تفسير سورة الاحقاف ايه 15 الى ايه 29 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الاحقاف ايه 15 الى ايه 29 الشيخ سيد قطب
من الاية 15 الى الاية 16
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم , الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم .
ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة , والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين:
(حملته أمه كرها , ووضعته كرها , وحمله وفصاله ثلاثون شهرا). .
وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال: (حملته أمه كرها . ووضعته كرها). . لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد , ويلهث بالأنفاس ! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه , وصورة الوضع وطلقه وآلامه !
ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة . .
إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة . تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ; فيتوارد دم الأم إلى موضعها , حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ; وتمتصه لتحيا به وتنمو . وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم . دائمة الامتصاص لمادة الحياة . والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص , لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول ! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير . ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ! وهذا كله قليل من كثير !
ثم الوضع , وهو عملية شاقة , ممزقة , ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة . ثمرة التلبية للفطرة , ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش , وتمتد . . بينما هي تذوي وتموت !
ثم الرضاع والرعاية . حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن , وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية . وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود . لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد . وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو . فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد !
فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية , مهما يفعل . وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد ?
وصدق رسول الله [ ص ] وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها , فسأل رسول الله [ ص ] هل أديت حقها ? فأجابه:" لا , ولا بزفرة واحدة " .
ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين , واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم , إلى مرحلة النضج والرشد , مع استقامة الفطرة , واهتداء القلب:
(حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال:رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي , وأن أعمل صالحا ترضاه , وأصلح لي في ذريتي , إني تبت إليك , وإني من المسلمين). .
وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين . والأربعون هي غاية النضج والرشد , وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات , ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء . وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة . وتتدبر المصير والمآل .
ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة , وهي في مفرق الطريق , بين شطر من العمر ولى , وشطر يكاد آخره يتبدى . وهي تتوجه إلى الله:
(رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي). .
دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه , المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به , المستقل المستصغر لجهده في شكرها . يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كلهأوزعني). . لينهض بواجب الشكر ; فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير .
(وأن أعمل صالحا ترضاه). .
وهذه أخرى . فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح , يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه . فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها . وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه .
(وأصلح لي في ذريتي). .
وهذه ثالثة . وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته . وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه . والذرية الصالحة أمل العبد الصالح . وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر . وأروح لقلبه من كل زينة الحياة . والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله .
وشفاعته إلى ربه . شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله , هي التوبة والإسلام:
(إني تبت إليك وإني من المسلمين). .
ذلك شأن العبد الصالح , صاحب الفطرة السليمة المستقيمة مع ربه . فأما شأن ربه معه , فقد أفصح عنه هذا القرآن:
(أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا , ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة . وعد الصدق الذي كانوا يوعدون). .
فالجزاء بحساب أحسن الأعمال . والسيئات مغفورة متجاوز عنها . والمآل إلى الجنة مع أصحابها الأصلاء . ذلك وفاء بوعد الصدق الذي وعدوه في الدنيا . ولن يخلف الله وعده . . وهو جزاء الفيض والوفر والإنعام .
الدرس الثاني:17 نموذج الكافر العاق بوالديه
فأما النموذج الآخر فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال:
(والذي قال لوالديه:أف لكما ! أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ?). .
فالوالدان مؤمنان . والولد العاق يجحد برهما أول ما يجحد ; فيخاطبهما بالتأفف الجارح الخشن الوقح: أف لكما ! . . ثم يجحد الآخرة بالحجة الواهية: أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ? . . أي ذهبوا ولم يعد منهم أحد . . والساعة مقدرة إلى أجلها . والبعث جملة بعد انتهاء أجل الحياة الدنيا . ولم يقل أحد إنه تجزئة . يبعث جيل مضى في عهد جيل ياتي . فليست لعبة وليست عبثا . إنما هو الحساب الختامي للرحلة كلها بعد انتهائها !
والوالدان يريان الجحود ويسمعان الكفر , ويفزعان مما يقوله الولد العاق لربه ولهما ; ويرتعش حسهما لهذا التهجم والتطاول ; ويهتفان به: (وهما يستغيثان الله . ويلك آمن . إن وعد الله حق). . ويبدو في حكاية
من الاية 17 الى الاية 20
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قولهما الفزع من هول ما يسمعان . بينما هو يصر على كفره , ويلج في جحوده: (فيقول:ما هذا إلا أساطير الأولين). .
هنا يعاجله الله بمصيره المحتوم:
(أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ; إنهم كانوا خاسرين). .
والقول الذي حق على هذا وأمثاله هو العقاب الذي ينال الجاحدين المكذبين . وهم كثير . خلت بهم القرون . من الجن والإنس . حسب وعيد الله الصادق الذي لا يخلف ولا يتخلف . (إنهم كانوا خاسرين). . وأية خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا . ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة . ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين ?
الدرس الثالث:19 ثواب البار وعذاب العاق
وبعد بيان العاقبة والجزاء إجمالا للمهتدين والضالين , يصور دقة الحساب والتقدير لكل فرد من هؤلاء وهؤلاء على حدة:
(ولكل درجات مما عملوا , وليوفيهم أعمالهم , وهم لا يظلمون). .
فلكل فرد درجته , ولكل فرد عمله , في حدود ذلك الإجمال في جزاء كل فريق .
وبعد , فهذان النموذجان عامان في الناس , ولكن مجيئهما في هذا الأسلوب , الذي يكاد يحدد شخصين بذواتهما أوقع وأشد إحياء للمثل كأنه واقع .
ولقد وردت روايات أن كلا منهما يعني إنسانا بعينه . ولكن لم يصح شيء من هذه الروايات . والأولى اعتبارهما واردين مورد المثل والنموذج . يدل على هذا الاعتبار صيغة التعقيب على كل نموذج . فالتعقيب على الأولأولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة . وعد الصدق الذي كانوا يوعدون). . والتعقيب على الثانيأولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس , إنهم كانوا خاسرين). . ثم التعقيب العامولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم , وهم لا يظلمون). . وكلها توحي بأن المقصود هو النموذج المكرر من هؤلاء وهؤلاء .
الدرس الرابع:20 صورة لعذاب الكفار وتقريعهم
ثم يقفهم وجها لوجه أمام مشهد شاخص لهم في يوم الحساب الذي كانوا يجحدون:
(ويوم يعرض الذين كفروا على النار . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها . فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق , وبما كنتم تفسقون). .
والمشهد سريع حاسم , ولكنه يتضمن لفتة عميقة عريضة . إنه مشهد العرض على النار . وفي مواجهتها وقبيل سوقهم إليها , يقال لهم عن سبب عرضهم عليها وسوقهم إليها: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها). . فقد كانوا يملكون الطيبات إذن , ولكنهم استنفدوها في الحياة الدنيا , فلم يدخروا للآخرة منها شيئا ; واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للآخرة حسابا . استمتعوا بها استمتاع الأنعام للحصول على اللذة بالمتاع , غير ناظرين فيها للآخرة , ولا شاكرين لله نعمته , ولا متورعين فيها عن فاحش أو حرام . ومن ثم كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة . واشتروا تلك اللمحة الخاطفة على الأرض بذلك الأمد الهائل الذي لا يعلم حدوده إلا الله !
(فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق , وبما كنتم تفسقون). .
من الاية 21 الى الاية 23
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23)
وكل عبد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق . فالكبرياء لله وحده . وليست لأحد من عباده في كثير أو قليل . وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض . فجزاء الاستكبار الهوان . وجزاء الفسوق عن منهج الله وطريقه الانتهاء إلى هذا الهوان أيضا . فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين .
وهكذا ينتهي هذا الشوط من السورة بعرض ذينك النموذجين ومصيرهما في النهاية ; وبهذا المشهد المؤثر للمكذبين بالآخرة , الفاسقين عن منهج الله , المستكبرين عن طاعته . وهي لمسة للقلب البشري تستجيش الفطر السليمة القويمة لارتياد الطريق الواصل المأمون .
الوحدة الثالثة:21 - 28 الموضوع لقطات من قصة هود مع عاد مقدمة الوحدة
وهذا الشوط جولة في مجال آخر , تخدم القضية التي تعالجها السورة , وتأخذ القلب البشري من جانب غير الجوانب التي عالجها الشوطان الأولان . . جولة في مصرع عاد ومصارع القرى غيرها حول مكة . وقد وقفوا من رسولهم وأخيهم هود - عليه السلام - موقف المشركين من رسولهم وأخيهم محمد [ ص ] واعترضوا اعتراضاتهم , وأجابهم نبيهم بما يليق به من أدب النبوة في حدود بشريته وحدود وظيفته . ثم أخذهم ما أخذهم من العذاب المدمر , حين لم يسمعوا النذير . فلم تغن عنهم قوتهم - وكانوا أقوى - ولم يغن عنهم ثراؤهم - وكانوا أغنى - ولم ينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم - وكانوا أذكياء - ولم تغن عنهم آلهتهم التي اتخذوها تقربا - بزعمهم - إلى الله .
وكذلك يقف المشركين في مكة أمام مصارع أسلافهم من أمثالهم ; فيقفهم أمام مصيرهم هم أنفسهم . ثم أمام الخط الثابت المطرد المتصل . خط الرسالة القائمة على أصلها الواحد الذي لا يتغير وخط السنة الإلهية التي لا تتحول ولا تتبدل . وتبدوا شجرة العقيدة عميقة الجذور , ممتدة الفروع ضاربة في أعماق الزمان ; واحدة على اختلاف القرون واختلاف المكان .
الدرس الأول:21 - 25 تكذيب عاد لهود ودمارهم
(واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف - وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه - ألا تعبدوا إلا الله . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم). .
وأخو عاد هو هود - عليه السلام - يذكره القرآن هنا بصفته . صفة الأخوة لقومه . ليصور صلة الود بينه وبينهم , وصلة القرابة التي كانت كفيلة بأن تعطفهم إلى دعوته , وتحسن ظنهم بها وبه . وهي ذات الصلة بين محمد [ ص ] وقومه الذين يقفون منه موقف الملاحاة والخصومة .
والأحقاف جمع حقف . وهو الكثيب المرتفع من الرمال . وقد كانت منازل عاد على المرتفعات المتفرقة في جنوب الجزيرة - يقال في حضرموت .
والله - سبحانه - يوجه نبيه [ ص ] أن يذكر أخا عاد وإنذاره لقومه بالأحقاف . يذكره ليتأسى بأخ له من الرسل لقي مثلما يلقى من إعراض قومه وهو أخوهم . ويذكره ليذكر المشركين في مكة بمصير الغابرين من زملائهم وأمثالهم , على مقربة منهم ومن حولهم .
وقد أنذر أخو عاد قومه , ولم يكن أول نذير لقومه . فقد سبقته الرسل إلى أقوامهم . .
(وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه). .
قريبا منه وبعيدا عنه في الزمان وفي المكان . فالنذارة متصلة , وسلسلة الرسالة ممتدة . والأمر ليس بدعا ولا غريبا . فهو معهود مألوف .
أنذرهم - ما أنذر به كل رسول قومه -: (ألا تعبدوا إلا الله . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم). . وعبادة الله وحده عقيدة في الضمير ومنهج في الحياة ; والمخالفة عنها تنتهي إلى العذاب العظيم في الدنيا أو في الآخرة , أو فيهما على السواء . والإشارة إلى اليوم (عذاب يوم عظيم). . تعني حين تطلق يوم القيامة وهو أشد وأعظم .
فماذا كان جواب قومه على التوجيه إلى الله , والإنذار بعذابه ?
(قالوا:أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا ? فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين !). .
سوء الظن وعدم الفهم , والتحدي للنذير , واستعجال العذاب الذي ينذرهم به , والاستهزاء والتكذيب . وإصرار على الباطل واعتزاز !
فأما هود النبي فيتلقى هذا كله في أدب النبي , وفي تجرده من كل ادعاء , وفي الوقوف عند حده لا يتعداهقال:إنما العلم عند الله . وأبلغكم ما أرسلت به . ولكني أراكم قوما تجهلون). .
إنما أنذركم بالعذاب كما كلفت أن أنذركم . ولست أعلم متى يحين موعده , ولا كيف يكون شكله . فعلم ذلك عند الله . وإنما أنا مبلغ عن الله . لا أدعي علما ولا قدرة مع الله . . (ولكني أراكم قوما تجهلون)وتحمقون . وأية حماقة وأي جهل أشد من استقبال النذير الناصح والأخ القريب بمثل هذا التحدي والتكذيب ?
الأحقاف
من الاية 24 الى الاية 26
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (26)
ويجمل السياق هنا ما كان بين هود وقومه من جدل طويل , ليمضي إلى النهاية المقصودة أصلا في هذا المقام ; ردا على التحدي والاستعجال .
(فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا:هذا عارض ممطرنا . بل هو ما استعجلتم به:ريح فيها عذاب أليم , تدمر كل شيء بأمر ربها , فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم . كذلك نجزي القوم المجرمين). .
وتقول الروايات:إنه أصاب القوم حر شديد , واحتبس عنهم المطر , ودخن الجو حولهم من الحر والجفاف . ثم ساق الله إليهم سحابة , ففرحوا بها فرحا شديدا , وخرجوا يستقبلونها في الأودية , وهم يحسبون فيها الماء: (قالوا هذا عارض ممطرنا). .
وجاءهم الرد بلسان الواقع: (بل هو ما استعجلتم به:ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها). . وهي الريح الصرصر العاتية التي ذكرت في سورة أخرى . كما جاء في صفتهاما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم).
والنص القرآني يصور الريح حية مدركة مأمورة بالتدمير: (تدمر كل شيء بأمر ربها)وهي الحقيقة الكونية التي يحفل القرآن بإشعارها للنفوس . فهذا الوجود حي . وكل قوة من قواه واعية . وكلها تدرك عن ربها وتتوجه لما تكلف به من لدنه . والإنسان أحد هذه القوى . وحين يؤمن حق الإيمان , ويفتح قلبه للمعرفة الواصلة , يستطيع أن يعي عن القوى الكونية من حوله , وأن يتجاوب معها , وأن تتجاوب معه , تجاوب الأحياء المدركة , بغير الصورة الظاهرة التي يعرفها الناس من الحياة والإدراك . ففي كل شيء روح وحياة , ولكننا لا ندرك هذا لأننا محجوبون بالظواهر والأشكال عن البواطن والحقائق . والكون من حولنا حافل بالأسرار المحجوبة بالأستار , تدركها البصائر المفتوحة ولا تراها الأبصار .
وقد أدت الريح ما أمرت به , فدمرت كل شيء (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم). . أما هم وأما أنعامهم وأما أشياؤهم وأما متاعهم فلم يعد شيء منه يرى . إنما هي المساكن قائمة خاوية موحشة , لا ديار فيها ولا نافخ نار . . (كذلك نجزي القوم المجرمين). . سنة جارية وقدر مطرد في المجرمين .
الدرس الثاني:26 تعقيب على دمار عاد
وعلى مشهد الدمار والخراب يلتفت إلى أمثالهم الحاضرين , يلمس قلوبهم بما ترتعش منه القلوبولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه . وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة . فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . إذ كانوا يجحدون بآيات الله . وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون). .
هؤلاء الذين دمرتهم الريح المأمورة بالتدمير . مكناهم فيما لم نمكنكم فيه . . إجمالا . . من القوة والمال والعلم والمتاع . وآتيناهم أسماعا وأبصارا وأفئدة - والقرآن يعبر عن قوة الإدراك مرة بالقلب ومرة بالفؤاد ومرة باللب ومرة بالعقل . وكلها تعني الإدراك في صورة من صوره - ولكن هذه الحواس والمدارك لم تنفعهم في شيء . إذ أنهم عطلوها وحجبوها (إذ كانوا يجحدون بآيات الله). . والجحود بآيات الله يطمس الحواس والقلوب , ويفقدها الحساسية والإشراق والنور والإدراك . (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون). . من العذاب والبلاء . .
والعبرة التي يفيدها كل ذي سمع وبصر وقلب , ألا يغتر ذو قوة بقوته , ولا ذو مال بماله , ولا ذو علم بعلمه . فهذه قوة من قوى الكون تسلط على أصحاب القوة والمال والعلم والمتاع , فتدمر كل شيء , وتتركهم (لا يرى إلا مساكنهم)حين يأخذهم الله بسنته التي يأخذ بها المجرمين .
من الاية 27 الى الاية 28
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
والريح قوة دائبة العمل , وفق النظام الكوني الذي قدره الله , وهو يسلطها حين يسلطها للتدمير وهي ماضية في طريقها الكوني , تعمل وفق الناموس المرسوم . فلا حاجة لخرق النواميس الكونية - كما يعترض المعترضون واهمين - فصاحب الناموس المرسوم هو صاحب القدر المعلوم . وكل حادث وكل حركة , وكل اتجاه , وكل شخص , وكل شيء , محسوب حسابه , داخل في تصميم الناموس .
والريح كغيرها من القوى الكونية مسخرة بأمر ربها , ماضية تؤدي ما قدره لها في نطاق الناموس المرسوم لها وللوجود كله . ومثلها قوة البشر المسخرة لما يريده الله بها . المسخر لها من قوى الكون ما أراد الله تسخيره لها . وحين يتحرك البشر فإنما يؤدون دورهم في هذا الوجود , ليتم ما أراده الله بهم وفق ما يريد . وحرية إرادتهم في الحركة والاختيار جزء من الناموس الكلي ينتهي إلى التناسق الكوني العام . وكل شيء مقدر تقديرا لا يناله نقص ولا اضطراب .
الدرس الثالث:27 - 28 دعوة الكفار للإعتبار من مصارع السابقين وتهديدهم
ويختم هذا الشوط بالعبرة الكلية لمصارع من حولهم من القرى من عاد وغير عاد:
(ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى , وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون . فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة ! بل ضلوا عنهم . وذلك إفكهم وما كانوا يفترون). .
وقد أهلك الله القرى التي كذبت رسلها في الجزيرة . كعاد بالأحقاف في جنوب الجزيرة . وثمود بالحجر في شمالها . وسبأ وكانوا باليمن . ومدين وكانت في طريقهم إلى الشام . وكذلك قرى قوم لوط وكانوا يمرون بها في رحلة الصيف إلى الشمال .
ولقد نوع الله في آياته لعل المكذبين يرجعون إلى ربهم ويثوبون . ولكنهم مضوا في ضلالتهم , فأخذهم العذاب الأليم , ألوانا وأنواعا , تتحدث بها الأجيال من بعدهم , ويعرفها الخلف من ورائهم . وكان مشركو مكة يتسامعون بها , ويرون آثارها غادين رائحين .
وهنا يلفتهم إلى الحقيقة الواقعة . فقد دمر الله على المشركين قبلهم وأهلكهم دون أن تنجيهم آلهتهم التي كانوا يتخذونها من دون الله , زاعمين أنهم يتقربون بها إليه . سبحانه . وهي تستنزل غضبه ونقمته: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة).
إنهم لم ينصروهم (بل ضلوا عنهم). . وتركوهم وحدهم لا يعرفون طريقا إليهم أصلا , فضلا على أن يأخذوا بيدهم وينجدوهم من بأس الله .
(وذلك إفكهم وما كانوا يفترون). .
فهو إفك . وهو افتراء . وذلك مآله . وتلك حقيقته . . الهلاك والتدمير . . فماذا ينتظر المشركون الذين يتخذون من دون الله آلهة بدعوى أنها تقربهم من الله زلفى ? وهذه هي العاقبة وهذا هو المصير ?
الوحدة الرابعة:29 - 35 الموضوع:الإيمان والدعوة على لسان الجن
من الاية 29 الى الاية 29
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)
مقدمة الوحدة هذا الشوط الأخير جولة جديدة في مجال القضية التي تعالجها السورة ; فسياقة قصة النفر من الجن الذين استمعوا لهذا القرآن , فتنادوا بالإنصات , واطمأنت قلوبهم إلى الإيمان , وانصرفوا إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الله ويبشرونهم بالغفران والنجاة , ويحذرونهم الإعراض والضلال . سياقة الخبر في هذا المجال , بهذه الصورة , وتصوير مس القرآن لقلوب الجن هذا المس الذي يتمثل في قولهمأنصتوا)عندما طرق أسماعهم , يتمثل فيما حكوه لقومهم عنه , وفيما دعوهم إليه . كل هذا من شأنه أن يحرك قلوب البشر , الذين جاء القرآن لهم في الأصل . وهو إيقاع مؤثر ولا شك , يلفت هذه القلوب لفتة عنيفة عميقة . وفي الوقت ذاته تجيء الإشارة إلى الصلة بين كتاب موسى وهذا القرآن على لسان الجن , فتعلن هذه الحقيقة التي يدركها الجن ويغفل عنها البشر . ولا يخفى ما في هذه اللفتة من إيحاء عميق متفق مع ما جاء في السورة .
كذلك ما يرد في كلام الجن من الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح , ودلالته على قدرة الله الظاهرة في خلق السماوات والأرض الشاهدة بقدرته على الإحياء والبعث . وهي القضية التي يجادل فيها البشر وبها يجحدون .
وبمناسبة البعث يعرض مشهدا من مشاهد القيامة (ويوم يعرض الذين كفروا على النار). .
وفي الختام تجيء الوصية للرسول [ ص ] بالصبر عليهم وعدم الاستعجال لهم . وتركهم للأجل المرسوم . وهو قريب قريب كأنه ساعة من نهار . . للبلاغ . . قبل الهلاك !
الدرس الأول:29 - 33 تمهيد الدرس وحقيقة الجن
(وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن , فلما حضروه قالوا:أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا:يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى , مصدقا لما بين يديه , يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعيالله فليس بمعجز في الأرض , وليس له من دونه أولياء , أولئك في ضلال مبين . أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ? بلى إنه على كل شيء قدير). .
ومقالة النفر من الجن - مع خشوعهم عند سماع القرآن - تتضمن أسس الاعتقاد الكامل:تصديق الوحي . ووحدة العقيدة بين التوراة والقرآن . والاعتراف بالحق الذي يهدي إليه . والإيمان بالآخرة وما ينتهي إلى المغفرة وما ينتهي إلى العذاب من الأعمال . والإقرار بقوة الله وقدرته على الخلق وولايته وحده للعباد . والربط بين خلق الكون وإحياء الموتى . . وهي الأسس التي تتضمنها السورة كلها , والقضايا التي تعالجها في سائر أشواطها . . كلها جاءت على لسان النفر من الجن . من عالم آخر غير عالم الإنسان .
ويحسن قبل أن نستعرض هذه المقالة أن نقول كلمة عن الجن وعن الحادثة . .
إن ذكر القرآن لحادث صرف نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي [ ص ] وحكاية ما قالوا وما فعلوا . . هذا وحده كاف بذاته لتقرير وجود الجن , ولتقرير وقوع الحادث . ولتقرير أن الجن هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق كما يلفظه رسول الله [ ص ] ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران , مستعدون للهدى وللضلال . . وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة ; فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها الله - سبحانه - ثبوتا .
ولكنا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني .
إن هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار , حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنها وصفة وأثرا . ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار . نعرف منها القليل , ونجهل منها الكثير . وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار , وندرك بعض هذه القوى , ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق تارة بذواتها . وتارة بصفاتها . وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا .
ونحن ما نزال في أول الطريق . طريق المعرفة لهذا الكون , الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا ويعيش أبناؤنا وأحفادنا , على ذرة من ذراته الصغيرة الصغيرة . . هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئا يذكر في حجم الكون أو وزنه !
وما عرفناه اليوم - ونحن في أول الطريق - يعد بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن . ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم لظنوه مجنونا , أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعا !
ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية , المعدة للخلافة في هذه الأرض , ووفق مقتضيات هذه الخلافة , وفي دائرة ما سخره الله لنا ليكشف لنا عن أسراره , وليكون لنا ذلولا , كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض . . ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها - مهما امتد بنا الأجل - أي بالبشرية - ومهما سخر لنا من قوى الكون وكشف لنا من أسراره - لا تتعدى تلك الدائرة . دائرة ما نحتاجه للخلافة في هذه الأرض . وفق حكمة الله وتقديره .
وسنكشف كثيرا , وسنعرف كثيرا , وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته , مما قد تعتبر أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال ! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة . وفي حدود قول الله - سبحانه - (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). . قليلا بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيومه . وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود , ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله). .
فليس لنا - والحالة هذه - أن نجزم بوجود شيء أو نفيه . وبتصوره أو عدم تصوره . من عالم الغيب المجهول , ومن أسرار هذا الوجود وقواه , لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي أو تجاربنا المشهودة . ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها , فضلا على إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا !
وقد تكون هنالك أسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلا . وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه , فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره أو مجرد وجوده , لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض .
فإذا كشف الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى , عن طريق كلامه - لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضا - فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم . نتلقاها كما هي فلا نزيد عليها ولا ننقص منها لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة . وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار !
ومن هذا النص القرآني , ومن نصوص سورة الجن , والأرجح أنها تعبير عن الحادث نفسه , ومن النصوص الأخرى المتناثرة في القرآن عن الجن , ومن الأثار النبوية الصحيحة عن هذا الحادث , نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن . . ولا زيادة . .
هذه الحقائق تتلخص في أن هنالك خلقا اسمه الجن . مخلوق من النار . لقول إبليس في الحديث عن آدم: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين). . وإبليس من الجن لقول الله تعالى: (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه). . فأصله من أصل الجن .
وأن هذا الخلق له خصائص غير خصائص البشر . منها خلقته من نار , ومنها أنه يرى الناس ولا يراه الناس , لقوله تعالى عن إبليس - وهو من الجن -: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم). .
وأن له تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس . للقول السابق: (إنه يراكم هو وقبيله . . .).
وأن له قدرة على الحياة في هذا الكوكب الأرضي - لا ندري أين - لقوله تعالى:لآدم وإبليس معا: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين). .
والجن الذين سخروا لسليمان عليه السلام كانوا يقومون له بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزودين بالقدرة على الحياة فيها .
وأن له قدرة كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب لقول الله تعالى حكاية عن الجن: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا , وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع , فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . .
وأنه يملك التأثير في إدراك البشر وهو مأذون في توجيه الضالين منهم - غير عباد الله - للنصوص السابقة , ولقوله تعالى في حكاية حوار إبليس اللعينقال:فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين). . وغير هذا من النصوص المماثلة . ولكنا لا نعرف كيف يوسوس ويوجه وبأي أداة .
وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته , بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثر به .
وأنه قابل للهدى وللضلال بدلالة قول هذا النفر في سورة الجنوأنا منا المسلمون ومنا القاسطون . فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا , وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا). . وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين يدعونهمإلى الإيمان , بعدما وجدوه في نفوسهم , وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد .
وهذا هو القدر المستيقن في أمر الجن , وهو حسبنا , بلا زيادة عليه ليس عليها من دليل .
فأما الحادث الذي تشير إليه هذه الآيات , كما تشير إليه سورة الجن كلها على الأرجح , فقد وردت فيه روايات متعددة نثبت أصحها:
أخرج البخاري - بإسناده - عن مسدد , ومسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة . وروى الإمام أحمد في مسنده قال:حدثنا عفان , حدثنا أبو عوانة وقال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة:أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان , أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار , حدثنا إسماعيل القاضي , أخبرنا مسدد , حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:"ما قرأ رسول الله [ ص ] على الجن ولا رآهم . انطلق رسول الله [ ص ] في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ . وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء , وأرسلت عليهم الشهب , فرجعت الشياطين إلى قومهم , فقالوا:ما لكم ? فقالوا:حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب . قالوا:ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث , فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها , وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها , يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء . فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله [ ص ] وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ , وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر . فلما سمعوا القرآن استمعوا له , فقالوا:هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فهنالك حين رجعوا إلى قومهم:وقالوا يا قومنا (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به , ولن نشرك بربنا أحدا). . وأنزل الله على نبيه [ ص ]: (قل:أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن). . وإنما أوحي إليه قول الجن .
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي - بإسناده - عن علقمة , قال:قلت لابن مسعود - رضي الله عنه - هل صحب النبي [ ص ] منكم أحد ليلة الجن ? قال:ما صحبه أحد منا ولكنا كنا معه ذات ليلة , ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب . فقلنا:استطير , أو اغتيل . فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فلما أصبحنا فإذا هو جاء من قبل حراء . فقلنا:يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال:" أتاني داعي الجن فذهبت معه , فقرأت عليهم القرآن " . قال:فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . وسألوه الزاد فقال:" لكم كل عظم ذكر اسم الله تعالى عليه , يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما , وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " . فقال [ ص ] " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " . .
وقال:ساق ابن إسحاق - فيما رواه ابن هشام في السيرة - خبر النفر من الجن بعد خبر خروج رسول الله [ ص ] إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف , بعد موت عمه أبي طالب , واشتداد الأذى عليه وعلى المسلمين في مكة . ورد ثقيف له ردا قبيحا , وإغرائهم السفهاء والأطفال به , حتى أدموا قدميه [ ص ] بالحجارة . فتوجه إلى ربه بذلك الابتهال المؤثر العميق الكريم:" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي , وقلة حيلتي , وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين , أنت رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني ? إلى بعيد يتجهمني ? أم إلى عدو ملكته أمري ? إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي , ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات , وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة , من أن تنزل بي غضبك , أو يحل علي سخطك . لك العتبى حتى ترضى . ولا حول ولا قوة إلا بك " .
قال:ثم إن رسول الله [ ص ] انصرف من الطائف راجعا إلى مكة , حين يئس من خبر ثقيف . حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي , فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى . وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن نصيبين . فاستمعوا له . فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين . قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا . فقص الله خبرهم عليه [ ص ] قال الله عز وجل: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن)إلى قوله تعالى: (ويجركم من عذاب أليم). . وقال تعالى: (قل:أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة .
ويعقب ابن كثير في التفسير على رواية ابن اسحاق بقولهوهذا صحيح . ولكن قوله:إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر . فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الايحاء , كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور , وخروجه [ ص ] إلى الطائف كان بعد موت عمه . وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره . والله أعلم).
وهناك روايات أخرى كثيرة . ونحن نعتمد من جميع هذه الروايات الرواية الأولى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - لأنها هي التي تتفق تماما مع النصوص القرآنية: (قل:أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن). . وهي قاطعة في أن الرسول [ ص ] إنما علم بالحادث عن طريق الوحي , وأنه لم ير الجن ولم يشعر بهم . ثم إن هذه الرواية هي الأقوى من ناحية الإسناد والتخريج . وتتفق معها في هذه النقطة رواية ابن اسحاق . كما يقويها ما عرفناه من القرآن من صفة الجن: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم). .
وفي هذا غناء في تحقيق الحادث .
الدرس الأول:29 - 33 إسلام الجن ودعوتهم لقومهم
(وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن , فلما حضروه قالوا:أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين). .
لقد كان إذن تدبيرا من الله أن يصرف هؤلاء النفر من الجن إلى استماع القرآن , لا مصادفة عابرة . وكان في تقدير الله أن تعرف الجن نبأ الرسالة الأخيرة كما عرفت من قبل رسالة موسى ; وأن يؤمن فريق منهم وينجو من النار المعدة لشياطين الجن كما هي معدة لشياطين الإنس .
ويرسم النص مشهد هذا النفر - وهم ما بين ثلاثة وعشرة - وهم يستمعون إلى هذا القرآن , ويصور لنا ما وقع في حسهم منه , من الروعة والتأثر والرهبة والخشوع . (فلما حضروه قالوا:أنصتوا). . وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كله طوال مدة الاستماع .
(فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين). .
وهذه كتلك تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن . فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية . فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم , وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه , أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به . وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد , وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب , يدفعه دفعا إلى الحركة به والاحتفال بشأنه , وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام:
(قالوا:يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى , مصدقا لما بين يديه , يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم). .
ولوا إلى قومهم مسارعين يقولون لهم:إنا سمعنا كتابا جديدا أنزل من بعد موسى , يصدق كتاب موسى في
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم , الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم .
ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة , والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين:
(حملته أمه كرها , ووضعته كرها , وحمله وفصاله ثلاثون شهرا). .
وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال: (حملته أمه كرها . ووضعته كرها). . لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد , ويلهث بالأنفاس ! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه , وصورة الوضع وطلقه وآلامه !
ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة . .
إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة . تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ; فيتوارد دم الأم إلى موضعها , حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ; وتمتصه لتحيا به وتنمو . وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم . دائمة الامتصاص لمادة الحياة . والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص , لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول ! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير . ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ! وهذا كله قليل من كثير !
ثم الوضع , وهو عملية شاقة , ممزقة , ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة . ثمرة التلبية للفطرة , ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش , وتمتد . . بينما هي تذوي وتموت !
ثم الرضاع والرعاية . حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن , وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية . وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود . لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد . وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو . فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد !
فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية , مهما يفعل . وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد ?
وصدق رسول الله [ ص ] وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها , فسأل رسول الله [ ص ] هل أديت حقها ? فأجابه:" لا , ولا بزفرة واحدة " .
ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين , واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم , إلى مرحلة النضج والرشد , مع استقامة الفطرة , واهتداء القلب:
(حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال:رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي , وأن أعمل صالحا ترضاه , وأصلح لي في ذريتي , إني تبت إليك , وإني من المسلمين). .
وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين . والأربعون هي غاية النضج والرشد , وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات , ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء . وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة . وتتدبر المصير والمآل .
ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة , وهي في مفرق الطريق , بين شطر من العمر ولى , وشطر يكاد آخره يتبدى . وهي تتوجه إلى الله:
(رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي). .
دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه , المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به , المستقل المستصغر لجهده في شكرها . يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كلهأوزعني). . لينهض بواجب الشكر ; فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير .
(وأن أعمل صالحا ترضاه). .
وهذه أخرى . فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح , يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه . فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها . وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه .
(وأصلح لي في ذريتي). .
وهذه ثالثة . وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته . وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه . والذرية الصالحة أمل العبد الصالح . وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر . وأروح لقلبه من كل زينة الحياة . والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله .
وشفاعته إلى ربه . شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله , هي التوبة والإسلام:
(إني تبت إليك وإني من المسلمين). .
ذلك شأن العبد الصالح , صاحب الفطرة السليمة المستقيمة مع ربه . فأما شأن ربه معه , فقد أفصح عنه هذا القرآن:
(أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا , ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة . وعد الصدق الذي كانوا يوعدون). .
فالجزاء بحساب أحسن الأعمال . والسيئات مغفورة متجاوز عنها . والمآل إلى الجنة مع أصحابها الأصلاء . ذلك وفاء بوعد الصدق الذي وعدوه في الدنيا . ولن يخلف الله وعده . . وهو جزاء الفيض والوفر والإنعام .
الدرس الثاني:17 نموذج الكافر العاق بوالديه
فأما النموذج الآخر فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال:
(والذي قال لوالديه:أف لكما ! أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ?). .
فالوالدان مؤمنان . والولد العاق يجحد برهما أول ما يجحد ; فيخاطبهما بالتأفف الجارح الخشن الوقح: أف لكما ! . . ثم يجحد الآخرة بالحجة الواهية: أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ? . . أي ذهبوا ولم يعد منهم أحد . . والساعة مقدرة إلى أجلها . والبعث جملة بعد انتهاء أجل الحياة الدنيا . ولم يقل أحد إنه تجزئة . يبعث جيل مضى في عهد جيل ياتي . فليست لعبة وليست عبثا . إنما هو الحساب الختامي للرحلة كلها بعد انتهائها !
والوالدان يريان الجحود ويسمعان الكفر , ويفزعان مما يقوله الولد العاق لربه ولهما ; ويرتعش حسهما لهذا التهجم والتطاول ; ويهتفان به: (وهما يستغيثان الله . ويلك آمن . إن وعد الله حق). . ويبدو في حكاية
من الاية 17 الى الاية 20
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قولهما الفزع من هول ما يسمعان . بينما هو يصر على كفره , ويلج في جحوده: (فيقول:ما هذا إلا أساطير الأولين). .
هنا يعاجله الله بمصيره المحتوم:
(أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ; إنهم كانوا خاسرين). .
والقول الذي حق على هذا وأمثاله هو العقاب الذي ينال الجاحدين المكذبين . وهم كثير . خلت بهم القرون . من الجن والإنس . حسب وعيد الله الصادق الذي لا يخلف ولا يتخلف . (إنهم كانوا خاسرين). . وأية خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا . ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة . ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين ?
الدرس الثالث:19 ثواب البار وعذاب العاق
وبعد بيان العاقبة والجزاء إجمالا للمهتدين والضالين , يصور دقة الحساب والتقدير لكل فرد من هؤلاء وهؤلاء على حدة:
(ولكل درجات مما عملوا , وليوفيهم أعمالهم , وهم لا يظلمون). .
فلكل فرد درجته , ولكل فرد عمله , في حدود ذلك الإجمال في جزاء كل فريق .
وبعد , فهذان النموذجان عامان في الناس , ولكن مجيئهما في هذا الأسلوب , الذي يكاد يحدد شخصين بذواتهما أوقع وأشد إحياء للمثل كأنه واقع .
ولقد وردت روايات أن كلا منهما يعني إنسانا بعينه . ولكن لم يصح شيء من هذه الروايات . والأولى اعتبارهما واردين مورد المثل والنموذج . يدل على هذا الاعتبار صيغة التعقيب على كل نموذج . فالتعقيب على الأولأولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة . وعد الصدق الذي كانوا يوعدون). . والتعقيب على الثانيأولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس , إنهم كانوا خاسرين). . ثم التعقيب العامولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم , وهم لا يظلمون). . وكلها توحي بأن المقصود هو النموذج المكرر من هؤلاء وهؤلاء .
الدرس الرابع:20 صورة لعذاب الكفار وتقريعهم
ثم يقفهم وجها لوجه أمام مشهد شاخص لهم في يوم الحساب الذي كانوا يجحدون:
(ويوم يعرض الذين كفروا على النار . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها . فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق , وبما كنتم تفسقون). .
والمشهد سريع حاسم , ولكنه يتضمن لفتة عميقة عريضة . إنه مشهد العرض على النار . وفي مواجهتها وقبيل سوقهم إليها , يقال لهم عن سبب عرضهم عليها وسوقهم إليها: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها). . فقد كانوا يملكون الطيبات إذن , ولكنهم استنفدوها في الحياة الدنيا , فلم يدخروا للآخرة منها شيئا ; واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للآخرة حسابا . استمتعوا بها استمتاع الأنعام للحصول على اللذة بالمتاع , غير ناظرين فيها للآخرة , ولا شاكرين لله نعمته , ولا متورعين فيها عن فاحش أو حرام . ومن ثم كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة . واشتروا تلك اللمحة الخاطفة على الأرض بذلك الأمد الهائل الذي لا يعلم حدوده إلا الله !
(فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق , وبما كنتم تفسقون). .
من الاية 21 الى الاية 23
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23)
وكل عبد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق . فالكبرياء لله وحده . وليست لأحد من عباده في كثير أو قليل . وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض . فجزاء الاستكبار الهوان . وجزاء الفسوق عن منهج الله وطريقه الانتهاء إلى هذا الهوان أيضا . فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين .
وهكذا ينتهي هذا الشوط من السورة بعرض ذينك النموذجين ومصيرهما في النهاية ; وبهذا المشهد المؤثر للمكذبين بالآخرة , الفاسقين عن منهج الله , المستكبرين عن طاعته . وهي لمسة للقلب البشري تستجيش الفطر السليمة القويمة لارتياد الطريق الواصل المأمون .
الوحدة الثالثة:21 - 28 الموضوع لقطات من قصة هود مع عاد مقدمة الوحدة
وهذا الشوط جولة في مجال آخر , تخدم القضية التي تعالجها السورة , وتأخذ القلب البشري من جانب غير الجوانب التي عالجها الشوطان الأولان . . جولة في مصرع عاد ومصارع القرى غيرها حول مكة . وقد وقفوا من رسولهم وأخيهم هود - عليه السلام - موقف المشركين من رسولهم وأخيهم محمد [ ص ] واعترضوا اعتراضاتهم , وأجابهم نبيهم بما يليق به من أدب النبوة في حدود بشريته وحدود وظيفته . ثم أخذهم ما أخذهم من العذاب المدمر , حين لم يسمعوا النذير . فلم تغن عنهم قوتهم - وكانوا أقوى - ولم يغن عنهم ثراؤهم - وكانوا أغنى - ولم ينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم - وكانوا أذكياء - ولم تغن عنهم آلهتهم التي اتخذوها تقربا - بزعمهم - إلى الله .
وكذلك يقف المشركين في مكة أمام مصارع أسلافهم من أمثالهم ; فيقفهم أمام مصيرهم هم أنفسهم . ثم أمام الخط الثابت المطرد المتصل . خط الرسالة القائمة على أصلها الواحد الذي لا يتغير وخط السنة الإلهية التي لا تتحول ولا تتبدل . وتبدوا شجرة العقيدة عميقة الجذور , ممتدة الفروع ضاربة في أعماق الزمان ; واحدة على اختلاف القرون واختلاف المكان .
الدرس الأول:21 - 25 تكذيب عاد لهود ودمارهم
(واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف - وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه - ألا تعبدوا إلا الله . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم). .
وأخو عاد هو هود - عليه السلام - يذكره القرآن هنا بصفته . صفة الأخوة لقومه . ليصور صلة الود بينه وبينهم , وصلة القرابة التي كانت كفيلة بأن تعطفهم إلى دعوته , وتحسن ظنهم بها وبه . وهي ذات الصلة بين محمد [ ص ] وقومه الذين يقفون منه موقف الملاحاة والخصومة .
والأحقاف جمع حقف . وهو الكثيب المرتفع من الرمال . وقد كانت منازل عاد على المرتفعات المتفرقة في جنوب الجزيرة - يقال في حضرموت .
والله - سبحانه - يوجه نبيه [ ص ] أن يذكر أخا عاد وإنذاره لقومه بالأحقاف . يذكره ليتأسى بأخ له من الرسل لقي مثلما يلقى من إعراض قومه وهو أخوهم . ويذكره ليذكر المشركين في مكة بمصير الغابرين من زملائهم وأمثالهم , على مقربة منهم ومن حولهم .
وقد أنذر أخو عاد قومه , ولم يكن أول نذير لقومه . فقد سبقته الرسل إلى أقوامهم . .
(وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه). .
قريبا منه وبعيدا عنه في الزمان وفي المكان . فالنذارة متصلة , وسلسلة الرسالة ممتدة . والأمر ليس بدعا ولا غريبا . فهو معهود مألوف .
أنذرهم - ما أنذر به كل رسول قومه -: (ألا تعبدوا إلا الله . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم). . وعبادة الله وحده عقيدة في الضمير ومنهج في الحياة ; والمخالفة عنها تنتهي إلى العذاب العظيم في الدنيا أو في الآخرة , أو فيهما على السواء . والإشارة إلى اليوم (عذاب يوم عظيم). . تعني حين تطلق يوم القيامة وهو أشد وأعظم .
فماذا كان جواب قومه على التوجيه إلى الله , والإنذار بعذابه ?
(قالوا:أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا ? فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين !). .
سوء الظن وعدم الفهم , والتحدي للنذير , واستعجال العذاب الذي ينذرهم به , والاستهزاء والتكذيب . وإصرار على الباطل واعتزاز !
فأما هود النبي فيتلقى هذا كله في أدب النبي , وفي تجرده من كل ادعاء , وفي الوقوف عند حده لا يتعداهقال:إنما العلم عند الله . وأبلغكم ما أرسلت به . ولكني أراكم قوما تجهلون). .
إنما أنذركم بالعذاب كما كلفت أن أنذركم . ولست أعلم متى يحين موعده , ولا كيف يكون شكله . فعلم ذلك عند الله . وإنما أنا مبلغ عن الله . لا أدعي علما ولا قدرة مع الله . . (ولكني أراكم قوما تجهلون)وتحمقون . وأية حماقة وأي جهل أشد من استقبال النذير الناصح والأخ القريب بمثل هذا التحدي والتكذيب ?
الأحقاف
من الاية 24 الى الاية 26
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (26)
ويجمل السياق هنا ما كان بين هود وقومه من جدل طويل , ليمضي إلى النهاية المقصودة أصلا في هذا المقام ; ردا على التحدي والاستعجال .
(فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا:هذا عارض ممطرنا . بل هو ما استعجلتم به:ريح فيها عذاب أليم , تدمر كل شيء بأمر ربها , فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم . كذلك نجزي القوم المجرمين). .
وتقول الروايات:إنه أصاب القوم حر شديد , واحتبس عنهم المطر , ودخن الجو حولهم من الحر والجفاف . ثم ساق الله إليهم سحابة , ففرحوا بها فرحا شديدا , وخرجوا يستقبلونها في الأودية , وهم يحسبون فيها الماء: (قالوا هذا عارض ممطرنا). .
وجاءهم الرد بلسان الواقع: (بل هو ما استعجلتم به:ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها). . وهي الريح الصرصر العاتية التي ذكرت في سورة أخرى . كما جاء في صفتهاما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم).
والنص القرآني يصور الريح حية مدركة مأمورة بالتدمير: (تدمر كل شيء بأمر ربها)وهي الحقيقة الكونية التي يحفل القرآن بإشعارها للنفوس . فهذا الوجود حي . وكل قوة من قواه واعية . وكلها تدرك عن ربها وتتوجه لما تكلف به من لدنه . والإنسان أحد هذه القوى . وحين يؤمن حق الإيمان , ويفتح قلبه للمعرفة الواصلة , يستطيع أن يعي عن القوى الكونية من حوله , وأن يتجاوب معها , وأن تتجاوب معه , تجاوب الأحياء المدركة , بغير الصورة الظاهرة التي يعرفها الناس من الحياة والإدراك . ففي كل شيء روح وحياة , ولكننا لا ندرك هذا لأننا محجوبون بالظواهر والأشكال عن البواطن والحقائق . والكون من حولنا حافل بالأسرار المحجوبة بالأستار , تدركها البصائر المفتوحة ولا تراها الأبصار .
وقد أدت الريح ما أمرت به , فدمرت كل شيء (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم). . أما هم وأما أنعامهم وأما أشياؤهم وأما متاعهم فلم يعد شيء منه يرى . إنما هي المساكن قائمة خاوية موحشة , لا ديار فيها ولا نافخ نار . . (كذلك نجزي القوم المجرمين). . سنة جارية وقدر مطرد في المجرمين .
الدرس الثاني:26 تعقيب على دمار عاد
وعلى مشهد الدمار والخراب يلتفت إلى أمثالهم الحاضرين , يلمس قلوبهم بما ترتعش منه القلوبولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه . وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة . فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . إذ كانوا يجحدون بآيات الله . وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون). .
هؤلاء الذين دمرتهم الريح المأمورة بالتدمير . مكناهم فيما لم نمكنكم فيه . . إجمالا . . من القوة والمال والعلم والمتاع . وآتيناهم أسماعا وأبصارا وأفئدة - والقرآن يعبر عن قوة الإدراك مرة بالقلب ومرة بالفؤاد ومرة باللب ومرة بالعقل . وكلها تعني الإدراك في صورة من صوره - ولكن هذه الحواس والمدارك لم تنفعهم في شيء . إذ أنهم عطلوها وحجبوها (إذ كانوا يجحدون بآيات الله). . والجحود بآيات الله يطمس الحواس والقلوب , ويفقدها الحساسية والإشراق والنور والإدراك . (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون). . من العذاب والبلاء . .
والعبرة التي يفيدها كل ذي سمع وبصر وقلب , ألا يغتر ذو قوة بقوته , ولا ذو مال بماله , ولا ذو علم بعلمه . فهذه قوة من قوى الكون تسلط على أصحاب القوة والمال والعلم والمتاع , فتدمر كل شيء , وتتركهم (لا يرى إلا مساكنهم)حين يأخذهم الله بسنته التي يأخذ بها المجرمين .
من الاية 27 الى الاية 28
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
والريح قوة دائبة العمل , وفق النظام الكوني الذي قدره الله , وهو يسلطها حين يسلطها للتدمير وهي ماضية في طريقها الكوني , تعمل وفق الناموس المرسوم . فلا حاجة لخرق النواميس الكونية - كما يعترض المعترضون واهمين - فصاحب الناموس المرسوم هو صاحب القدر المعلوم . وكل حادث وكل حركة , وكل اتجاه , وكل شخص , وكل شيء , محسوب حسابه , داخل في تصميم الناموس .
والريح كغيرها من القوى الكونية مسخرة بأمر ربها , ماضية تؤدي ما قدره لها في نطاق الناموس المرسوم لها وللوجود كله . ومثلها قوة البشر المسخرة لما يريده الله بها . المسخر لها من قوى الكون ما أراد الله تسخيره لها . وحين يتحرك البشر فإنما يؤدون دورهم في هذا الوجود , ليتم ما أراده الله بهم وفق ما يريد . وحرية إرادتهم في الحركة والاختيار جزء من الناموس الكلي ينتهي إلى التناسق الكوني العام . وكل شيء مقدر تقديرا لا يناله نقص ولا اضطراب .
الدرس الثالث:27 - 28 دعوة الكفار للإعتبار من مصارع السابقين وتهديدهم
ويختم هذا الشوط بالعبرة الكلية لمصارع من حولهم من القرى من عاد وغير عاد:
(ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى , وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون . فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة ! بل ضلوا عنهم . وذلك إفكهم وما كانوا يفترون). .
وقد أهلك الله القرى التي كذبت رسلها في الجزيرة . كعاد بالأحقاف في جنوب الجزيرة . وثمود بالحجر في شمالها . وسبأ وكانوا باليمن . ومدين وكانت في طريقهم إلى الشام . وكذلك قرى قوم لوط وكانوا يمرون بها في رحلة الصيف إلى الشمال .
ولقد نوع الله في آياته لعل المكذبين يرجعون إلى ربهم ويثوبون . ولكنهم مضوا في ضلالتهم , فأخذهم العذاب الأليم , ألوانا وأنواعا , تتحدث بها الأجيال من بعدهم , ويعرفها الخلف من ورائهم . وكان مشركو مكة يتسامعون بها , ويرون آثارها غادين رائحين .
وهنا يلفتهم إلى الحقيقة الواقعة . فقد دمر الله على المشركين قبلهم وأهلكهم دون أن تنجيهم آلهتهم التي كانوا يتخذونها من دون الله , زاعمين أنهم يتقربون بها إليه . سبحانه . وهي تستنزل غضبه ونقمته: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة).
إنهم لم ينصروهم (بل ضلوا عنهم). . وتركوهم وحدهم لا يعرفون طريقا إليهم أصلا , فضلا على أن يأخذوا بيدهم وينجدوهم من بأس الله .
(وذلك إفكهم وما كانوا يفترون). .
فهو إفك . وهو افتراء . وذلك مآله . وتلك حقيقته . . الهلاك والتدمير . . فماذا ينتظر المشركون الذين يتخذون من دون الله آلهة بدعوى أنها تقربهم من الله زلفى ? وهذه هي العاقبة وهذا هو المصير ?
الوحدة الرابعة:29 - 35 الموضوع:الإيمان والدعوة على لسان الجن
من الاية 29 الى الاية 29
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)
مقدمة الوحدة هذا الشوط الأخير جولة جديدة في مجال القضية التي تعالجها السورة ; فسياقة قصة النفر من الجن الذين استمعوا لهذا القرآن , فتنادوا بالإنصات , واطمأنت قلوبهم إلى الإيمان , وانصرفوا إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الله ويبشرونهم بالغفران والنجاة , ويحذرونهم الإعراض والضلال . سياقة الخبر في هذا المجال , بهذه الصورة , وتصوير مس القرآن لقلوب الجن هذا المس الذي يتمثل في قولهمأنصتوا)عندما طرق أسماعهم , يتمثل فيما حكوه لقومهم عنه , وفيما دعوهم إليه . كل هذا من شأنه أن يحرك قلوب البشر , الذين جاء القرآن لهم في الأصل . وهو إيقاع مؤثر ولا شك , يلفت هذه القلوب لفتة عنيفة عميقة . وفي الوقت ذاته تجيء الإشارة إلى الصلة بين كتاب موسى وهذا القرآن على لسان الجن , فتعلن هذه الحقيقة التي يدركها الجن ويغفل عنها البشر . ولا يخفى ما في هذه اللفتة من إيحاء عميق متفق مع ما جاء في السورة .
كذلك ما يرد في كلام الجن من الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح , ودلالته على قدرة الله الظاهرة في خلق السماوات والأرض الشاهدة بقدرته على الإحياء والبعث . وهي القضية التي يجادل فيها البشر وبها يجحدون .
وبمناسبة البعث يعرض مشهدا من مشاهد القيامة (ويوم يعرض الذين كفروا على النار). .
وفي الختام تجيء الوصية للرسول [ ص ] بالصبر عليهم وعدم الاستعجال لهم . وتركهم للأجل المرسوم . وهو قريب قريب كأنه ساعة من نهار . . للبلاغ . . قبل الهلاك !
الدرس الأول:29 - 33 تمهيد الدرس وحقيقة الجن
(وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن , فلما حضروه قالوا:أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا:يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى , مصدقا لما بين يديه , يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعيالله فليس بمعجز في الأرض , وليس له من دونه أولياء , أولئك في ضلال مبين . أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ? بلى إنه على كل شيء قدير). .
ومقالة النفر من الجن - مع خشوعهم عند سماع القرآن - تتضمن أسس الاعتقاد الكامل:تصديق الوحي . ووحدة العقيدة بين التوراة والقرآن . والاعتراف بالحق الذي يهدي إليه . والإيمان بالآخرة وما ينتهي إلى المغفرة وما ينتهي إلى العذاب من الأعمال . والإقرار بقوة الله وقدرته على الخلق وولايته وحده للعباد . والربط بين خلق الكون وإحياء الموتى . . وهي الأسس التي تتضمنها السورة كلها , والقضايا التي تعالجها في سائر أشواطها . . كلها جاءت على لسان النفر من الجن . من عالم آخر غير عالم الإنسان .
ويحسن قبل أن نستعرض هذه المقالة أن نقول كلمة عن الجن وعن الحادثة . .
إن ذكر القرآن لحادث صرف نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي [ ص ] وحكاية ما قالوا وما فعلوا . . هذا وحده كاف بذاته لتقرير وجود الجن , ولتقرير وقوع الحادث . ولتقرير أن الجن هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق كما يلفظه رسول الله [ ص ] ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران , مستعدون للهدى وللضلال . . وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة ; فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها الله - سبحانه - ثبوتا .
ولكنا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني .
إن هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار , حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنها وصفة وأثرا . ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار . نعرف منها القليل , ونجهل منها الكثير . وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار , وندرك بعض هذه القوى , ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق تارة بذواتها . وتارة بصفاتها . وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا .
ونحن ما نزال في أول الطريق . طريق المعرفة لهذا الكون , الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا ويعيش أبناؤنا وأحفادنا , على ذرة من ذراته الصغيرة الصغيرة . . هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئا يذكر في حجم الكون أو وزنه !
وما عرفناه اليوم - ونحن في أول الطريق - يعد بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن . ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم لظنوه مجنونا , أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعا !
ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية , المعدة للخلافة في هذه الأرض , ووفق مقتضيات هذه الخلافة , وفي دائرة ما سخره الله لنا ليكشف لنا عن أسراره , وليكون لنا ذلولا , كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض . . ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها - مهما امتد بنا الأجل - أي بالبشرية - ومهما سخر لنا من قوى الكون وكشف لنا من أسراره - لا تتعدى تلك الدائرة . دائرة ما نحتاجه للخلافة في هذه الأرض . وفق حكمة الله وتقديره .
وسنكشف كثيرا , وسنعرف كثيرا , وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته , مما قد تعتبر أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال ! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة . وفي حدود قول الله - سبحانه - (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا). . قليلا بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيومه . وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود , ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله). .
فليس لنا - والحالة هذه - أن نجزم بوجود شيء أو نفيه . وبتصوره أو عدم تصوره . من عالم الغيب المجهول , ومن أسرار هذا الوجود وقواه , لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي أو تجاربنا المشهودة . ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها , فضلا على إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا !
وقد تكون هنالك أسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلا . وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه , فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره أو مجرد وجوده , لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض .
فإذا كشف الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى , عن طريق كلامه - لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضا - فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم . نتلقاها كما هي فلا نزيد عليها ولا ننقص منها لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة . وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار !
ومن هذا النص القرآني , ومن نصوص سورة الجن , والأرجح أنها تعبير عن الحادث نفسه , ومن النصوص الأخرى المتناثرة في القرآن عن الجن , ومن الأثار النبوية الصحيحة عن هذا الحادث , نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن . . ولا زيادة . .
هذه الحقائق تتلخص في أن هنالك خلقا اسمه الجن . مخلوق من النار . لقول إبليس في الحديث عن آدم: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين). . وإبليس من الجن لقول الله تعالى: (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه). . فأصله من أصل الجن .
وأن هذا الخلق له خصائص غير خصائص البشر . منها خلقته من نار , ومنها أنه يرى الناس ولا يراه الناس , لقوله تعالى عن إبليس - وهو من الجن -: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم). .
وأن له تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس . للقول السابق: (إنه يراكم هو وقبيله . . .).
وأن له قدرة على الحياة في هذا الكوكب الأرضي - لا ندري أين - لقوله تعالى:لآدم وإبليس معا: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين). .
والجن الذين سخروا لسليمان عليه السلام كانوا يقومون له بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزودين بالقدرة على الحياة فيها .
وأن له قدرة كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب لقول الله تعالى حكاية عن الجن: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا , وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع , فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . .
وأنه يملك التأثير في إدراك البشر وهو مأذون في توجيه الضالين منهم - غير عباد الله - للنصوص السابقة , ولقوله تعالى في حكاية حوار إبليس اللعينقال:فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين). . وغير هذا من النصوص المماثلة . ولكنا لا نعرف كيف يوسوس ويوجه وبأي أداة .
وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته , بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثر به .
وأنه قابل للهدى وللضلال بدلالة قول هذا النفر في سورة الجنوأنا منا المسلمون ومنا القاسطون . فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا , وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا). . وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين يدعونهمإلى الإيمان , بعدما وجدوه في نفوسهم , وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد .
وهذا هو القدر المستيقن في أمر الجن , وهو حسبنا , بلا زيادة عليه ليس عليها من دليل .
فأما الحادث الذي تشير إليه هذه الآيات , كما تشير إليه سورة الجن كلها على الأرجح , فقد وردت فيه روايات متعددة نثبت أصحها:
أخرج البخاري - بإسناده - عن مسدد , ومسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة . وروى الإمام أحمد في مسنده قال:حدثنا عفان , حدثنا أبو عوانة وقال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة:أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان , أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار , حدثنا إسماعيل القاضي , أخبرنا مسدد , حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:"ما قرأ رسول الله [ ص ] على الجن ولا رآهم . انطلق رسول الله [ ص ] في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ . وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء , وأرسلت عليهم الشهب , فرجعت الشياطين إلى قومهم , فقالوا:ما لكم ? فقالوا:حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب . قالوا:ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث , فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها , وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها , يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء . فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله [ ص ] وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ , وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر . فلما سمعوا القرآن استمعوا له , فقالوا:هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فهنالك حين رجعوا إلى قومهم:وقالوا يا قومنا (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به , ولن نشرك بربنا أحدا). . وأنزل الله على نبيه [ ص ]: (قل:أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن). . وإنما أوحي إليه قول الجن .
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي - بإسناده - عن علقمة , قال:قلت لابن مسعود - رضي الله عنه - هل صحب النبي [ ص ] منكم أحد ليلة الجن ? قال:ما صحبه أحد منا ولكنا كنا معه ذات ليلة , ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب . فقلنا:استطير , أو اغتيل . فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فلما أصبحنا فإذا هو جاء من قبل حراء . فقلنا:يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال:" أتاني داعي الجن فذهبت معه , فقرأت عليهم القرآن " . قال:فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . وسألوه الزاد فقال:" لكم كل عظم ذكر اسم الله تعالى عليه , يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما , وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " . فقال [ ص ] " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " . .
وقال:ساق ابن إسحاق - فيما رواه ابن هشام في السيرة - خبر النفر من الجن بعد خبر خروج رسول الله [ ص ] إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف , بعد موت عمه أبي طالب , واشتداد الأذى عليه وعلى المسلمين في مكة . ورد ثقيف له ردا قبيحا , وإغرائهم السفهاء والأطفال به , حتى أدموا قدميه [ ص ] بالحجارة . فتوجه إلى ربه بذلك الابتهال المؤثر العميق الكريم:" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي , وقلة حيلتي , وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين , أنت رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني ? إلى بعيد يتجهمني ? أم إلى عدو ملكته أمري ? إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي , ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات , وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة , من أن تنزل بي غضبك , أو يحل علي سخطك . لك العتبى حتى ترضى . ولا حول ولا قوة إلا بك " .
قال:ثم إن رسول الله [ ص ] انصرف من الطائف راجعا إلى مكة , حين يئس من خبر ثقيف . حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي , فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى . وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن نصيبين . فاستمعوا له . فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين . قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا . فقص الله خبرهم عليه [ ص ] قال الله عز وجل: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن)إلى قوله تعالى: (ويجركم من عذاب أليم). . وقال تعالى: (قل:أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة .
ويعقب ابن كثير في التفسير على رواية ابن اسحاق بقولهوهذا صحيح . ولكن قوله:إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر . فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الايحاء , كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور , وخروجه [ ص ] إلى الطائف كان بعد موت عمه . وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره . والله أعلم).
وهناك روايات أخرى كثيرة . ونحن نعتمد من جميع هذه الروايات الرواية الأولى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - لأنها هي التي تتفق تماما مع النصوص القرآنية: (قل:أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن). . وهي قاطعة في أن الرسول [ ص ] إنما علم بالحادث عن طريق الوحي , وأنه لم ير الجن ولم يشعر بهم . ثم إن هذه الرواية هي الأقوى من ناحية الإسناد والتخريج . وتتفق معها في هذه النقطة رواية ابن اسحاق . كما يقويها ما عرفناه من القرآن من صفة الجن: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم). .
وفي هذا غناء في تحقيق الحادث .
الدرس الأول:29 - 33 إسلام الجن ودعوتهم لقومهم
(وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن , فلما حضروه قالوا:أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين). .
لقد كان إذن تدبيرا من الله أن يصرف هؤلاء النفر من الجن إلى استماع القرآن , لا مصادفة عابرة . وكان في تقدير الله أن تعرف الجن نبأ الرسالة الأخيرة كما عرفت من قبل رسالة موسى ; وأن يؤمن فريق منهم وينجو من النار المعدة لشياطين الجن كما هي معدة لشياطين الإنس .
ويرسم النص مشهد هذا النفر - وهم ما بين ثلاثة وعشرة - وهم يستمعون إلى هذا القرآن , ويصور لنا ما وقع في حسهم منه , من الروعة والتأثر والرهبة والخشوع . (فلما حضروه قالوا:أنصتوا). . وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كله طوال مدة الاستماع .
(فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين). .
وهذه كتلك تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن . فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية . فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم , وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه , أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به . وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد , وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب , يدفعه دفعا إلى الحركة به والاحتفال بشأنه , وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام:
(قالوا:يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى , مصدقا لما بين يديه , يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم). .
ولوا إلى قومهم مسارعين يقولون لهم:إنا سمعنا كتابا جديدا أنزل من بعد موسى , يصدق كتاب موسى في
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الاحقاف ايه رقم واحد الى 14 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاحقاف ايه 30 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الجا ثيه ايه 33==حتى ايه6 من سورة الاحقاف
» تفسير سورة الاحقاف ايه 6---15
» تفسير سورة الاحقاف ايه 21-----29
» تفسير سورة الاحقاف ايه 30 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الجا ثيه ايه 33==حتى ايه6 من سورة الاحقاف
» تفسير سورة الاحقاف ايه 6---15
» تفسير سورة الاحقاف ايه 21-----29
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى