شهدوا هذا الحادث وممن يعرفونه بعد ذلك . على طريقة القرآن في تربية النفوس بالأحداث وبالتعقيب عليها , وربطها بالحقائق الكلية الكبيرة . . ثم الإيقاع الأخير في السورة بذكر صفات الله الذي يدعو الذين آمنوا ويخاطبهم بهذا القرآن . وهي صفات ذات فاعلية وأثر في هذا الكون ; وعلى أساستصور حقيقتها يقوم الإيمان الواعي المدرك البصير .
وتبدأ السورة وتختتم بتسبيح الله الذي له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم . فيتناسق البدء والختام مع موضوع السورة , ومع دعوة المؤمنين للتقوى والخشوع والتفكر في تدبير الله الحكيم .
والآن نسير مع النصوص القرآنية لنرى كيف تصور الأحداث , وكيف تربي النفوس بهذه الأحداث . .
الدرس الأول:1 تسبيح ما في الوجود لله
(سبح لله ما في السماوات وما في الأرض , وهو العزيز الحكيم). .
بهذه الحقيقة التي وقعت وكانت في الوجود . حقيقة تسبيح كل شيء في السماوات وكل شيء في الأرض لله , واتجاهها إليه بالتنزيه والتمجيد . . تفتتح السورة التي تقص قصة إخراج الله للذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم , وإعطائها للمؤمنين به المسبحين بحمده الممجدين لأسمائه الحسنى . . (وهو العزيز الحكيم). . القوي القادر على نصر أوليائه وسحق أعدائه . . الحكيم في تدبيره وتقديره .
الدرس الثاني:2 - 4 الدعوة للإعتبار مما حدث لبني النضير
ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة:
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا , وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ; فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا , وقذف في قلوبهم الرعب , يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين , فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا , ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله , ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة , توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر ! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون , فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية:
(ما ظننتم أن يخرجوا , وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله). .
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه ! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون !
(فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب).
أتاهم من داخل أنفسهم ! لا من داخل حصونهم ! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب , ففتحوا حصونهم بأيديهم ! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم , ولا يحكمون قلوبهم , ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم ! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمرا . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر , وهو يعلم كل شيء , وهو على كل شيء قدير . فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة , مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه , والوسيلةوالغاية من خلقه ; ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة , ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم . .
ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم , ويمكنون المؤمنين من إخرابها:
(يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين). .
وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب , في تلك الصورة الموحية , وهذه الحركة المصورة . . والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم ; ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة , وعلى إيقاع هذه الحركة:
(فاعتبروا يا أولي الأبصار). .
وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .
والآية التالية تقرر أن إرادة الله في النكاية بهم ما كانت لتعفيهم بأية حالة من نكال يصيبهم في الدنيا غير ما ينتظرهم في الآخرة:
(ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا , ولهم في الآخرة عذاب النار). .
فهو أمر مقرر أن ينالهم النكال من الله . بهذه الصورة التي وقعت أو بصورة أخرى . ولولا أن اختار الله جلاءهم لعذبهم عذابا آخر . غير عذاب النار الذي ينتظرهم هناك . فقد استحقوا عذاب الله في صورة من صوره على كل حال !
(ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله . ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب). .
والمشاقة أن يأخذوا لهم شقا غير شق الله , وجانبا غير جانبه . وقد جعل الله جانبه هو جانب رسوله حين وصف علة استحقاقهم للعذاب في صدر الآية . فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده فهي تشمل مشاقة الرسول وتتضمنها . ثم ليقف المشاقون في ناحية أمام الله - سبحانه - وهو موقف فيه تبجح قبيح , حين يقف المخاليق في وجه الخالق يشاقونه ! وموقف كذلك رعيب , وهذه المخاليق الضئيلة الهزيلة تتعرض لغضب الله وعقابه . وهو شديد العقاب .
وهكذا تستقر في القلوب حقيقة مصائر المشاقين لله في كل أرض وفي كل وقت . من خلال مصير الذين كفروا من أهل الكتاب , وما استحقوا به هذا العقاب .
ولا يفوتنا أن نلحظ تسمية القرآن ليهود بني النضير بأنهم (الذين كفروا من أهل الكتاب)وتكرار هذه الصفة في السورة . فهي حقيقة لأنهم كفروا بدين الله في صورته العليا التي جاء بها محمد [ ص ] وقد كان اليهود ينتظرونها ويتوقعونها . وذكر هذه الصفة في الوقت نفسه يحمل بيانا بسبب التنكيل بهم ; كما أنه يعبئ شعور المسلمين تجاههم تعبئة روحية تطمئن لها قلوبهم فيما فعلوا معهم , وفيما حل بهم من نكال وعذاب على أيديهم . فذكر هذه الحقيقة هنا مقصود ملحوظ !
الدرس الثالث:5 إباحة الحرب الإقتصادية ضد العدو
ثم يطمئن المؤمنين على صواب ما أوقعوه بهؤلاء الذين كفروا وشاقوا الله ورسوله من تقطيع نخيلهم وتحريقه ,
من الاية 5 الى الاية 5
مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
أو تركه كذلك قائما , وبيان حكم الله فيه . وقد دخل نفوس بعض المسلمين شيء من هذا:
(ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله , وليخزي الفاسقين). . واللينة الجيدة من النخل , أو نوع جيد منه معروف للعرب إذ ذاك . وقد قطع المسلمون بعض نخل اليهود , وأبقوا بعضه . فتحرجت صدورهم من الفعل ومن الترك . وكانوا منهيين قبل هذا الحادث وبعده عن مثل هذا الاتجاه في التخريب والتحريق . فاحتاج هذا الاستثناء إلى بيان خاص , يطمئن القلوب . فجاءهم هذا البيان يربط الفعل والترك بإذن الله . فهو الذي تولى بيده هذه الموقعة ; وأراد فيها ما أراد , وأنفذ فيها ما قدره , وكان كل ما وقع من هذا بإذنه . أراد به أن يخزي الفاسقين . وقطع النخيل يخزيهم بالحسرة على قطعه ; وتركه يخزيهم بالحسرة على فوته . وإرادة الله وراء هذا وذاك على السواء .
بذلك تستقر قلوب المؤمنين المتحرجة , وتشفى صدورهم مما حاك فيها , وتطمئن إلى أن الله هو الذي أراد وهو الذي فعل . والله فعال لما يريد . وما كانوا هم إلا أداة لإنفاذ ما يريد .
الدرس الرابع:6 - 10 توزيع الفيء وثلاث فئات للمجتمع الإسلامي المهاجرون والأنصار والخلف
فأما المقطع الثاني في السورة فيقرر حكم الفيء الذي أفاءه الله على رسوله في هذه الوقعة وفيما يماثلها , مما لم يتكلف فيه المسلمون غزوا ولا قتالا . . أي الوقائع التي تولتها يد الله جهرة ومباشرة وبدون ستار من الخلق كهذه الوقعة:
وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب . ولكن الله يسلط رسله على من يشاء , والله على كل شيء قدير . ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم . وما آتاكم الرسول فخذوه . وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله , إن الله شديد العقاب . للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم , يبتغون فضلا من الله ورضوانا , وينصرون الله ورسوله , أولئك هم الصادقون . والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم , ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا , ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . والذين جاءوا من بعدهم يقولون:ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم . .
وهذه الآيات التي تبين حكم الله في هذا الفيء وأمثاله , تحوي في الوقت ذاته وصفا لأحوال الجماعة المسلمة في حينها ; كما تقرر طبيعة الأمة المسلمة على توالي العصور , وخصائصها المميزة التي تترابط بها وتتماسك على مدار الزمان , لا ينفصل فيها جيل عن جيل , ولا قوم عن قوم , ولا نفس عن نفس , في الزمن المتطاول بين أجيالها المتعاقبة في جميع بقاع الأرض . وهي حقيقة ضخمة كبيرة ينبغي الوقوف أمامها طويلا في تدبر عميق . .
(وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب , ولكن الله يسلط رسله على من يشاء , والله على كل شيء قدير).
والإيجاف:الركض والإسراع . والركاب:الجمال . والآية تذكر المسلمين أن هذا الفيء الذي خلفه وراءهم بنو النضير لم يركضوا هم عليه خيلا , ولم يسرعوا إليه ركبا , فحكمه ليس حكم الغنيمة التي أعطاهم الله أربعة أخماسها , واستبقى خمسها فقط لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل , كما حكم الله في غنائم بدر الكبرى . إنما حكم هذا الفيء أنه كله لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . والرسول [ ص ] هو الذي يتصرف فيه كله في هذه الوجوه . وذو القربى المذكورون
من الاية 6 الى الاية 6
وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
في الآيتين هم قرابة رسول الله [ ص ] أن كانت الصدقات لا تحل لهم , فليس لهم في الزكاة نصيب , وأن كان النبي لا يورث فليس لذوي قرابته من ماله شيء . وفيهم الفقراء الذين لا مورد لهم . فجعل لهم من خمس الغنائم نصيبا , كما جعل لهم من هذا الفيء وأمثاله نصيبا . فأما بقية الطوائف والمصارف فأمرها معروف . والرسول [ ص ] هو المتصرف فيها .
هذا هو حكم الفيء تبينه الآيات . ولكنها لا تقتصر على الحكم وعلته القريبة . إنما تفتح القلوب على حقيقة أخرى كبيرة: (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء). . فهو قدر الله . وهم طرف من هذا القدر يسلطه على من يشاء . (والله على كل شيء قدير). .
بهذا يتصل شأن الرسل بقدر الله المباشر ; ويتحدد مكانهم في دولاب القدر الدوار . ويتبين أنهم - ولو أنهم بشر - متصلون بإرادة الله ومشيئته اتصالا خاصا , يجعل لهم دورا معينا في تحقيق قدر الله في الأرض , بإذن الله وتقديره . فما يتحركون بهواهم , وما يأخذون أو يدعون لحسابهم . وما يغزون أو يقعدون , وما يخاصمون أو يصالحون , إلا لتحقيق جانب من قدر الله في الأرض منوط بهم وبتصرفاتهم وتحركاتهم في هذه الأرض . والله هو الفاعل من وراء ذلك كله . وهو على كل شيء قدير . .
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم . وما آتاكم الرسول فخذوه . وما نهاكم عنه فانتهوا . واتقوا الله إن الله شديد العقاب). .
وتبين هذه الآية الحكم الذي أسلفنا تفصيلا . ثم تعلل هذه القسمة فتضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الإقتصادي والإجتماعي في المجتمع الإسلامي: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). . كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). . ولو أن هاتين القاعدتين جاءتا بمناسبة هذا الفيء وتوزيعه , إلا أنهما تتجاوزان هذا الحادث الواقع إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي .
والقاعدة الأولى , قاعدة التنظيم الاقتصادي , تمثل جانبا كبيرا من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام . فالملكية الفردية معترف بها في هذا النظرية . ولكنها محددة بهذه القاعدة . قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء , ممنوعا من التداول بين الفقراء . فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الإغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفا من أهداف التنظيم الاجتماعي كله . وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد .
ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة . ففرض الزكاة . وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفا في المئة من أصل رؤوس الأموال النقدية , وعشرة أو خمسة في المئة من جميع الحاصلات . وما يعادل ذلك في الأنعام . وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي . وهي نسب كبيرة . ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء . وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة - أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها . وجعل للإمام
من الاية 7 الى الاية 7
مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء . وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال . وحرم الاحتكار . وحظر الربا . وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء .
وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيدا أصيلا على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى .
ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية , ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي , كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه , فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار , إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير . نشأ وحده . وسار وحده , وبقي حتى اليوم وحده . نظاما فريدا متوازن الجوانب , متعادل الحقوق والواجبات , متناسقا تناسق الكون كله . مذ كان صدوره عن خالق الكون . والكون متناسق موزون !
فأما القاعدة الثانية - قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). . فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية . فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول [ ص ] قرآنا أو سنة . والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول . فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان , لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان . . وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية , بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات , بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء , وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان . فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول [ ص ] والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها - والإمام نائب عن الأمة في هذا - وفي هذا تنحصر حقوق الأمة . فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع .
فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلا من أصول ما جاء به الرسول . وهذا لا ينقض تلك النظرية , إنما هو فرع عنها . فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص . وألا يخالف أصلا من أصوله فيما لا نص فيه . وتنحصر سلطة الأمة - والإمام النائب عنها - في هذه الحدود . وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية . وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله . وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله . كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون , فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح !
وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرهما الأول . . وهو الله . . فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله: (واتقوا الله إن الله شديد العقاب). . وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه , ولا هروب منه . فقد علم المؤمنون أن الله مطلع على السرائر , خبير بالأعمال , وإليه المرجع والمآب . وعلموا أنه شديد العقاب . وعلموا أنهم مكلفون ألا يكون المال دولة بينهم , وأن يأخذوا ما آتاهم الرسول عن رضى وطاعة , وأن ينتهوا عما نهاهم عنه في غير ترخص ولا تساهل وأمامهم يوم عصيب . .
ولقد كان توزيع ذلك الفيء - فيء بني النضير - على المهاجرين وحدهم عدا رجلين من الأنصار إجراء خاصا بهذا الفيء , تحقيقا لقاعدة: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). . فأما الحكم العام , فهو أن
من الاية 8 الى الاية 9
لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
يكون للفقراء عامة . من المهاجرين ومن الأنصار وممن يأتي بعدهم من الأجيال . وهذا ما تضمنته الآيات التالية في السياق .
ولكن القرآن لا يذكر الأحكام جافة مجردة , إنما يوردها في جو حي يتجاوب فيه الأحياء . ومن ثم أحاط كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث بصفاتها الواقعية الحية التي تصور طبيعتها وحقيقتها ; وتقرر الحكم حيا يتعامل مع هؤلاء الأحياء:
(للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا , وينصرون الله ورسوله , أولئك هم الصادقون). .
وهي صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين . . أخرجوا إخراجا من ديارهم وأموالهم . أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة . لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله . . . وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم (يبتغون فضلا من الله ورضوانا)اعتمادهم على الله في فضله ورضوانه . لا ملجأ لهم سواه , ولا جناب لهم إلا حماه . . وهم مع أنهم مطاردون قليلون (ينصرون الله ورسوله). . بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات وأضيق الأوقات . (أولئك هم الصادقون). . الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم , وصدقوها بعملهم . وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه . وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه . وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض ويراها الناس !
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم , يحبون من هاجر إليهم , ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا , ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات , وبلغت إلى آفاق , لولا أنها وقعت بالفعل , لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول [ ص ] وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم , وتسكن إليه أرواحهم , ويثوبون إليه ويطمئنون له , كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .
(يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا). . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا). . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع , ومن مال يختصون به كهذا الفيء , فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول:حسدا ولا ضيقا . إنما يقولشيئا). مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم , فلا تجد شيئا أصلا .
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .
من الاية 10 الى الاية 10
وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10)
(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه , فقد وقي هذا المعوق عن الخير , فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .
والذين جاءوا من بعدهم , يقولون:ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم . .
وهذه الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية . وهي تبرز أهم ملامح التابعين . كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان .
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار - ولم يكونوا قد جاءوا بعد عند نزول الآية في المدينة , إنما كانوا قد جاءوا في علم الله وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان - سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة , لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوا بالإيمان ; وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق , ممن يربطهم معهم رباط الإيمان . مع الشعور برأفة الله , ورحمته , ودعائه بهذه الرحمة , وتلك الرأفة: (ربنا إنك رؤوف رحيم). .
وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة وصورتها الوضيئة في هذا الوجود . تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها , وآخرها بأولها , في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف . وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب ; وتتفرد وحدها في القلوب , تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة , فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة , كما يذكر أخاه الحي , أو أشد , في إعزاز وكرامة وحب . ويحسب السلف حساب الخلف . ويمضي الخلف على آثار السلف . صفا واحدا وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان , تحت راية الله تغذ السير صعدا إلى الأفق الكريم , متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم .
إنها صورة باهرة , تمثل حقيقة قائمة ; كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم . صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلا إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس . صورة الحقد الذي ينغل في الصدور , وينخر في الضمير , على الطبقات , وعلى أجيال البشرية السابقة , وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم . وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين !
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة , ولا لمسة ولا ظل . صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها ; وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها . صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى الله , بريئة الصدور من الغل , طاهرة القلوب من الحقد , وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين يلقي بعضهم بعضا بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء . حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة . فالصلاة ليست سوى أحبولة , والدين كله ليس إلا فخا ينصبه رأس المال للكادحين !
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم). .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سورة الحشر
مقدمة لسورة الحشر نزلت هذه السورة في حادث بني النضير - حي من أحياء اليهود - في السنة الرابعة من الهجرة . تصف كيف وقع ? ولماذا وقع ? وما كان في أعقابه من تنظيمات في الجماعة الإسلامية . . ترويها بطريقة القرآن الخاصة , وتعقب على الأحداث والتنظيمات بطريقة القرآن كذلك في تربية تلك الجماعة تربية حية بالأحداث والتوجيهات والتعقيبات .
وقبل أن نستعرض النصوص القرآنية في السورة , نعرض شيئا مما ذكرته الروايات عن ذلك الحادث الذي نزلت السورة بشأنه ; لنرى ميزة العرض القرآني , وبعد آماده وراء الأحداث التي تتنزل بشأنها النصوص , فتفي بمقتضيات الأحداث , وتمتد وراءها وحولها في مجالات أوسع وأشمل من مقتضيات تلك الأحداث المحدودةبالزمان والمكان .
كانت وقعة بني النضير في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب . ومما يذكر عنها أن رسول الله [ ص ] ذهب مع عشرة من كبار أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - إلى محلة بني النضير , يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين بحكم ما كان بينه وبينهم من عهد في أول مقدمه على المدينة . فاستقبله يهود بني النضير بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم , بينما كانوا يدبرون أمرا لاغتيال رسول الله [ ص ] ومن معه . وكان [ ص ] جالسا إلى جدار من بيوتهم . فقال بعضهم لبعض:إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه . فمن رجل منكم يعلو هذا البيت , فيلقي عليه صخرة , فيريحنا منه ? فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب . فقال:أنا لذلك . فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال . فألهم رسول الله [ ص ] ما يبيت اليهود من غدر . فقام كأنما ليقضي أمرا . فلما غاب استبطأه من معه , فخرجوا من المحلة يسألون عنه , فعلموا أنه دخل المدينة .
وأمر رسول الله [ ص ] بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم , ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم . وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف - من بني النضير - في هجاء رسول الله [ ص ] وتأليبه الأعداء عليه . وما قيل من أن كعبا ورهطا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي [ ص ] مع قيام ذلك العهد بينهم وبينه . مما جعل رسول الله [ ص ] يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف . فقتله .
فلما كان التبييت للغدر برسول الله في محلة بني النضير لم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم . وفق القاعدة الإسلاميةوإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين). . فتجهز رسول الله [ ص ] وحاصر محلة بني النضير , وأمهلهم ثلاثة أيام - وقيل عشرة - ليفارقوا جواره ويجلوا عن المحلة على أن يأخذوا أموالهم , ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم . ولكن المنافقين في المدينة - وعلى رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول رأس النفاق - أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة , وقالوا لهم:أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم . وإن قوتلتم قاتلنا معكم , وإن أخرجتم خرجنا معكم .
وفي هذا يقول الله تعالىألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب:لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا , وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون . لئن أخرجوا لا يخرجون معهم , ولئن قوتلوا لا ينصرونهم , ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون . لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله , ذلك بأنهم قوم لا يفقهون . . .).
فتحصن اليهود في الحصون ; فأمر رسول الله [ ص ] بقطع نخيلهم والتحريق فيها . فنادوه:أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه:فما بال قطع النخيل وتحريقها ? وفي الرد عليهم نزل قوله تعالىما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين). .
ولما بلغ الحصار ستا وعشرين ليلة , يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم , وقذف الله في قلوبهم الرعب , فسألوا رسول الله [ ص ] أن يجليهم ويكف عن دمائهم , كما سبق جلاء بني قينقاع - وقد ذكرنا سببه وظروفه في تفسير سورة الأحزاب في الجزء الحادي والعشرين - على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم
من الاية 2 الى الاية 4
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
إلا السلاح . فأجابهم رسول الله [ ص ] فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل . فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه فيحمله على ظهر بعيره ; أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين ; وكان المسلمون قد هدموا وخربوا بعض الجدران التي اتخذت حصونا في أيام الحصار .
وفي هذا يقول الله في هذه السورةهو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله , فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا , وقذف في قلوبهم الرعب , يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين , فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب). .
وكان منهم من سار إلى خيبر , ومنهم من سار إلى الشام . وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق , وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق , وحي بن أخطب , ممن ورد ذكرهم بعد ذلك في تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب ووقعة بني قريظة "في سورة الأحزاب" وكان لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر "في سورة الفتح" .
وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله وللرسول ; لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا جمال . فقسمها رسول الله [ ص ] على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما سهل بن حنيف , وأبو دجانة سماك بن خرشة . وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة وتجردوا منه كله لعقيدتهم . وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية عالية , وأخوة صادقة , وإيثار عجيب . فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله [ ص ] لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع الإسلامي , كي يكون للفقراء مال خاص , وكي لا يكون المال متداولا في الأغنياء وحدهم . ولم يعط من الأنصار إلا الفقيرين اللذين يستحقان لفقرهما . .
وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم - والراجح أنهم من المنافقين - فقال تعالىوما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب , ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير). .
وقال رسول الله [ ص ] للأنصار:" إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة . وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم , ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة " فقالت الأنصار:بل نقسم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها .
وفي هذا نزل قوله تعالى: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا , وينصرون الله ورسوله , أولئك هم الصادقون . والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا , ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .
فهذا هو الحادث الذي نزلت فيه هذه السورة , وتعلقت به نصوصها , بما في ذلك خاتمة السورة التي يتوجه فيها الخطاب للذين آمنوا ممن شهدوا هذا الحادث وممن يعرفونه بعد ذلك . على طريقة القرآن في تربية النفوس بالأحداث وبالتعقيب عليها , وربطها بالحقائق الكلية الكبيرة . . ثم الإيقاع الأخير في السورة بذكر صفات الله الذي يدعو الذين آمنوا ويخاطبهم بهذا القرآن . وهي صفات ذات فاعلية وأثر في هذا الكون ; وعلى أساستصور حقيقتها يقوم الإيمان الواعي المدرك البصير .
وتبدأ السورة وتختتم بتسبيح الله الذي له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم . فيتناسق البدء والختام مع موضوع السورة , ومع دعوة المؤمنين للتقوى والخشوع والتفكر في تدبير الله الحكيم .
والآن نسير مع النصوص القرآنية لنرى كيف تصور الأحداث , وكيف تربي النفوس بهذه الأحداث . .
الدرس الأول:1 تسبيح ما في الوجود لله
(سبح لله ما في السماوات وما في الأرض , وهو العزيز الحكيم). .
بهذه الحقيقة التي وقعت وكانت في الوجود . حقيقة تسبيح كل شيء في السماوات وكل شيء في الأرض لله , واتجاهها إليه بالتنزيه والتمجيد . . تفتتح السورة التي تقص قصة إخراج الله للذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم , وإعطائها للمؤمنين به المسبحين بحمده الممجدين لأسمائه الحسنى . . (وهو العزيز الحكيم). . القوي القادر على نصر أوليائه وسحق أعدائه . . الحكيم في تدبيره وتقديره .
الدرس الثاني:2 - 4 الدعوة للإعتبار مما حدث لبني النضير
ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة:
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا , وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ; فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا , وقذف في قلوبهم الرعب , يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين , فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا , ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله , ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة , توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر ! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون , فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية:
(ما ظننتم أن يخرجوا , وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله). .
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه ! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون !
(فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب).
أتاهم من داخل أنفسهم ! لا من داخل حصونهم ! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب , ففتحوا حصونهم بأيديهم ! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم , ولا يحكمون قلوبهم , ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم ! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمرا . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر , وهو يعلم كل شيء , وهو على كل شيء قدير . فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة , مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه , والوسيلةوالغاية من خلقه ; ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة , ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم . .
ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم , ويمكنون المؤمنين من إخرابها:
(يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين). .
وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب , في تلك الصورة الموحية , وهذه الحركة المصورة . . والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم ; ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة , وعلى إيقاع هذه الحركة:
(فاعتبروا يا أولي الأبصار). .
وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .
والآية التالية تقرر أن إرادة الله في النكاية بهم ما كانت لتعفيهم بأية حالة من نكال يصيبهم في الدنيا غير ما ينتظرهم في الآخرة:
(ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا , ولهم في الآخرة عذاب النار). .
فهو أمر مقرر أن ينالهم النكال من الله . بهذه الصورة التي وقعت أو بصورة أخرى . ولولا أن اختار الله جلاءهم لعذبهم عذابا آخر . غير عذاب النار الذي ينتظرهم هناك . فقد استحقوا عذاب الله في صورة من صوره على كل حال !
(ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله . ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب). .
والمشاقة أن يأخذوا لهم شقا غير شق الله , وجانبا غير جانبه . وقد جعل الله جانبه هو جانب رسوله حين وصف علة استحقاقهم للعذاب في صدر الآية . فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده فهي تشمل مشاقة الرسول وتتضمنها . ثم ليقف المشاقون في ناحية أمام الله - سبحانه - وهو موقف فيه تبجح قبيح , حين يقف المخاليق في وجه الخالق يشاقونه ! وموقف كذلك رعيب , وهذه المخاليق الضئيلة الهزيلة تتعرض لغضب الله وعقابه . وهو شديد العقاب .
وهكذا تستقر في القلوب حقيقة مصائر المشاقين لله في كل أرض وفي كل وقت . من خلال مصير الذين كفروا من أهل الكتاب , وما استحقوا به هذا العقاب .
ولا يفوتنا أن نلحظ تسمية القرآن ليهود بني النضير بأنهم (الذين كفروا من أهل الكتاب)وتكرار هذه الصفة في السورة . فهي حقيقة لأنهم كفروا بدين الله في صورته العليا التي جاء بها محمد [ ص ] وقد كان اليهود ينتظرونها ويتوقعونها . وذكر هذه الصفة في الوقت نفسه يحمل بيانا بسبب التنكيل بهم ; كما أنه يعبئ شعور المسلمين تجاههم تعبئة روحية تطمئن لها قلوبهم فيما فعلوا معهم , وفيما حل بهم من نكال وعذاب على أيديهم . فذكر هذه الحقيقة هنا مقصود ملحوظ !
الدرس الثالث:5 إباحة الحرب الإقتصادية ضد العدو
ثم يطمئن المؤمنين على صواب ما أوقعوه بهؤلاء الذين كفروا وشاقوا الله ورسوله من تقطيع نخيلهم وتحريقه ,
من الاية 5 الى الاية 5
مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
أو تركه كذلك قائما , وبيان حكم الله فيه . وقد دخل نفوس بعض المسلمين شيء من هذا:
(ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله , وليخزي الفاسقين). . واللينة الجيدة من النخل , أو نوع جيد منه معروف للعرب إذ ذاك . وقد قطع المسلمون بعض نخل اليهود , وأبقوا بعضه . فتحرجت صدورهم من الفعل ومن الترك . وكانوا منهيين قبل هذا الحادث وبعده عن مثل هذا الاتجاه في التخريب والتحريق . فاحتاج هذا الاستثناء إلى بيان خاص , يطمئن القلوب . فجاءهم هذا البيان يربط الفعل والترك بإذن الله . فهو الذي تولى بيده هذه الموقعة ; وأراد فيها ما أراد , وأنفذ فيها ما قدره , وكان كل ما وقع من هذا بإذنه . أراد به أن يخزي الفاسقين . وقطع النخيل يخزيهم بالحسرة على قطعه ; وتركه يخزيهم بالحسرة على فوته . وإرادة الله وراء هذا وذاك على السواء .
بذلك تستقر قلوب المؤمنين المتحرجة , وتشفى صدورهم مما حاك فيها , وتطمئن إلى أن الله هو الذي أراد وهو الذي فعل . والله فعال لما يريد . وما كانوا هم إلا أداة لإنفاذ ما يريد .
الدرس الرابع:6 - 10 توزيع الفيء وثلاث فئات للمجتمع الإسلامي المهاجرون والأنصار والخلف
فأما المقطع الثاني في السورة فيقرر حكم الفيء الذي أفاءه الله على رسوله في هذه الوقعة وفيما يماثلها , مما لم يتكلف فيه المسلمون غزوا ولا قتالا . . أي الوقائع التي تولتها يد الله جهرة ومباشرة وبدون ستار من الخلق كهذه الوقعة:
وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب . ولكن الله يسلط رسله على من يشاء , والله على كل شيء قدير . ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم . وما آتاكم الرسول فخذوه . وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله , إن الله شديد العقاب . للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم , يبتغون فضلا من الله ورضوانا , وينصرون الله ورسوله , أولئك هم الصادقون . والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم , ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا , ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . والذين جاءوا من بعدهم يقولون:ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم . .
وهذه الآيات التي تبين حكم الله في هذا الفيء وأمثاله , تحوي في الوقت ذاته وصفا لأحوال الجماعة المسلمة في حينها ; كما تقرر طبيعة الأمة المسلمة على توالي العصور , وخصائصها المميزة التي تترابط بها وتتماسك على مدار الزمان , لا ينفصل فيها جيل عن جيل , ولا قوم عن قوم , ولا نفس عن نفس , في الزمن المتطاول بين أجيالها المتعاقبة في جميع بقاع الأرض . وهي حقيقة ضخمة كبيرة ينبغي الوقوف أمامها طويلا في تدبر عميق . .
(وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب , ولكن الله يسلط رسله على من يشاء , والله على كل شيء قدير).
والإيجاف:الركض والإسراع . والركاب:الجمال . والآية تذكر المسلمين أن هذا الفيء الذي خلفه وراءهم بنو النضير لم يركضوا هم عليه خيلا , ولم يسرعوا إليه ركبا , فحكمه ليس حكم الغنيمة التي أعطاهم الله أربعة أخماسها , واستبقى خمسها فقط لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل , كما حكم الله في غنائم بدر الكبرى . إنما حكم هذا الفيء أنه كله لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . والرسول [ ص ] هو الذي يتصرف فيه كله في هذه الوجوه . وذو القربى المذكورون
من الاية 6 الى الاية 6
وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
في الآيتين هم قرابة رسول الله [ ص ] أن كانت الصدقات لا تحل لهم , فليس لهم في الزكاة نصيب , وأن كان النبي لا يورث فليس لذوي قرابته من ماله شيء . وفيهم الفقراء الذين لا مورد لهم . فجعل لهم من خمس الغنائم نصيبا , كما جعل لهم من هذا الفيء وأمثاله نصيبا . فأما بقية الطوائف والمصارف فأمرها معروف . والرسول [ ص ] هو المتصرف فيها .
هذا هو حكم الفيء تبينه الآيات . ولكنها لا تقتصر على الحكم وعلته القريبة . إنما تفتح القلوب على حقيقة أخرى كبيرة: (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء). . فهو قدر الله . وهم طرف من هذا القدر يسلطه على من يشاء . (والله على كل شيء قدير). .
بهذا يتصل شأن الرسل بقدر الله المباشر ; ويتحدد مكانهم في دولاب القدر الدوار . ويتبين أنهم - ولو أنهم بشر - متصلون بإرادة الله ومشيئته اتصالا خاصا , يجعل لهم دورا معينا في تحقيق قدر الله في الأرض , بإذن الله وتقديره . فما يتحركون بهواهم , وما يأخذون أو يدعون لحسابهم . وما يغزون أو يقعدون , وما يخاصمون أو يصالحون , إلا لتحقيق جانب من قدر الله في الأرض منوط بهم وبتصرفاتهم وتحركاتهم في هذه الأرض . والله هو الفاعل من وراء ذلك كله . وهو على كل شيء قدير . .
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم . وما آتاكم الرسول فخذوه . وما نهاكم عنه فانتهوا . واتقوا الله إن الله شديد العقاب). .
وتبين هذه الآية الحكم الذي أسلفنا تفصيلا . ثم تعلل هذه القسمة فتضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الإقتصادي والإجتماعي في المجتمع الإسلامي: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). . كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). . ولو أن هاتين القاعدتين جاءتا بمناسبة هذا الفيء وتوزيعه , إلا أنهما تتجاوزان هذا الحادث الواقع إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي .
والقاعدة الأولى , قاعدة التنظيم الاقتصادي , تمثل جانبا كبيرا من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام . فالملكية الفردية معترف بها في هذا النظرية . ولكنها محددة بهذه القاعدة . قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء , ممنوعا من التداول بين الفقراء . فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الإغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفا من أهداف التنظيم الاجتماعي كله . وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد .
ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة . ففرض الزكاة . وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفا في المئة من أصل رؤوس الأموال النقدية , وعشرة أو خمسة في المئة من جميع الحاصلات . وما يعادل ذلك في الأنعام . وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي . وهي نسب كبيرة . ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء . وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة - أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها . وجعل للإمام
من الاية 7 الى الاية 7
مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء . وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال . وحرم الاحتكار . وحظر الربا . وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء .
وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيدا أصيلا على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى .
ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية , ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي , كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه , فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار , إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير . نشأ وحده . وسار وحده , وبقي حتى اليوم وحده . نظاما فريدا متوازن الجوانب , متعادل الحقوق والواجبات , متناسقا تناسق الكون كله . مذ كان صدوره عن خالق الكون . والكون متناسق موزون !
فأما القاعدة الثانية - قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). . فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية . فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول [ ص ] قرآنا أو سنة . والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول . فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان , لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان . . وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية , بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات , بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء , وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان . فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول [ ص ] والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها - والإمام نائب عن الأمة في هذا - وفي هذا تنحصر حقوق الأمة . فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع .
فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلا من أصول ما جاء به الرسول . وهذا لا ينقض تلك النظرية , إنما هو فرع عنها . فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص . وألا يخالف أصلا من أصوله فيما لا نص فيه . وتنحصر سلطة الأمة - والإمام النائب عنها - في هذه الحدود . وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية . وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله . وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله . كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون , فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح !
وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرهما الأول . . وهو الله . . فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله: (واتقوا الله إن الله شديد العقاب). . وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه , ولا هروب منه . فقد علم المؤمنون أن الله مطلع على السرائر , خبير بالأعمال , وإليه المرجع والمآب . وعلموا أنه شديد العقاب . وعلموا أنهم مكلفون ألا يكون المال دولة بينهم , وأن يأخذوا ما آتاهم الرسول عن رضى وطاعة , وأن ينتهوا عما نهاهم عنه في غير ترخص ولا تساهل وأمامهم يوم عصيب . .
ولقد كان توزيع ذلك الفيء - فيء بني النضير - على المهاجرين وحدهم عدا رجلين من الأنصار إجراء خاصا بهذا الفيء , تحقيقا لقاعدة: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). . فأما الحكم العام , فهو أن
من الاية 8 الى الاية 9
لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
يكون للفقراء عامة . من المهاجرين ومن الأنصار وممن يأتي بعدهم من الأجيال . وهذا ما تضمنته الآيات التالية في السياق .
ولكن القرآن لا يذكر الأحكام جافة مجردة , إنما يوردها في جو حي يتجاوب فيه الأحياء . ومن ثم أحاط كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث بصفاتها الواقعية الحية التي تصور طبيعتها وحقيقتها ; وتقرر الحكم حيا يتعامل مع هؤلاء الأحياء:
(للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا , وينصرون الله ورسوله , أولئك هم الصادقون). .
وهي صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين . . أخرجوا إخراجا من ديارهم وأموالهم . أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة . لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله . . . وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم (يبتغون فضلا من الله ورضوانا)اعتمادهم على الله في فضله ورضوانه . لا ملجأ لهم سواه , ولا جناب لهم إلا حماه . . وهم مع أنهم مطاردون قليلون (ينصرون الله ورسوله). . بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات وأضيق الأوقات . (أولئك هم الصادقون). . الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم , وصدقوها بعملهم . وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه . وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه . وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض ويراها الناس !
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم , يحبون من هاجر إليهم , ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا , ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات , وبلغت إلى آفاق , لولا أنها وقعت بالفعل , لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول [ ص ] وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم , وتسكن إليه أرواحهم , ويثوبون إليه ويطمئنون له , كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .
(يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا). . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا). . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع , ومن مال يختصون به كهذا الفيء , فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول:حسدا ولا ضيقا . إنما يقولشيئا). مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم , فلا تجد شيئا أصلا .
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .
من الاية 10 الى الاية 10
وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10)
(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه , فقد وقي هذا المعوق عن الخير , فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .
والذين جاءوا من بعدهم , يقولون:ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم . .
وهذه الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية . وهي تبرز أهم ملامح التابعين . كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان .
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار - ولم يكونوا قد جاءوا بعد عند نزول الآية في المدينة , إنما كانوا قد جاءوا في علم الله وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان - سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة , لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوا بالإيمان ; وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق , ممن يربطهم معهم رباط الإيمان . مع الشعور برأفة الله , ورحمته , ودعائه بهذه الرحمة , وتلك الرأفة: (ربنا إنك رؤوف رحيم). .
وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة وصورتها الوضيئة في هذا الوجود . تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها , وآخرها بأولها , في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف . وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب ; وتتفرد وحدها في القلوب , تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة , فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة , كما يذكر أخاه الحي , أو أشد , في إعزاز وكرامة وحب . ويحسب السلف حساب الخلف . ويمضي الخلف على آثار السلف . صفا واحدا وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان , تحت راية الله تغذ السير صعدا إلى الأفق الكريم , متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم .
إنها صورة باهرة , تمثل حقيقة قائمة ; كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم . صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلا إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس . صورة الحقد الذي ينغل في الصدور , وينخر في الضمير , على الطبقات , وعلى أجيال البشرية السابقة , وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم . وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين !
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة , ولا لمسة ولا ظل . صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها ; وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها . صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى الله , بريئة الصدور من الغل , طاهرة القلوب من الحقد , وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين يلقي بعضهم بعضا بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء . حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة . فالصلاة ليست سوى أحبولة , والدين كله ليس إلا فخا ينصبه رأس المال للكادحين !
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم). .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الحشر ايه 11 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الفتح ايه رقم واحد الى ايه 10 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الجاثيه ايه رقم واحد الى ايه 22 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة انجم ايه رقم واحد الى 30 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاحقاف ايه رقم واحد الى 14 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الفتح ايه رقم واحد الى ايه 10 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الجاثيه ايه رقم واحد الى ايه 22 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة انجم ايه رقم واحد الى 30 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاحقاف ايه رقم واحد الى 14 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى