تفسير سورة الاحقاف ايه رقم واحد الى 14 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الاحقاف ايه رقم واحد الى 14 الشيخ سيد قطب
من الاية 1 الى الاية 3
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
الوحدة الأولى:1 - 14 الموضوع إثبات الوحي ونقاش المشركين والإحتجاج للرسالة
الأحقاف
هذه السورة المكية تعالج قضية العقيدة . . قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه . والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمدا [ ص ] رسول سبقته الرسل , أوحي إليه بالقرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب . والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ومن إحسان وإساءة .
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله . ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا , وظل يتكيء عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية . ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه , وبعثة محمد [ ص ] والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء . . هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها , وترتبط به أوثق ارتباط ; فتبقى حية حارة تنبعث من تأثير دائم بذلك الإيمان .
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل ; وتوقع فيها على كل وتر ; وتعرضها في مجالات شتى , مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية . كما أنها تجعلها قضية الوجود كله - لا قضية البشر وحدهم - فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه . وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا . سواء بسواء .
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض , وفي مشاهد القيامة في الآخرة . كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة . وتجعل من السماوات والأرض كتابا ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء .
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط مترابطة , كأنها شوط واحد ذو أربعة مقاطع .
يبدأ الشوط الأول وتبدأ السورة معه بالحرفين:حا . ميم . كما بدأت السور الست قبلها . تليهما الإشارة الى كتاب القرآن والوحي به من عند اللهتنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم). . وعقبها مباشرة الإشارة الى كتاب الكون , وقيامه على الحق , وعلى التقدير والتدبير: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى). . فيتوافى كتاب القرآن المتلو وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون).
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون , ولا يستند الى حق من القول , ولا مأثور من العلمقل:أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين). . ويندد بضلال من يدعو من دون الله من لا يسمع لعابده ولا يستجيب . ثم هو يخاصمه يوم القيامة ويبرأ من عبادته في اليوم العصيب !
ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله [ ص ] وقولهم له: (هذا سحر مبين). . وترقيهم في الادعاء حتى ليزعمون أنه افتراه . ويلقن رسول الله [ ص ] أن يرد عليهم الرد اللائق بالنبوة , النابع من مخافة الله وتقواه , وتفويض الأمر كله إليه في الدنيا والآخرة: (قل:إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم , وهو الغفور الرحيم . قل:ما كنت بدعا من الرسل , وما أدري ما يفعل بي ولا بكم , إن أتبع إلا ما يوحى إلي , وما أنا إلا نذير مبين). . ويحاججهم بموقف بعض من اهتدى للحق من بني اسرائيل حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى - عليه السلام -: (فآمن واستكبرتم). . ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .
ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية عن هذا الإصرار , وهم يقولون عن المؤمنين: لو كان خيرا ما سبقونا إليه . . ويكشف عن علة هذا الموقف المنكر: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم ! .
ويشير إلى كتاب موسى من قبله , وإلى تصديق هذا القرآن له , وإلى وظيفته ومهمته: (لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين). .
ويختم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق بالله واستقام على الطريقإن الذين قالوا:ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون). .
ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية:المستقيمة والمنحرفة , في مواجهة قضية العقيدة . ويبدأ معهما من النشأة الأولى , وهما في أحضان والديهم . ويتابع تصرفهما عند بلوغ الرشد والتبعة والاختيار . فأما الأول فشاعر بنعمة الله بار بوالديه , راغب في الوفاء بواجب الشكر , تائب ضارع مستسلم منيبأولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة , وعد الصدق الذي كانوا يوعدون). . وأما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه , وهو جاحد منكر للآخرة , وهما به ضيقان متعبانأولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس , إنهم كانوا خاسرين). .
ويختم هذا الشوط بمشهد سريع من مشاهد القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريقويوم يعرض الذين كفروا على النار . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها , فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق , وبما كنتم تفسقون). .
والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد , عندما كذبوا بالنذير . ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم , التي توقعوا فيها الري والحياة ; فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار , والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوهفلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا:هذا عارض ممطرنا , بل هو ما استعجلتم به , ريح فيها عذاب أليم , تدمر كل شيء بأمر ربها , فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم , كذلك نجزي القوم المجرمين). . ويلمس قلوبهم بهذا المصرع , وهو يذكرهم بأن عادا كانوا أشد منهم قوة وأكثر ثروةولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه , وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة , فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . إذ كانوا يجحدون بآيات الله , وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون). . ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى , وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم , وظهور إفكهم وافترائهم . لعلهم يتأثرون ويرجعون . .
ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن , حين صرفهم الله لاستماعه , فلم يملكوا أنفسهم من التأثر والاستجابة , والشهادة له بأنه الحق: (مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم). .وعادوا ينذرون قومهم ويحذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به , يغفر لكم من ذنوبكم , ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض , وليس له من دونه أولياء , أولئك في ضلال مبين ). .
وتتضمن مقالة النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة الله على البدء والإعادةأو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ? بلى إنه على كل شيء قدير). .
وهنا يلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار , فيقرون بما كانوا ينكرون , ولكن حيث لا مجال لإقرار أو يقين !
وتختم السورة بتوجيه الرسول [ ص ] إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب , فإنما هو أجل قصير يمهلونه , ثم يأتيهم العذاب والهلاكفاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم , كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ?). .
والآن نأخذ فى تفصيل هذه الأشواط . .
الدرس الأول:1 - 6 إثبات الوحي وعجز الشركاء وعذاب المشركين
(حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى , والذين كفروا عما أنذروا معرضون). .
هذا هو الإيقاع الأول في مطلع السورة ; وهو يلمس العلاقة بين الأحرف العربية التي يتداولها كلامهم , والكتاب المصوغ من جنس هذه الأحرف على غير مثال من كلام البشر , وشهادة هذه الظاهرة بأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم . كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المتلو المنزل من عنده , وكتاب الله المنظور المصنوع بيده . كتاب هذا الكون الذي تراه العيون , وتقرؤه القلوب .
وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير . فتنزيل الكتاب (من الله العزيز الحكيم)هو مظهر للقدرة وموضع للحكمة . وخلق السماوات والأرض وما بينهما متلبس بالحق: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق). . وبالتقدير الدقيق: (وأجل مسمى)تتحقق فيه حكمة الله من خلقه , ويتم فيه ما قدره له من غاية .
وكلا الكتابين مفتوح , معروض على الأسماع والأنظار , ينطق بقدرة الله , ويشهد بحكمته , ويشي بتدبيره وتقديره , ويدل كتاب الكون على صدق الكتاب المتلو , وما فيه من إنذار وتبشير . . (والذين كفروا عما أنذروا معرضون). . وهذا هو العجب المستنكر في ظل تلك الإشارة إلى الكتاب المنزل والكتاب المنظور !
والكتاب المنزل المتلو يقرر أن الله واحد لا يتعدد , وأنه رب كل شيء , بما أنه خالق كل شيء , ومدبر كل شيء , ومقدر كل شيء . وكتاب الكون الحي ينطق بهذه الحقيقة ذاتها ; فنظامه وتنسيقه وتناسقه كلها تشهد بوحدانية الصانع المقدر المدبر , الذي يصنع على علم , ويبدع على معرفة , وطابع الصنعة واحد في كل ما يصنع وما يبدع . فأنى يتخذ الناس آلهة من دونه ? وماذا صنع هؤلاء الآلهة وماذا أبدعوا ? وهذا هو الكون قائما معروضا على الأنظار والقلوب ; فماذا لهم فيه ? وأي قسم من أقسامه أنشأوه ?
(قل:أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا , أو أثارة من علم , إن كنتم صادقين). .
وهذا تلقين من الله سبحانه لرسوله [ ص ] ليواجه القوم بشهادة كتاب الكون المفتوح . الكتاب
من الاية 4 الى الاية 6
قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
الذي لا يقبل الجدل والمغالطة - إلا مراء ومحالا - والذي يخاطب الفطرة بمنطقها , بما بينه وبين الفطرة من صلة ذاتية خفية , يصعب التغلب عليها ومغالطتها .
(أروني ماذا خلقوا من الأرض ?). .
ولن يملك إنسان أن يزعم أن تلك المعبودات - سواء كانت حجرا أم شجرا أم جنا أم ملائكة أم غيرها - قد خلقت من الأرض شيئا , أو خلقت في الأرض شيئا . إن منطق الفطرة . منطق الواقع . يصيح في وجه أي ادعاء من هذا القبيل .
(أم لهم شرك في السماوات ?). .
ولن يملك إنسان كذلك أن يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السماوات أو في ملكيتها . ونظرة إلى السماوات توقع في القلب الإحساس بعظمة الخالق , والشعور بوحدانيته ; وتنفض عنه الانحرافات والترهات . . والله منزل هذا القرآن يعلم أثر النظر في الكون على قلوب بالبشر ومن ثم يوجههم إلى كتاب الكون ليتدبروه ويستشهدوه ويستمعوا إلى إيقاعاته المباشرة في القلوب .
ثم يأخذ الطريق على ما قد يطرأ على بعض النفوس من انحراف بعيد . فقد يصل بها هذا الانحراف إلى أن تزعم هذا الزعم أو ذاك بلا حجة ولا دليل . يأخذ عليها الطريق , فيطالبها بالحجة والدليل ; ويعلمها في الوقت ذاته طريقة الاستدلال الصحيح ; ويأخذها بالمنهج السليم في النظر والحكم والتقدير:
(ائتوني بكتاب من قبل هذا , أو أثارة من علم , إن كنتم صادقين). .
فإما كتاب من عند الله صادق . وإما بقية من علم مستيقن ثابت . وكل الكتب المنزلة قبل القرآن تشهد بوحدانية الخالق المبدع المدبر المقدر ; وليس فيها من كتاب يقر خرافة الآلهة المتعددة , أو يقول بأن لها في الأرض خلقا أو في السماوات شركا ! وليس هنالك من علم ثابت يؤيد مثل ذلك الزعم المتهافت .
وهكذا يواجههم القرآن بشهادة هذا الكون . وهي شهادة حاسمة جازمة . ويأخذ عليهم طريق الادعاء بلا بينة . ويعلمهم منهج البحث الصحيح . في آية واحدة قليلة الكلمات , واسعة المدى , قوية الإيقاع , حاسمة الدليل .
ثم يأخذ بهم إلى نظرة موضوعية في حقيقة هذه الآلهة المدعاة , منددا بضلالهم في اتخاذها , وهي لا تستجيب لهم , ولا تشعر بدعائهم في الدنيا ; ثم هي تخاصمهم يوم القيامة , وتنكر دعواهم في عبادتها:
(ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة , وهم عن دعائهم غافلون ? وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين). .
وقد كان بعضهم يتخذ الأصنام آلهة . إما لذاتها وإما باعتبارها تماثيل للملائكة . وبعضهم يتخذ الأشجار , وبعضهم يتخذ الملائكة مباشرة أو الشيطان . . وكلها لا تستجيب لداعيها أصلا . أو لا تستجيب له استجابة نافعة . فالأحجار والأشجار لا تستجيب . والملائكة لا يستجيبون للمشركين . والشياطين لا تستجيب إلا بالوسوسة والإضلال . ثم اذا كان يوم القيامة وحشر الناس إلى ربهم , تبرأ هؤلاء وهؤلاء من عبادهم الضالين . حتى الشيطان كما جاء في سورة أخرىوقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق , ووعدتكم فأخلفتكم , وما كان لي عليكم من سلطان , إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . فلا تلوموني ولوموا أنفسكم , ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي . إني كفرت بما أشركتمون من قبل . إن الظالمين لهم عذاب أليم). .
من الاية 7 الى الاية 7
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7)
وهكذا يقفهم القرآن وجها لوجه أمام حقيقة دعواهم ومآلها في الدنيا والآخرة . بعدما وقفهم أمام الحقيقة الكونية التي تنكر هذه الدعوى وترفضها . وفي كلتا الحالتين تبرز الحقيقة الثابتة . حقيقة الوحدانية التي ينطق بها كتاب الوجود , وتوجبها مصلحة المشركين أنفسهم , ويلزمهم بها النظر إلى مآلهم في الدنيا والآخرة .
وإذا كان القرآن يندد بضلال من يدعون من دون الله آلهة لا يستجيبون لهم إلى يوم القيامة ; وكان هذا يعني المعبودات التاريخية التي عرفتها الجماعات البشرية عند نزول هذا القرآن , فإن النص أوسع مدلولا وأطول أمدا من ذلك الواقع التاريخي . فمن أضل ممن يدعو من دون الله أحدا في أي زمان وفي أي مكان ? وكل أحد - كائنا من كان - لا يستجيب بشيء لمن يدعوه , ولا يملك أن يستجيب . وليس هناك إلا الله فعال لما يريد . . إن الشرك ليس مقصورا على صوره الساذجة التي عرفها المشركون القدامى . فكم من مشركين يشركون مع الله ذوي سلطان , أو ذوي جاه , أو ذوي مال ; ويرجون فيهم , ويتوجهون إليهم بالدعاء . وكلهم أعجز من أن بستجيبوا لدعاتهم استجابة حقيقية . وكلهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا . ودعاؤهم شرك . والرجاء فيهم شرك . . والخوف منهم شرك . ولكنه شرك خفي يزاوله الكثيرون , وهم لا يشعرون .
الدرس الثاني:7 - 12 نقاش المشركين حول الرسالة وطبيعة الرسالة والرسول ومن شهد له
ثم يمضي السياق يتحدث عن موقفهم من رسول الله [ ص ] وما جاءهم به من الحق . بعدما تحدث عن واقعهم وتهافت عقيدة الشرك . ويقرر قضية الوحي كما قرر قضية التوحيد:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم:هذا سحر مبين . أم يقولون:افتراه ? قل:إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم , وهو الغفور الرحيم . قل:ما كنت بدعا من الرسل , وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي , وما أنا إلا نذير مبين . قل:أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به , وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله , فآمن واستكبرتم ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين . وقال الذين كفروا للذين آمنوا:لو كان خيرا ما سبقونا إليه . وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم . ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة , وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا , لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين . .
يبدأ الحديث عن قضية الوحي بترذيل مقولتهم عنه , واستنكار استقبالهم له , وهو آيات(بينات)لا لبس فيها ولا غموض , ولا شبهة فيها ولا ريبة . ثم إنه(الحق)الذي لا مرية فيه . وهم يقولون لتلك الآيات ولهذا الحق (هذا سحر مبين). . وشتان بين الحق والسحر . وهما لا يختلطان ولا يشتبهان .
وهكذا يبدأ الهجوم منذ البدء على تقولهم الظالم وادعائهم القبيح , الذي لا يستند إلى شبهة ولا ظل من دليل . ثم يرتقي في إنكار مقولتهم الأخرى . .(افتراه). . فلا يسوقها في صيغة الخبر بل في صيغة الاستفهام . كأن هذا القول لا يمكن أن يقال , وبعيد أن يقال:
(أم يقولون افتراه ?). .
فيبلغ بهم التطاول أن يقولوا هذه المقولة التي لا تخطر على بال ?!
ويلقن الرسول [ ص ] أن يرد عليهم بأدب النبوة , الذي ينم عن حقيقة شعوره بربه , وشعوره بوظيفته , وشعوره بحقيقة القوى والقيم في هذا الوجود كله:
(قل:إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم . وهو الغفور الرحيم). . من الاية 8 الى الاية 10
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قل لهم:كيف أفتريه ? ولحساب من أفتريه ? ولأي هدف أفتريه ? أأفتريه لتؤمنوا بي وتتبعوني ? ولكن: (إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا). . وهو آخذني بما افتريت . فماذا يجديني أن تكونوا معي وأن تتبعوني . وأنتم أعجز من أن تحموني من الله حين يأخذني بافترائي , وأضعف من أن تنصروني ?!
وهو الرد اللائق بنبي , يتلقى من ربه , ولا يرى في الوجود غيره , ولا يعرف قوة غير قوته , وهو رد كذلك منطقي يدركه المخاطبون به لو حكموا عقولهم فيه . يجيبهم به , ثم يترك أمرهم لله: (هو أعلم بما تفيضون فيه). . من القول والفعل . وهو يجزيكم بما يعلمه من أمركم . (كفى به شهيدا بيني وبينكم). . يشهد ويقضي , وفي شهادته الكفاية وفي قضائه . (وهو الغفور الرحيم). . وقد يرأف بكم , فيهديكم رحمة منه , ويغفر لكم ما كان من ضلالكم قبل الهدى والإيمان . .
رد فيه تحذير وترهيب . وفيه إطماع وتحضيض . يأخذ على القلب مسالكه , ويلمس أوتاره . ويشعر السامعين أن الأمر أجل من مقولاتهم الهازلة , وادعاءاتهم العابثة . وأنه في ضمير الداعية أكبر وأعمق مما يشعرون .
ويمضي معهم في مناقشة القضية - قضية الوحي - من زاوية أخرى واقعية مشهودة . فماذا ينكرون من أمر الوحي والرسالة ; ولم يعجلون بتهمة السحر أو تهمة الافتراء ? وليس في الأمر غريب ولا عجيب:
(قل:ما كنت بدعا من الرسل . وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . وما أنا إلا نذير مبين). .
إنه [ ص ] ليس أول رسول . فقد سبقته الرسل . وأمره كأمرهم . وما كان بدعا من الرسل . بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه , فيصدع بما يؤمر . هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها . . والرسول حين يتصل قلبه لا يسأل ربه دليلا , ولا يطلب لنفسه اختصاصا إنما يمضي في سبيله , يبلغ رسالة ربه , حسبما أوحي بها إليه: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي). . فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب ; أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها . إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه . واثقا بربه , مستسلما لإرادته , مطيعا لتوجيهه , يضع خطاه حيث قادها الله . والغيب أمامه مجهول , سره عند ربه . وهو لا يتطلع إلى السر من وراء الستر لأن قلبه مطمئن , ولأن أدبه مع ربه ينهاه عن التطلع لغير ما فتح له . فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته: (وما أنا إلا نذير مبين). .
وإنه لأدب الواصلين , وإنها لطمأنينة العارفين , يتأسون فيها برسول الله [ ص ] فيمضون في دعوتهم لله . لا لأنهم يعرفون مآلها , أو يعلمون مستقبلها . أو يملكون فيها قليلا أو كثيرا . ولكن لأن هذا واجبهم وكفى . وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم . وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم . وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطه لهم , ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق . ثم يواجههم بشاهد قريب , لشهادته قيمتها , لأنه من أهل الكتاب الذين يعرفون طبيعة التنزيل:
(قل:أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به , وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله , فآمن واستكبرتم ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .
وقد تكون هذه واقعة حال , ويكون واحد أو أكثر من بني إسرائيل , عرف أن طبيعة هذا القرآن هي طبيعة الكتب المنزلة من عند الله , بحكم معرفته لطبيعة التوراة . فآمن . وقد وردت روايات أنها نزلت في عبد الله ابن سلام . لولا أن هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة . وقد ورد كذلك أن هذه الآية مدنية توكيدا لنزولها في شأن عبد الله - رضي الله عنه - . كما ورد أنها مكية وأنها لم تنزل فيه .
وقد تكون إشارة إلى واقعة أخرى في مكة نفسها . فقد آمن بعض أهل الكتاب على قلة في العهد المكي .
من الاية 11 الى الاية 11
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
وكان لإيمانهم , وهم أهل كتاب , قيمته وحجيته في وسط المشركين الأميين . ومن ثم نوه به القرآن في مواضع متعددة , وواجه به المشركين الذين كانوا يكذبون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
وهذا الأسلوب في الجدل: قل:أرأيتم إن كان من عند الله . . . الخ يراد به زعزعة الإصرار والعناد في نفوس أهل مكة , وإثارة التخوف في نفوسهم والتحرج من المضي في التكذيب . ما دام أن هذا القرآن يحتمل أن يكون من عند الله حقا كما يقول محمد . وفي هذه الحالة تكون العاقبة وخيمة . فأولى لهم أن يحتاطوا لهذا الفرض , الذي قد يصح , فيحل بهم كل ما ينذرهم به . ومن الأحوط إذن أن يتريثوا في التكذيب , وأن يتدبروا الأمر في حرص وفي حذر , قبل التعرض لتلك العاقبة الوخيمة . وبخاصة إذا أضيف إلى ذلك الاحتمال أن واحدا أو أكثر من أهل الكتاب يشهد بأن طبيعته من طبيعة الكتاب قبله ; ويتبع هذا التذوق بالإيمان . بينما هم الذين جاء القرآن لهم , وبلغتهم , وعلى لسان رجل منهم , يستكبرون ويكفرون . . وهو ظلم بين وتجاوز للحق صارخ , يستحق النقمة من الله وإحباط الأعمال: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .
ولقد سلك القرآن شتى السبل , واتبع شتى الاساليب , ليواجه شكوك القلب البشري وانحرافاته وآفاته ; ويأخذ عليها المسالك ; ويعالجها بكل أسلوب . وفي أساليب القرآن المتنوعة زاد للدعوة والدعاة إلى هذا الدين . . ومع اليقين الجازم بأن هذا القرآن من عند الله فقد استخدم أسلوب التشكيك لا أسلوب الجزم للغرض الذي أسلفنا . وهو واحد من أساليب الإقناع في بعض الأحوال . .
وبعد ذلك يمضي في استعراض مقولات المشركين عن هذا القرآن وعن هذا الدين ; فيحكي اعتذارهم عن التكذيب به والإعراض عنه , اعتذار المستكبر المتعالي على المؤمنين:
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا:لو كان خيرا ما سبقونا إليه . وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم). .
ولقد سارع إلى الإسلام وسبق إليه نفر من الفقراء والموالي في أول الأمر . فكان هذا مغمزا في نظر الكبراء المستكبرين . وراحوا يقولون:لو كان هذا الدين خيرا ما كان هؤلاء أعرف منا به , ولا أسبق منا إليه . فنحن , في مكانتنا وسعة إدراكنا وحسن تقديرنا , أعرف بالخير من هؤلاء !
والأمر ليس كذلك . فما كان يمنعهم عنه أنهم يشكون فيه أو يجهلون الحق الذي يقوم عليه . والخير الذي يحتويه , إنما كان هو الكبر عن الإذعان لمحمد - كما كانوا يقولون - وفقدان المراكز الاجتماعية , والمنافع الاقتصادية , كما كان هو الاعتزاز الأجوف بالآباء والأجداد وما كان عليه الآباء والأجداد . فأما الذين سارعوا إلى الإسلام وسبقوا إليه فلم تكن في نفوسهم تلك الحواجز التي منعت الكبراء والأشراف .
إنه الهوى يتعاظم أهل الكبر أن يذعنوا للحق , وأن يستمعوا لصوت الفطرة , وأن يسلموا بالحجة . وهو الذي يملي عليهم العناد والإعراض , واختلاق المعاذير , والادعاء بالباطل على الحق وأهله . فهم لا يسلمون أبدا أنهم مخطئون ; وهم يجعلون من ذواتهم محورا للحياة كلها يدورون حوله ويريدون أن يديروا حوله الحياة: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم). .
طبعا ! فلا بد من عيب في الحق ما داموا لم يهتدوا به , ولم يذعنوا له . لا بد من عيب في الحق لأنهم هم لا يجوز أن يخطئوا . وهم في نظر أنفسهم , أو فيما يريدون أن يوحوا به للجماهير , مقدسون معصومون لا يخطئون !
ويختم هذه الجولة في قضية الوحي والرسالة بالاشارة إلى كتاب موسى , وتصديق هذا القرآن له - كما سبقت الإشارة في شهادة الشاهد من بني إسرائيل:
من الاية 12 الى الاية 13
وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
(ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة . وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا , لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين)
وقد كرر القرآن الإشارة إلى الصلة بين القرآن والكتب قبله , وبخاصة كتاب موسى , باعتبار أن كتاب عيسى تكملة وامتداد له . وأصل التشريع والعقيدة في التوراة . ومن ثم سمي كتاب موسى(إماما)ووصفه بأنه رحمة . وكل رسالة السماء رحمة للأرض ومن في الأرض , بكل معاني الرحمه في الدنيا وفي الآخره . . (وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا). . مصدق للأصل الأول الذي تقوم عليه الديانات كلها ; وللمنهج الإلهي الذي تسلكه الديانات جميعها ; وللاتجاه الأصيل الذي توجه البشرية إليه , لتتصل بربها الواحد الكريم .
والإشارة إلى عروبته للإمتنان على العرب , وتذكيرهم بنعمة الله عليهم , ورعايته لهم , وعنايته بهم ; ومظهرها اختيارهم لهذه الرسالة , واختيار لغتهم لتتضمن هذا القرآن العظيم .
ثم بيان لطبيعة الرسالة , ووظيفتها:
(لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين). .
الدرس الثالث:13 - 14 جزاء المؤمنين المستقيمين
وفي نهاية هذا الشوط الأول يصور لهم جزاء المحسنين , ويفسر لهم هذه البشرى التي يحملها إليهم القرآن الكريم , بشرطها , وهو الاعتراف بربوبية الله وحده والاستقامة على هذا الاعتقاد ومقتضياته:
إن الذين قالوا:ربنا الله . ثم استقاموا . فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها , جزاء بما كانوا يعملون . .
وقولة: (ربنا الله). . ليست كلمة تقال . بل إنها ليست مجرد عقيدة في الضمير . إنما هي منهج كامل للحياة , يشمل كل نشاط فيها وكل اتجاه , وكل حركة وكل خالجة ; ويقيم ميزانا للتفكير والشعور , وللناس والأشياء , وللأعمال والأحداث , وللروابط والوشائج في كل هذا الوجود .
(ربنا الله)فله العبادة , وإليه الاتجاه . ومنه الخشية وعليه الاعتماد .
(ربنا الله)فلا حساب لأحد ولا لشيء سواه , ولا خوف ولا تطلع لمن عداه .
(ربنا الله)فكل نشاط وكل تفكير وكل تقدير متجه إليه , منظور فيه إلى رضاه .
(ربنا الله)فلا احتكام إلا إليه , ولا سلطان إلا لشريعته , ولا اهتداء إلا بهداه .
(ربنا الله)فكل من في الوجود وكل ما في الوجود مرتبط بنا ونحن نلتقي به في صلتنا بالله .
(ربنا الله). . منهج كامل على هذا النحو , لا كلمة تلفظها الشفاه , ولا عقيدة سلبية بعيدة عن واقعيات الحياة .
(ثم استقاموا). . وهذه أخرى . فالاستقامة والاطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ المنهج:استقامة النفس وطمأنينة القلب . استقامة المشاعر والخوالج , فلا تتأرجح ولا تضطرب ولا تشك ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات . وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة . واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار . وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات ; وفيه هواتف بالانحراف من هنا ومن هناك !
(ربنا الله). . منهج . . والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره . والذين يقسم الله لهم المعرفة والاستقامة هم الصفوة المختارة . وهؤلاء (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). . وفيم الخوف وفيم الحزن . . والمنهج واصل . والاستقامة عليه ضمان الوصول ?
الأحقاف
من الاية 14 الى الاية 14
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
(أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون). .
وتوضح كلمة(يعملون)معنى (ربنا الله), ومعنى الاستقامة على هذا المنهج في الحياة . فهي تشير إلى أن هناك عملا كان الخلود في الجنة جزاءه . عملا منبعثا من ذلك المنهج: (ربنا الله)ومن الاستقامة عليه والاطراد والثبات .
ومن ثم ندرك أن الكلمات الاعتقادية في هذا الدين ليست مجرد ألفاظ تقال باللسان . فشهادة أن لا إله إلا الله ليست عبارة ولكنها منهج . فإذا ظلت مجرد عبارة فليست هي "ركن" الإسلام المطلوب المعدود في أركان الإسلام !
ومن ثم ندرك القيمة الحقيقية لمثل هذه الشهادة التي ينطق بها اليوم ملايين ; ولكنها لا تتعدى شفاههم , ولا يترتب عليها أثر في حياتهم . وهم يحيون على منهج جاهلي شبه وثني , بينما شفاههم تنطق بمثل هذه العبارة . شفاههم الجوفاء !
إن (لا إله إلا الله). . أو (ربنا الله). . منهج حياة . . هذا ما ينبغي أن يستقر في الضمائر والأخلاد , كما تبحث عن المنهج الكامل الذي تشير إليه مثل هذه العبارة وتتحراه . .
الوحدة الثانية:15 - 20 الموضوع:المؤمن البار بوالديه والكافر العاق لهما
هذا الشوط يسير مع الفطرة في استقامتها وفي انحرافها , وفيما تنتهي إليه حين تستقيم وما تنتهي إليه حين تنحرف . ويبدأ بالوصية بالوالدين . وكثيرا ما ترد هذه الوصية لاحقة للكلام عن العقيدة في الله أو مصاحبة لهذا الحديث . ذلك أن وشيجة الأبوة والبنوة هي أول وشيجة بعد وشيجة الإيمان في القوة والأهمية , وأولاها بالرعاية والتشريف . وفي هذا الاقتران دلالتان:أولاهما هي هذه . والثانية أن آصرة الإيمان هي الأولى وهي المقدمة , ثم تليها آصرة الدم في أوثق صورها .
وفي هذا الشوط نموذجان من الفطرة:في النموذج الأول تلتقي آصرة الإيمان وآصرة الوالدين في طريقهما المستقيم المهتدي الواصل إلى الله . وفي الثاني تفترق آصرة النسب عن آصرة الإيمان , فلا تلتقيان . والنموذج الأول مصيره الجنة ونصيبه البشرى . والنموذج الثاني مصيره النار ونصيبه استحقاق العذاب . وبهذه المناسبة يعرض صورة العذاب في مشهد من مشاهد القيامة , يصور عاقبة الفسوق والاستكبار .
الدرس الأول:15 - 16 نموذج المؤمن البار بوالديه وثوابه عند الله
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . .
فهي وصية لجنس الإنسان كله , قائمة على أساس إنسانيته , بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا . وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد . فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها , بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك . وهي وصية صادرة من خالق الإنسان , وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا . فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها . والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس . فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان .
وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول [ ص ] الوصية بالإحسان إلى الوالدين . ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة , ولمناسبة حالات معينة . ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد , رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير . وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت - فضلا على الألم - بدون تردد , ودون انتظار عوض , ودون من ولا رغبة حتى في الشكران ! أما الجيل الناشيء فقلما يتلفت إلى الخلف . قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني . لأنه بدوره مندفع إلى الأمام , يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه ! وهكذا تمضي الحياة !
والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه ; والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر ; وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء . والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته - مهما توفرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة - وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة , هو شعور الحب . فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته . ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد . وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا . إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال , يتحاقدون فيما بينهم , على الأم الصناعية المشتركة , وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبدا . كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية . وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي . فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال . فتنشأ شخصياتهم مخلخلة , ويحرمون ثبات الشخصية . . والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
الوحدة الأولى:1 - 14 الموضوع إثبات الوحي ونقاش المشركين والإحتجاج للرسالة
الأحقاف
هذه السورة المكية تعالج قضية العقيدة . . قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه . والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمدا [ ص ] رسول سبقته الرسل , أوحي إليه بالقرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب . والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ومن إحسان وإساءة .
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله . ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا , وظل يتكيء عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية . ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه , وبعثة محمد [ ص ] والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء . . هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها , وترتبط به أوثق ارتباط ; فتبقى حية حارة تنبعث من تأثير دائم بذلك الإيمان .
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل ; وتوقع فيها على كل وتر ; وتعرضها في مجالات شتى , مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية . كما أنها تجعلها قضية الوجود كله - لا قضية البشر وحدهم - فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه . وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا . سواء بسواء .
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض , وفي مشاهد القيامة في الآخرة . كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة . وتجعل من السماوات والأرض كتابا ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء .
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط مترابطة , كأنها شوط واحد ذو أربعة مقاطع .
يبدأ الشوط الأول وتبدأ السورة معه بالحرفين:حا . ميم . كما بدأت السور الست قبلها . تليهما الإشارة الى كتاب القرآن والوحي به من عند اللهتنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم). . وعقبها مباشرة الإشارة الى كتاب الكون , وقيامه على الحق , وعلى التقدير والتدبير: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى). . فيتوافى كتاب القرآن المتلو وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون).
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون , ولا يستند الى حق من القول , ولا مأثور من العلمقل:أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين). . ويندد بضلال من يدعو من دون الله من لا يسمع لعابده ولا يستجيب . ثم هو يخاصمه يوم القيامة ويبرأ من عبادته في اليوم العصيب !
ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله [ ص ] وقولهم له: (هذا سحر مبين). . وترقيهم في الادعاء حتى ليزعمون أنه افتراه . ويلقن رسول الله [ ص ] أن يرد عليهم الرد اللائق بالنبوة , النابع من مخافة الله وتقواه , وتفويض الأمر كله إليه في الدنيا والآخرة: (قل:إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم , وهو الغفور الرحيم . قل:ما كنت بدعا من الرسل , وما أدري ما يفعل بي ولا بكم , إن أتبع إلا ما يوحى إلي , وما أنا إلا نذير مبين). . ويحاججهم بموقف بعض من اهتدى للحق من بني اسرائيل حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى - عليه السلام -: (فآمن واستكبرتم). . ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .
ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية عن هذا الإصرار , وهم يقولون عن المؤمنين: لو كان خيرا ما سبقونا إليه . . ويكشف عن علة هذا الموقف المنكر: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم ! .
ويشير إلى كتاب موسى من قبله , وإلى تصديق هذا القرآن له , وإلى وظيفته ومهمته: (لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين). .
ويختم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق بالله واستقام على الطريقإن الذين قالوا:ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون). .
ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية:المستقيمة والمنحرفة , في مواجهة قضية العقيدة . ويبدأ معهما من النشأة الأولى , وهما في أحضان والديهم . ويتابع تصرفهما عند بلوغ الرشد والتبعة والاختيار . فأما الأول فشاعر بنعمة الله بار بوالديه , راغب في الوفاء بواجب الشكر , تائب ضارع مستسلم منيبأولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة , وعد الصدق الذي كانوا يوعدون). . وأما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه , وهو جاحد منكر للآخرة , وهما به ضيقان متعبانأولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس , إنهم كانوا خاسرين). .
ويختم هذا الشوط بمشهد سريع من مشاهد القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريقويوم يعرض الذين كفروا على النار . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها , فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق , وبما كنتم تفسقون). .
والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد , عندما كذبوا بالنذير . ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم , التي توقعوا فيها الري والحياة ; فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار , والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوهفلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا:هذا عارض ممطرنا , بل هو ما استعجلتم به , ريح فيها عذاب أليم , تدمر كل شيء بأمر ربها , فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم , كذلك نجزي القوم المجرمين). . ويلمس قلوبهم بهذا المصرع , وهو يذكرهم بأن عادا كانوا أشد منهم قوة وأكثر ثروةولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه , وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة , فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . إذ كانوا يجحدون بآيات الله , وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون). . ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى , وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم , وظهور إفكهم وافترائهم . لعلهم يتأثرون ويرجعون . .
ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن , حين صرفهم الله لاستماعه , فلم يملكوا أنفسهم من التأثر والاستجابة , والشهادة له بأنه الحق: (مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم). .وعادوا ينذرون قومهم ويحذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به , يغفر لكم من ذنوبكم , ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض , وليس له من دونه أولياء , أولئك في ضلال مبين ). .
وتتضمن مقالة النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة الله على البدء والإعادةأو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ? بلى إنه على كل شيء قدير). .
وهنا يلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار , فيقرون بما كانوا ينكرون , ولكن حيث لا مجال لإقرار أو يقين !
وتختم السورة بتوجيه الرسول [ ص ] إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب , فإنما هو أجل قصير يمهلونه , ثم يأتيهم العذاب والهلاكفاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم , كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ?). .
والآن نأخذ فى تفصيل هذه الأشواط . .
الدرس الأول:1 - 6 إثبات الوحي وعجز الشركاء وعذاب المشركين
(حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى , والذين كفروا عما أنذروا معرضون). .
هذا هو الإيقاع الأول في مطلع السورة ; وهو يلمس العلاقة بين الأحرف العربية التي يتداولها كلامهم , والكتاب المصوغ من جنس هذه الأحرف على غير مثال من كلام البشر , وشهادة هذه الظاهرة بأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم . كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المتلو المنزل من عنده , وكتاب الله المنظور المصنوع بيده . كتاب هذا الكون الذي تراه العيون , وتقرؤه القلوب .
وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير . فتنزيل الكتاب (من الله العزيز الحكيم)هو مظهر للقدرة وموضع للحكمة . وخلق السماوات والأرض وما بينهما متلبس بالحق: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق). . وبالتقدير الدقيق: (وأجل مسمى)تتحقق فيه حكمة الله من خلقه , ويتم فيه ما قدره له من غاية .
وكلا الكتابين مفتوح , معروض على الأسماع والأنظار , ينطق بقدرة الله , ويشهد بحكمته , ويشي بتدبيره وتقديره , ويدل كتاب الكون على صدق الكتاب المتلو , وما فيه من إنذار وتبشير . . (والذين كفروا عما أنذروا معرضون). . وهذا هو العجب المستنكر في ظل تلك الإشارة إلى الكتاب المنزل والكتاب المنظور !
والكتاب المنزل المتلو يقرر أن الله واحد لا يتعدد , وأنه رب كل شيء , بما أنه خالق كل شيء , ومدبر كل شيء , ومقدر كل شيء . وكتاب الكون الحي ينطق بهذه الحقيقة ذاتها ; فنظامه وتنسيقه وتناسقه كلها تشهد بوحدانية الصانع المقدر المدبر , الذي يصنع على علم , ويبدع على معرفة , وطابع الصنعة واحد في كل ما يصنع وما يبدع . فأنى يتخذ الناس آلهة من دونه ? وماذا صنع هؤلاء الآلهة وماذا أبدعوا ? وهذا هو الكون قائما معروضا على الأنظار والقلوب ; فماذا لهم فيه ? وأي قسم من أقسامه أنشأوه ?
(قل:أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا , أو أثارة من علم , إن كنتم صادقين). .
وهذا تلقين من الله سبحانه لرسوله [ ص ] ليواجه القوم بشهادة كتاب الكون المفتوح . الكتاب
من الاية 4 الى الاية 6
قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
الذي لا يقبل الجدل والمغالطة - إلا مراء ومحالا - والذي يخاطب الفطرة بمنطقها , بما بينه وبين الفطرة من صلة ذاتية خفية , يصعب التغلب عليها ومغالطتها .
(أروني ماذا خلقوا من الأرض ?). .
ولن يملك إنسان أن يزعم أن تلك المعبودات - سواء كانت حجرا أم شجرا أم جنا أم ملائكة أم غيرها - قد خلقت من الأرض شيئا , أو خلقت في الأرض شيئا . إن منطق الفطرة . منطق الواقع . يصيح في وجه أي ادعاء من هذا القبيل .
(أم لهم شرك في السماوات ?). .
ولن يملك إنسان كذلك أن يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السماوات أو في ملكيتها . ونظرة إلى السماوات توقع في القلب الإحساس بعظمة الخالق , والشعور بوحدانيته ; وتنفض عنه الانحرافات والترهات . . والله منزل هذا القرآن يعلم أثر النظر في الكون على قلوب بالبشر ومن ثم يوجههم إلى كتاب الكون ليتدبروه ويستشهدوه ويستمعوا إلى إيقاعاته المباشرة في القلوب .
ثم يأخذ الطريق على ما قد يطرأ على بعض النفوس من انحراف بعيد . فقد يصل بها هذا الانحراف إلى أن تزعم هذا الزعم أو ذاك بلا حجة ولا دليل . يأخذ عليها الطريق , فيطالبها بالحجة والدليل ; ويعلمها في الوقت ذاته طريقة الاستدلال الصحيح ; ويأخذها بالمنهج السليم في النظر والحكم والتقدير:
(ائتوني بكتاب من قبل هذا , أو أثارة من علم , إن كنتم صادقين). .
فإما كتاب من عند الله صادق . وإما بقية من علم مستيقن ثابت . وكل الكتب المنزلة قبل القرآن تشهد بوحدانية الخالق المبدع المدبر المقدر ; وليس فيها من كتاب يقر خرافة الآلهة المتعددة , أو يقول بأن لها في الأرض خلقا أو في السماوات شركا ! وليس هنالك من علم ثابت يؤيد مثل ذلك الزعم المتهافت .
وهكذا يواجههم القرآن بشهادة هذا الكون . وهي شهادة حاسمة جازمة . ويأخذ عليهم طريق الادعاء بلا بينة . ويعلمهم منهج البحث الصحيح . في آية واحدة قليلة الكلمات , واسعة المدى , قوية الإيقاع , حاسمة الدليل .
ثم يأخذ بهم إلى نظرة موضوعية في حقيقة هذه الآلهة المدعاة , منددا بضلالهم في اتخاذها , وهي لا تستجيب لهم , ولا تشعر بدعائهم في الدنيا ; ثم هي تخاصمهم يوم القيامة , وتنكر دعواهم في عبادتها:
(ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة , وهم عن دعائهم غافلون ? وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين). .
وقد كان بعضهم يتخذ الأصنام آلهة . إما لذاتها وإما باعتبارها تماثيل للملائكة . وبعضهم يتخذ الأشجار , وبعضهم يتخذ الملائكة مباشرة أو الشيطان . . وكلها لا تستجيب لداعيها أصلا . أو لا تستجيب له استجابة نافعة . فالأحجار والأشجار لا تستجيب . والملائكة لا يستجيبون للمشركين . والشياطين لا تستجيب إلا بالوسوسة والإضلال . ثم اذا كان يوم القيامة وحشر الناس إلى ربهم , تبرأ هؤلاء وهؤلاء من عبادهم الضالين . حتى الشيطان كما جاء في سورة أخرىوقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق , ووعدتكم فأخلفتكم , وما كان لي عليكم من سلطان , إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي . فلا تلوموني ولوموا أنفسكم , ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي . إني كفرت بما أشركتمون من قبل . إن الظالمين لهم عذاب أليم). .
من الاية 7 الى الاية 7
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7)
وهكذا يقفهم القرآن وجها لوجه أمام حقيقة دعواهم ومآلها في الدنيا والآخرة . بعدما وقفهم أمام الحقيقة الكونية التي تنكر هذه الدعوى وترفضها . وفي كلتا الحالتين تبرز الحقيقة الثابتة . حقيقة الوحدانية التي ينطق بها كتاب الوجود , وتوجبها مصلحة المشركين أنفسهم , ويلزمهم بها النظر إلى مآلهم في الدنيا والآخرة .
وإذا كان القرآن يندد بضلال من يدعون من دون الله آلهة لا يستجيبون لهم إلى يوم القيامة ; وكان هذا يعني المعبودات التاريخية التي عرفتها الجماعات البشرية عند نزول هذا القرآن , فإن النص أوسع مدلولا وأطول أمدا من ذلك الواقع التاريخي . فمن أضل ممن يدعو من دون الله أحدا في أي زمان وفي أي مكان ? وكل أحد - كائنا من كان - لا يستجيب بشيء لمن يدعوه , ولا يملك أن يستجيب . وليس هناك إلا الله فعال لما يريد . . إن الشرك ليس مقصورا على صوره الساذجة التي عرفها المشركون القدامى . فكم من مشركين يشركون مع الله ذوي سلطان , أو ذوي جاه , أو ذوي مال ; ويرجون فيهم , ويتوجهون إليهم بالدعاء . وكلهم أعجز من أن بستجيبوا لدعاتهم استجابة حقيقية . وكلهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا . ودعاؤهم شرك . والرجاء فيهم شرك . . والخوف منهم شرك . ولكنه شرك خفي يزاوله الكثيرون , وهم لا يشعرون .
الدرس الثاني:7 - 12 نقاش المشركين حول الرسالة وطبيعة الرسالة والرسول ومن شهد له
ثم يمضي السياق يتحدث عن موقفهم من رسول الله [ ص ] وما جاءهم به من الحق . بعدما تحدث عن واقعهم وتهافت عقيدة الشرك . ويقرر قضية الوحي كما قرر قضية التوحيد:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم:هذا سحر مبين . أم يقولون:افتراه ? قل:إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم , وهو الغفور الرحيم . قل:ما كنت بدعا من الرسل , وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي , وما أنا إلا نذير مبين . قل:أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به , وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله , فآمن واستكبرتم ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين . وقال الذين كفروا للذين آمنوا:لو كان خيرا ما سبقونا إليه . وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم . ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة , وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا , لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين . .
يبدأ الحديث عن قضية الوحي بترذيل مقولتهم عنه , واستنكار استقبالهم له , وهو آيات(بينات)لا لبس فيها ولا غموض , ولا شبهة فيها ولا ريبة . ثم إنه(الحق)الذي لا مرية فيه . وهم يقولون لتلك الآيات ولهذا الحق (هذا سحر مبين). . وشتان بين الحق والسحر . وهما لا يختلطان ولا يشتبهان .
وهكذا يبدأ الهجوم منذ البدء على تقولهم الظالم وادعائهم القبيح , الذي لا يستند إلى شبهة ولا ظل من دليل . ثم يرتقي في إنكار مقولتهم الأخرى . .(افتراه). . فلا يسوقها في صيغة الخبر بل في صيغة الاستفهام . كأن هذا القول لا يمكن أن يقال , وبعيد أن يقال:
(أم يقولون افتراه ?). .
فيبلغ بهم التطاول أن يقولوا هذه المقولة التي لا تخطر على بال ?!
ويلقن الرسول [ ص ] أن يرد عليهم بأدب النبوة , الذي ينم عن حقيقة شعوره بربه , وشعوره بوظيفته , وشعوره بحقيقة القوى والقيم في هذا الوجود كله:
(قل:إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم . وهو الغفور الرحيم). . من الاية 8 الى الاية 10
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قل لهم:كيف أفتريه ? ولحساب من أفتريه ? ولأي هدف أفتريه ? أأفتريه لتؤمنوا بي وتتبعوني ? ولكن: (إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا). . وهو آخذني بما افتريت . فماذا يجديني أن تكونوا معي وأن تتبعوني . وأنتم أعجز من أن تحموني من الله حين يأخذني بافترائي , وأضعف من أن تنصروني ?!
وهو الرد اللائق بنبي , يتلقى من ربه , ولا يرى في الوجود غيره , ولا يعرف قوة غير قوته , وهو رد كذلك منطقي يدركه المخاطبون به لو حكموا عقولهم فيه . يجيبهم به , ثم يترك أمرهم لله: (هو أعلم بما تفيضون فيه). . من القول والفعل . وهو يجزيكم بما يعلمه من أمركم . (كفى به شهيدا بيني وبينكم). . يشهد ويقضي , وفي شهادته الكفاية وفي قضائه . (وهو الغفور الرحيم). . وقد يرأف بكم , فيهديكم رحمة منه , ويغفر لكم ما كان من ضلالكم قبل الهدى والإيمان . .
رد فيه تحذير وترهيب . وفيه إطماع وتحضيض . يأخذ على القلب مسالكه , ويلمس أوتاره . ويشعر السامعين أن الأمر أجل من مقولاتهم الهازلة , وادعاءاتهم العابثة . وأنه في ضمير الداعية أكبر وأعمق مما يشعرون .
ويمضي معهم في مناقشة القضية - قضية الوحي - من زاوية أخرى واقعية مشهودة . فماذا ينكرون من أمر الوحي والرسالة ; ولم يعجلون بتهمة السحر أو تهمة الافتراء ? وليس في الأمر غريب ولا عجيب:
(قل:ما كنت بدعا من الرسل . وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . وما أنا إلا نذير مبين). .
إنه [ ص ] ليس أول رسول . فقد سبقته الرسل . وأمره كأمرهم . وما كان بدعا من الرسل . بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه , فيصدع بما يؤمر . هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها . . والرسول حين يتصل قلبه لا يسأل ربه دليلا , ولا يطلب لنفسه اختصاصا إنما يمضي في سبيله , يبلغ رسالة ربه , حسبما أوحي بها إليه: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي). . فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب ; أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها . إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه . واثقا بربه , مستسلما لإرادته , مطيعا لتوجيهه , يضع خطاه حيث قادها الله . والغيب أمامه مجهول , سره عند ربه . وهو لا يتطلع إلى السر من وراء الستر لأن قلبه مطمئن , ولأن أدبه مع ربه ينهاه عن التطلع لغير ما فتح له . فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته: (وما أنا إلا نذير مبين). .
وإنه لأدب الواصلين , وإنها لطمأنينة العارفين , يتأسون فيها برسول الله [ ص ] فيمضون في دعوتهم لله . لا لأنهم يعرفون مآلها , أو يعلمون مستقبلها . أو يملكون فيها قليلا أو كثيرا . ولكن لأن هذا واجبهم وكفى . وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم . وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم . وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطه لهم , ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق . ثم يواجههم بشاهد قريب , لشهادته قيمتها , لأنه من أهل الكتاب الذين يعرفون طبيعة التنزيل:
(قل:أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به , وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله , فآمن واستكبرتم ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .
وقد تكون هذه واقعة حال , ويكون واحد أو أكثر من بني إسرائيل , عرف أن طبيعة هذا القرآن هي طبيعة الكتب المنزلة من عند الله , بحكم معرفته لطبيعة التوراة . فآمن . وقد وردت روايات أنها نزلت في عبد الله ابن سلام . لولا أن هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة . وقد ورد كذلك أن هذه الآية مدنية توكيدا لنزولها في شأن عبد الله - رضي الله عنه - . كما ورد أنها مكية وأنها لم تنزل فيه .
وقد تكون إشارة إلى واقعة أخرى في مكة نفسها . فقد آمن بعض أهل الكتاب على قلة في العهد المكي .
من الاية 11 الى الاية 11
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
وكان لإيمانهم , وهم أهل كتاب , قيمته وحجيته في وسط المشركين الأميين . ومن ثم نوه به القرآن في مواضع متعددة , وواجه به المشركين الذين كانوا يكذبون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
وهذا الأسلوب في الجدل: قل:أرأيتم إن كان من عند الله . . . الخ يراد به زعزعة الإصرار والعناد في نفوس أهل مكة , وإثارة التخوف في نفوسهم والتحرج من المضي في التكذيب . ما دام أن هذا القرآن يحتمل أن يكون من عند الله حقا كما يقول محمد . وفي هذه الحالة تكون العاقبة وخيمة . فأولى لهم أن يحتاطوا لهذا الفرض , الذي قد يصح , فيحل بهم كل ما ينذرهم به . ومن الأحوط إذن أن يتريثوا في التكذيب , وأن يتدبروا الأمر في حرص وفي حذر , قبل التعرض لتلك العاقبة الوخيمة . وبخاصة إذا أضيف إلى ذلك الاحتمال أن واحدا أو أكثر من أهل الكتاب يشهد بأن طبيعته من طبيعة الكتاب قبله ; ويتبع هذا التذوق بالإيمان . بينما هم الذين جاء القرآن لهم , وبلغتهم , وعلى لسان رجل منهم , يستكبرون ويكفرون . . وهو ظلم بين وتجاوز للحق صارخ , يستحق النقمة من الله وإحباط الأعمال: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين). .
ولقد سلك القرآن شتى السبل , واتبع شتى الاساليب , ليواجه شكوك القلب البشري وانحرافاته وآفاته ; ويأخذ عليها المسالك ; ويعالجها بكل أسلوب . وفي أساليب القرآن المتنوعة زاد للدعوة والدعاة إلى هذا الدين . . ومع اليقين الجازم بأن هذا القرآن من عند الله فقد استخدم أسلوب التشكيك لا أسلوب الجزم للغرض الذي أسلفنا . وهو واحد من أساليب الإقناع في بعض الأحوال . .
وبعد ذلك يمضي في استعراض مقولات المشركين عن هذا القرآن وعن هذا الدين ; فيحكي اعتذارهم عن التكذيب به والإعراض عنه , اعتذار المستكبر المتعالي على المؤمنين:
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا:لو كان خيرا ما سبقونا إليه . وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم). .
ولقد سارع إلى الإسلام وسبق إليه نفر من الفقراء والموالي في أول الأمر . فكان هذا مغمزا في نظر الكبراء المستكبرين . وراحوا يقولون:لو كان هذا الدين خيرا ما كان هؤلاء أعرف منا به , ولا أسبق منا إليه . فنحن , في مكانتنا وسعة إدراكنا وحسن تقديرنا , أعرف بالخير من هؤلاء !
والأمر ليس كذلك . فما كان يمنعهم عنه أنهم يشكون فيه أو يجهلون الحق الذي يقوم عليه . والخير الذي يحتويه , إنما كان هو الكبر عن الإذعان لمحمد - كما كانوا يقولون - وفقدان المراكز الاجتماعية , والمنافع الاقتصادية , كما كان هو الاعتزاز الأجوف بالآباء والأجداد وما كان عليه الآباء والأجداد . فأما الذين سارعوا إلى الإسلام وسبقوا إليه فلم تكن في نفوسهم تلك الحواجز التي منعت الكبراء والأشراف .
إنه الهوى يتعاظم أهل الكبر أن يذعنوا للحق , وأن يستمعوا لصوت الفطرة , وأن يسلموا بالحجة . وهو الذي يملي عليهم العناد والإعراض , واختلاق المعاذير , والادعاء بالباطل على الحق وأهله . فهم لا يسلمون أبدا أنهم مخطئون ; وهم يجعلون من ذواتهم محورا للحياة كلها يدورون حوله ويريدون أن يديروا حوله الحياة: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون:هذا إفك قديم). .
طبعا ! فلا بد من عيب في الحق ما داموا لم يهتدوا به , ولم يذعنوا له . لا بد من عيب في الحق لأنهم هم لا يجوز أن يخطئوا . وهم في نظر أنفسهم , أو فيما يريدون أن يوحوا به للجماهير , مقدسون معصومون لا يخطئون !
ويختم هذه الجولة في قضية الوحي والرسالة بالاشارة إلى كتاب موسى , وتصديق هذا القرآن له - كما سبقت الإشارة في شهادة الشاهد من بني إسرائيل:
من الاية 12 الى الاية 13
وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
(ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة . وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا , لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين)
وقد كرر القرآن الإشارة إلى الصلة بين القرآن والكتب قبله , وبخاصة كتاب موسى , باعتبار أن كتاب عيسى تكملة وامتداد له . وأصل التشريع والعقيدة في التوراة . ومن ثم سمي كتاب موسى(إماما)ووصفه بأنه رحمة . وكل رسالة السماء رحمة للأرض ومن في الأرض , بكل معاني الرحمه في الدنيا وفي الآخره . . (وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا). . مصدق للأصل الأول الذي تقوم عليه الديانات كلها ; وللمنهج الإلهي الذي تسلكه الديانات جميعها ; وللاتجاه الأصيل الذي توجه البشرية إليه , لتتصل بربها الواحد الكريم .
والإشارة إلى عروبته للإمتنان على العرب , وتذكيرهم بنعمة الله عليهم , ورعايته لهم , وعنايته بهم ; ومظهرها اختيارهم لهذه الرسالة , واختيار لغتهم لتتضمن هذا القرآن العظيم .
ثم بيان لطبيعة الرسالة , ووظيفتها:
(لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين). .
الدرس الثالث:13 - 14 جزاء المؤمنين المستقيمين
وفي نهاية هذا الشوط الأول يصور لهم جزاء المحسنين , ويفسر لهم هذه البشرى التي يحملها إليهم القرآن الكريم , بشرطها , وهو الاعتراف بربوبية الله وحده والاستقامة على هذا الاعتقاد ومقتضياته:
إن الذين قالوا:ربنا الله . ثم استقاموا . فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها , جزاء بما كانوا يعملون . .
وقولة: (ربنا الله). . ليست كلمة تقال . بل إنها ليست مجرد عقيدة في الضمير . إنما هي منهج كامل للحياة , يشمل كل نشاط فيها وكل اتجاه , وكل حركة وكل خالجة ; ويقيم ميزانا للتفكير والشعور , وللناس والأشياء , وللأعمال والأحداث , وللروابط والوشائج في كل هذا الوجود .
(ربنا الله)فله العبادة , وإليه الاتجاه . ومنه الخشية وعليه الاعتماد .
(ربنا الله)فلا حساب لأحد ولا لشيء سواه , ولا خوف ولا تطلع لمن عداه .
(ربنا الله)فكل نشاط وكل تفكير وكل تقدير متجه إليه , منظور فيه إلى رضاه .
(ربنا الله)فلا احتكام إلا إليه , ولا سلطان إلا لشريعته , ولا اهتداء إلا بهداه .
(ربنا الله)فكل من في الوجود وكل ما في الوجود مرتبط بنا ونحن نلتقي به في صلتنا بالله .
(ربنا الله). . منهج كامل على هذا النحو , لا كلمة تلفظها الشفاه , ولا عقيدة سلبية بعيدة عن واقعيات الحياة .
(ثم استقاموا). . وهذه أخرى . فالاستقامة والاطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ المنهج:استقامة النفس وطمأنينة القلب . استقامة المشاعر والخوالج , فلا تتأرجح ولا تضطرب ولا تشك ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات . وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة . واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار . وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات ; وفيه هواتف بالانحراف من هنا ومن هناك !
(ربنا الله). . منهج . . والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره . والذين يقسم الله لهم المعرفة والاستقامة هم الصفوة المختارة . وهؤلاء (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). . وفيم الخوف وفيم الحزن . . والمنهج واصل . والاستقامة عليه ضمان الوصول ?
الأحقاف
من الاية 14 الى الاية 14
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
(أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون). .
وتوضح كلمة(يعملون)معنى (ربنا الله), ومعنى الاستقامة على هذا المنهج في الحياة . فهي تشير إلى أن هناك عملا كان الخلود في الجنة جزاءه . عملا منبعثا من ذلك المنهج: (ربنا الله)ومن الاستقامة عليه والاطراد والثبات .
ومن ثم ندرك أن الكلمات الاعتقادية في هذا الدين ليست مجرد ألفاظ تقال باللسان . فشهادة أن لا إله إلا الله ليست عبارة ولكنها منهج . فإذا ظلت مجرد عبارة فليست هي "ركن" الإسلام المطلوب المعدود في أركان الإسلام !
ومن ثم ندرك القيمة الحقيقية لمثل هذه الشهادة التي ينطق بها اليوم ملايين ; ولكنها لا تتعدى شفاههم , ولا يترتب عليها أثر في حياتهم . وهم يحيون على منهج جاهلي شبه وثني , بينما شفاههم تنطق بمثل هذه العبارة . شفاههم الجوفاء !
إن (لا إله إلا الله). . أو (ربنا الله). . منهج حياة . . هذا ما ينبغي أن يستقر في الضمائر والأخلاد , كما تبحث عن المنهج الكامل الذي تشير إليه مثل هذه العبارة وتتحراه . .
الوحدة الثانية:15 - 20 الموضوع:المؤمن البار بوالديه والكافر العاق لهما
هذا الشوط يسير مع الفطرة في استقامتها وفي انحرافها , وفيما تنتهي إليه حين تستقيم وما تنتهي إليه حين تنحرف . ويبدأ بالوصية بالوالدين . وكثيرا ما ترد هذه الوصية لاحقة للكلام عن العقيدة في الله أو مصاحبة لهذا الحديث . ذلك أن وشيجة الأبوة والبنوة هي أول وشيجة بعد وشيجة الإيمان في القوة والأهمية , وأولاها بالرعاية والتشريف . وفي هذا الاقتران دلالتان:أولاهما هي هذه . والثانية أن آصرة الإيمان هي الأولى وهي المقدمة , ثم تليها آصرة الدم في أوثق صورها .
وفي هذا الشوط نموذجان من الفطرة:في النموذج الأول تلتقي آصرة الإيمان وآصرة الوالدين في طريقهما المستقيم المهتدي الواصل إلى الله . وفي الثاني تفترق آصرة النسب عن آصرة الإيمان , فلا تلتقيان . والنموذج الأول مصيره الجنة ونصيبه البشرى . والنموذج الثاني مصيره النار ونصيبه استحقاق العذاب . وبهذه المناسبة يعرض صورة العذاب في مشهد من مشاهد القيامة , يصور عاقبة الفسوق والاستكبار .
الدرس الأول:15 - 16 نموذج المؤمن البار بوالديه وثوابه عند الله
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . .
فهي وصية لجنس الإنسان كله , قائمة على أساس إنسانيته , بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا . وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد . فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها , بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك . وهي وصية صادرة من خالق الإنسان , وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا . فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها . والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس . فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان .
وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول [ ص ] الوصية بالإحسان إلى الوالدين . ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة , ولمناسبة حالات معينة . ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد , رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير . وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت - فضلا على الألم - بدون تردد , ودون انتظار عوض , ودون من ولا رغبة حتى في الشكران ! أما الجيل الناشيء فقلما يتلفت إلى الخلف . قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني . لأنه بدوره مندفع إلى الأمام , يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه ! وهكذا تمضي الحياة !
والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه ; والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر ; وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء . والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته - مهما توفرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة - وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة , هو شعور الحب . فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته . ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد . وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا . إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال , يتحاقدون فيما بينهم , على الأم الصناعية المشتركة , وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبدا . كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية . وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي . فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال . فتنشأ شخصياتهم مخلخلة , ويحرمون ثبات الشخصية . . والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الاحقاف ايه 15 الى ايه 29 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاحقاف ايه 30 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الرحمن ايه رقم واحد الى 28 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة عبس ايه رقم واحد الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانبياء ايه واحد الى ايه 21 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاحقاف ايه 30 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الرحمن ايه رقم واحد الى 28 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة عبس ايه رقم واحد الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانبياء ايه واحد الى ايه 21 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى