تفسير سورة الذاريات ايه رقم1 الى 21 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الذاريات ايه رقم1 الى 21 الشيخ سيد قطب
من الاية 1 الى الاية 4
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4)
تقديم لسورة الذاريات
هذه السورة ذات جو خاص . فهي تبدأ بذكر قوى أربعة . . من أمر الله . . في لفظ مبهم الدلالة , يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر . يقسم الله - تعالى - على أمر: والذاريات ذروا , فالحاملات وقرا , فالجاريات يسرا , فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع . .
والذاريات . والحاملات . والجاريات . والمقسمات . . مدلولاتها ليست متعارفة , وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار , كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل . ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة .
وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماءوالسماء ذات الحبك). . يقسم بها الله تعالى . على أمرإنكم لفي قول مختلف). . لا استقرار له ولا تناسق فيه , قائم على التخرصات والظنون , لا على العلم واليقين . .
هذه السورة:بافتتاحها على هذا النحو , ثم بسياقها كله , تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله . . ربط القلب البشري بالسماء ; وتعليقه بغيب الله المكنون ; وتخليصه من أوهاق الأرض , وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله , والانطلاق إليه جملة , والفرار إليه كلية , استجابة لقوله في السورة: (ففروا إلى الله). . وتحقيقا لإرادته في عبادهوما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). .
ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره , وتطمين النفس من جهته , وتعليق القلب بالسماء في شأنه , لا بالأرض وأسبابها القريبة . وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها . إما مباشرة كقوله تعالىوفي السماء رزقكم وما توعدون). .(إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). . وإما تعريضا كقوله يصور حال عباده المتقين مع المالوفي أموالهم حق للسائل والمحروم). . ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل - أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة - بعجل سمين , يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه , وبمجرد إلقاء السلام عليه , وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة !
فتخليص القلب من أوهاق الأرض , وإطلاقه من إسار الرزق , وتعليقه بالسماء , ترف أشواقه حولها , ويتطلع إلى خالقها في علاه , بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق , ويعوقه عن الفرار إلى الله . هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها . ومن ثم كان هذا الاقتتاح , وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها , وكان القسم بعده بالسماء , وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضا . .
وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورةإن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). . فهي صورة التطلع إلى الله , والتجرد له , والقيام في عبادته بالليل , والتوجه إليه في الأسحار . مع إرخاص المال , والتخلص من ضغطه , وجعل نصيب السائل والمحروم حقا فيه .
وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق , لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبةوفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وفي السماء رزقكم وما توعدون). .
وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء الله للسماء على سعة , وتمهيده للأرض في يسر , وخلقه ما فيها من أزواج , والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى الله: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون . والأرض فرشناها فنعم الماهدون .ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون . ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين). .
وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة , عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس , ووظيفتهما الرئيسية الأولىوما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). .
فهو إيقاع واحد مطرد . ذو نغمات متعددة . ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع , وتطلق ذلك الحداء . الحداء بالقلب البشري إلى السماء !
وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط , وقصة موسى , وقصة عاد , وقصة ثمود , وقصة قوم نوح . وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال ; كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم , ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار . وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورةإنما توعدون لصادق)والذي أشار إليه في ختامها إنذارا للمشركينفإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون). . بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيبكذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا:ساحر أو مجنون . أتواصوا به ? بل هم قوم طاغون !). .
فالقصص في السورة - على هذا النحو - مرتبط بموضوعها الأصيل . وهو تجريد القلب لعبادة الله , وتخليصه من جميع العوائق , ووصله بالسماء . بالإيمان أولا واليقين . ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم .
الدرس الأول:1 - 6 القسم بالمخلوقات على حقيقة البعث
الذاريات ذروا , فالحاملات وقرا , فالجاريات يسرا , فالمقسمات أمرا . . إن ما توعدون لصادق , وإن الدين لواقع . .
هذه الإيقاعات القصيرة السريعة , بتلك العبارات الغامضة الدلالة , تلقي في الحس - كما تقدم - إيحاء خاصا , وتلقي ظلا معينا , يعلق القلب بأمر ذي بال , وشأن يستحق الانتباه . وقد احتاج غير واحد في العهد الأول أن يستفسر عن مدلول الذاريات , والحاملات , والجاريات , والمقسمات . .
قال ابن كثير في التفسير:قال شعبة بن الحجاج , عن سماك بن خالد بن عرعرة , أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة , عن أبي الطفيل , أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه صعد منبر الكوفة فقال:لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله [ ص ] إلا أنبأتكم بذلك . فقام ابن الكواء , فقال:يا أمير المؤمنين , ما معنى قوله تعالىوالذاريات ذروا)? قال علي - رضي الله عنه:الريح . قالفالحاملات وقرا)? قال - رضي الله عنه -:السحاب . قالفالجاريات يسرا)? قال - رضي الله عنه -:السفن . قالفالمقسمات أمرا)? قال - رضي الله عنه -:الملائكة .
وجاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فسأله عنها فأجابه بمثل ما روي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وقد أحس عمر - رضي الله عنه - أنه يسأل عنها تعنتا وعنادا فعاقبه ومنعه من مجالسة الناس حتى تاب وحلف بالأيمان المغلظة:ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . . وهذه الرواية
من الاية 5 الى الاية 9
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
تشي كذلك بأن غموض مدلولات هذه التعبيرات هو الذي جعل المتعنتين يستترون وراءها ويسألون عنها !
وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ; ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك [ كما قال ابن كثير ] .
أقسم الله - سبحانه - بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل . وبالسحاب الحاملات وقرا من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء . وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير . ثم بالملائكة المقسمات أمرا , تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته , فتفصل في الشؤون المختصة بها , وتقسم الأمور في الكون بحسبها .
والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله , يتخذها أداة لقدرته , وستارا لمشيئته , ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده . وهو يقسم بها - سبحانه - للتعظيم من شأنها , وتوجيه القلوب إليها , لتدبر ما وراءها من دلالة ; ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم . وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة ; ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي .
ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق , الذي يعني سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه , وإعفائه من أثقاله . فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه . أما الملائكة وتقسيمها للأمر , فإن الرزق أحد هذه القسم . ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى .
يقسم الله - سبحانه - بهذه الخلائق الأربع على: إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع . . وقد وعد الله الناس:أنه مجازيهم بالإحسان إحسانا , ومجازيهم بالسوء سوءا . وأنه إذا أمهلهم الحساب في الأرض , فليس بمهمل حسابهم في الآخرة فالحساب لا بد منه هناك !(وإن الدين لواقع). . فالوعد صادق حتما إما هنا وإما هناك . . ومما وعدهم كذلك الرزق وكفالته لهم مبسوطا أو مقدرا - وفق مشيئته - ووعده حق في هذا كما هو حق في كل شأن .
ولا بد أن يتحقق ما وعد الله به الناس في الصورة التي يريدها , وفي الوقت الذي يريده , وما يحتاج الأمر إلى قسم منه - سبحانه - إنما يقسم بخلائقه تلك لتوجيه القلب إليها - كما تقدم - وتدبر ما وراءها من إبداع وقدرة وتدبير يوحي للقلب بأن وعد الله - باريء هذه الخلائق بهذا النظام وهذا التقدير - لا بد صادق ; وأن حسابه على الخير والشر والصلاح والفساد لا بد واقع . فإن طبيعة هذه الخلائق توحي بأن الأمر ليس عبثا ولا مصادفة ولا جزافا . . وهكذا تصبح تلك الخلائق آيات وبراهين ذات دلالة إيحائية قوية بفضل هذا القسم الذي يلفت القلب إليها لفتا , ويوجه الحس إليها توجيها . فهي طريقة من طرق الإيحاء والتربية , ومخاطبة الفطرة بلغة الكون خطابا مباشرا !
الدرس الثاني:7 - 14 القسم على إختلاف الناس في الحق وخسارة الكافرين الشاكين في البعث
والقسم الثاني كذلك . .
(والسماء ذات الحبك , إنكم لفي قول مختلف , يؤفك عنه من أفك). .
يقسم بالسماء المنسقة المحكمة التركيب . كتنسيق الزرد المتشابك المتداخل الحلقات . . وقد تكون هذه إحدى
من الاية 10 الى الاية 15
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
هيئات السحب في السماء حين تكون موشاة كالزرد مجعدة تجعد الماء والرمل إذا ضربته الريح . وقد يكون هذا وضعا دائما لتركيب الأفلاك ومداراتها المتشابكة المتناسقة .
يقسم بالسماء المنسقة المحبوكة على أنهم في قول مختلف , مضطرب لا قوام له ولا قرار , ولا ثبات له ولا استقرار , يصرف عنه من صرف ويبقى عليه من بقي , فلا استقرار عليه ولا توافق ولا ثبات . بل الحيرة دائمة والقلق لا يزال . وكذلك الباطل دائما أرض مرجرجة مهتزة ; وتيه لا معالم فيه ولا نور ; وهو يتأرجح ولا يفيء إلى أصل ثابت , ولا ميزان دقيق . ولا يجتمع عليه أهله إلا لينصرفوا ويتفرقوا بعد حين ; ويدب الخلاف بينهم والشقاق . .
ويتضح اضطرابهم واختلافهم وما هم فيه من الأمر المريج:حين يعرض في ظل السماء ذات الحبك المنسقة التركيب .
ثم يستطرد فيقرر أنهم يعيشون في أوهام وظنون في أمر الآخرة , لا يستندون فيها إلى حق أو يقين . فهم في قول مختلف في هذا الحق المبين . ثم يصور لهم ذلك اليوم في مشهد حي تتملاه العيون:
(قتل الخراصون . الذين هم في غمرة ساهون . يسألون:أيان يوم الدين ? يوم هم على النار يفتنون . ذوقوا فتنتكم , هذا الذي كنتم به تستعجلون). .
والخرص:الظن والتقدير الجزاف الذي لا يقوم على ميزان دقيق . والله - سبحانه - يدعوا عليهم بالقتل . فيا للهول ! ودعوة الله عليهم بالقتل قضاء بالقتل !(قتل الخراصون)ويزيد أمرهم وضوحاالذين هم في غمرة ساهون)فهم مغمورون بالأضاليل والأوهام لا يفيقون ولا يستيقظون . والتعبير يلقي ظلا خاصا , يصور القوم مغمورين ساهين لا يشعرون بشيء مما حولهم ولا يتبينون . كأنهم سكارى مذهولون !
ذلك أنهم لا يتبينون الأمر الواضح , الذي يراه ويوقن به كل واع غير مذهول ; فهم(يسألون:أيان يوم الدين)? يسألون هكذا , لا طلبا للعلم والمعرفة , ولكن استنكارا وتكذيبا , واستبعادا لمجيئه , يعبر عنه لفظ(أيان)المقصود !
ومن ثم يعالجهم بمشهدهم في هذا اليوم الذي يستبعدونه ويستنكرونه ; وهم يحرقون بالنار كحرق المعدن لتمييز حقيقتهيوم هم على النار يفتنون)! ومعه التبكيت المؤلم في الموقف العصيبذوقوا فتنتكم . هذا الذي كنتم به تستعجلون). .
فهذه المعالجة هي الجواب اللائق بهذا التساؤل . وهذا العنف في المشهد هو المقابل للذهول والسهوة التي يعيش فيها الخراصون . وهو مصداق دعوة الله عليهم بالقتل في أشد صوره وأعنفها:يوم هم على النار يفتنون !
الدرس الثالث:15 - 16 من صفات المتقين
وعلى الضفة الأخرى وفي الصفحة المقابلة يرتسم مشهد آخر , لفريق آخر , فريق مستيقن لا يخرص ; تقي لا يتبجح ; مستيقظ يعبد ويستغفر , ولا يقضي العمر في غمرة وذهول:
(إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). .
فهذا الفريق . فريق المتقين . الأيقاظ . الشديدي الحساسية برقابة الله لهم , ورقابتهم هم لأنفسهم . هؤلاء (في جنات وعيون). . (آخذين ما آتاهم ربهم)من فضله وإنعامه , جزاء ما أسلفوا في الحياة الدنيا من عبادة
من الاية 16 الى الاية 20
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)
لله كأنهم يرونه , ويقين منهم بأنه يراهم: (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين). .
ويصور إحسانهم صورة خاشعة , رفافة حساسة:
(كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون). .
فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام , المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام لا يطعمون الكرى إلا قليلا , ولا يهجعون في ليلهم إلا يسيرا . يأنسون بربهم في جوف الليل فتتجافى جنوبهم عن المضاجع , ويخف بهم التطلع فلا يثقلهم المنام !
قال الحسن البصريكانوا قليلا من الليل ما يهجعون). . كابدوا قيام الليل , فلا ينامون من الليل إلا أقله , ونشطوا فمدوا إلى السحر , حتى كان الاستغفار بسحر .
وقال قتادة:قال الأحنف بن قيسكانوا قليلا من الليل ما يهجعون). . كانوا لا ينامون إلا قليلا . ثم يقول:لست من أهل هذه الآية .
قال الحسن البصري:كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة , فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا , إذ نحن قوم لا نبلغ أعمالهم . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وعرضت عملي على عمل أهل النار , فإذا قوم لا خير فيهم , مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بالبعث بعد الموت . فقد وجدت من خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:قال رجل من بني تميم لأبي:يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا . ذكر الله تعالى قوما فقالكانوا قليلا من الليل ما يهجعون). ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم ! فقال له أبي - رضي الله عنه -:طوبى لمن رقد إذا نعس , واتقى الله إذا استيقظ .
فهي حال يتطلع إليها رجال من التابعين - ذوي المكانة في الإيمان واليقين - ويجدون أنفسهم دونها . اختص بها ناس ممن اختارهم الله , ووفقهم إلى القيام بحقها . وكتبهم بها عنده من المحسنين .
وهذه حالهم مع ربهم , فأما حالهم مع الناس , وحالهم مع المال , فهو مما يليق بالمحسنين:
(وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). .
فهم يجعلون نصيب السائل الذي يسأل فيعطى , ونصيب المحروم الذي يسكت ويستحيي فيحرم . يجعلون نصيب هذا وهذا حقا مفروضا في أموالهم . وهم متطوعون بفرض هذا الحق غير المحدود .
وهذه الإشارة تتناسق مع علاج السورة لموضوع الرزق والمال , لتخليص القلب من أوهاق الشح وأثقال البخل وعوائق الانشغال بالرزق . وتمهد للمقطع التالي في السورة , في الوقت الذي تكمل سمة المتقين وصورة المحسنين .
الدرس الرابع:20 - 23 من آيات الله في الأنفس والأرض وضمان الله للرزق (وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون ? وفي السماء رزقكم وما توعدون . فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون . .
وهي لفتة إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس ; وتوجيه إلى السماء في شأن الرزق المكتوب والحظ المقدور . تختم بقسم عظيم . قسم الله - سبحانه - بذاته بوصف (رب السماء والأرض اللتين ورد ذكرهما في هذا المقطع . على أن هذا القول الذي جاءهم من عنده حق يقين . .(وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون)? . .
هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته . معرض لم نستجل منه حتى اللحظة إلا القليل من بدائعه . ونحن نكشف في كل يوم جديدا منه , ونطلع منه على جديد . . ومثل هذا المعرض , معرض آخر مكنون فينا نحن . . النفس الإنسانية . . الخفية الأسرار , التي تنطوي فيها أسرار هذا الوجود كله , لا أسرار الكوكب الأرضي وحده !
وإلى هذين المعرضين الهائلين تشير الآيتان تلك الإشارة المختصرة , التي تفتح هذين المعرضين على مصاريعهما لمن يريد أن يبصر , ولمن يريد أن يستيقن , ولمن يريد أن يملأ حياته حتى تفيض بالمتعة والمسرة , وبالعبرة الحية , وبالرصيد القيم من المعرفة الحقة , التي ترفع القلوب وتضاعف الأعمار !
والنصوص القرآنية معدة للعمل في جميع الأوساط والبيئات والظروف والأحوال . قادرة على إعطاء رصيد معين لكل نفس ولكل عقل ولكل إدراك . كل بقدر ما يتقبل منها وما يطيق .
وكلما ارتقى الأنسان في المعرفة , واتسعت مداركه , وزادت معلوماته , وكثرت تجاربه , واطلع على أسرار الكون وأسرار النفس . . ارتقى نصيبه , وتضخم رصيده , وتنوع زاده الذي يتلقاه من نصوص القرآن . . هذا الكتاب الذي "لا تنفد عجائبه , ولا يخلق على كثرة الرد" كما يقول عنه النبي الذي تلقاه واستوعب أسراره , وعاش بها . يقول عن تجربة حية وجدها في نفسه فعبر عنها ذلك التعبير - صلوات الله وسلامه عليه - .
ولقد وجد الذين سمعوا هذا القرآن أول مرة من آيات الله في الأرض وآياته في النفس , نصيبهم , وتسلموا رصيدهم , وفق معارفهم وتجاربهم وإشراقات نفوسهم . ووجد كذلك كل جيل أتى بعدهم نصيبا يناسب ما تفتح له من أنواع العلوم والمعارف والتجارب . ونجد نحن نصيبنا وفق ما اتسع لنا من رقعة العلم والمعرفة والتجريب , وما تكشف لنا من أسرار لا تنفد في هذا الكون الكبير . وستجد الأجيال بعدنا نصيبها مدخرا لها من الآيات التي لم تكشف لنا بعد في الأرض والنفس . ويبقى هذان المعرضان الإلهيان الهائلان حافلين بكل عجيب وجديد إلى آخر الزمان .
هذه الأرض . هذا الكوكب المعد للحياة , المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه , على نحو يكاد يكون فريدا في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل , الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة . التي يبلغ عدد المعروف منها فقط - والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون - مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم والكواكب هي توابع هذه النجوم !
ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته . ولو اختلفت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها . . لو تغير حجمها صغرا أو كبرا , لو تغير وضعها من الشمس قربا أوبعدا . لو تغير حجم الشمس ودرجة حرارتها . لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا . لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ . لو تغير حجم القمر - تابعها - أو بعده عنها . لو تغيرت نسبة الماء واليابس فيها زيادة أو نقصا . . . لو . لو . لو . . . إلى آلاف الموافقات المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته .
أليست هذه آية أو آيات معروضة في هذا المعرض الإلهي ?
ثم . هذه الأقوات المذخورة في الأرض للأحياء التي تسكنها . تسكن سطحها , أو تسبح في أجوائها , أو تمخر ماءها , أو تختبيء في مغاورها وكهوفها , أو تختفي في مساربها وأجوافها . . هذه الأقوات الجاهزة المركبة والبسيطة والقابلة للوجود في شتى الأشكال والأنواع لتلبي حاجة هذه الأحياء التي لا تحصى , ولا تحصى أنواعغذائها أيضا . . هذه الأقوات الكامنة في جوفها , والساربة في مجاريها , والسابحة في هوائها , والنابتة على سطحها , والقادمة إليها من الشمس ومن عوالم أخرى بعضها معروف وبعضها مجهول , ولكنها تتدفق وفق تدبير المشيئة المدبرة التي خلقت هذا المحضن لهذا النوع من الحياة , وجهزته بكل ما يلزم للأنواع الكثيرة التي لا تحصى .
وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها , حيثما امتد الطرف , وحيثما تنقلت القدم . وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد:من وهاد وبطاح , ووديان وجبال ; وبحار وبحيرات , وأنهار وغدران . وقطع متجاورات , وجنات من أعناب , وزرع , ونخيل صنوان وغير صنوان . . وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير . ويمر به الإنسان وهو ممحل فإذا هو مشهد , ويمر به وهو ممرع فإذا هو مشهد آخر . ويراه وهو نبت خضر فإذا هو مشهد , ويراه إبان الحصاد حين يهيج ويصفر فإذا هو مشهد آخر . وهو هو لم ينتقل باعا ولا ذراعا في المكان !
والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء . نباتا وحيوانا . وطيرا وسمكا , وزواحف وحشرات . . بله الإنسان فالقرآن يفرده بنص خاص . . هذه الخلائق التي لم يعرف عدد أنواعها وأجناسها بعد - فضلا على إحصاء أعدادها وأفرادها وهو مستحيل - وكل خليقة منها أمة ! وكل فرد منها عجيبة . كل حيوان . كل طائر . كل زاحفة . كل حشرة . كل دودة . كل نبتة:لا بل كل جناح في يرقة , وكل ورقة في زهرة , وكل قصبة في ورقة ! في ذلك المعرض الإلهي العجيب الذي لا تنقضي عجائبه .
ولو مضى الإنسان - بل لو مضى الأناسي جميعا - يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب , وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات , ما انتهى لهم قول ولا إشارة . والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر , واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل , طوال الرحلة على هذا الكوكب , والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة .
غير أنه لا يدرك هذه العجائب , ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع , إلا القلب العامر باليقين .(وفي الأرض آيات للموقنين). . فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك ; وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة , وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع . وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء ; لا تنطق للقلب بشيء ; ولا تتجاوب معه بشيء . وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب . لا يحسون فيه حياة , ولا يفقهون له لغة ; لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم , ولم تبث الحياة فيما حولهم ! وقد يكون منهم علماء (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا). أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم , فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان , ولا تراها إلا بنور اليقين . . وصدق الله العظيم .
ثم العجيبة الأخرى التي تدب على هذه الأرض:
(وفي أنفسكم , أفلا تبصرون ?). .
وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض . ولكنه يغفل عن قيمته , وعن أسراره الكامنة في كيانه , حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين .
إنه عجيبة في تكوينه الجسماني:في أسرار هذا الجسد . عجيبة في تكوينه الروحي:في أسرار هذه النفس . وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه . وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه:
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير . تكوين أعضائه وتوزيعها . وظائفها
من الاية 21 الى الاية 21
وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
وطريقة أدائها لهذه الوظائف . عملية الهضم والامتصاص . عملية التنفس والاحتراق . دورة الدم في القلب والعروق . الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم . الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه . تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها , وتجاوبها الكامل الدقيق . وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب . وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب .
وأسرار روحه وطاقاتها المعلومة والمجهولة . . إدراكه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكرها . هذه المعلومات والصور المختزنة . أين ? وكيف ? هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت ? وأين ? وكيف تستدعى فتجيء . . وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى . فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر . تظهر آثاره بين الحين والحين في لمسات وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيب المجهول .
ثم أسرار هذا الجنس في توالده وتوارثه . خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص ; وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين . فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة ? وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل , فتمثله أدق تمثيل , وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب ?!
وإن وقفة أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض , وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه , ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة . إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب , وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان , لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان !
وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات . بل أمام النطق ذاته . نطق هذا اللسان . وتصويت تلك الحنجرة . إنها عجيبة . عجيبة تفقد وقعها لأنها تمر بنا كثيرا . ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وقعها . إنها خارقة . خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله .
وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمام خارقة من الخوارق , لا ينقضي منها العجب ;(وفي أنفسكم . أفلا تبصرون ?). .
وكل فرد من هذا الجنس عالم وحده . ومرآة ينعكس من خلالها هذا الوجود كله في صورة خاصة لا تتكرر أبدا على مدار الدهور . ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعا لا في شكله وملامحه , ولا في عقله ومداركه , ولا في روحه ومشاعره . ولا في صورة الكون كما هي في حسه وتصوره . ففي هذا المتحف الإلهي العجيب الذي يضم ملايين الملايين , كل فرد نموذج خاص , وطبعة فريدة لا تتكرر . يمر من خلالها الوجود كله في صورة كذلك لا تتكرر . كما لا توجد بصمة أصابع مماثلة لبصمة أصابع أخرى في هذه الأرض في جميع العصور !
وكثير من عجائب الجنس البشري مكشوفة للبصر , تراه العيونوفي أنفسكم . أفلا تبصرون ?):وما تراه العيون من عجائبه يشير إلى المغيب المكنون .
وهذه العجائب لا يحصرها كتاب . فالمعلوم المكشوف منها يحتاج تفصيله إلى مجلدات . والمجهول منها ما يزال أكثر من المعلوم , والقرآن لا يحصيها ولا يحصرها . ولكنه يلمس القلب هذه اللمسة ليستيقظ لهذا المتحف الإلهي المعروض للأبصار والبصائر . وليقضي رحلته على هذا الكوكب في ملاحظة وتدبر , وفي متاع رفيع بتأمل هذا الخلق العجيب , الكامن في ذات نفسه وهو عنه غافل مشغول .
وإنها للحظات ممتعة حقا تلك التي يقضيها الإنسان يتأمل وجوه الخلق وسماتهم وحركاتهم وعاداتهم , بعين
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4)
تقديم لسورة الذاريات
هذه السورة ذات جو خاص . فهي تبدأ بذكر قوى أربعة . . من أمر الله . . في لفظ مبهم الدلالة , يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر . يقسم الله - تعالى - على أمر: والذاريات ذروا , فالحاملات وقرا , فالجاريات يسرا , فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع . .
والذاريات . والحاملات . والجاريات . والمقسمات . . مدلولاتها ليست متعارفة , وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار , كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل . ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة .
وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماءوالسماء ذات الحبك). . يقسم بها الله تعالى . على أمرإنكم لفي قول مختلف). . لا استقرار له ولا تناسق فيه , قائم على التخرصات والظنون , لا على العلم واليقين . .
هذه السورة:بافتتاحها على هذا النحو , ثم بسياقها كله , تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله . . ربط القلب البشري بالسماء ; وتعليقه بغيب الله المكنون ; وتخليصه من أوهاق الأرض , وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله , والانطلاق إليه جملة , والفرار إليه كلية , استجابة لقوله في السورة: (ففروا إلى الله). . وتحقيقا لإرادته في عبادهوما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). .
ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره , وتطمين النفس من جهته , وتعليق القلب بالسماء في شأنه , لا بالأرض وأسبابها القريبة . وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها . إما مباشرة كقوله تعالىوفي السماء رزقكم وما توعدون). .(إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). . وإما تعريضا كقوله يصور حال عباده المتقين مع المالوفي أموالهم حق للسائل والمحروم). . ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل - أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة - بعجل سمين , يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه , وبمجرد إلقاء السلام عليه , وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة !
فتخليص القلب من أوهاق الأرض , وإطلاقه من إسار الرزق , وتعليقه بالسماء , ترف أشواقه حولها , ويتطلع إلى خالقها في علاه , بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق , ويعوقه عن الفرار إلى الله . هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها . ومن ثم كان هذا الاقتتاح , وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها , وكان القسم بعده بالسماء , وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضا . .
وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورةإن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). . فهي صورة التطلع إلى الله , والتجرد له , والقيام في عبادته بالليل , والتوجه إليه في الأسحار . مع إرخاص المال , والتخلص من ضغطه , وجعل نصيب السائل والمحروم حقا فيه .
وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق , لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبةوفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وفي السماء رزقكم وما توعدون). .
وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء الله للسماء على سعة , وتمهيده للأرض في يسر , وخلقه ما فيها من أزواج , والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى الله: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون . والأرض فرشناها فنعم الماهدون .ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون . ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين). .
وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة , عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس , ووظيفتهما الرئيسية الأولىوما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). .
فهو إيقاع واحد مطرد . ذو نغمات متعددة . ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع , وتطلق ذلك الحداء . الحداء بالقلب البشري إلى السماء !
وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط , وقصة موسى , وقصة عاد , وقصة ثمود , وقصة قوم نوح . وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال ; كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم , ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار . وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورةإنما توعدون لصادق)والذي أشار إليه في ختامها إنذارا للمشركينفإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون). . بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيبكذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا:ساحر أو مجنون . أتواصوا به ? بل هم قوم طاغون !). .
فالقصص في السورة - على هذا النحو - مرتبط بموضوعها الأصيل . وهو تجريد القلب لعبادة الله , وتخليصه من جميع العوائق , ووصله بالسماء . بالإيمان أولا واليقين . ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم .
الدرس الأول:1 - 6 القسم بالمخلوقات على حقيقة البعث
الذاريات ذروا , فالحاملات وقرا , فالجاريات يسرا , فالمقسمات أمرا . . إن ما توعدون لصادق , وإن الدين لواقع . .
هذه الإيقاعات القصيرة السريعة , بتلك العبارات الغامضة الدلالة , تلقي في الحس - كما تقدم - إيحاء خاصا , وتلقي ظلا معينا , يعلق القلب بأمر ذي بال , وشأن يستحق الانتباه . وقد احتاج غير واحد في العهد الأول أن يستفسر عن مدلول الذاريات , والحاملات , والجاريات , والمقسمات . .
قال ابن كثير في التفسير:قال شعبة بن الحجاج , عن سماك بن خالد بن عرعرة , أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة , عن أبي الطفيل , أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه صعد منبر الكوفة فقال:لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله [ ص ] إلا أنبأتكم بذلك . فقام ابن الكواء , فقال:يا أمير المؤمنين , ما معنى قوله تعالىوالذاريات ذروا)? قال علي - رضي الله عنه:الريح . قالفالحاملات وقرا)? قال - رضي الله عنه -:السحاب . قالفالجاريات يسرا)? قال - رضي الله عنه -:السفن . قالفالمقسمات أمرا)? قال - رضي الله عنه -:الملائكة .
وجاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فسأله عنها فأجابه بمثل ما روي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وقد أحس عمر - رضي الله عنه - أنه يسأل عنها تعنتا وعنادا فعاقبه ومنعه من مجالسة الناس حتى تاب وحلف بالأيمان المغلظة:ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . . وهذه الرواية
من الاية 5 الى الاية 9
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
تشي كذلك بأن غموض مدلولات هذه التعبيرات هو الذي جعل المتعنتين يستترون وراءها ويسألون عنها !
وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ; ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك [ كما قال ابن كثير ] .
أقسم الله - سبحانه - بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل . وبالسحاب الحاملات وقرا من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء . وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير . ثم بالملائكة المقسمات أمرا , تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته , فتفصل في الشؤون المختصة بها , وتقسم الأمور في الكون بحسبها .
والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله , يتخذها أداة لقدرته , وستارا لمشيئته , ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده . وهو يقسم بها - سبحانه - للتعظيم من شأنها , وتوجيه القلوب إليها , لتدبر ما وراءها من دلالة ; ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم . وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة ; ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي .
ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق , الذي يعني سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه , وإعفائه من أثقاله . فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه . أما الملائكة وتقسيمها للأمر , فإن الرزق أحد هذه القسم . ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى .
يقسم الله - سبحانه - بهذه الخلائق الأربع على: إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع . . وقد وعد الله الناس:أنه مجازيهم بالإحسان إحسانا , ومجازيهم بالسوء سوءا . وأنه إذا أمهلهم الحساب في الأرض , فليس بمهمل حسابهم في الآخرة فالحساب لا بد منه هناك !(وإن الدين لواقع). . فالوعد صادق حتما إما هنا وإما هناك . . ومما وعدهم كذلك الرزق وكفالته لهم مبسوطا أو مقدرا - وفق مشيئته - ووعده حق في هذا كما هو حق في كل شأن .
ولا بد أن يتحقق ما وعد الله به الناس في الصورة التي يريدها , وفي الوقت الذي يريده , وما يحتاج الأمر إلى قسم منه - سبحانه - إنما يقسم بخلائقه تلك لتوجيه القلب إليها - كما تقدم - وتدبر ما وراءها من إبداع وقدرة وتدبير يوحي للقلب بأن وعد الله - باريء هذه الخلائق بهذا النظام وهذا التقدير - لا بد صادق ; وأن حسابه على الخير والشر والصلاح والفساد لا بد واقع . فإن طبيعة هذه الخلائق توحي بأن الأمر ليس عبثا ولا مصادفة ولا جزافا . . وهكذا تصبح تلك الخلائق آيات وبراهين ذات دلالة إيحائية قوية بفضل هذا القسم الذي يلفت القلب إليها لفتا , ويوجه الحس إليها توجيها . فهي طريقة من طرق الإيحاء والتربية , ومخاطبة الفطرة بلغة الكون خطابا مباشرا !
الدرس الثاني:7 - 14 القسم على إختلاف الناس في الحق وخسارة الكافرين الشاكين في البعث
والقسم الثاني كذلك . .
(والسماء ذات الحبك , إنكم لفي قول مختلف , يؤفك عنه من أفك). .
يقسم بالسماء المنسقة المحكمة التركيب . كتنسيق الزرد المتشابك المتداخل الحلقات . . وقد تكون هذه إحدى
من الاية 10 الى الاية 15
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
هيئات السحب في السماء حين تكون موشاة كالزرد مجعدة تجعد الماء والرمل إذا ضربته الريح . وقد يكون هذا وضعا دائما لتركيب الأفلاك ومداراتها المتشابكة المتناسقة .
يقسم بالسماء المنسقة المحبوكة على أنهم في قول مختلف , مضطرب لا قوام له ولا قرار , ولا ثبات له ولا استقرار , يصرف عنه من صرف ويبقى عليه من بقي , فلا استقرار عليه ولا توافق ولا ثبات . بل الحيرة دائمة والقلق لا يزال . وكذلك الباطل دائما أرض مرجرجة مهتزة ; وتيه لا معالم فيه ولا نور ; وهو يتأرجح ولا يفيء إلى أصل ثابت , ولا ميزان دقيق . ولا يجتمع عليه أهله إلا لينصرفوا ويتفرقوا بعد حين ; ويدب الخلاف بينهم والشقاق . .
ويتضح اضطرابهم واختلافهم وما هم فيه من الأمر المريج:حين يعرض في ظل السماء ذات الحبك المنسقة التركيب .
ثم يستطرد فيقرر أنهم يعيشون في أوهام وظنون في أمر الآخرة , لا يستندون فيها إلى حق أو يقين . فهم في قول مختلف في هذا الحق المبين . ثم يصور لهم ذلك اليوم في مشهد حي تتملاه العيون:
(قتل الخراصون . الذين هم في غمرة ساهون . يسألون:أيان يوم الدين ? يوم هم على النار يفتنون . ذوقوا فتنتكم , هذا الذي كنتم به تستعجلون). .
والخرص:الظن والتقدير الجزاف الذي لا يقوم على ميزان دقيق . والله - سبحانه - يدعوا عليهم بالقتل . فيا للهول ! ودعوة الله عليهم بالقتل قضاء بالقتل !(قتل الخراصون)ويزيد أمرهم وضوحاالذين هم في غمرة ساهون)فهم مغمورون بالأضاليل والأوهام لا يفيقون ولا يستيقظون . والتعبير يلقي ظلا خاصا , يصور القوم مغمورين ساهين لا يشعرون بشيء مما حولهم ولا يتبينون . كأنهم سكارى مذهولون !
ذلك أنهم لا يتبينون الأمر الواضح , الذي يراه ويوقن به كل واع غير مذهول ; فهم(يسألون:أيان يوم الدين)? يسألون هكذا , لا طلبا للعلم والمعرفة , ولكن استنكارا وتكذيبا , واستبعادا لمجيئه , يعبر عنه لفظ(أيان)المقصود !
ومن ثم يعالجهم بمشهدهم في هذا اليوم الذي يستبعدونه ويستنكرونه ; وهم يحرقون بالنار كحرق المعدن لتمييز حقيقتهيوم هم على النار يفتنون)! ومعه التبكيت المؤلم في الموقف العصيبذوقوا فتنتكم . هذا الذي كنتم به تستعجلون). .
فهذه المعالجة هي الجواب اللائق بهذا التساؤل . وهذا العنف في المشهد هو المقابل للذهول والسهوة التي يعيش فيها الخراصون . وهو مصداق دعوة الله عليهم بالقتل في أشد صوره وأعنفها:يوم هم على النار يفتنون !
الدرس الثالث:15 - 16 من صفات المتقين
وعلى الضفة الأخرى وفي الصفحة المقابلة يرتسم مشهد آخر , لفريق آخر , فريق مستيقن لا يخرص ; تقي لا يتبجح ; مستيقظ يعبد ويستغفر , ولا يقضي العمر في غمرة وذهول:
(إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). .
فهذا الفريق . فريق المتقين . الأيقاظ . الشديدي الحساسية برقابة الله لهم , ورقابتهم هم لأنفسهم . هؤلاء (في جنات وعيون). . (آخذين ما آتاهم ربهم)من فضله وإنعامه , جزاء ما أسلفوا في الحياة الدنيا من عبادة
من الاية 16 الى الاية 20
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)
لله كأنهم يرونه , ويقين منهم بأنه يراهم: (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين). .
ويصور إحسانهم صورة خاشعة , رفافة حساسة:
(كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون). .
فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام , المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام لا يطعمون الكرى إلا قليلا , ولا يهجعون في ليلهم إلا يسيرا . يأنسون بربهم في جوف الليل فتتجافى جنوبهم عن المضاجع , ويخف بهم التطلع فلا يثقلهم المنام !
قال الحسن البصريكانوا قليلا من الليل ما يهجعون). . كابدوا قيام الليل , فلا ينامون من الليل إلا أقله , ونشطوا فمدوا إلى السحر , حتى كان الاستغفار بسحر .
وقال قتادة:قال الأحنف بن قيسكانوا قليلا من الليل ما يهجعون). . كانوا لا ينامون إلا قليلا . ثم يقول:لست من أهل هذه الآية .
قال الحسن البصري:كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة , فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا , إذ نحن قوم لا نبلغ أعمالهم . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وعرضت عملي على عمل أهل النار , فإذا قوم لا خير فيهم , مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بالبعث بعد الموت . فقد وجدت من خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:قال رجل من بني تميم لأبي:يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا . ذكر الله تعالى قوما فقالكانوا قليلا من الليل ما يهجعون). ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم ! فقال له أبي - رضي الله عنه -:طوبى لمن رقد إذا نعس , واتقى الله إذا استيقظ .
فهي حال يتطلع إليها رجال من التابعين - ذوي المكانة في الإيمان واليقين - ويجدون أنفسهم دونها . اختص بها ناس ممن اختارهم الله , ووفقهم إلى القيام بحقها . وكتبهم بها عنده من المحسنين .
وهذه حالهم مع ربهم , فأما حالهم مع الناس , وحالهم مع المال , فهو مما يليق بالمحسنين:
(وفي أموالهم حق للسائل والمحروم). .
فهم يجعلون نصيب السائل الذي يسأل فيعطى , ونصيب المحروم الذي يسكت ويستحيي فيحرم . يجعلون نصيب هذا وهذا حقا مفروضا في أموالهم . وهم متطوعون بفرض هذا الحق غير المحدود .
وهذه الإشارة تتناسق مع علاج السورة لموضوع الرزق والمال , لتخليص القلب من أوهاق الشح وأثقال البخل وعوائق الانشغال بالرزق . وتمهد للمقطع التالي في السورة , في الوقت الذي تكمل سمة المتقين وصورة المحسنين .
الدرس الرابع:20 - 23 من آيات الله في الأنفس والأرض وضمان الله للرزق (وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون ? وفي السماء رزقكم وما توعدون . فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون . .
وهي لفتة إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس ; وتوجيه إلى السماء في شأن الرزق المكتوب والحظ المقدور . تختم بقسم عظيم . قسم الله - سبحانه - بذاته بوصف (رب السماء والأرض اللتين ورد ذكرهما في هذا المقطع . على أن هذا القول الذي جاءهم من عنده حق يقين . .(وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون)? . .
هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته . معرض لم نستجل منه حتى اللحظة إلا القليل من بدائعه . ونحن نكشف في كل يوم جديدا منه , ونطلع منه على جديد . . ومثل هذا المعرض , معرض آخر مكنون فينا نحن . . النفس الإنسانية . . الخفية الأسرار , التي تنطوي فيها أسرار هذا الوجود كله , لا أسرار الكوكب الأرضي وحده !
وإلى هذين المعرضين الهائلين تشير الآيتان تلك الإشارة المختصرة , التي تفتح هذين المعرضين على مصاريعهما لمن يريد أن يبصر , ولمن يريد أن يستيقن , ولمن يريد أن يملأ حياته حتى تفيض بالمتعة والمسرة , وبالعبرة الحية , وبالرصيد القيم من المعرفة الحقة , التي ترفع القلوب وتضاعف الأعمار !
والنصوص القرآنية معدة للعمل في جميع الأوساط والبيئات والظروف والأحوال . قادرة على إعطاء رصيد معين لكل نفس ولكل عقل ولكل إدراك . كل بقدر ما يتقبل منها وما يطيق .
وكلما ارتقى الأنسان في المعرفة , واتسعت مداركه , وزادت معلوماته , وكثرت تجاربه , واطلع على أسرار الكون وأسرار النفس . . ارتقى نصيبه , وتضخم رصيده , وتنوع زاده الذي يتلقاه من نصوص القرآن . . هذا الكتاب الذي "لا تنفد عجائبه , ولا يخلق على كثرة الرد" كما يقول عنه النبي الذي تلقاه واستوعب أسراره , وعاش بها . يقول عن تجربة حية وجدها في نفسه فعبر عنها ذلك التعبير - صلوات الله وسلامه عليه - .
ولقد وجد الذين سمعوا هذا القرآن أول مرة من آيات الله في الأرض وآياته في النفس , نصيبهم , وتسلموا رصيدهم , وفق معارفهم وتجاربهم وإشراقات نفوسهم . ووجد كذلك كل جيل أتى بعدهم نصيبا يناسب ما تفتح له من أنواع العلوم والمعارف والتجارب . ونجد نحن نصيبنا وفق ما اتسع لنا من رقعة العلم والمعرفة والتجريب , وما تكشف لنا من أسرار لا تنفد في هذا الكون الكبير . وستجد الأجيال بعدنا نصيبها مدخرا لها من الآيات التي لم تكشف لنا بعد في الأرض والنفس . ويبقى هذان المعرضان الإلهيان الهائلان حافلين بكل عجيب وجديد إلى آخر الزمان .
هذه الأرض . هذا الكوكب المعد للحياة , المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه , على نحو يكاد يكون فريدا في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل , الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة . التي يبلغ عدد المعروف منها فقط - والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون - مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم والكواكب هي توابع هذه النجوم !
ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته . ولو اختلفت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها . . لو تغير حجمها صغرا أو كبرا , لو تغير وضعها من الشمس قربا أوبعدا . لو تغير حجم الشمس ودرجة حرارتها . لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا . لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ . لو تغير حجم القمر - تابعها - أو بعده عنها . لو تغيرت نسبة الماء واليابس فيها زيادة أو نقصا . . . لو . لو . لو . . . إلى آلاف الموافقات المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته .
أليست هذه آية أو آيات معروضة في هذا المعرض الإلهي ?
ثم . هذه الأقوات المذخورة في الأرض للأحياء التي تسكنها . تسكن سطحها , أو تسبح في أجوائها , أو تمخر ماءها , أو تختبيء في مغاورها وكهوفها , أو تختفي في مساربها وأجوافها . . هذه الأقوات الجاهزة المركبة والبسيطة والقابلة للوجود في شتى الأشكال والأنواع لتلبي حاجة هذه الأحياء التي لا تحصى , ولا تحصى أنواعغذائها أيضا . . هذه الأقوات الكامنة في جوفها , والساربة في مجاريها , والسابحة في هوائها , والنابتة على سطحها , والقادمة إليها من الشمس ومن عوالم أخرى بعضها معروف وبعضها مجهول , ولكنها تتدفق وفق تدبير المشيئة المدبرة التي خلقت هذا المحضن لهذا النوع من الحياة , وجهزته بكل ما يلزم للأنواع الكثيرة التي لا تحصى .
وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها , حيثما امتد الطرف , وحيثما تنقلت القدم . وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد:من وهاد وبطاح , ووديان وجبال ; وبحار وبحيرات , وأنهار وغدران . وقطع متجاورات , وجنات من أعناب , وزرع , ونخيل صنوان وغير صنوان . . وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير . ويمر به الإنسان وهو ممحل فإذا هو مشهد , ويمر به وهو ممرع فإذا هو مشهد آخر . ويراه وهو نبت خضر فإذا هو مشهد , ويراه إبان الحصاد حين يهيج ويصفر فإذا هو مشهد آخر . وهو هو لم ينتقل باعا ولا ذراعا في المكان !
والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء . نباتا وحيوانا . وطيرا وسمكا , وزواحف وحشرات . . بله الإنسان فالقرآن يفرده بنص خاص . . هذه الخلائق التي لم يعرف عدد أنواعها وأجناسها بعد - فضلا على إحصاء أعدادها وأفرادها وهو مستحيل - وكل خليقة منها أمة ! وكل فرد منها عجيبة . كل حيوان . كل طائر . كل زاحفة . كل حشرة . كل دودة . كل نبتة:لا بل كل جناح في يرقة , وكل ورقة في زهرة , وكل قصبة في ورقة ! في ذلك المعرض الإلهي العجيب الذي لا تنقضي عجائبه .
ولو مضى الإنسان - بل لو مضى الأناسي جميعا - يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب , وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات , ما انتهى لهم قول ولا إشارة . والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر , واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل , طوال الرحلة على هذا الكوكب , والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة .
غير أنه لا يدرك هذه العجائب , ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع , إلا القلب العامر باليقين .(وفي الأرض آيات للموقنين). . فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك ; وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة , وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع . وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء ; لا تنطق للقلب بشيء ; ولا تتجاوب معه بشيء . وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب . لا يحسون فيه حياة , ولا يفقهون له لغة ; لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم , ولم تبث الحياة فيما حولهم ! وقد يكون منهم علماء (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا). أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم , فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان , ولا تراها إلا بنور اليقين . . وصدق الله العظيم .
ثم العجيبة الأخرى التي تدب على هذه الأرض:
(وفي أنفسكم , أفلا تبصرون ?). .
وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض . ولكنه يغفل عن قيمته , وعن أسراره الكامنة في كيانه , حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين .
إنه عجيبة في تكوينه الجسماني:في أسرار هذا الجسد . عجيبة في تكوينه الروحي:في أسرار هذه النفس . وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه . وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه:
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير . تكوين أعضائه وتوزيعها . وظائفها
من الاية 21 الى الاية 21
وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
وطريقة أدائها لهذه الوظائف . عملية الهضم والامتصاص . عملية التنفس والاحتراق . دورة الدم في القلب والعروق . الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم . الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه . تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها , وتجاوبها الكامل الدقيق . وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب . وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب .
وأسرار روحه وطاقاتها المعلومة والمجهولة . . إدراكه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكرها . هذه المعلومات والصور المختزنة . أين ? وكيف ? هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت ? وأين ? وكيف تستدعى فتجيء . . وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى . فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر . تظهر آثاره بين الحين والحين في لمسات وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيب المجهول .
ثم أسرار هذا الجنس في توالده وتوارثه . خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص ; وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين . فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة ? وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل , فتمثله أدق تمثيل , وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب ?!
وإن وقفة أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض , وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه , ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة . إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب , وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان , لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان !
وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات . بل أمام النطق ذاته . نطق هذا اللسان . وتصويت تلك الحنجرة . إنها عجيبة . عجيبة تفقد وقعها لأنها تمر بنا كثيرا . ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وقعها . إنها خارقة . خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله .
وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمام خارقة من الخوارق , لا ينقضي منها العجب ;(وفي أنفسكم . أفلا تبصرون ?). .
وكل فرد من هذا الجنس عالم وحده . ومرآة ينعكس من خلالها هذا الوجود كله في صورة خاصة لا تتكرر أبدا على مدار الدهور . ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعا لا في شكله وملامحه , ولا في عقله ومداركه , ولا في روحه ومشاعره . ولا في صورة الكون كما هي في حسه وتصوره . ففي هذا المتحف الإلهي العجيب الذي يضم ملايين الملايين , كل فرد نموذج خاص , وطبعة فريدة لا تتكرر . يمر من خلالها الوجود كله في صورة كذلك لا تتكرر . كما لا توجد بصمة أصابع مماثلة لبصمة أصابع أخرى في هذه الأرض في جميع العصور !
وكثير من عجائب الجنس البشري مكشوفة للبصر , تراه العيونوفي أنفسكم . أفلا تبصرون ?):وما تراه العيون من عجائبه يشير إلى المغيب المكنون .
وهذه العجائب لا يحصرها كتاب . فالمعلوم المكشوف منها يحتاج تفصيله إلى مجلدات . والمجهول منها ما يزال أكثر من المعلوم , والقرآن لا يحصيها ولا يحصرها . ولكنه يلمس القلب هذه اللمسة ليستيقظ لهذا المتحف الإلهي المعروض للأبصار والبصائر . وليقضي رحلته على هذا الكوكب في ملاحظة وتدبر , وفي متاع رفيع بتأمل هذا الخلق العجيب , الكامن في ذات نفسه وهو عنه غافل مشغول .
وإنها للحظات ممتعة حقا تلك التي يقضيها الإنسان يتأمل وجوه الخلق وسماتهم وحركاتهم وعاداتهم , بعين
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة هود ايه رقم1 الى 6 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة سبا ايه رقم1 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه رقم1 الى 13 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة لقمان ايه رقم1 الى ايه16 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الطارق ايه رقم1=الى ايه رقم16 من سورة الاعلى
» تفسير سورة سبا ايه رقم1 الى ايه 21 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه رقم1 الى 13 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة لقمان ايه رقم1 الى ايه16 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الطارق ايه رقم1=الى ايه رقم16 من سورة الاعلى
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى