تفسير سورة الطور ايه رقم 1 الى 33 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الطور ايه رقم 1 الى 33 الشيخ سيد قطب
من الاية 1 الى الاية 6
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
سورة الطور
تعريف لسورة الطور
هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير فى القلب البشري . ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه . ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان . . حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها , وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام !
وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة , والمعنى والمدلول , والصور والظلال , والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء . ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف , وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق , وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام !
وتبدأ السورة بقسم من الله سبحانه بمقدسات في الأرض والسماء . بعضها مكشوف معلوم ! وبعضها مغيب مجهولوالطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع). .
القسم على أمر عظيم رهيب , يرج القلب رجا , ويرعب الحس رعبا . في تعبير يناسب لفظه مدلوله الرهيب ; وفي مشهد كذلك ترجف له القلوبإن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع , يوم تمور السماء مورا , وتسير الجبال سيرا). .
وفي وسط المشهد المفزع نرى ونسمع ما يزلزل ويرعب , من ويل وهول , وتقريع وتفزيع: (فويل يومئذ للمكذبين , الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون .أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا , سواء عليكم , إنما تجزون ما كنتم تعملون). .
هذا شوط من حملة المطاردة . يليه شوط آخر من لون آخر . شوط في إطماع القلوب التي رأت ذلك الهول المرعب - إطماعها في الأمن والنعيم . بعرض صورة المتقين وما أعد لهم من تكريم . وما هيئ لهم من نعيم رخي رغيد , يطول عرضه , وتكثر تفصيلاته , وتتعدد ألوانه . مما يستجيش الحس إلى روح النعيم وبرده ; بعد كرب العذاب وهولهإن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم , وما ألتناهم من عملهم من شيء , كل امرئ بما كسب رهين . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون . يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم . ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا:إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم). .
والآن وقد أحس القلب البشري سياط العذاب في الشوط الأول ; وتذوق حلاوة النعيم في الشوط الثاني . . الآن يجيء الشوط الثالث يطارد الهواجس والوساوس ; ويلاحق الشبهات والأضاليل ; ويدحض الحجج والمعاذير . ويعرض الحقيقة بارزة واضحة بسيطة عنيفة . تتحدث بمنطق نافذ لا يحتمل التأويل , مستقيم لا يحتمل اللف والدوران . يلوي الأعناق ليا ويلجئها إلى الإذعان والتسليم . . ويبدأ هذا الشوط بتوجيه الخطاب إلى رسول الله [ ص ] ليمضي في تذكيره لهم , على الرغم من سوء أدبهم معه ; وليقرعهم بهذا المنطق النافذ القوي المستقيم: فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون:شاعر نتربص به ريب المنون ? قل:تربصوا فإني معكم من المتربصين . أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون ? أم يقولون تقوله ? بل لا يؤمنون . فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين . أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? أم خلقوا السماوات والأرض ? بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك ? أم هم المصيطرون ? أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين . أم له البنات ولكم البنون ? أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ? أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? أم يريدون كيدا ? فالذين كفروا هم المكيدون . أم لهم إله غير الله ? سبحان الله عما يشركون . .
وعقب هذه الأسئلة المتلاحقة . بل هذه القذائف الصاعقة . التي تنسف الباطل نسفا , وتحرج المكابر والمعاند , وتخرس كل لسان يزيغ عن الحق أو يجادل فيه . . عقب هذا يصور تعنتهم وعنادهم في صورة الذي يكابر في المحسوسوإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا:سحاب مركوم). والفرق بين قطعة السماء تسقط وبين السحاب واضح , ولكنهم هم يتلمسون كل شبهة ليعدلوا عن الحق الواضح .
هنا يلقي عليهم بالقذيفة الأخيرة . قذيفة التهديد الرعيب , بملاقاة ذلك المشهد المرهوب , الذي عرض عليهم في مطلع السورةفذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون . يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون). . كما يهددهم بعذاب أقرب من ذلك العذابوإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك , ولكن أكثرهم لا يعلمون). .
ثم تختم السورة بإيقاع رضي رخي . . إنه موجه إلى الرسول الكريم الذي يقولون عنه: (شاعر نتربص به ريب المنون). . ويقولون:كاهن أو مجنون . موجه إليه من ربه يسليه ويعزيه في إعزاز وتكريم . في تعبير لا نظير له في القرآن كله ; ولم يوجه من قبل إلى نبي أو رسول: (واصبر لحكم ربك , فإنك بأعيننا ,وسبح بحمد ربك حين تقوم , ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم). .
إنه الإيقاع الذي يمسح على العنت والمشقة اللذين يلقاهما الرسول الكريم , من أولئك المتعنتين المعاندين , الذين اقتضت مواجهتهم تلك الحملة العنيفة من المطاردة والهجوم . .
الدرس الأول:1 - 16 القسم بالمخلوقات على حقيقة القيامة ومشاهدها
(والطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع . والبحر المسجور . إن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع . يوم تمور السماء مورا . وتسير الجبال سيرا . فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون . أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا , سواء عليكم , إنما تجزون ما كنتم تعملون). .
هذه الآيات القصيرة , والفواصل المنغمة , والإيقاعات الفاصلة , تصاحب السورة من مطلعها . وهي تبدأ كلمة واحدة . ثم تصبح كلمتين . ثم تطول شيئا فشيئا حتى تبلغ في نهاية المقطع اثنتي عشرة كلمة . مع المحافظة الكاملة على قوة الإيقاع .
والطور:الجبل فيه شجر . والأرجح أن المقصود به هو الطور المعروف في القرآن , المذكور في قصة موسى - عليه السلام - والذي نزلت فوقه الألواح . فالجو جو مقدسات يقسم بها الله سبحانه على الأمر العظيم الذي سيجيء .
والكتاب المسطور في رق منشور . الأقرب أن يكون هو كتاب موسى الذي كتب له في الألواح . للمناسبة بينه وبين الطور . وقيل . هو اللوح المحفوظ . تمشيا مع ما بعده:البيت المعمور , والسقف المرفوع . ولا يمتنع أن يكون هذا هو المقصود .
والبيت المعمور:قد يكون هو الكعبة . ولكن الأرجح أن يكون بيت عبادة الملائكة في السماء لما ورد في الصحيحين في حديث الإسراء:" ثم رفع بي إلى البيت المعمور , وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم " . . يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم !
والسقف المرفوع:السماء . قاله سفيان الثوري وشعبة وأبو الأحوص عن سماك بن خالد بن عرعرة عن علي - كرم الله وجهه - قال سفيان:ثم تلاوجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون). .
والبحر المسجور:المملوء . وهو أنسب شيء يذكر مع السماء في مشهد . في انفساحه وامتلائه وامتداده . وهو آية فيها رهبة ولها روعة . تؤهلانه للذكر مع هذه المشاهد المقسم بها على الأمر العظيم . وقد يكون معنى المسجور:المتقد . كما قال في سورة أخرىوإذا البحار سجرت)أي توقدت نيرانا . كما أنه قد يشير إلى خلق آخر كالبيت المرفوع يعلمه الله .
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق العظيمة على أمر عظيم . بعد أن يتهيأ الحس بهذه الإيقاعات لاستقبال ذلك الأمر العظيم:
(إن عذاب ربك لواقع , ما له من دافع). .
فهو واقع حتما , لا يملك دفعه أحد أبدا . وإيقاع الآيتين والفاصلتين حاسم قاطع . يلقي في الحس أنه أمر داهم قاصم , ليس منه واق ولا عاصم . وحين يصل هذا الإيقاع إلى الحس البشري بلا عائق فإنه يهزه ويضعضعه ويفعل به الأفاعيل . . قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا:حدثنا أبي حدثنا موسى بن داود , عن صالح
من الاية 7 الى الاية 12
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ ( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
المري , عن جعفر بن زيد العبدي قال:خرج عمر يعس بالمدينة ذات ليلة , فمر بدار رجل من المسلمين , فوافقه قائما يصلي , فوقف يستمع قراءته فقرأوالطور). . حتى بلغإن عذاب ربك لواقع , ما له من دافع). . قال:قسم ورب الكعبة حق . فنزل عن حماره . واستند إلى حائط , فمكث مليا , ثم رجع إلى منزله , فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه . رضي الله عنه .
وعمر - رضي الله عنه - سمع السورة قبل ذلك , وقرأها , وصلى بها , فقد كان رسول الله [ ص ] يصلي بها المغرب . وعمر يعلم . ويتأسى . ولكنها في تلك الليلة صادفت منه قلبا مكشوفا , وحسا مفتوحا , فنفذت إليه وفعلت به هذا الذي فعلت . حين وصلت إليه بثقلها وعنفها وحقيقتها اللدنية المباشرة ; التي تصل إلى القلوب في لحظات خاصة , فتتخللها وتتعمقها , في لمسة مباشرة كهذه اللمسة , تلقى فيها القلب الآية من مصدرها الأول كما تلقاها قلب رسول الله [ ص ] فأطاقها لأنه تهيأ لتلقيها . فأما غيره فيقع لهم شيء مما وقع لعمر - رضي الله عنه - حين تنفذ إليهم بقوة حقيقتها الأولى . .
ويعقب هذا الإيقاع الرهيب مشهد مصاحب له رهيب:
(يوم تمور السماء مورا , وتسير الجبال سيرا). .
ومشهد السماء الثابتة المبنية بقوة وهي تضطرب وتتقلب كما يضطرب الموج في البحر من هنا إلى هناك بلا قوام . ومشهد الجبال الصلبة الراسية تسير خفيفة رقيقة لا ثبات لها ولا استقرار . أمر مذهل مزلزل . يدل ضمنا على الهول الذي تمور فيه السماء وتسير منه الجبال . فكيف بالمخلوق الإنساني الصغير الضعيف في ذلك الهول المذهل المخيف ?!
وفي زحمة هذا الهول الذي لا يثبت عليه شيء ; وفي ظل هذا الرعب المزلزل لكل شيء , يعاجل المكذبين بما هو أهول وأرعب . يعاجلهم بالدعاء عليهم بالويل من العزيز الجبار:
(فويل يومئذ للمكذبين . الذين هم في خوض يلعبون). .
والدعاء بالويل من الله حكم بالويل وقضاء . فهو أمر لا محالة واقع , ما له من دافع . وهو كائن حتما , يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا . فيتناسب هذا الهول مع ذلك الويل , وينصب كله على المكذبين . .(الذين هم في خوض يلعبون). .
وهذا الوصف ينطبق ابتداء على أولئك المشركين ومعتقداتهم المتهافتة , وتصوراتهم المهلهلة ; وحياتهم القائمة على تلك المعتقدات وهذه التصورات , التي وصفها القرآن وحكاها في مواضع كثيرة . وهي لعب لا جد فيه . لعب يخوضون فيه كما يخوض اللاعب في الماء , غير قاصد إلى شاطئ أو هدف , سوى الخوض واللعب !
ولكنه يصدق كذلك على كل من يعيش بتصور آخر غير التصور الإسلامي . . وهذه حقيقة لا يدركها الإنسان إلا حين يستعرض كل تصورات البشر المشهورة - سواء في معتقداتهم أو أساطيرهم أو فلسفاتهم - في ظل التصور الإسلامي للوجود الإنساني ثم للوجود كله . . إن سائر التصورات - حتى لكبار الفلاسفة الذين يعتز بهم تاريخ الفكر الإنساني تبدو محاولات أطفال يخبطون ويخوضون في سبيل الوصول إلى الحقيقة . تلك الحقيقة التي تعرض في التصور الإسلامي - وبخاصة في القرآن - عرضا هادئا ناصعا قويا بسيطا عميقا . يلتقي مع الفطرة التقاء مباشرا دون كد ولا جهد ولا تعقيد . لأنه يطالعها بالحقيقة الأصيلة العميقة فيها . ويفسر لها الوجود وعلاقتها به , كما يفسر لها علاقة الوجود بخالقه تفسيرا يضاهي ما استقر فيها ويوافقه .
وطالما عجبت وأنا أطالع تصورات كبار الفلاسفة ; وألاحظ العناء القاتل الذي يزاولونه , وهم يحاولون
من الاية 13 الى الاية 13
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (13)
تفسير هذا الوجود وارتباطاته ; كما يحاول الطفل الصغير حل معادلة رياضية هائلة . . وأمامي التصور القرآني واضحا ناصعا سهلا هينا ميسرا طبيعيا , لا عوج فيه ولا لف ولا تعقيد ولا التواء . وهذا طبيعي , فالتفسير القرآني للوجود هو تفسير صانع هذا الوجود لطبيعته وارتباطاته . . أما تصورات الفلاسفة فهي محاولات أجزاء صغيرة من هذا الوجود لتفسير الوجود كله . والعاقبة معروفة لمثل هذه المحاولات البائسة !
إنه عبث . وخلط . وخوض . . حين يقاس إلى الصورة المكتملة الناضجة , المطابقة , التي يعرضها القرآن على الناس , فيدعها بعضهم إلى تلك المحاولات المتخبطة الناقصة , المستحيلة الاكتمال والنضوج !
وإن الأمور لتظل مضطربة في حس الإنسان وتصوره , متأثرة بالتصورات المنحرفة , وبالمحاولات البشرية الناقصة . . ثم يسمع آيات من القرآن في الموضوع الذي يساوره . فإذا النور الهادئ . والميزان الثابت . وإذا هو يجد كل شيء في موضعه , وكل أمر في مكانه , وكل حقيقة هادئة مستقرة لا تضطرب ولا تمور . ويحس بعدها أن نفسه استراحت , وأن باله هدأ , وأن عقله اطمأن إلى الحق الواضح , وقد زال الغبش والقلق واستقرت الأمور .
كذلك يبدو أن الناس في خوض يلعبون من ناحية اهتماماتهم في الحياة . حين تقاس بالاهتمامات التي يثيرها الإسلام في النفس , ويعلق بها القلب , ويشغله بتدبرها وتحقيقها . وتبدو تفاهة تلك الاهتمامات وضآلتها , والمسلم ينظر إلى اشتغال أهلها بها , وانغماسهم فيها , وتعظيمهم لها , وحديثهم عنها كأنها أمور كونية عظمى ! وهو ينظر إليهم كما ينظر إلى الأطفال المشغولين بعرائس الحلوى وبالدمى الميتة , يحسبونها شخوصا ; ويقضون أوقاتهم في مناغاتها واللعب معها وبها !!!
إن الإسلام يرفع من اهتمامات البشر بقدر ما يرفع من تصورهم للوجود الإنساني وللوجود كله ; وبقدر ما يكشف لهم عن علة وجودهم وحقيقته ومصيره ; وبقدر ما يجيب إجابة صادقة واضحة عن الأسئلة التي تساور كل نفس:من أين جئت ? لماذا جئت ? إلى أين أذهب ?
وإجابة الإسلام عن هذه الأسئلة تحدد التصور الحق للوجود الإنساني وللوجود كله . فإن الإنسان ليس بدعا من الخلائق كلها . فهو واحد منها . جاء من حيث جاءت . وشاركها علة وجودها . ويذهب إلى حيث تقتضي حكمة خالق الوجود كله أن يذهب . فالإجابة على تلك الأسئلة تشمل كذلك تفسيرا كاملا للوجود كله , وارتباطاته وارتباطات الإنسان به . وارتباط الجميع بخالق الجميع .
وهذا التفسير ينعكس على الاهتمامات الإنسانية في الحياة ; ويرفعها إلى مستواه . ومن ثم تبدو اهتمامات الآخرين صغيرة هزيلة في حس المسلم المشغول بتحقيق وظيفة وجوده الكبرى في هذا الكون , عن تلك الصغائر والتفاهات التي يخوض فيها اللاعبون !
إن حياة المسلم حياة كبيرة - لأنها منوطة بوظيفة ضخمة , ذات ارتباط بهذا الوجود الكبير , وذات أثر في حياة هذا الوجود الكبير . وهي أعز وأنفس من أن يقضيها في عبث ولهو وخوض ولعب . وكثير من اهتمامات الناس في الأرض يبدو عبثا ولهوا وخوضا ولعبا حين يقاس إلى اهتمامات المسلم الناشئة من تصوره لتلك الوظيفة الضخمة المرتبطة بحقيقة الوجود .
وويل لأولئك الخائضين اللاعبينيوم يدعون إلى نار جهنم دعا). . وهو مشهد عنيف . فالدع:الدفع
من الاية 14 الى الاية 20
هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (20)
في الظهور . وهي حركة غليظة تليق بالخائضين اللاعبين , الذين لا يجدون , ولا ينتبهون إلى ما يجري حولهم من الأمور . فيساقون سوقا ويدفعون في ظهورهم دفعا .
حتى إذا وصل بهم الدفع والدع إلى حافة النار قيل لهمهذه النار التي كنتم بها تكذبون !). .
وبينما هم في هذا الكرب , بين الدع والنار التي تواجههم على غير إرادة منهم . يجيئهم الترذيل والتأنيب , والتلميح إلى ما سبق منهم من التكذيبأفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ?). فقد كانوا يقولون عن القرآن:إنه سحر . فهل هذه النار التي يرونها كذلك سحر ?! أم إنه الحق الهائل الرعيب ? أم إنهم لا يبصرون هذه النار كما كانوا لا يبصرون الحق في القرآن الكريم ?!
وحين ينتهي هذا التأنيب الساخر المرير يعاجلهم بالتيئيس البئيس .(اصلوها . فاصبروا أو لا تصبروا . سواء عليكم . إنما تجزون ما كنتم تعملون). .
وليس أقسى على منكوب بمثل هذه النكبة . من أن يعلم أن الصبر وعدم الصبر سواء . فالعذاب واقع , ما له من دافع . وألمه واحد مع الصبر ومع الجزع . والبقاء فيه مقرر سواء صبر عليه أم هلع . . والعلة أنه جزاء على ما كان من عمل . فهو جزاء له سببه الواقع فلا تغيير فيه ولا تبديل !
وبذلك ينتهي هذا المشهد الرعيب ; كما ينتهي الشوط الأول بإيقاعه العنيف .
الدرس الثاني:17 - 28 مشاهد من نعيم المتقين في الجنة
أما الشوط الثاني فهو مثير للحس , ولكن بما فيه من رخاء ورغد , وهتاف بالمتاع لا يقاوم , وبخاصة بعد مشهد العذاب البئيس:
(إن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم , ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان , ألحقنا بهم ذريتهم , وما ألتناهم من عملهم من شيء , كل امرئ بما كسب رهين . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون , يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم . ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا:إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ; فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه , إنه هو البر الرحيم). .
والمشهد أقرب إلى مشاهد النعيم الحسي , الذي يخاطب المشاعر في أول العهد , والذي يجتذب النفوس بلذائذ الحس في صورتها المصفاة . وهو مقابل لذلك العذاب الغليظ التي تواجه به القلوب الجاسية والقلوب اللاهية كذلك:
(إن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم , ووقاهم ربهم عذاب الجحيم). .
ومجرد الوقاية من عذاب الجحيم الذي عرضت مشاهده في هذه السورة فضل ونعمة . فكيف ومعه (جنات ونعيم)? وهم يلتذون ما آتاهم ربهم ويتفكهون ?
ومع النعيم ولذته التهنئة والتكريم:
(كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون). .
وهذا بذاته متاع أكرم . وهم ينادون هذا النداء العلوي , ويعلن استحقاقهم لما هم فيه:
(متكئين على سرر مصفوفة). . منسقة يجدون فيها لذة التجمع بإخوانهم في هذا النعيم: (وزوجناهم بحور
من الاية 21 الى الاية 28
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
عين). . وهذه تمثل أمتع ما يجول في خواطر البشر من متاع جميل .
ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم , زيادة في الرعاية والعناية . ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين , ما دامت هذه الذرية مؤمنة . وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم . ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه , إنما هو فضل الله على الجميع:
(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم . وما ألتناهم من عملهم من شيء . كل امرئ بما كسب رهين). .
ويستطرد المشهد يعرض ألوان المناعم واللذائذ في ذلك النعيم . فإذا فاكهة ولحم مما يشتهون . وإذا هم يتعاطون فيها كأسا ليست كخمر الدنيا تطلق اللغو والهذر من الشفاه والألسنة , وتشيع الإثم والمعصية في الحس والجوارح . إنما هي مصفاة مبرأة: (لا لغو فيها ولا تأثيم). . وهم يتجاذبونها بينهم ويتعاطونها مجتمعين , زيادة في الإيناس واللذة والنعيم . في حين يقوم على خدمتهم ويطوف بالكأس عليهم غلمان صباح أبرياء , فيهم نظافة , وفيهم صيانة , وفيهم نداوة: (كأنهم لؤلؤ مكنون)مما يضاعف إيناس المجلس اللطيف في الجوارح والقلوب .
واستكمالا لجو المشهد المأنوس يعرض سمرهم فيما بينهم , وتذاكرهم ماضيهم , وأسباب ما هم فيه من أمن ورضى ورخاء ورغد وأنس ونعيم . فيكشف للقلوب عن سر هذا المتاع , ويشير إلى الطريق المؤدي إلى هذا النعيم:
(وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا:إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه , إنه هو البر الرحيم). .
السر إذن أنهم عاشوا على حذر من هذا اليوم . عاشوا في خشية من لقاء ربهم . عاشوا مشفقين من حسابه . عاشوا كذلك وهم في أهلهم , حيث الأمان الخادع . ولكنهم لم ينخدعوا . وحيث المشغلة الملهية . ولكنهم لم ينشغلوا .
عندئذ من الله عليهم ووقاهم عذاب السموم , الذي يتخلل الأجساد كالسم الحار اللاذع ! وقاهم هذا العذاب منة منه وفضلا , لما علم من تقواهم وخشيتهم وإشفاقهم . وهم يعرفون هذا . ويعرفون أن العمل لا يدخل صاحبه الجنة إلا بمنة من الله وفضل . فما يبلغ العمل أكثر من أن يشهد لصاحبه أنه بذل جهده , ورغب فيما عند الله . وهذا هو المؤهل لفضل الله .
وقد كانوا مع الإشفاق والحذر والتقوى يدعون الله: (إنا كنا من قبل ندعوه). . وهم يعرفون من صفاته البر بعباده والرحمة بعبيده: (إنه هو البر الرحيم). .
وكذلك ينكشف سر الوصول في تناجي هؤلاء الناجين المكرمين في دار النعيم .
الدرس الثالث:29 - 44 توجيهات للرسول وأدلة على الوحدانية
والأن وقد تلقى الحس سياط العذاب العنيف في الشوط الأول ; وتلقى هتاف النعيم الرغيد في الشوط الثاني ; وتوفزت بهذا وذلك حساسيته لتلقي الحقائق . . فإن السياق يعاجله بحملة سريعة الإيقاعات . يطارده فيها بالحقائق الصادعة , ويتعقب وساوسه في مسارب نفسه في صورة استفهامات استنكارية , وتحديات قوية , لا يثبت لها الكيان البشري حين تصل إليه من أي طريق:
(فذكر . فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون:شاعر نتربص به ريب المنون ? قل:تربصوا
من الاية 29 الى الاية 33
فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (33)
فإني معكم من المتربصين . أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون ? أم يقولون:تقوله ? بل لا يؤمنون . فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين . أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? أم خلقوا السماوات والأرض ? بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك ? أم هم المسيطرون ? أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين . أم له البنات ولكم البنون ? أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ? أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? أم يريدون كيدا ? فالذين كفروا هم المكيدون . أم لهم إله غير الله ? سبحان الله عما يشركون . وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا:سحاب مركوم). .
(فذكر). . والخطاب للرسول [ ص ] ليظل في تذكيره لا يثنيه سوء أدبهم معه , وسوء اتهامهم له . وقد كانوا يقولون عنه مرة:إنه كاهن . ويقولون عنه مرة:إنه مجنون . ويجمع بين الوصفين عندهم ما كان شائعا بينهم أن الكهان يتلقون عن الشياطين . وأن الشيطان كذلك يتخبط بعض الناس , فيصابون بالجنون . فالشيطان هو العامل المشترك بين الوصفين:كاهن أو مجنون ! وكان يحملهم على وصف النبي [ ص ] بهذا الوصف أو ذاك , أو بقولهم إنه شاعر أو ساحر . كان يحملهم على هذا كله موقفهم مبهوتين أمام القرآن الكريم المعجز الذي يبدههم بما لم يعهدوا من القول , وهم أهل القول ! ولما كانوا لا يريدون - لعلة في نفوسهم - أن يعترفوا أنه من عند الله , فقد احتاجوا أن يعللوا مصدره المتفوق على البشر . فقالوا:إنه من إيحاء الجن أو بمساعدتهم . فصاحبه إما كاهن يتلقى من الجن , أو ساحر يستعين بهم , أو شاعر له رئي من الجن , أو مجنون به مس من الشيطان ينطقه بهذا القول العجيب !
وإنها لقولة فظيعة شنيعة . فالله - سبحانه - يسلي رسوله عنها , ويصغر من شأنها في نفسه . وهو يشهد له أنه محوط بنعمة ربه , التي لا تكون معها كهانة ولا جنون: (فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون). .
ثم يستنكر قولهم:إنه شاعرأم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ?). . وقد قالوها . وقال بعضهم لبعض:اصبروا عليه , واثبتوا على ما أنتم فيه , حتى يأتيه الموت , فيريحنا منه ! وتواصوا أن يتربصوا به الموت المريح . ومن ثم يلقن الرسول [ ص ] أن يرد عليهم في تهديد ملفوفقل:تربصوا . فإني معكم من المتربصين). . وستعلمون من تكون له العاقبة , ومن ينتهي به التربص إلى النصر والظهور .
ولقد كان شيوخ قريش يلقبون بذوي الحلوم . أو ذوي الأحلام . إشارة إلى رجاحة عقولهم وحكمتهم في تصريف الأمور . فهو يتهكم بهم وبأحلامهم تجاه الإسلام . وموقفهم منه ينافي الحكمة والعقل , فيسأل في تهكم:أهذه الأوصاف التي يصفون بها محمدا [ ص ] وتلك المواقف التي يقفونها من رسالته كانت من وحي أحلامهم ? أم أنهم طغاة ظالمون لا يقفون عند ما تمليه الأحلام والعقول:
(أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون)!
وفي السؤال الأول تهكم لاذع . وفي السؤال الثاني اتهام مزر . وواحد منهما لا بد لاحق بهم في موقفهم المريب !
ولقد تطاولت ألسنتهم على رسول الله [ ص ] فاتهموه بافتراء ما يقول . فهو هنا يسأل في استنكار:إن كانوا يقولون:تقوله:كأن هذه الكلمة لا يمكن أن تقال . فهو يسأل عنها في استنكار: (أم يقولون تقوله ?). . ويبادر ببيان علة هذا القول الغريب: (بل لا يؤمنون). فعدم استشعار قلوبهم للإيمان , هو الذي ينطقهم بمثل هذا القول ; بعد أن يحجبهم عن إدراك حقيقة هذا القرآن . ولو أدركوها لعلموا أنه ليس من صنع بشر ; وأنه لا يحمله إلا صادق أمين .
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
سورة الطور
تعريف لسورة الطور
هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير فى القلب البشري . ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه . ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان . . حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها , وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام !
وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة , والمعنى والمدلول , والصور والظلال , والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء . ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف , وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق , وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام !
وتبدأ السورة بقسم من الله سبحانه بمقدسات في الأرض والسماء . بعضها مكشوف معلوم ! وبعضها مغيب مجهولوالطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع). .
القسم على أمر عظيم رهيب , يرج القلب رجا , ويرعب الحس رعبا . في تعبير يناسب لفظه مدلوله الرهيب ; وفي مشهد كذلك ترجف له القلوبإن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع , يوم تمور السماء مورا , وتسير الجبال سيرا). .
وفي وسط المشهد المفزع نرى ونسمع ما يزلزل ويرعب , من ويل وهول , وتقريع وتفزيع: (فويل يومئذ للمكذبين , الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون .أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا , سواء عليكم , إنما تجزون ما كنتم تعملون). .
هذا شوط من حملة المطاردة . يليه شوط آخر من لون آخر . شوط في إطماع القلوب التي رأت ذلك الهول المرعب - إطماعها في الأمن والنعيم . بعرض صورة المتقين وما أعد لهم من تكريم . وما هيئ لهم من نعيم رخي رغيد , يطول عرضه , وتكثر تفصيلاته , وتتعدد ألوانه . مما يستجيش الحس إلى روح النعيم وبرده ; بعد كرب العذاب وهولهإن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم , وما ألتناهم من عملهم من شيء , كل امرئ بما كسب رهين . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون . يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم . ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا:إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم). .
والآن وقد أحس القلب البشري سياط العذاب في الشوط الأول ; وتذوق حلاوة النعيم في الشوط الثاني . . الآن يجيء الشوط الثالث يطارد الهواجس والوساوس ; ويلاحق الشبهات والأضاليل ; ويدحض الحجج والمعاذير . ويعرض الحقيقة بارزة واضحة بسيطة عنيفة . تتحدث بمنطق نافذ لا يحتمل التأويل , مستقيم لا يحتمل اللف والدوران . يلوي الأعناق ليا ويلجئها إلى الإذعان والتسليم . . ويبدأ هذا الشوط بتوجيه الخطاب إلى رسول الله [ ص ] ليمضي في تذكيره لهم , على الرغم من سوء أدبهم معه ; وليقرعهم بهذا المنطق النافذ القوي المستقيم: فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون:شاعر نتربص به ريب المنون ? قل:تربصوا فإني معكم من المتربصين . أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون ? أم يقولون تقوله ? بل لا يؤمنون . فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين . أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? أم خلقوا السماوات والأرض ? بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك ? أم هم المصيطرون ? أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين . أم له البنات ولكم البنون ? أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ? أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? أم يريدون كيدا ? فالذين كفروا هم المكيدون . أم لهم إله غير الله ? سبحان الله عما يشركون . .
وعقب هذه الأسئلة المتلاحقة . بل هذه القذائف الصاعقة . التي تنسف الباطل نسفا , وتحرج المكابر والمعاند , وتخرس كل لسان يزيغ عن الحق أو يجادل فيه . . عقب هذا يصور تعنتهم وعنادهم في صورة الذي يكابر في المحسوسوإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا:سحاب مركوم). والفرق بين قطعة السماء تسقط وبين السحاب واضح , ولكنهم هم يتلمسون كل شبهة ليعدلوا عن الحق الواضح .
هنا يلقي عليهم بالقذيفة الأخيرة . قذيفة التهديد الرعيب , بملاقاة ذلك المشهد المرهوب , الذي عرض عليهم في مطلع السورةفذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون . يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون). . كما يهددهم بعذاب أقرب من ذلك العذابوإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك , ولكن أكثرهم لا يعلمون). .
ثم تختم السورة بإيقاع رضي رخي . . إنه موجه إلى الرسول الكريم الذي يقولون عنه: (شاعر نتربص به ريب المنون). . ويقولون:كاهن أو مجنون . موجه إليه من ربه يسليه ويعزيه في إعزاز وتكريم . في تعبير لا نظير له في القرآن كله ; ولم يوجه من قبل إلى نبي أو رسول: (واصبر لحكم ربك , فإنك بأعيننا ,وسبح بحمد ربك حين تقوم , ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم). .
إنه الإيقاع الذي يمسح على العنت والمشقة اللذين يلقاهما الرسول الكريم , من أولئك المتعنتين المعاندين , الذين اقتضت مواجهتهم تلك الحملة العنيفة من المطاردة والهجوم . .
الدرس الأول:1 - 16 القسم بالمخلوقات على حقيقة القيامة ومشاهدها
(والطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع . والبحر المسجور . إن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع . يوم تمور السماء مورا . وتسير الجبال سيرا . فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون . أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا , سواء عليكم , إنما تجزون ما كنتم تعملون). .
هذه الآيات القصيرة , والفواصل المنغمة , والإيقاعات الفاصلة , تصاحب السورة من مطلعها . وهي تبدأ كلمة واحدة . ثم تصبح كلمتين . ثم تطول شيئا فشيئا حتى تبلغ في نهاية المقطع اثنتي عشرة كلمة . مع المحافظة الكاملة على قوة الإيقاع .
والطور:الجبل فيه شجر . والأرجح أن المقصود به هو الطور المعروف في القرآن , المذكور في قصة موسى - عليه السلام - والذي نزلت فوقه الألواح . فالجو جو مقدسات يقسم بها الله سبحانه على الأمر العظيم الذي سيجيء .
والكتاب المسطور في رق منشور . الأقرب أن يكون هو كتاب موسى الذي كتب له في الألواح . للمناسبة بينه وبين الطور . وقيل . هو اللوح المحفوظ . تمشيا مع ما بعده:البيت المعمور , والسقف المرفوع . ولا يمتنع أن يكون هذا هو المقصود .
والبيت المعمور:قد يكون هو الكعبة . ولكن الأرجح أن يكون بيت عبادة الملائكة في السماء لما ورد في الصحيحين في حديث الإسراء:" ثم رفع بي إلى البيت المعمور , وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم " . . يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم !
والسقف المرفوع:السماء . قاله سفيان الثوري وشعبة وأبو الأحوص عن سماك بن خالد بن عرعرة عن علي - كرم الله وجهه - قال سفيان:ثم تلاوجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون). .
والبحر المسجور:المملوء . وهو أنسب شيء يذكر مع السماء في مشهد . في انفساحه وامتلائه وامتداده . وهو آية فيها رهبة ولها روعة . تؤهلانه للذكر مع هذه المشاهد المقسم بها على الأمر العظيم . وقد يكون معنى المسجور:المتقد . كما قال في سورة أخرىوإذا البحار سجرت)أي توقدت نيرانا . كما أنه قد يشير إلى خلق آخر كالبيت المرفوع يعلمه الله .
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق العظيمة على أمر عظيم . بعد أن يتهيأ الحس بهذه الإيقاعات لاستقبال ذلك الأمر العظيم:
(إن عذاب ربك لواقع , ما له من دافع). .
فهو واقع حتما , لا يملك دفعه أحد أبدا . وإيقاع الآيتين والفاصلتين حاسم قاطع . يلقي في الحس أنه أمر داهم قاصم , ليس منه واق ولا عاصم . وحين يصل هذا الإيقاع إلى الحس البشري بلا عائق فإنه يهزه ويضعضعه ويفعل به الأفاعيل . . قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا:حدثنا أبي حدثنا موسى بن داود , عن صالح
من الاية 7 الى الاية 12
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ ( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
المري , عن جعفر بن زيد العبدي قال:خرج عمر يعس بالمدينة ذات ليلة , فمر بدار رجل من المسلمين , فوافقه قائما يصلي , فوقف يستمع قراءته فقرأوالطور). . حتى بلغإن عذاب ربك لواقع , ما له من دافع). . قال:قسم ورب الكعبة حق . فنزل عن حماره . واستند إلى حائط , فمكث مليا , ثم رجع إلى منزله , فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه . رضي الله عنه .
وعمر - رضي الله عنه - سمع السورة قبل ذلك , وقرأها , وصلى بها , فقد كان رسول الله [ ص ] يصلي بها المغرب . وعمر يعلم . ويتأسى . ولكنها في تلك الليلة صادفت منه قلبا مكشوفا , وحسا مفتوحا , فنفذت إليه وفعلت به هذا الذي فعلت . حين وصلت إليه بثقلها وعنفها وحقيقتها اللدنية المباشرة ; التي تصل إلى القلوب في لحظات خاصة , فتتخللها وتتعمقها , في لمسة مباشرة كهذه اللمسة , تلقى فيها القلب الآية من مصدرها الأول كما تلقاها قلب رسول الله [ ص ] فأطاقها لأنه تهيأ لتلقيها . فأما غيره فيقع لهم شيء مما وقع لعمر - رضي الله عنه - حين تنفذ إليهم بقوة حقيقتها الأولى . .
ويعقب هذا الإيقاع الرهيب مشهد مصاحب له رهيب:
(يوم تمور السماء مورا , وتسير الجبال سيرا). .
ومشهد السماء الثابتة المبنية بقوة وهي تضطرب وتتقلب كما يضطرب الموج في البحر من هنا إلى هناك بلا قوام . ومشهد الجبال الصلبة الراسية تسير خفيفة رقيقة لا ثبات لها ولا استقرار . أمر مذهل مزلزل . يدل ضمنا على الهول الذي تمور فيه السماء وتسير منه الجبال . فكيف بالمخلوق الإنساني الصغير الضعيف في ذلك الهول المذهل المخيف ?!
وفي زحمة هذا الهول الذي لا يثبت عليه شيء ; وفي ظل هذا الرعب المزلزل لكل شيء , يعاجل المكذبين بما هو أهول وأرعب . يعاجلهم بالدعاء عليهم بالويل من العزيز الجبار:
(فويل يومئذ للمكذبين . الذين هم في خوض يلعبون). .
والدعاء بالويل من الله حكم بالويل وقضاء . فهو أمر لا محالة واقع , ما له من دافع . وهو كائن حتما , يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا . فيتناسب هذا الهول مع ذلك الويل , وينصب كله على المكذبين . .(الذين هم في خوض يلعبون). .
وهذا الوصف ينطبق ابتداء على أولئك المشركين ومعتقداتهم المتهافتة , وتصوراتهم المهلهلة ; وحياتهم القائمة على تلك المعتقدات وهذه التصورات , التي وصفها القرآن وحكاها في مواضع كثيرة . وهي لعب لا جد فيه . لعب يخوضون فيه كما يخوض اللاعب في الماء , غير قاصد إلى شاطئ أو هدف , سوى الخوض واللعب !
ولكنه يصدق كذلك على كل من يعيش بتصور آخر غير التصور الإسلامي . . وهذه حقيقة لا يدركها الإنسان إلا حين يستعرض كل تصورات البشر المشهورة - سواء في معتقداتهم أو أساطيرهم أو فلسفاتهم - في ظل التصور الإسلامي للوجود الإنساني ثم للوجود كله . . إن سائر التصورات - حتى لكبار الفلاسفة الذين يعتز بهم تاريخ الفكر الإنساني تبدو محاولات أطفال يخبطون ويخوضون في سبيل الوصول إلى الحقيقة . تلك الحقيقة التي تعرض في التصور الإسلامي - وبخاصة في القرآن - عرضا هادئا ناصعا قويا بسيطا عميقا . يلتقي مع الفطرة التقاء مباشرا دون كد ولا جهد ولا تعقيد . لأنه يطالعها بالحقيقة الأصيلة العميقة فيها . ويفسر لها الوجود وعلاقتها به , كما يفسر لها علاقة الوجود بخالقه تفسيرا يضاهي ما استقر فيها ويوافقه .
وطالما عجبت وأنا أطالع تصورات كبار الفلاسفة ; وألاحظ العناء القاتل الذي يزاولونه , وهم يحاولون
من الاية 13 الى الاية 13
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (13)
تفسير هذا الوجود وارتباطاته ; كما يحاول الطفل الصغير حل معادلة رياضية هائلة . . وأمامي التصور القرآني واضحا ناصعا سهلا هينا ميسرا طبيعيا , لا عوج فيه ولا لف ولا تعقيد ولا التواء . وهذا طبيعي , فالتفسير القرآني للوجود هو تفسير صانع هذا الوجود لطبيعته وارتباطاته . . أما تصورات الفلاسفة فهي محاولات أجزاء صغيرة من هذا الوجود لتفسير الوجود كله . والعاقبة معروفة لمثل هذه المحاولات البائسة !
إنه عبث . وخلط . وخوض . . حين يقاس إلى الصورة المكتملة الناضجة , المطابقة , التي يعرضها القرآن على الناس , فيدعها بعضهم إلى تلك المحاولات المتخبطة الناقصة , المستحيلة الاكتمال والنضوج !
وإن الأمور لتظل مضطربة في حس الإنسان وتصوره , متأثرة بالتصورات المنحرفة , وبالمحاولات البشرية الناقصة . . ثم يسمع آيات من القرآن في الموضوع الذي يساوره . فإذا النور الهادئ . والميزان الثابت . وإذا هو يجد كل شيء في موضعه , وكل أمر في مكانه , وكل حقيقة هادئة مستقرة لا تضطرب ولا تمور . ويحس بعدها أن نفسه استراحت , وأن باله هدأ , وأن عقله اطمأن إلى الحق الواضح , وقد زال الغبش والقلق واستقرت الأمور .
كذلك يبدو أن الناس في خوض يلعبون من ناحية اهتماماتهم في الحياة . حين تقاس بالاهتمامات التي يثيرها الإسلام في النفس , ويعلق بها القلب , ويشغله بتدبرها وتحقيقها . وتبدو تفاهة تلك الاهتمامات وضآلتها , والمسلم ينظر إلى اشتغال أهلها بها , وانغماسهم فيها , وتعظيمهم لها , وحديثهم عنها كأنها أمور كونية عظمى ! وهو ينظر إليهم كما ينظر إلى الأطفال المشغولين بعرائس الحلوى وبالدمى الميتة , يحسبونها شخوصا ; ويقضون أوقاتهم في مناغاتها واللعب معها وبها !!!
إن الإسلام يرفع من اهتمامات البشر بقدر ما يرفع من تصورهم للوجود الإنساني وللوجود كله ; وبقدر ما يكشف لهم عن علة وجودهم وحقيقته ومصيره ; وبقدر ما يجيب إجابة صادقة واضحة عن الأسئلة التي تساور كل نفس:من أين جئت ? لماذا جئت ? إلى أين أذهب ?
وإجابة الإسلام عن هذه الأسئلة تحدد التصور الحق للوجود الإنساني وللوجود كله . فإن الإنسان ليس بدعا من الخلائق كلها . فهو واحد منها . جاء من حيث جاءت . وشاركها علة وجودها . ويذهب إلى حيث تقتضي حكمة خالق الوجود كله أن يذهب . فالإجابة على تلك الأسئلة تشمل كذلك تفسيرا كاملا للوجود كله , وارتباطاته وارتباطات الإنسان به . وارتباط الجميع بخالق الجميع .
وهذا التفسير ينعكس على الاهتمامات الإنسانية في الحياة ; ويرفعها إلى مستواه . ومن ثم تبدو اهتمامات الآخرين صغيرة هزيلة في حس المسلم المشغول بتحقيق وظيفة وجوده الكبرى في هذا الكون , عن تلك الصغائر والتفاهات التي يخوض فيها اللاعبون !
إن حياة المسلم حياة كبيرة - لأنها منوطة بوظيفة ضخمة , ذات ارتباط بهذا الوجود الكبير , وذات أثر في حياة هذا الوجود الكبير . وهي أعز وأنفس من أن يقضيها في عبث ولهو وخوض ولعب . وكثير من اهتمامات الناس في الأرض يبدو عبثا ولهوا وخوضا ولعبا حين يقاس إلى اهتمامات المسلم الناشئة من تصوره لتلك الوظيفة الضخمة المرتبطة بحقيقة الوجود .
وويل لأولئك الخائضين اللاعبينيوم يدعون إلى نار جهنم دعا). . وهو مشهد عنيف . فالدع:الدفع
من الاية 14 الى الاية 20
هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (20)
في الظهور . وهي حركة غليظة تليق بالخائضين اللاعبين , الذين لا يجدون , ولا ينتبهون إلى ما يجري حولهم من الأمور . فيساقون سوقا ويدفعون في ظهورهم دفعا .
حتى إذا وصل بهم الدفع والدع إلى حافة النار قيل لهمهذه النار التي كنتم بها تكذبون !). .
وبينما هم في هذا الكرب , بين الدع والنار التي تواجههم على غير إرادة منهم . يجيئهم الترذيل والتأنيب , والتلميح إلى ما سبق منهم من التكذيبأفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ?). فقد كانوا يقولون عن القرآن:إنه سحر . فهل هذه النار التي يرونها كذلك سحر ?! أم إنه الحق الهائل الرعيب ? أم إنهم لا يبصرون هذه النار كما كانوا لا يبصرون الحق في القرآن الكريم ?!
وحين ينتهي هذا التأنيب الساخر المرير يعاجلهم بالتيئيس البئيس .(اصلوها . فاصبروا أو لا تصبروا . سواء عليكم . إنما تجزون ما كنتم تعملون). .
وليس أقسى على منكوب بمثل هذه النكبة . من أن يعلم أن الصبر وعدم الصبر سواء . فالعذاب واقع , ما له من دافع . وألمه واحد مع الصبر ومع الجزع . والبقاء فيه مقرر سواء صبر عليه أم هلع . . والعلة أنه جزاء على ما كان من عمل . فهو جزاء له سببه الواقع فلا تغيير فيه ولا تبديل !
وبذلك ينتهي هذا المشهد الرعيب ; كما ينتهي الشوط الأول بإيقاعه العنيف .
الدرس الثاني:17 - 28 مشاهد من نعيم المتقين في الجنة
أما الشوط الثاني فهو مثير للحس , ولكن بما فيه من رخاء ورغد , وهتاف بالمتاع لا يقاوم , وبخاصة بعد مشهد العذاب البئيس:
(إن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم , ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان , ألحقنا بهم ذريتهم , وما ألتناهم من عملهم من شيء , كل امرئ بما كسب رهين . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون , يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم . ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا:إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ; فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه , إنه هو البر الرحيم). .
والمشهد أقرب إلى مشاهد النعيم الحسي , الذي يخاطب المشاعر في أول العهد , والذي يجتذب النفوس بلذائذ الحس في صورتها المصفاة . وهو مقابل لذلك العذاب الغليظ التي تواجه به القلوب الجاسية والقلوب اللاهية كذلك:
(إن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم , ووقاهم ربهم عذاب الجحيم). .
ومجرد الوقاية من عذاب الجحيم الذي عرضت مشاهده في هذه السورة فضل ونعمة . فكيف ومعه (جنات ونعيم)? وهم يلتذون ما آتاهم ربهم ويتفكهون ?
ومع النعيم ولذته التهنئة والتكريم:
(كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون). .
وهذا بذاته متاع أكرم . وهم ينادون هذا النداء العلوي , ويعلن استحقاقهم لما هم فيه:
(متكئين على سرر مصفوفة). . منسقة يجدون فيها لذة التجمع بإخوانهم في هذا النعيم: (وزوجناهم بحور
من الاية 21 الى الاية 28
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
عين). . وهذه تمثل أمتع ما يجول في خواطر البشر من متاع جميل .
ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم , زيادة في الرعاية والعناية . ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين , ما دامت هذه الذرية مؤمنة . وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم . ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه , إنما هو فضل الله على الجميع:
(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم . وما ألتناهم من عملهم من شيء . كل امرئ بما كسب رهين). .
ويستطرد المشهد يعرض ألوان المناعم واللذائذ في ذلك النعيم . فإذا فاكهة ولحم مما يشتهون . وإذا هم يتعاطون فيها كأسا ليست كخمر الدنيا تطلق اللغو والهذر من الشفاه والألسنة , وتشيع الإثم والمعصية في الحس والجوارح . إنما هي مصفاة مبرأة: (لا لغو فيها ولا تأثيم). . وهم يتجاذبونها بينهم ويتعاطونها مجتمعين , زيادة في الإيناس واللذة والنعيم . في حين يقوم على خدمتهم ويطوف بالكأس عليهم غلمان صباح أبرياء , فيهم نظافة , وفيهم صيانة , وفيهم نداوة: (كأنهم لؤلؤ مكنون)مما يضاعف إيناس المجلس اللطيف في الجوارح والقلوب .
واستكمالا لجو المشهد المأنوس يعرض سمرهم فيما بينهم , وتذاكرهم ماضيهم , وأسباب ما هم فيه من أمن ورضى ورخاء ورغد وأنس ونعيم . فيكشف للقلوب عن سر هذا المتاع , ويشير إلى الطريق المؤدي إلى هذا النعيم:
(وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا:إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه , إنه هو البر الرحيم). .
السر إذن أنهم عاشوا على حذر من هذا اليوم . عاشوا في خشية من لقاء ربهم . عاشوا مشفقين من حسابه . عاشوا كذلك وهم في أهلهم , حيث الأمان الخادع . ولكنهم لم ينخدعوا . وحيث المشغلة الملهية . ولكنهم لم ينشغلوا .
عندئذ من الله عليهم ووقاهم عذاب السموم , الذي يتخلل الأجساد كالسم الحار اللاذع ! وقاهم هذا العذاب منة منه وفضلا , لما علم من تقواهم وخشيتهم وإشفاقهم . وهم يعرفون هذا . ويعرفون أن العمل لا يدخل صاحبه الجنة إلا بمنة من الله وفضل . فما يبلغ العمل أكثر من أن يشهد لصاحبه أنه بذل جهده , ورغب فيما عند الله . وهذا هو المؤهل لفضل الله .
وقد كانوا مع الإشفاق والحذر والتقوى يدعون الله: (إنا كنا من قبل ندعوه). . وهم يعرفون من صفاته البر بعباده والرحمة بعبيده: (إنه هو البر الرحيم). .
وكذلك ينكشف سر الوصول في تناجي هؤلاء الناجين المكرمين في دار النعيم .
الدرس الثالث:29 - 44 توجيهات للرسول وأدلة على الوحدانية
والأن وقد تلقى الحس سياط العذاب العنيف في الشوط الأول ; وتلقى هتاف النعيم الرغيد في الشوط الثاني ; وتوفزت بهذا وذلك حساسيته لتلقي الحقائق . . فإن السياق يعاجله بحملة سريعة الإيقاعات . يطارده فيها بالحقائق الصادعة , ويتعقب وساوسه في مسارب نفسه في صورة استفهامات استنكارية , وتحديات قوية , لا يثبت لها الكيان البشري حين تصل إليه من أي طريق:
(فذكر . فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون:شاعر نتربص به ريب المنون ? قل:تربصوا
من الاية 29 الى الاية 33
فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (33)
فإني معكم من المتربصين . أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون ? أم يقولون:تقوله ? بل لا يؤمنون . فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين . أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? أم خلقوا السماوات والأرض ? بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك ? أم هم المسيطرون ? أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين . أم له البنات ولكم البنون ? أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ? أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? أم يريدون كيدا ? فالذين كفروا هم المكيدون . أم لهم إله غير الله ? سبحان الله عما يشركون . وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا:سحاب مركوم). .
(فذكر). . والخطاب للرسول [ ص ] ليظل في تذكيره لا يثنيه سوء أدبهم معه , وسوء اتهامهم له . وقد كانوا يقولون عنه مرة:إنه كاهن . ويقولون عنه مرة:إنه مجنون . ويجمع بين الوصفين عندهم ما كان شائعا بينهم أن الكهان يتلقون عن الشياطين . وأن الشيطان كذلك يتخبط بعض الناس , فيصابون بالجنون . فالشيطان هو العامل المشترك بين الوصفين:كاهن أو مجنون ! وكان يحملهم على وصف النبي [ ص ] بهذا الوصف أو ذاك , أو بقولهم إنه شاعر أو ساحر . كان يحملهم على هذا كله موقفهم مبهوتين أمام القرآن الكريم المعجز الذي يبدههم بما لم يعهدوا من القول , وهم أهل القول ! ولما كانوا لا يريدون - لعلة في نفوسهم - أن يعترفوا أنه من عند الله , فقد احتاجوا أن يعللوا مصدره المتفوق على البشر . فقالوا:إنه من إيحاء الجن أو بمساعدتهم . فصاحبه إما كاهن يتلقى من الجن , أو ساحر يستعين بهم , أو شاعر له رئي من الجن , أو مجنون به مس من الشيطان ينطقه بهذا القول العجيب !
وإنها لقولة فظيعة شنيعة . فالله - سبحانه - يسلي رسوله عنها , ويصغر من شأنها في نفسه . وهو يشهد له أنه محوط بنعمة ربه , التي لا تكون معها كهانة ولا جنون: (فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون). .
ثم يستنكر قولهم:إنه شاعرأم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ?). . وقد قالوها . وقال بعضهم لبعض:اصبروا عليه , واثبتوا على ما أنتم فيه , حتى يأتيه الموت , فيريحنا منه ! وتواصوا أن يتربصوا به الموت المريح . ومن ثم يلقن الرسول [ ص ] أن يرد عليهم في تهديد ملفوفقل:تربصوا . فإني معكم من المتربصين). . وستعلمون من تكون له العاقبة , ومن ينتهي به التربص إلى النصر والظهور .
ولقد كان شيوخ قريش يلقبون بذوي الحلوم . أو ذوي الأحلام . إشارة إلى رجاحة عقولهم وحكمتهم في تصريف الأمور . فهو يتهكم بهم وبأحلامهم تجاه الإسلام . وموقفهم منه ينافي الحكمة والعقل , فيسأل في تهكم:أهذه الأوصاف التي يصفون بها محمدا [ ص ] وتلك المواقف التي يقفونها من رسالته كانت من وحي أحلامهم ? أم أنهم طغاة ظالمون لا يقفون عند ما تمليه الأحلام والعقول:
(أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون)!
وفي السؤال الأول تهكم لاذع . وفي السؤال الثاني اتهام مزر . وواحد منهما لا بد لاحق بهم في موقفهم المريب !
ولقد تطاولت ألسنتهم على رسول الله [ ص ] فاتهموه بافتراء ما يقول . فهو هنا يسأل في استنكار:إن كانوا يقولون:تقوله:كأن هذه الكلمة لا يمكن أن تقال . فهو يسأل عنها في استنكار: (أم يقولون تقوله ?). . ويبادر ببيان علة هذا القول الغريب: (بل لا يؤمنون). فعدم استشعار قلوبهم للإيمان , هو الذي ينطقهم بمثل هذا القول ; بعد أن يحجبهم عن إدراك حقيقة هذا القرآن . ولو أدركوها لعلموا أنه ليس من صنع بشر ; وأنه لا يحمله إلا صادق أمين .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الطور ايه34 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الطور ايه 15==32
» تفسير سورة الذ اريات ايه 52==حتى 15 من سورة الطور
» تفسير سورة الطور عدد آياتها 49 ( آية 29-49 )
» تفسير سورة الطور ايه 32--== الى اخر السورة
» تفسير سورة الطور ايه 15==32
» تفسير سورة الذ اريات ايه 52==حتى 15 من سورة الطور
» تفسير سورة الطور عدد آياتها 49 ( آية 29-49 )
» تفسير سورة الطور ايه 32--== الى اخر السورة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى