تفسير سورة انجم ايه رقم واحد الى 30 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة انجم ايه رقم واحد الى 30 الشيخ سيد قطب
النجم
من الاية 1 الى الاية 14
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
النجم
تعريف لسورة النجم
هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية , منغمة , يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة . ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة ; ويبدو القصد فيه واضحا في بعض المواضع ; وقد زيدت لفظة أو اختيرت قافية , لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه - إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني - مثل ذلك قولهأفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى). . فلو قال ومناة الأخرى ينكسر الوزن . ولو قال:ومناة الثالثة فقط يتعطل إيقاع القافية ولكل كلمة قيمتها في معنى العبارة . ولكن مراعاة الوزن والقافية كذلك ملحوظة . ومثلها كلمة(إذن)في وزن الآيتين بعدها: ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذا قسمة ضيزى ! وكلمة(إذن)ضرورية للوزن . وإن كانت - مع هذا - تؤدي غرضا فنيا في العبارة . . . وهكذا .
ذلك الإيقاع ذو لون موسيقي خاص . لون يلحظ فيه التموج والانسياب . وبخاصة في المقطع الأول والمقطع الأخير من السورة . وهو يتناسق بتموجه وانسيابه مع الصور والظلال الطليقة المرفرفة في المقطع الأول . ومع المعاني واللمسات العلوية في المقطع الأخير . وما بينهما مما هو قريب منهما في الجو والموضوع .
والصور والظلال في المقطع الأول , تشع من المجال العلوي الذي تقع فيه الأحداث النورانية والمشاهد الربانية التي يصفها هذا المقطع . ومن الحركات الطليقة للروح الأمين وهو يتراءى للرسول الكريم . . والصور والظلال والحركات والمشاهد والجو الروحي المصاحب , تستمد وتمد ذلك الإيقاع التعبيري وتمتزج به , وتتناسق معه , وتتراءى فيه , في توافق منغم عجيب .
ثم يعم ذلك العبق جو السورة كله , ويترك آثاره في مقاطعها التالية , حتى تختم بإيقاع موح شديد الإيحاء مؤثر عميق التأثير . ترتعش له كل ذرة في الكيان البشري وترف معه وتستجيب .
وموضوع السورة الذي تعالجه هو موضوع السور المكية على الإطلاق:العقيدة بموضوعاتها الرئيسية:الوحي والوحدانية والآخرة . والسورة تتناول الموضوع من زاوية معينة تتجه إلى بيان صدق الوحي بهذه العقيدة ووثاقته , ووهن عقيدة الشرك وتهافت أساسها الوهمي الموهون !
والمقطع الأول في السورة يستهدف بيان حقيقة الوحي وطبيعته , ويصف مشهدين من مشاهده , ويثبت صحته وواقعيته في ظل هذين المشهدين ; ويؤكد تلقي الرسول [ ص ] عن جبريل - عليه السلام - تلقي رؤية وتمكن ودقة , واطلاعه على آيات ربه الكبرى .
ويتحدث المقطع الثاني عن آلهتهم المدعاة:اللات والعزى ومناة . وأوهامهم عن الملائكة . وأساطيرهم حول بنوتها لله . واعتمادهم في هذا كله على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا . بينما الرسول [ ص ] يدعوهم إلى ما دعاهم إليه عن تثبت ورؤية ويقين .
والمقطع الثالث يلقن الرسول [ ص ] الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويشغل نفسه بالدنيا وحدها , ويقف عند هذا الحد لا يعلم وراءه شيئا . ويشير إلى الآخرة وما فيها من جزاء يقوم على عمل الخلق , وعلى علم الله بهم , منذ أنشأهم من الأرض , ومنذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم . فهو أعلم بهم من أنفسهم , وعلى أساس هذا العلم المستيقن - لا الظن والوهم - يكون حسابهم وجزاؤهم , ويصير أمرهم في نهاية المطاف .
والمقطع الرابع والأخير يستعرض أصول العقيدة - كما هي منذ أقدم الرسالات - من فردية التبعة , ودقة الحساب , وعدالة الجزاء . ومن انتهاء الخلق إلى ربهم المتصرف في أمرهم كله تصرف المشيئة المطلقة . ومع هذا لفتة إلى مصارع الغابرين المكذبين . تختم بالإيقاع الأخيرهذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون , ولا تبكون , وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا). . حيث يلتقي المطلع والختام في الإيحاء والصور والظلال والإيقاع العام .
الدرس الأول:1 - 18 إشارة إلى حادث المعراج
(والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى). .
في هذا المطلع نعيش لحظات في ذلك الأفق الوضيء الطليق المرفرف الذي عاش فيه قلب محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ونرف بأجنحة النور المنطلقة إلى ذلك الملأ الأعلى ; ونستمع إلى الإيقاع الرخي المنساب , في جرس العبارة وفي ظلالها وإيحائها على السواء .
نعيش لحظات مع قلب محمد [ ص ] مكشوفة عنه الحجب , مزاحة عنه الأستار . يتلقى من الملأ الأعلى . يسمع ويرى , ويحفظ ما وعى . وهي لحظات خص بها ذلك القلب المصفى ; ولكن الله يمن على عباده , فيصف لهم هذه اللحظات وصفا موحيا مؤثرا . ينقل أصداءها وظلالها وإيحاءها إلى قلوبهم . يصف لهم رحلة هذا القلب المصفى , في رحاب الملأ الأعلى . يصفها لهم خطوة خطوة , ومشهدا مشهدا , وحالة حالة , حتى لكأنهم كانوا شاهديها .
ويبدأ الوصف الموحي بقسم من الله سبحانهوالنجم إذا هوى). . وحركة تلألؤ النجم ثم هويه ودنوه . أشبه بمشهد جبريل المقسم عليهوهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى). . وهكذا يبدأ التناسق والتوافق في المشهد والحركة والظل والإيقاع منذ اللحظة الاولى .
(والنجم إذا هوى). . وقد رويت تفسيرات مختلفة للنجم المقصود في هذا القسم . وأقرب ما يرد على الذهن أنها إشارة إلى الشعرى , التي كان بعضهم يعبدها . والتي ورد ذكرها في السورة فيما بعد في قولهوأنه هو رب الشعرى). . وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير . ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى . ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها . ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء . فالأقرب أن تكون هذه الإشارة هنا إليها . ويكون اختيار مشهد هوي النجم مقصودا للتناسق الذي أشرنا إليه . ولمعنى آخر هو الإيحاء بأن النجم مهما يكن عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه . فلا يليق أن يكون معبودا . فللمعبود الثبات والارتفاع والدوام .
ذلك هو القسم . فأما المقسم عليه , فهو أمر النبي [ ص ] مع الوحي الذي يحدثهم عنه:
(ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى). .
فصاحبكم راشد غير ضال . مهتد غير غاو . مخلص غير مغرض . مبلغ بالحق عن الحق غير واهم ولا مفتر ولا مبتدع . ولا ناطق عن الهوى فيما يبلغكم من الرسالة . إن هو إلا وحي يوحى . وهو يبلغكم ما يوحى إليه صادقا أمينا .
هذا الوحي معروف حامله . مستيقن طريقه . مشهودة رحلته . رآه الرسول [ ص ] رأي العين والقلب , فلم يكن واهما ولا مخدوعا:
(علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ?). .
والشديد القوي ذو المرة [ أي القوة ] , هو جبريل - عليه السلام - وهو الذي علم صاحبكم ما بلغه إليكم . وهذا هو الطريق , وهذه هي الرحلة , مشهودة بدقائقها:استوى وهو بالأفق الأعلى . حيث رآه محمد [ ص ] وكان ذلك في مبدأ الوحي . حين رآه على صورته التي خلقه الله عليها , يسد الأفق بخلقه الهائل . ثم دنا منه فتدلى نازلا مقتربا إليه . فكان أقرب ما يكون منه . على بعد ما بين القوسين أو أدنى - وهو تعبير عن منتهى القرب - فأوحى إلى عبد الله ما أوحى . بهذا الإجمال والتفخيم والتهويل .
فهي رؤية عن قرب بعد الترائي عن بعد . وهو وحي وتعليم ومشاهدة وتيقن .
وهي حال لا يتأتى معها كذب في الرؤية , ولا تحتمل مماراة أو مجادلةما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ?). . ورؤية الفؤاد أصدق وأثبت , لأنها تنفي خداع النظر . فلقد رأى فتثبت فاستيقن فؤاده أنه الملك , حامل الوحي , رسول ربه إليه , ليعلمه ويكلفه تبليغ ما يعلم . وانتهى المراء والجدال , فما عاد لهما
من الاية 15 الى الاية 18
عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
مكان بعد تثبت القلب ويقين الفؤاد .
وليست هذه هي المرة الوحيدة التي رآه فيها على صورته . فقد تكررت مرة أخرى:
ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى .
وكان ذلك في ليلة الإسراء والمعراج - على الراجح من الروايات - فقد دنا منه - وهو على هيئته التي خلقه الله بها مرة أخرى(عند سدرة المنتهى). . والسدرة كما يعرف من اللفظ شجرة . فأما أنها سدرة المنتهى . فقد يعني هذا أنها التي ينتهي إليها المطاف . فجنة المأوى عندها . أو التي انتهت إليها رحلة المعراج . أو التي انتهت إليها صحبة جبريل لرسول الله [ ص ] حيث وقف هو وصعد محمد [ ص ] درجة أخرى أقرب إلى عرش ربه وأدنى . . وكله غيب من غيب الله , أطلع عليه عبده المصطفى , ولم يرد إلينا عنه إلا هذا . وكله أمر فوق طاقتنا أن ندرك كيفيته . فلا يدركها الإنسان إلا بمشيئة من خالقه وخالق الملائكة , العليم بخصائص الإنسان وخصائص الملائكة . .
ويذكر ما لابس هذه الرؤية عند سدرة المنتهى . زيادة في التوكيد واليقينإذ يغشى السدرة ما يغشى). . مما لا يفصله ولا يحدده . فقد كان أهول وأضخم من الوصف والتحديد .
وكان ذلك كله حقا يقيناما زاغ البصر وما طغى). . فلم يكن زغللة عين , ولا تجاوز رؤية . إنما هي المشاهدة الواضحة المحققة , التي لا تحتمل شكا ولا ظنا . وقد عاين فيها من آيات ربه الكبرى , واتصل قلبه بالحقيقة عارية مباشرة مكشوفة .
فالأمر إذن - أمر الوحي - أمر عيان مشهود . ورؤية محققة . ويقين جازم . واتصال مباشر . ومعرفة مؤكدة . وصحبة محسوسة . ورحلة واقعية . بكل تفصيلاتها ومراجعها . . وعلى هذا اليقين تقوم دعوة(صاحبكم)الذي تنكرون عليه وتكذبونه وتشككون في صدق الوحي إليه . وهو صاحبكم الذي عرفتموه وخبرتموه . وما هو بغريب عنكم فتجهلوه وربه يصدقه ويقسم على صدقه . ويقص عليكم كيف أوحى إليه . وفي أي الظروف . وعلى يد من وكيف لاقاه . وأين رآه !
الدرس الثاني:19 - 28 نقاش المشركين وإبطال الشرك بالله
ذلك هو الأمر المستيقن , الذي يدعوهم إليه محمد [ ص ] فأما هم فعلام يستدنون في عبادتهم وآلهتهم وأساطيرهم ? علام يستندون في عبادتهم لللات والعزى ومناة ? وفي ادعائهم الغامض أنهن ملائكة , وأن الملائكة بنات الله ? وأن لهن شفاعة ترتجى عند الله ? إلى أي بينة ? وإلى أية حجة ? وإلى أي سلطان يرتكنون في هذه الأوهام ? هذا ما يعالجه المقطع الثاني في السورة:
أفرأيتم اللات والعزى , ومناة الثالثة الأخرى . ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذن قسمة ضيزى ! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس , ولقد جاءهم من ربهم الهدى . أم للإنسان ما تمنى ? فلله الآخرة والأولى . وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا َ , إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . وما لهم به من علم , إن يتبعون إلا الظن , وإن الظن لا يغني من الحق شيئا . .
وكانت(اللات)صخرة بيضاء منقوشة , وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة , وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها , يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب عدا قريش لأن عندهم
من الاية 19 الى الاية 23
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)
الكعبة بيت إبراهيم عليه السلام . ويظن ان اسمها [ اللات ] مؤنث لفظ الجلالة "الله" . سبحانه وتعالى .
وكانت [ العزى ] شجرة عليها بناء وأستار بنخلة - وهي بين مكة والطائف - وكانت قريش تعظمها . كما قال أبو سفيان يوم أحد . لنا العزى ولا عزى لكم . فقال رسول الله [ ص ]:" قولوا:الله مولانا ولا مولى لكم " . ويظن أن اسمها [ العزى ] مؤنث(العزيز). .
وكانت [ مناة ] بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة . وكانت خزاعة والاوس والخزرج في جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة .
وكان بالجزيرة كثير من هذه المعبودات تعظمها القبائل المختلفة . ولكن هذه الثلاثة كانت أعظمها .
والمظنون أن هذه المعبودات كانت رموزا لملائكة يعتبرهن العرب إناثا ويقولون:إنهن بنات الله . ومن هنا جاءت عبادتها , والذي يقع غالبا أن ينسى الأصل , ثم تصبح هذه الرموز معبودات بذاتها عند جمهرة العباد . ولا تبقى إلا قلة متنورة هي التي تذكر أصل الأسطورة !
فلما ذكر الله هذه المعبودات الثلاثة معجبا منها ومن عبادتها كما تفيد صيغة السؤال ولفظه:
(أفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى ?). .
والتعجيب والتشهير واضح في افتتاح السؤالأفرأيتم ?)وفي الحديث عن مناة . . الثالثة الأخرى . .
لما ذكر الله هذه المعبودات عقب عليها باستنكار دعواهم أن لله الإناث وأن لهم الذكور:
ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذن قسمة ضيزى . .
مما يوحي بأن لهذه المعبودات صلة بأسطورة أنوثة الملائكة , ونسبتها إلى الله سبحانه . مما يرجح ما ذكرناه عنها . وقد كانوا هم يكرهون ولادة البنات لهم . ومع هذا لم يستحيوا أن يجعلوا الملائكة إناثا - وهم لا يعلمون عنهم شيئا يلزمهم بهذا التصوير . وأن ينسبوا هؤلاء الإناث إلى الله !
والله - سبحانه - يأخذهم هنا بتصوراتهم وأساطيرهم ; ويسخر منها ومنهمألكم الذكر وله الأنثى ?). . إنها إذن قسمة غير عادلة قسمتكم بين أنفسكم وبين الله ! (تلك إذن قسمة ضيزى !). .
والمسألة كلها وهم لا أساس له من العلم ولا من الواقع . ولا حجة فيها ولا دليل:
(إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى)!
هذه الأسماء . اللات . العزى . مناة . . وغيرها . وتسميتها آلهة وتسميتها ملائكة . وتسمية الملائكة إناثا . وتسمية الإناث بنات الله . . . كلها أسماء لا مدلول لها , ولا حقيقة وراءها . ولم يجعل الله لكم حجة فيها . وكل ما لم يقرره الله فلا قوة فيه ولا سلطان له . لأنه لا حقيقة له . وللحقيقة ثقل . وللحقيقة قوة . وللحقيقة سلطان فأما الأباطيل فهي خفيفة لا وزن لها . ضعيفة لا قوة لها . مهينة لا سلطان فيها .
وفي منتصف الآية يتركهم وأوهامهم وأساطيرهم , ويترك خطابهم , ويلتفت عنهم كأنهم لا وجود لهم , ويتحدث عنهم بصيغة الغائب: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس). . فلا حجة ولا علم ولا يقين . إنما هو الظن يقيمون عليه العقيدة , والهوى يستمدون منه الدليل . والعقيدة لا مجال فيها للظن والهوى ; ولا بد فيها من اليقين القاطع والتجرد من الهوى والغرض . . وهم لم يتبعوا الظن والهوى ولهم عذر أو علة: (ولقد جاءهم من ربهم الهدى). . فانقطع العذر وبطل التعلل !
النجم
من الاية 24 الى الاية 28
أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى (27) وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28)
ومتى انتهى الأمر إلى شهوة النفس وهواها فلن يستقيم أمر , ولن يجدي هدى ; لأن العلة هنا ليست خفاء الحق , ولا ضعف الدليل . إنما هي الهوى الجامح الذي يريد , ثم يبحث بعد ذلك عن مبرر لما يريد ! وهي شر حالة تصاب بها النفس فلا ينفعها الهدى , ولا يقنعها الدليل !
ومن ثم يسأل في استنكار:
(أم للإنسان ما تمنى ?). .
فكل ما يتمنى يتحول إلى حقيقة وكل ما يهوى ينقلب إلى واقع ! والأمر ليس كذلك . فإن الحق حق والواقع واقع . وهوى النفس ومناها لا يغيران ولا يبدلان في الحقائق . إنما يضل الإنسان بهواه , ويهلك بمناه . وهو أضعف من أن يغير أو يبدل في طبائع الأشياء . وإنما الأمر كله لله يتصرف فيه كما يشاء في الدنيا وفي الآخرة سواء:
(فلله الآخرة والأولى). .
ولا ننسى أن نلحظ هنا تقديم الآخرة على الأولى . لمراعاة قافية السورة وإيقاعها . إلى جانب النكتة المعنوية المقصودة بتقديم الآخرة على الأولى . كما هي طبيعة الأسلوب القرآني في الجمع بين أداء المعنى وتنغيم الإيقاع . دون إخلال بهذا على حساب ذاك ! شأنه شأن كل ما هو من صنع الله . فالجمال في الكون كله يتناسق مع الوظيفة ويؤاخيها !
وإذا خلص الأمر كله لله في الأخرة والأولى . فإن أوهام المشركين عن شفاعة الآلهة المدعاة - من الملائكة - لهم عند الله . كما قالوا: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى). . إن هذه الأوهام لا أصل لها . فالملائكة الحقة في السماء لا تملك الشفاعة إلا حين يأذن الله في شيء منها:
(وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا . إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى). .
ومن ثم تسقط دعواهم من أساسها , فوق ما فيها من بطلان تولى تفنيده في الآيات السابقة . وتتجرد العقيدة من كل غبش أو شبهة . فالأمر لله في الآخرة والأولى . ومنى الإنسان لا تغير من الحق الواقع شيئا . والشفاعة لا تقبل إلا بإذن من الله ورضى . فالأمر إليه في النهاية . والاتجاه إليه وحده في الآخرة والأولى .
وفي نهاية الفقرة يناقش للمرة الأخيرة أوهام المشركين - الذين لا يؤمنون بالآخرة - عن الملائكة ; ويكشف عن أساسها الواهي , الذي لا ينبغي أن تقوم عليه عقيدة أصلا:
(إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . وما لهم به من علم . إن يتبعون إلا الظن , وإن الظن لا يغني من الحق شيئا). .
وهذا التعقيب الأخير يوحي بعلاقة اللات والعزى ومناة بأسطورة أنوثة الملائكة ونسبتهم إلى الله سبحانه ! وهي أسطورة واهية , لا يتبعون فيها إلا الظن . فليس لهم من وسيلة لأن يعلموا شيئا مستيقنا عن طبيعة الملائكة . فأما نسبتهم إلى الله . فهي الباطل الذي لا دليل عليه إلا الوهم الباطل ! وكل هذا لا يغني من الحق , ولا يقوم مقامه في شيء . الحق الذي يتركونه ويستغنون عنه بالأوهام والظنون !
الدرس الثالث:29 - 42 الإعراض عن الكافرين والحث على التوبة والحساب والعفو
وحين يبلغ إلى هذا الحد من بيان وهن عقيدة الشرك وتهافتها عند الذين لا يؤمنون بالآخرة , ويشركون بالله , وينسبون له البنات ويسمون الملائكة تسمية الأنثى ! يتجه بالخطاب إلى الرسول [ ص ]
من الاية 29 الى الاية 30
فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
ليهمل شأنهم ويعرض عنهم , ويدع أمرهم لله الذي يعلم المسيء والمحسن , ويجزي المهدي والضال , ويملك أمر السماوات والأرض , وأمر الدنيا والآخرة , ويحاسب بالعدل لا يظلم أحدا , ويتجاوز عن الذنوب التي لا يصر عليها فاعلوها . وهو الخبير بالنوايا والطوايا , لأنه خالق البشر المطلع على حقيقتهم في أطوار حياتهم جميعا:
فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا . ذلك مبلغهم من العلم . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى . ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا , ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش - إلا اللمم - إن ربك واسع المغفرة . هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض , وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم . فلا تزكوا أنفسكم . هو أعلم بمن اتقى . .
هذا الأمر بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله , ولم يؤمن بالأخرة , ولم يرد إلا الحياة الدنيا . موجه ابتداء إلى الرسول [ ص ] ليهمل شأن أولئك المشركين الذين سبق الحديث في السورة عن أساطيرهم وأوهامهم وعدم إيمانهم بالآخرة .
وهو موجه بعد ذلك إلى كل مسلم يواجهه من يتولى عن ذكر الله ويعرض عن الإيمان به ; ويجعل وجهته الحياة الدنيا وحدها , لا ينظر إلى شيء وراءها , ولا يؤمن بالآخرة ولا يحسب حسابها . ويرى أن حياة الإنسان على هذه الأرض هي غاية وجوده , لا غاية بعدها ; ويقيم منهجه في الحياة على هذا الاعتبار , فيفصل ضمير الإنسان عن الشعور بإله يدبر أمره , ويحاسبه على عمله , بعد رحلة الأرض المحدودة , وأقرب من تتمثل فيه هذه الصفة في زماننا هذا هم أصحاب المذاهب المادية .
والمؤمن بالله وبالآخرة لا يستطيع أن يشغل باله - فضلا على أن يعامل أو يعايش - من يعرض عن ذكر الله , وينفي الآخرة من حسابه . لأن لكل منهما منهجا في الحياة لا يلتقيان في خطوة واحدة من خطواته , ولا في نقطة واحدة من نقاطه . وجميع مقاييس الحياة , وجميع قيمها , وجميع أهدافها , تحتلف في تصور كل منهما . فلا يمكن إذن أن يتعاونا في الحياة أي تعاون , ولا أن يشتركا في أي نشاط على هذه الأرض . مع هذا الاختلاف الرئيسي في تصور قيم الحياة وأهدافها ومناهج النشاط فيها , وغاية هذا النشاط . وما دام التعاون والمشاركة متعذرين فما داعي الاهتمام والاحتفال ? إن المؤمن يعبث حين يحفل شأن هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله ولا يريدون إلا الحياة الدنيا . وينفق طاقته التي وهبه الله إياها في غير موضعها .
على أن للإعراض اتجاها آخر , هو التهوين من شأن هذه الفئة . فئة الذين لا يؤمنون بالله ; ولا يبتغون شيئا وراء الحياة الدنيا . فمهما كان شأنهم فهم محجوبون عن الحقيقة , قاصرون عن إدراكها , واقفون وراء الأسوار . أسوار الحياة الدنيا . . (ذلك مبلغهم من العلم). وهو مبلغ تافه مهما بدا عظيما . قاصر مهما بدا شاملا . مضلل مهما بدا هاديا . وما يمكن أن يعلم شيئا ذا قيمة من يقف بقلبه وحسه وعقله عند حدود هذه الأرض . ووراءها - حتى في رأي العين - عالم هائل لم يخلق نفسه . ووجوده هكذا أمر ترفضه البداهة . ولم يوجد عبثا متى كان له خالق . وإنه لعبث أن تكون الحياة الدنيا هي نهاية هذا الخلق الهائل وغايته . . فإدراك حقيقة هذا الكون من أي طرف من أطرافها كفيل بالإيمان بالخالق . وكفيل كذلك بالإيمان بالآخرة . نفيا للعبث عن هذا الخالق العظيم الذي يبدع هذا الكون الكبير .
ومن ثم يجب الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويقف عند حدود الدنيا , الإعراض على سبيل صيانةالاهتمام أن يبذل في غير موضعه والإعراض على سبيل التهوين والاحتقار لمن هذا مبلغ علمه . ونحن مأمورون بهذا إن أردنا أن نتلقى أمر الله لنطيعه . لا لنقول كما قالت يهود:سمعنا وعصينا . . والعياذ بالله من هذا !
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى . .
وقد علم أن هؤلاء ضالون . فلم يرد لنبيه ولا للمهتدين من أمته أن يشغلوا أنفسهم بشأن الضالين . ولا أن يصاحبوهم . ولا أن يحفلوهم . ولا أن يخدعوا في ظاهر علمهم المضلل القاصر , الذي يقف عند حدود الحياة الدنيا . ويحول بين الإدراك البشري والحقيقة الخالصة , التي تقود من يدركها إلى الإيمان بالله , والإيمان بالأخرة , وتتخطى به حدود هذه الأرض القريبة , وهذه الحياة الدنيا المحدودة .
وإن العلم الذي يبلغه هؤلاء القاصرون الضالون ليبدو في أعين العوام وأشباههم , عوام القلب والإدراك والحس , شيئا عظيما ذا فاعلية وأثر في واقع الحياة الدنيا . ولكن هذا لا ينفي صفة الضلال عنهم في النهاية , ولا صفة الجهل والقصور . فحقيقة الارتباط بين هذا الوجود وخالقه . وحقيقة الارتباط بين عمل الإنسان وجزائه . هاتان الحقيقتان ضروريتان لكل علم حق . وبدونهما يبقى العلم قشورا لا تؤثر في حياة الإنسان ولا ترقيها ولا ترفعها . وقيمة كل علم مرهونة بأثره في النفس وفي ارتباطات البشر الأدبية . وإلا فهو تقدم في الآلات وانتكاس في الآدميين . وما أبأسه من علم هذا الذي ترتقي فيه الآلات على حساب الآدميين !!!
وشعور الإنسان بأن له خالقا خلقه وخلق هذا الكون كله , وفق ناموس واحد متناسق . يغير من شعوره بالحياة , وشعوره بما حوله وبمن حوله ; ويجعل لوجوده قيمة وهدفا وغاية أكبر وأشمل وارفع , لأن وجوده مرتبط بهذا الكون كله ; فهو أكبر من ذاته المعدودة الأيام . وأكبر من أسرته المعدودة الأفراد وأكبر من قومه , وأكبر من وطنه وأكبر من طبقته التي يطنطن بها أصحاب المذاهب المادية الحديثة . وأرفع من اهتمامات هذه التشكيلات جميعا !
وشعور الإنسان بأن خالقه محاسبه في الآخرة ومجازيه . يغير من تصوراته ومن موازينه ومن حوافزه ومن أهدافه . ويربط الحاسة الأخلاقية في نفسه بمصيره كله , فيزيدها قوة وفاعلية . لأن هلاكه أو نجاته مرهونة بيقظة هذه الحاسة وتأثيرها في نيته وعمله . ومن ثم يقوى "الإنسان" ويسيطر على تصرفات هذا الكائن . لأن الرقيب الحارس قد استيقظ ! ولأن الحساب الختامي ينتظره هناك . ومن الناحية الأخرى فهو مطمئن إلى الخير واثق من انتصاره في الحساب الختامي . حتى لو رآه ينهزم في الأرض في بعض الجولات ! وهو مكلف دائما أن ينصر الخير ويكافح في سبيله سواء هزم في هذه الأرض أم انتصر لأن الجزاء النهائي هناك !
إنها مسألة كبيرة هذا الإيمان بالله والإيمان بالآخرة . مسألة أساسية في حياة البشر . إنها حاجة أكبر من حاجات الطعام والشراب والكساء . وإنها إما أن تكون فيكون "الإنسان" وإما ألا تكون فهو حيوان من ذلك الحيوان !
وحين تفترق المعايير والأهداف والغايات وتصور الحياة كلها هذا الاختلاف , فلا مجال حينئذ إلى مشاركة أو تعامل أو حتى تعارف ينشأ عنه قسط من الاهتمام .
ومن ثم لا يمكن أن تقوم علاقة أو صحبة أو شركة أو تعاون , أو أخذ وعطاء , أو اهتمام واحتفال بين مؤمن بالله , وآخر أعرض عن ذكره ولم يرد إلا الحياة الدنيا . وكل قول غير هذا فهو محال ومراء , يخالف عن أمر اللهفأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا). .
من الاية 1 الى الاية 14
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
النجم
تعريف لسورة النجم
هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية , منغمة , يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة . ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة ; ويبدو القصد فيه واضحا في بعض المواضع ; وقد زيدت لفظة أو اختيرت قافية , لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه - إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني - مثل ذلك قولهأفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى). . فلو قال ومناة الأخرى ينكسر الوزن . ولو قال:ومناة الثالثة فقط يتعطل إيقاع القافية ولكل كلمة قيمتها في معنى العبارة . ولكن مراعاة الوزن والقافية كذلك ملحوظة . ومثلها كلمة(إذن)في وزن الآيتين بعدها: ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذا قسمة ضيزى ! وكلمة(إذن)ضرورية للوزن . وإن كانت - مع هذا - تؤدي غرضا فنيا في العبارة . . . وهكذا .
ذلك الإيقاع ذو لون موسيقي خاص . لون يلحظ فيه التموج والانسياب . وبخاصة في المقطع الأول والمقطع الأخير من السورة . وهو يتناسق بتموجه وانسيابه مع الصور والظلال الطليقة المرفرفة في المقطع الأول . ومع المعاني واللمسات العلوية في المقطع الأخير . وما بينهما مما هو قريب منهما في الجو والموضوع .
والصور والظلال في المقطع الأول , تشع من المجال العلوي الذي تقع فيه الأحداث النورانية والمشاهد الربانية التي يصفها هذا المقطع . ومن الحركات الطليقة للروح الأمين وهو يتراءى للرسول الكريم . . والصور والظلال والحركات والمشاهد والجو الروحي المصاحب , تستمد وتمد ذلك الإيقاع التعبيري وتمتزج به , وتتناسق معه , وتتراءى فيه , في توافق منغم عجيب .
ثم يعم ذلك العبق جو السورة كله , ويترك آثاره في مقاطعها التالية , حتى تختم بإيقاع موح شديد الإيحاء مؤثر عميق التأثير . ترتعش له كل ذرة في الكيان البشري وترف معه وتستجيب .
وموضوع السورة الذي تعالجه هو موضوع السور المكية على الإطلاق:العقيدة بموضوعاتها الرئيسية:الوحي والوحدانية والآخرة . والسورة تتناول الموضوع من زاوية معينة تتجه إلى بيان صدق الوحي بهذه العقيدة ووثاقته , ووهن عقيدة الشرك وتهافت أساسها الوهمي الموهون !
والمقطع الأول في السورة يستهدف بيان حقيقة الوحي وطبيعته , ويصف مشهدين من مشاهده , ويثبت صحته وواقعيته في ظل هذين المشهدين ; ويؤكد تلقي الرسول [ ص ] عن جبريل - عليه السلام - تلقي رؤية وتمكن ودقة , واطلاعه على آيات ربه الكبرى .
ويتحدث المقطع الثاني عن آلهتهم المدعاة:اللات والعزى ومناة . وأوهامهم عن الملائكة . وأساطيرهم حول بنوتها لله . واعتمادهم في هذا كله على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا . بينما الرسول [ ص ] يدعوهم إلى ما دعاهم إليه عن تثبت ورؤية ويقين .
والمقطع الثالث يلقن الرسول [ ص ] الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويشغل نفسه بالدنيا وحدها , ويقف عند هذا الحد لا يعلم وراءه شيئا . ويشير إلى الآخرة وما فيها من جزاء يقوم على عمل الخلق , وعلى علم الله بهم , منذ أنشأهم من الأرض , ومنذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم . فهو أعلم بهم من أنفسهم , وعلى أساس هذا العلم المستيقن - لا الظن والوهم - يكون حسابهم وجزاؤهم , ويصير أمرهم في نهاية المطاف .
والمقطع الرابع والأخير يستعرض أصول العقيدة - كما هي منذ أقدم الرسالات - من فردية التبعة , ودقة الحساب , وعدالة الجزاء . ومن انتهاء الخلق إلى ربهم المتصرف في أمرهم كله تصرف المشيئة المطلقة . ومع هذا لفتة إلى مصارع الغابرين المكذبين . تختم بالإيقاع الأخيرهذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون , ولا تبكون , وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا). . حيث يلتقي المطلع والختام في الإيحاء والصور والظلال والإيقاع العام .
الدرس الأول:1 - 18 إشارة إلى حادث المعراج
(والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى). .
في هذا المطلع نعيش لحظات في ذلك الأفق الوضيء الطليق المرفرف الذي عاش فيه قلب محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ونرف بأجنحة النور المنطلقة إلى ذلك الملأ الأعلى ; ونستمع إلى الإيقاع الرخي المنساب , في جرس العبارة وفي ظلالها وإيحائها على السواء .
نعيش لحظات مع قلب محمد [ ص ] مكشوفة عنه الحجب , مزاحة عنه الأستار . يتلقى من الملأ الأعلى . يسمع ويرى , ويحفظ ما وعى . وهي لحظات خص بها ذلك القلب المصفى ; ولكن الله يمن على عباده , فيصف لهم هذه اللحظات وصفا موحيا مؤثرا . ينقل أصداءها وظلالها وإيحاءها إلى قلوبهم . يصف لهم رحلة هذا القلب المصفى , في رحاب الملأ الأعلى . يصفها لهم خطوة خطوة , ومشهدا مشهدا , وحالة حالة , حتى لكأنهم كانوا شاهديها .
ويبدأ الوصف الموحي بقسم من الله سبحانهوالنجم إذا هوى). . وحركة تلألؤ النجم ثم هويه ودنوه . أشبه بمشهد جبريل المقسم عليهوهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى). . وهكذا يبدأ التناسق والتوافق في المشهد والحركة والظل والإيقاع منذ اللحظة الاولى .
(والنجم إذا هوى). . وقد رويت تفسيرات مختلفة للنجم المقصود في هذا القسم . وأقرب ما يرد على الذهن أنها إشارة إلى الشعرى , التي كان بعضهم يعبدها . والتي ورد ذكرها في السورة فيما بعد في قولهوأنه هو رب الشعرى). . وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير . ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى . ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها . ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء . فالأقرب أن تكون هذه الإشارة هنا إليها . ويكون اختيار مشهد هوي النجم مقصودا للتناسق الذي أشرنا إليه . ولمعنى آخر هو الإيحاء بأن النجم مهما يكن عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه . فلا يليق أن يكون معبودا . فللمعبود الثبات والارتفاع والدوام .
ذلك هو القسم . فأما المقسم عليه , فهو أمر النبي [ ص ] مع الوحي الذي يحدثهم عنه:
(ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى). .
فصاحبكم راشد غير ضال . مهتد غير غاو . مخلص غير مغرض . مبلغ بالحق عن الحق غير واهم ولا مفتر ولا مبتدع . ولا ناطق عن الهوى فيما يبلغكم من الرسالة . إن هو إلا وحي يوحى . وهو يبلغكم ما يوحى إليه صادقا أمينا .
هذا الوحي معروف حامله . مستيقن طريقه . مشهودة رحلته . رآه الرسول [ ص ] رأي العين والقلب , فلم يكن واهما ولا مخدوعا:
(علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ?). .
والشديد القوي ذو المرة [ أي القوة ] , هو جبريل - عليه السلام - وهو الذي علم صاحبكم ما بلغه إليكم . وهذا هو الطريق , وهذه هي الرحلة , مشهودة بدقائقها:استوى وهو بالأفق الأعلى . حيث رآه محمد [ ص ] وكان ذلك في مبدأ الوحي . حين رآه على صورته التي خلقه الله عليها , يسد الأفق بخلقه الهائل . ثم دنا منه فتدلى نازلا مقتربا إليه . فكان أقرب ما يكون منه . على بعد ما بين القوسين أو أدنى - وهو تعبير عن منتهى القرب - فأوحى إلى عبد الله ما أوحى . بهذا الإجمال والتفخيم والتهويل .
فهي رؤية عن قرب بعد الترائي عن بعد . وهو وحي وتعليم ومشاهدة وتيقن .
وهي حال لا يتأتى معها كذب في الرؤية , ولا تحتمل مماراة أو مجادلةما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ?). . ورؤية الفؤاد أصدق وأثبت , لأنها تنفي خداع النظر . فلقد رأى فتثبت فاستيقن فؤاده أنه الملك , حامل الوحي , رسول ربه إليه , ليعلمه ويكلفه تبليغ ما يعلم . وانتهى المراء والجدال , فما عاد لهما
من الاية 15 الى الاية 18
عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
مكان بعد تثبت القلب ويقين الفؤاد .
وليست هذه هي المرة الوحيدة التي رآه فيها على صورته . فقد تكررت مرة أخرى:
ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى .
وكان ذلك في ليلة الإسراء والمعراج - على الراجح من الروايات - فقد دنا منه - وهو على هيئته التي خلقه الله بها مرة أخرى(عند سدرة المنتهى). . والسدرة كما يعرف من اللفظ شجرة . فأما أنها سدرة المنتهى . فقد يعني هذا أنها التي ينتهي إليها المطاف . فجنة المأوى عندها . أو التي انتهت إليها رحلة المعراج . أو التي انتهت إليها صحبة جبريل لرسول الله [ ص ] حيث وقف هو وصعد محمد [ ص ] درجة أخرى أقرب إلى عرش ربه وأدنى . . وكله غيب من غيب الله , أطلع عليه عبده المصطفى , ولم يرد إلينا عنه إلا هذا . وكله أمر فوق طاقتنا أن ندرك كيفيته . فلا يدركها الإنسان إلا بمشيئة من خالقه وخالق الملائكة , العليم بخصائص الإنسان وخصائص الملائكة . .
ويذكر ما لابس هذه الرؤية عند سدرة المنتهى . زيادة في التوكيد واليقينإذ يغشى السدرة ما يغشى). . مما لا يفصله ولا يحدده . فقد كان أهول وأضخم من الوصف والتحديد .
وكان ذلك كله حقا يقيناما زاغ البصر وما طغى). . فلم يكن زغللة عين , ولا تجاوز رؤية . إنما هي المشاهدة الواضحة المحققة , التي لا تحتمل شكا ولا ظنا . وقد عاين فيها من آيات ربه الكبرى , واتصل قلبه بالحقيقة عارية مباشرة مكشوفة .
فالأمر إذن - أمر الوحي - أمر عيان مشهود . ورؤية محققة . ويقين جازم . واتصال مباشر . ومعرفة مؤكدة . وصحبة محسوسة . ورحلة واقعية . بكل تفصيلاتها ومراجعها . . وعلى هذا اليقين تقوم دعوة(صاحبكم)الذي تنكرون عليه وتكذبونه وتشككون في صدق الوحي إليه . وهو صاحبكم الذي عرفتموه وخبرتموه . وما هو بغريب عنكم فتجهلوه وربه يصدقه ويقسم على صدقه . ويقص عليكم كيف أوحى إليه . وفي أي الظروف . وعلى يد من وكيف لاقاه . وأين رآه !
الدرس الثاني:19 - 28 نقاش المشركين وإبطال الشرك بالله
ذلك هو الأمر المستيقن , الذي يدعوهم إليه محمد [ ص ] فأما هم فعلام يستدنون في عبادتهم وآلهتهم وأساطيرهم ? علام يستندون في عبادتهم لللات والعزى ومناة ? وفي ادعائهم الغامض أنهن ملائكة , وأن الملائكة بنات الله ? وأن لهن شفاعة ترتجى عند الله ? إلى أي بينة ? وإلى أية حجة ? وإلى أي سلطان يرتكنون في هذه الأوهام ? هذا ما يعالجه المقطع الثاني في السورة:
أفرأيتم اللات والعزى , ومناة الثالثة الأخرى . ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذن قسمة ضيزى ! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس , ولقد جاءهم من ربهم الهدى . أم للإنسان ما تمنى ? فلله الآخرة والأولى . وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا َ , إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . وما لهم به من علم , إن يتبعون إلا الظن , وإن الظن لا يغني من الحق شيئا . .
وكانت(اللات)صخرة بيضاء منقوشة , وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة , وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها , يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب عدا قريش لأن عندهم
من الاية 19 الى الاية 23
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)
الكعبة بيت إبراهيم عليه السلام . ويظن ان اسمها [ اللات ] مؤنث لفظ الجلالة "الله" . سبحانه وتعالى .
وكانت [ العزى ] شجرة عليها بناء وأستار بنخلة - وهي بين مكة والطائف - وكانت قريش تعظمها . كما قال أبو سفيان يوم أحد . لنا العزى ولا عزى لكم . فقال رسول الله [ ص ]:" قولوا:الله مولانا ولا مولى لكم " . ويظن أن اسمها [ العزى ] مؤنث(العزيز). .
وكانت [ مناة ] بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة . وكانت خزاعة والاوس والخزرج في جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة .
وكان بالجزيرة كثير من هذه المعبودات تعظمها القبائل المختلفة . ولكن هذه الثلاثة كانت أعظمها .
والمظنون أن هذه المعبودات كانت رموزا لملائكة يعتبرهن العرب إناثا ويقولون:إنهن بنات الله . ومن هنا جاءت عبادتها , والذي يقع غالبا أن ينسى الأصل , ثم تصبح هذه الرموز معبودات بذاتها عند جمهرة العباد . ولا تبقى إلا قلة متنورة هي التي تذكر أصل الأسطورة !
فلما ذكر الله هذه المعبودات الثلاثة معجبا منها ومن عبادتها كما تفيد صيغة السؤال ولفظه:
(أفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى ?). .
والتعجيب والتشهير واضح في افتتاح السؤالأفرأيتم ?)وفي الحديث عن مناة . . الثالثة الأخرى . .
لما ذكر الله هذه المعبودات عقب عليها باستنكار دعواهم أن لله الإناث وأن لهم الذكور:
ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذن قسمة ضيزى . .
مما يوحي بأن لهذه المعبودات صلة بأسطورة أنوثة الملائكة , ونسبتها إلى الله سبحانه . مما يرجح ما ذكرناه عنها . وقد كانوا هم يكرهون ولادة البنات لهم . ومع هذا لم يستحيوا أن يجعلوا الملائكة إناثا - وهم لا يعلمون عنهم شيئا يلزمهم بهذا التصوير . وأن ينسبوا هؤلاء الإناث إلى الله !
والله - سبحانه - يأخذهم هنا بتصوراتهم وأساطيرهم ; ويسخر منها ومنهمألكم الذكر وله الأنثى ?). . إنها إذن قسمة غير عادلة قسمتكم بين أنفسكم وبين الله ! (تلك إذن قسمة ضيزى !). .
والمسألة كلها وهم لا أساس له من العلم ولا من الواقع . ولا حجة فيها ولا دليل:
(إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى)!
هذه الأسماء . اللات . العزى . مناة . . وغيرها . وتسميتها آلهة وتسميتها ملائكة . وتسمية الملائكة إناثا . وتسمية الإناث بنات الله . . . كلها أسماء لا مدلول لها , ولا حقيقة وراءها . ولم يجعل الله لكم حجة فيها . وكل ما لم يقرره الله فلا قوة فيه ولا سلطان له . لأنه لا حقيقة له . وللحقيقة ثقل . وللحقيقة قوة . وللحقيقة سلطان فأما الأباطيل فهي خفيفة لا وزن لها . ضعيفة لا قوة لها . مهينة لا سلطان فيها .
وفي منتصف الآية يتركهم وأوهامهم وأساطيرهم , ويترك خطابهم , ويلتفت عنهم كأنهم لا وجود لهم , ويتحدث عنهم بصيغة الغائب: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس). . فلا حجة ولا علم ولا يقين . إنما هو الظن يقيمون عليه العقيدة , والهوى يستمدون منه الدليل . والعقيدة لا مجال فيها للظن والهوى ; ولا بد فيها من اليقين القاطع والتجرد من الهوى والغرض . . وهم لم يتبعوا الظن والهوى ولهم عذر أو علة: (ولقد جاءهم من ربهم الهدى). . فانقطع العذر وبطل التعلل !
النجم
من الاية 24 الى الاية 28
أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى (27) وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28)
ومتى انتهى الأمر إلى شهوة النفس وهواها فلن يستقيم أمر , ولن يجدي هدى ; لأن العلة هنا ليست خفاء الحق , ولا ضعف الدليل . إنما هي الهوى الجامح الذي يريد , ثم يبحث بعد ذلك عن مبرر لما يريد ! وهي شر حالة تصاب بها النفس فلا ينفعها الهدى , ولا يقنعها الدليل !
ومن ثم يسأل في استنكار:
(أم للإنسان ما تمنى ?). .
فكل ما يتمنى يتحول إلى حقيقة وكل ما يهوى ينقلب إلى واقع ! والأمر ليس كذلك . فإن الحق حق والواقع واقع . وهوى النفس ومناها لا يغيران ولا يبدلان في الحقائق . إنما يضل الإنسان بهواه , ويهلك بمناه . وهو أضعف من أن يغير أو يبدل في طبائع الأشياء . وإنما الأمر كله لله يتصرف فيه كما يشاء في الدنيا وفي الآخرة سواء:
(فلله الآخرة والأولى). .
ولا ننسى أن نلحظ هنا تقديم الآخرة على الأولى . لمراعاة قافية السورة وإيقاعها . إلى جانب النكتة المعنوية المقصودة بتقديم الآخرة على الأولى . كما هي طبيعة الأسلوب القرآني في الجمع بين أداء المعنى وتنغيم الإيقاع . دون إخلال بهذا على حساب ذاك ! شأنه شأن كل ما هو من صنع الله . فالجمال في الكون كله يتناسق مع الوظيفة ويؤاخيها !
وإذا خلص الأمر كله لله في الأخرة والأولى . فإن أوهام المشركين عن شفاعة الآلهة المدعاة - من الملائكة - لهم عند الله . كما قالوا: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى). . إن هذه الأوهام لا أصل لها . فالملائكة الحقة في السماء لا تملك الشفاعة إلا حين يأذن الله في شيء منها:
(وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا . إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى). .
ومن ثم تسقط دعواهم من أساسها , فوق ما فيها من بطلان تولى تفنيده في الآيات السابقة . وتتجرد العقيدة من كل غبش أو شبهة . فالأمر لله في الآخرة والأولى . ومنى الإنسان لا تغير من الحق الواقع شيئا . والشفاعة لا تقبل إلا بإذن من الله ورضى . فالأمر إليه في النهاية . والاتجاه إليه وحده في الآخرة والأولى .
وفي نهاية الفقرة يناقش للمرة الأخيرة أوهام المشركين - الذين لا يؤمنون بالآخرة - عن الملائكة ; ويكشف عن أساسها الواهي , الذي لا ينبغي أن تقوم عليه عقيدة أصلا:
(إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . وما لهم به من علم . إن يتبعون إلا الظن , وإن الظن لا يغني من الحق شيئا). .
وهذا التعقيب الأخير يوحي بعلاقة اللات والعزى ومناة بأسطورة أنوثة الملائكة ونسبتهم إلى الله سبحانه ! وهي أسطورة واهية , لا يتبعون فيها إلا الظن . فليس لهم من وسيلة لأن يعلموا شيئا مستيقنا عن طبيعة الملائكة . فأما نسبتهم إلى الله . فهي الباطل الذي لا دليل عليه إلا الوهم الباطل ! وكل هذا لا يغني من الحق , ولا يقوم مقامه في شيء . الحق الذي يتركونه ويستغنون عنه بالأوهام والظنون !
الدرس الثالث:29 - 42 الإعراض عن الكافرين والحث على التوبة والحساب والعفو
وحين يبلغ إلى هذا الحد من بيان وهن عقيدة الشرك وتهافتها عند الذين لا يؤمنون بالآخرة , ويشركون بالله , وينسبون له البنات ويسمون الملائكة تسمية الأنثى ! يتجه بالخطاب إلى الرسول [ ص ]
من الاية 29 الى الاية 30
فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
ليهمل شأنهم ويعرض عنهم , ويدع أمرهم لله الذي يعلم المسيء والمحسن , ويجزي المهدي والضال , ويملك أمر السماوات والأرض , وأمر الدنيا والآخرة , ويحاسب بالعدل لا يظلم أحدا , ويتجاوز عن الذنوب التي لا يصر عليها فاعلوها . وهو الخبير بالنوايا والطوايا , لأنه خالق البشر المطلع على حقيقتهم في أطوار حياتهم جميعا:
فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا . ذلك مبلغهم من العلم . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى . ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا , ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش - إلا اللمم - إن ربك واسع المغفرة . هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض , وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم . فلا تزكوا أنفسكم . هو أعلم بمن اتقى . .
هذا الأمر بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله , ولم يؤمن بالأخرة , ولم يرد إلا الحياة الدنيا . موجه ابتداء إلى الرسول [ ص ] ليهمل شأن أولئك المشركين الذين سبق الحديث في السورة عن أساطيرهم وأوهامهم وعدم إيمانهم بالآخرة .
وهو موجه بعد ذلك إلى كل مسلم يواجهه من يتولى عن ذكر الله ويعرض عن الإيمان به ; ويجعل وجهته الحياة الدنيا وحدها , لا ينظر إلى شيء وراءها , ولا يؤمن بالآخرة ولا يحسب حسابها . ويرى أن حياة الإنسان على هذه الأرض هي غاية وجوده , لا غاية بعدها ; ويقيم منهجه في الحياة على هذا الاعتبار , فيفصل ضمير الإنسان عن الشعور بإله يدبر أمره , ويحاسبه على عمله , بعد رحلة الأرض المحدودة , وأقرب من تتمثل فيه هذه الصفة في زماننا هذا هم أصحاب المذاهب المادية .
والمؤمن بالله وبالآخرة لا يستطيع أن يشغل باله - فضلا على أن يعامل أو يعايش - من يعرض عن ذكر الله , وينفي الآخرة من حسابه . لأن لكل منهما منهجا في الحياة لا يلتقيان في خطوة واحدة من خطواته , ولا في نقطة واحدة من نقاطه . وجميع مقاييس الحياة , وجميع قيمها , وجميع أهدافها , تحتلف في تصور كل منهما . فلا يمكن إذن أن يتعاونا في الحياة أي تعاون , ولا أن يشتركا في أي نشاط على هذه الأرض . مع هذا الاختلاف الرئيسي في تصور قيم الحياة وأهدافها ومناهج النشاط فيها , وغاية هذا النشاط . وما دام التعاون والمشاركة متعذرين فما داعي الاهتمام والاحتفال ? إن المؤمن يعبث حين يحفل شأن هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله ولا يريدون إلا الحياة الدنيا . وينفق طاقته التي وهبه الله إياها في غير موضعها .
على أن للإعراض اتجاها آخر , هو التهوين من شأن هذه الفئة . فئة الذين لا يؤمنون بالله ; ولا يبتغون شيئا وراء الحياة الدنيا . فمهما كان شأنهم فهم محجوبون عن الحقيقة , قاصرون عن إدراكها , واقفون وراء الأسوار . أسوار الحياة الدنيا . . (ذلك مبلغهم من العلم). وهو مبلغ تافه مهما بدا عظيما . قاصر مهما بدا شاملا . مضلل مهما بدا هاديا . وما يمكن أن يعلم شيئا ذا قيمة من يقف بقلبه وحسه وعقله عند حدود هذه الأرض . ووراءها - حتى في رأي العين - عالم هائل لم يخلق نفسه . ووجوده هكذا أمر ترفضه البداهة . ولم يوجد عبثا متى كان له خالق . وإنه لعبث أن تكون الحياة الدنيا هي نهاية هذا الخلق الهائل وغايته . . فإدراك حقيقة هذا الكون من أي طرف من أطرافها كفيل بالإيمان بالخالق . وكفيل كذلك بالإيمان بالآخرة . نفيا للعبث عن هذا الخالق العظيم الذي يبدع هذا الكون الكبير .
ومن ثم يجب الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويقف عند حدود الدنيا , الإعراض على سبيل صيانةالاهتمام أن يبذل في غير موضعه والإعراض على سبيل التهوين والاحتقار لمن هذا مبلغ علمه . ونحن مأمورون بهذا إن أردنا أن نتلقى أمر الله لنطيعه . لا لنقول كما قالت يهود:سمعنا وعصينا . . والعياذ بالله من هذا !
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى . .
وقد علم أن هؤلاء ضالون . فلم يرد لنبيه ولا للمهتدين من أمته أن يشغلوا أنفسهم بشأن الضالين . ولا أن يصاحبوهم . ولا أن يحفلوهم . ولا أن يخدعوا في ظاهر علمهم المضلل القاصر , الذي يقف عند حدود الحياة الدنيا . ويحول بين الإدراك البشري والحقيقة الخالصة , التي تقود من يدركها إلى الإيمان بالله , والإيمان بالأخرة , وتتخطى به حدود هذه الأرض القريبة , وهذه الحياة الدنيا المحدودة .
وإن العلم الذي يبلغه هؤلاء القاصرون الضالون ليبدو في أعين العوام وأشباههم , عوام القلب والإدراك والحس , شيئا عظيما ذا فاعلية وأثر في واقع الحياة الدنيا . ولكن هذا لا ينفي صفة الضلال عنهم في النهاية , ولا صفة الجهل والقصور . فحقيقة الارتباط بين هذا الوجود وخالقه . وحقيقة الارتباط بين عمل الإنسان وجزائه . هاتان الحقيقتان ضروريتان لكل علم حق . وبدونهما يبقى العلم قشورا لا تؤثر في حياة الإنسان ولا ترقيها ولا ترفعها . وقيمة كل علم مرهونة بأثره في النفس وفي ارتباطات البشر الأدبية . وإلا فهو تقدم في الآلات وانتكاس في الآدميين . وما أبأسه من علم هذا الذي ترتقي فيه الآلات على حساب الآدميين !!!
وشعور الإنسان بأن له خالقا خلقه وخلق هذا الكون كله , وفق ناموس واحد متناسق . يغير من شعوره بالحياة , وشعوره بما حوله وبمن حوله ; ويجعل لوجوده قيمة وهدفا وغاية أكبر وأشمل وارفع , لأن وجوده مرتبط بهذا الكون كله ; فهو أكبر من ذاته المعدودة الأيام . وأكبر من أسرته المعدودة الأفراد وأكبر من قومه , وأكبر من وطنه وأكبر من طبقته التي يطنطن بها أصحاب المذاهب المادية الحديثة . وأرفع من اهتمامات هذه التشكيلات جميعا !
وشعور الإنسان بأن خالقه محاسبه في الآخرة ومجازيه . يغير من تصوراته ومن موازينه ومن حوافزه ومن أهدافه . ويربط الحاسة الأخلاقية في نفسه بمصيره كله , فيزيدها قوة وفاعلية . لأن هلاكه أو نجاته مرهونة بيقظة هذه الحاسة وتأثيرها في نيته وعمله . ومن ثم يقوى "الإنسان" ويسيطر على تصرفات هذا الكائن . لأن الرقيب الحارس قد استيقظ ! ولأن الحساب الختامي ينتظره هناك . ومن الناحية الأخرى فهو مطمئن إلى الخير واثق من انتصاره في الحساب الختامي . حتى لو رآه ينهزم في الأرض في بعض الجولات ! وهو مكلف دائما أن ينصر الخير ويكافح في سبيله سواء هزم في هذه الأرض أم انتصر لأن الجزاء النهائي هناك !
إنها مسألة كبيرة هذا الإيمان بالله والإيمان بالآخرة . مسألة أساسية في حياة البشر . إنها حاجة أكبر من حاجات الطعام والشراب والكساء . وإنها إما أن تكون فيكون "الإنسان" وإما ألا تكون فهو حيوان من ذلك الحيوان !
وحين تفترق المعايير والأهداف والغايات وتصور الحياة كلها هذا الاختلاف , فلا مجال حينئذ إلى مشاركة أو تعامل أو حتى تعارف ينشأ عنه قسط من الاهتمام .
ومن ثم لا يمكن أن تقوم علاقة أو صحبة أو شركة أو تعاون , أو أخذ وعطاء , أو اهتمام واحتفال بين مؤمن بالله , وآخر أعرض عن ذكره ولم يرد إلا الحياة الدنيا . وكل قول غير هذا فهو محال ومراء , يخالف عن أمر اللهفأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا). .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة المجادله ايه رقم واحد الى 10 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الزخرف ايه رقم واحد الى 25 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحج رقم واحد الى ايه 15 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الجاثيه ايه رقم واحد الى ايه 22 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الفتح ايه رقم واحد الى ايه 10 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الزخرف ايه رقم واحد الى 25 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحج رقم واحد الى ايه 15 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الجاثيه ايه رقم واحد الى ايه 22 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الفتح ايه رقم واحد الى ايه 10 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى