تفسير سورة الزمر ايه 20 الى 46 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الزمر ايه 20 الى 46 الشيخ سيد قطب
من الاية 21 الى الاية 23
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
في هذا المقطع من السورة لفتة إلى حياة النبات في الأرض عقب إنزال الماء من السماء ; وانتهائها إلى غايتها القريبة , وكثيراً ما يضرب هذا مثلاً للحياة الدنيا في حقيقتها الزائلة - وتوجيه لأولي الألباب الذين يذكرون ويتدبرون ليتدبروا هذا المثل ويذكروه . وعلى ذكر إنزال الماء من السماء يشير إلى الكتاب المنزل من السماء كذلك لتحيا به القلوب وتنشرح له الصدور ; مع تصوير موح لاستجابة القلوب المفتوحة لهذا الكتاب , بخشية وقشعريرة ثم لين وطمأنينة . وتصوير كذلك لعاقبة المستجيبين لذكر الله , والقاسية قلوبهم من ذكر الله , وفي النهاية يتجه إلى حقيقة التوحيد , فيضرب مثالاً لمن يعبد إلهاً واحداً ومن يعبد آلهة متعددة . وهما لا يستويان مثلاً ولا يتفقان حالاً . كما لا يستوي حال العبد الذي يملكه سادة متنازعون والعبد الذي يعمل لسيد واحد لا ينازعه أحد فيه !
الدرس الأول:21 المطر والينابيع والثمار
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء , فسلكه ينابيع في الأرض , ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه , ثم يهيج فتراه مصفراً , ثم يجعله حطاماً ? إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب).
إن هذه الظاهرة التي يوجه القرآن إليها الأنظار للتأمل والتدبر , ظاهرة تتكرر في أنحاء الأرض , حتى لتذهب الألفة بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها . والقرآن يوجه النظر إلى رؤية يد الله وتتبع آثارها في كل خطوة من خطوات الحياة .
فهذا الماء النازل من السماء . . ما هو وكيف نزل ? إننا نمر بهذه الخارقة سراعاً لطول الألفة وطول التكرار . إن خلق الماء في ذاته خارقة . ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتي أيدروجين بذرة أكسوجين تحت ظروف معينة , فإن هذه المعرفة خليقة بأن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد الله التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد الأيدروجين ويوجد الأكسوجين وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما , وبوجود الماء من هذا الاتحاد . ومن ثم وجود الحياة في هذه الأرض . ولولا الماء ما وجدت حياة . إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود الماء ووجود الحياة . والله من وراء هذا التدبير , وكله مما صنعت يداه . . ثم نزول هذا الماء بعد وجوده وهو الآخر خارقة جديدة , ناشئة من قيام الأرض والكون على هذا النظام الذي يسمح بتكون الماء ونزوله وفق تدبير الله .
ثم تجيء الخطوة التالية لإنزال الماء:
(فسلكه ينابيع في الأرض). .
سواء في ذلك الأنهار الجارية على سطح الأرض ; أو الأنهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه السطحية , ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيوناً , أو يتكشف آباراً . ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبداً !
(ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه). .
والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه ; خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيراً . ورؤية النبتة الصغيرة وهي تشق حجاب الأرض عنها ; وتزيح أثقال الركام من فوقها ; وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية ; وهي تصعد إلى الفضاء رويداً رويداً . . هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى ; وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة . بل في النبتة الواحدة . بل في الزهرة الواحدة إن هو إلا معرض لإبداع القدرة ; يُشعر الإنسان بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً !
هذا الزرع النامي اللدن الرخص الطري بالحياة , يبلغ تمامه , ويستوفي أيامه:
(ثم يهيج فتراه مصفراً). .
وقد بلغ غايته المقدرة له في ناموس الوجود , وفي نظام الكون , وفي مراحل الحياة , فينضج للحصاد:
(ثم يجعله حطاماً). .
وقد استوفى أجله , وأدى دوره , وأنهى دورته كما قدر له واهب الحياة . .
(إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب). .
الذين يتدبرون فيذكرون , وينتفعون بما وهبهم الله من عقل وإدراك .
الدرس الثاني:22 - 26 بين المهتدي المنشرح للقرآن والمعرض المعذب في النار
(أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ? فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله . أولئك في ضلال مبين . الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ; ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ; ومن يضلل الله فما له من هاد). .
وكما ينزل الماء من السماء فينبت لهم به زرعاً مختلفاً ألوانه كذلك ينزل من السماء ذكراً تتلقاه القلوب الحية ; فتتفتح وتنشرح وتتحرك حركة الحياة , وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقاه الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة !
والله يشرح للإسلام قلوباً يعلم منها الخير , ويصلها بنوره فتشرق به وتستضيء . والفرق بين هذه القلوب وقلوب آخرى قاسية فرق بعيد . (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله). .
(أولئك في ضلال مبين). .
وهذه الآية تصور حقيقة القلوب التي تتلقى الإسلام فتنشرح له وتندى به . وتصور حالها مع الله . حال الانشراح والتفتح والنداوة والبشاشة , والإشراق والاستنارة . كما تصور حقيقة القلوب الأخرى في قساوتها وغلظتها وموتها وجفافها , وعتمتها وظلامها . ومن يشرح الله صدره للإسلام ويمد له من نوره , ليس قطعاً كالقاسية قلوبهم من ذكر الله . وشتان شتان بين هؤلاء وهؤلاء .
كذلك تصور الآية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن . هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته , ولا في روحه , ولا في خصائصه . فهو(متشابه)وهو(مثاني)تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهده . ولكنها لا تختلف ولا تتعارض , إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في الإعادة والتكرار . في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة . لا تعارض فيها ولا اصطدام .
والذين يخشون ربهم ويتقونه , ويعيشون في حذر وخشية , وفي تطلع ورجاء , يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش , وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود ; ثم تهدأ نفوسهم , وتأنس قلوبهم بهذا الذكر فتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله . .
وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات , فتكاد تشخص فيها الحركات .
(ذلك هدى الله يهدي به من يشاء). .
فما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق . والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال:
(ومن يضلل الله فما له من هاد). .
من الاية 24 الى الاية 29
أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
فهو يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال , التي لا تقبل الهدى ولا تجنح إليه بحال .
ثم يعرض ما ينتظر أهل الضلال يوم القيامة في مشهد بائس في موعد حصاد الأعمال !
(أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ? وقيل للظالمين:ذوقوا ما كنتم تكسبون). .
والإنسان يقي وجهه عادة بيديه وجسمه . فأما هنا فهو لا يملك أن يدفع عن نفسه النار بيديه ولا برجليه , فيدفعها بوجهه , ويتقي به سوء العذاب . مما يدل على الهول والشدة والاضطراب . وفي زحمة هذا العذاب يتلقى التأنيب , وتدفع إليه حصيلة حياته ويا لها من حصيلة: (وقيل للظالمين:ذوقوا ما كنتم تكسبون)!
ويلتفت من هذا المشهد إلى الحديث عن المكذبين الذين يواجهون محمداً [ ص ] ليعرض عليهم ما جرى للمكذبين قبلهم لعلهم يتداركون أنفسهم:
(كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون . فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا , ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون). .
فهذه حال المكذبين في الدنيا والآخرة . في الدنيا أذاقهم الله الخزي . وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الأكبر . وسنة الله ماضية لا تتخلف . ومصارع القرون من قبلهم شاهدة . ووعيد الله لهم في الآخرة قائم . والفرصة أمامهم سانحة . وهذا الذكر لمن يتعظ ويذكر (لو كانوا يعلمون)!
الدرس الثالث:27 - 29 ضرب الأمثال في القرآن
(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون , قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون . ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل , هل يستويان مثلاً ? الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون). .
يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه , وهو بينهم موزع ; ولكل منهم فيه توجيه , ولكل منهم عليه تكليف ; وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق ; ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه ! وعبد يملكه سيد واحد , وهو يعلم ما يطلبه منه , ويكلفه به , فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح . .
(هل يستويان مثلاً ?). .
إنهما لا يستويان . فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين . وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه , ووضوح الطريق . والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال ولا يرضي واحداً منهم فضلاً على أن يرضي الجميع !
وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال . فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى , لأن بصره أبداً معلق بنجم واحد على الأفق فلا يلتوي به الطريق . ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق , ومصدراً واحداً للنفع والضر , ومصدراً واحداً للمنح والمنع , فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد , يستمد منه وحده , ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته . ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره . ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه . . وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد , فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء . .
ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي , بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة
من الاية 30 الى الاية 32
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (32)
والاستقرار . وهم مع هذا ينحرفون , وأكثرهم لا يعلمون . .
وهذا مثل من الأمثلة التي يضربها القرآن للناس لعلهم يتذكرون . وهو قرآن عربي , مستقيم , واضح , لا لبس فيه ولا عوج ولا انحراف . يخاطب الفطرة بمنطقها القريب المفهوم .
الوحدة الخامسة:30 - 35 موت العباد وثواب الصالحين وعقاب الكافرين
هذا المقطع تعقيب على ما قبله فبعد أن عرض آية الماء النازل من السماء , وآية الزرع الذي يخرج بهذا الماء , وآية الكتاب النازل من عند الله ; وأشار إلى ما يضربه في القرآن من الأمثال (ولكن أكثرهم لا يعلمون)عقب على هذا بأن أمر النبي [ ص ] وأمرهم موكول إلى الله ; وأنه هو الذي يحكم بينهم بعد الموت , فيجازي الكاذبين المكذبين بما يستحقون ; ويجازي الصادقين المصدقين جزاء المحسنين .
(إنك ميت وإنهم ميتون , ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون). .
إنه الموت نهاية كل حي ; ولا يتفرد بالبقاء إلا الله وفي الموت يستوي كل البشر بما فيهم محمد رسول الله [ ص ] وذكر هذه الحقيقة هنا حلقة من حلقات التوحيد الذي تقرره السورة كلها وتؤكده . ثم يلي ذلك تقرير ما بعد الموت . فالموت ليس نهاية المطاف . إنما هو حلقة لها ما بعدها من حلقات النشأة المقدرة المدبرة , التي ليس شيء منها عبثاً ولا سدى . فيوم القيامة يختصم العباد فيما كان بينهم من خلاف . ويجيء رسول الله [ ص ] أمام ربه ويوقف القوم للخصومة فيما كانوا يقولونه ويأتونه , ويواجهون به ما أنزل الله إليهم من الهدى .
(فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه ? أليس في جهنم مثوى للكافرين ?)
سؤال للتقرير . فليس هنالك من هو أظلم ممن كذب على الله فزعم أن له بنات وأنه له شركاء ; وكذب بالصدق الذي جاء به رسوله ; فلم يصدق بكلمة التوحيد . إنه الكفر . وفي جهنم مثوى للكافرين . على سبيل التقرير الذي يرد في صورة سؤال لزيادة الإيضاح والتوكيد .
هذا طرف من الخصومة فأما الطرف الآخر فهو الذي جاء بالصدق من عند الله . وصدق به فبلغه عن عقيدة واقتناع . ويشترك مع رسول الله [ ص ] في هذه الصفة كل الرسل قبله . كما يشاركه فيها كل
من الاية 33 الى الاية 35
وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
من دعا إلى هذا الصدق وهو مقتنع به مؤمن بأنه الحق , يشارك قلبه لسانه فيما يدعو إليه . . (أولئك هم المتقون). .
ويتوسع في عرض صفة المتقين هؤلاء وما أعده لهم من جزاء:
لهم ما يشاءون عند ربهم , ذلك جزاء المحسنين . .
وهو تعبير جامع , يشمل كل ما يخطر للنفس المؤمنة من رغائب , ويقرر أن هذا(لهم)عند ربهم , فهو حقهم الذي لا يخيب ولا يضيع . . (ذلك جزاء المحسنين). .
ذلك ليحقق الله ما أراده لهم من خير ومن كرامة , ومن فضل يزيد على العدل يعاملهم به , متفضلاً محسناً:
(ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ; ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون). .
فالعدل أن تحسب الحسنات وتحسب السيئات ; ثم يكون الجزاء .
والفضل هو هذا الذي يتجلى به الله على عباده المتقين هؤلاء أن يكفر عنهم أسوأ أعمالهم فلا يبقى لها حساب في ميزانهم . وأن يجزيهم أجرهم بحساب الأحسن فيما كانوا يعملون , فتزيد حسناتهم وتعلو وترجح في الميزان .
إنه فضل الله يؤتيه من يشاء . كتبه الله على نفسه بوعده . فهو واقع يطمئن إليه المتقون المحسنون . .
الوحدة السادسة:36 - 52 الموضوع:حقائق إعتقادية حول الموت والحياة والتوكل والتوحيد
من الاية 36 الى الاية 37
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ (37)
مقدمة الوحدة
هذه الجولة أوسع مقاطع السورة . وهي تتناول حقيقة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة . تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن وموقفه بإزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة ; واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة . ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية ويكل أمره وأمر المجادلين له إلى الله يوم القيامة ويمضي في طريقه ثابتاً واثقاً مستيقناً بالمصير .
يتلو هذا بيان وظيفة الرسول [ ص ] وأنه ليس وكيلاً على العباد في هداهم وضلالهم . إنما الله هو المسيطر عليهم ; الآخذ بناصيتهم في كل حالة من حالاتهم . وليس لهم من دونه شفيع فإن لله الشفاعة جميعاً . وإليه ملك السماوات والأرض . وإليه المرجع والمصير .
ثم يصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد وانبساطها عند ذكر كلمة الشرك . ويعقب على هذا بدعوة الرسول [ ص ] إلى إعلان كلمة التوحيد خالصة , وترك أمر المشركين لله . ويصورهم يوم القيامة وهم يودون لو يفتدون بملء الأرض ومثله معه . وقد تكشف لهم من الله ما يذهل ويخيف !
ذلك . وهم يدعون الله وحده إذا أصابهم الضر . فإذا وهبهم منه نعمة ادعوا دعاوى عريضة وقال قائلهم:إنما أوتيته على علم عندي ! الكلمة التي قالها الذين من قبلهم فأخذهم الله القادر على أن يأخذ هؤلاء . وما هم بمعجزين . وما كان بسط الرزق وقبضه إلا سنة من سنن الله , تجري وفق حكمته وتقديره وهو وحده الباسط القابض: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . .
الدرس الأول:36 - 40 التوكل على الله وكفالته لعباده
(أليس الله بكاف عبده ? ويخوفونك بالذين من دونه . ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل . أليس الله بعزيز ذي انتقام ? ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله . قل:أفرأيتم ما تدعون من دون الله , إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ? قل:حسبي الله , عليه يتوكل المتوكلون . قل:يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذابيخزيه ويحل عليه عذاب مقيم). .
هذه الآيات الأربع تصور منطق الإيمان الصحيح , في بساطته وقوته , ووضوحه , وعمقه . كما هو في قلب رسول الله [ ص ] وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالة , وكل قائم بدعوة . وهي وحدها دستوره الذي يغنيه ويكفيه , ويكشف له الطريق الواصل الثابت المستقيم .
وقد ورد في سبب نزولها أن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله [ ص ] من آلهتهم , ويحذرونه من غضبها , وهو يصفها بتلك الأوصاف المزرية بها , ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى . . .
ولكن مدلول هذه الآيات أوسع وأشمل . فهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل ما في الأرض من قوى مضادة . كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن , بعد وزن هذه القوى بميزانها الصحيح .
(أليس الله بكاف عبده)?
بلى ! فمن ذا يخيفه , وماذا يخيفه ? إذا كان الله معه ? وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام ? ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده ?
(ويخوفونك بالذين من دونه). .
فكيف يخاف ? والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله . وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله ?
إنها قضية بسيطة واضحة , لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن . . إنه الله . ومَن هم دون الله . وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه .
وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة . وهو الذي يقضي في العباد قضاءه . في ذوات أنفسهم , وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم:
(ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل). . .
وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله , ومن يستحق الهدى فيهديه . فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء .
(أليس الله بعزيز ذي انتقام ?)
بلى . وإنه لعزيز قوي . وإنه ليجازي كلاً بما يستحق . وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام . فكيف يخشى أحداً أو شيئاً من يقوم بحق العبودية له , وهو كافله وكافيه ?
ثم يقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى منتزعة من منطقهم هم أنفسهم , ومن واقع ما يقررونه من حقيقة الله في فطرتهم:
(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ? ليقولن الله . قل . أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ? أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ? قل:حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون). .
لقد كانوا يقررون - حين يسألون - أن الله هو خالق السماوات والأرض . وما تملك فطرة أن تقول غير هذا , وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السماوات والأرض إلا بوجود إرادة عليا . فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء جميعاً بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة . . إذا كان الله هو خالق السماوات والأرض . فهل يملك أحد أو شيء في هذه
من الاية 38 الى الاية 42
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (40) إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
السماوات والأرض أن يكشف ضراً أراد الله أن يصيب به عبداً من عباده ? أم يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يحبس رحمة أراد الله أن تنال عبداً من عباده ?
والجواب القاطع:أن لا . . فإذا تقرر هذا فما الذي يخشاه داعية إلى الله ? ما الذي يخشاه وما الذي يرجوه ? وليس أحد بكاشف الضر عنه ? وليس أحد بمانع الرحمة عنه ? وما الذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن طريقه ?
إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه . وقد انقطع الجدل . وانقطع الخوف وانقطع الأمل . إلا في جناب الله سبحانه . فهو كاف عبده وعليه يتوكل وحده:
(قل:حسبي الله . عليه يتوكل المتوكلون). .
ثم إنها الطمأنينة بعد هذا والثقة واليقين . الطمأنينة التي لا تخاف . والثقة التي لا تقلق . واليقين الذي لا يتزعزع . والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق:
قل:يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم . .
يا قوم اعملوا على طريقكم وعلى حالكم . إني ماض في طريقي لا أميل ولا أخاف ولا أقلق . وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدينا , ويحل عليه عذاب مقيم في الآخرة . .
لقد قضي الأمر بعد عرض الحقيقة البسيطة التي تنطق بها الفطرة ويشهد بها الوجود . . إن الله هو خالق السماوات والأرض . القاهر فوق السماوات والأرض . وهو صاحب هذه الدعوة التي يحملها الرسل ويتولاها الدعاة . فمن ذا في السماوات والأرض يملك لرسله شيئاً أو لدعاته ? ومن ذا يملك أن يدفع عنهم ضراً أو يمسك عنهم رحمة ? وإذا لم يكن . فماذا يخشون وماذا يرجون عند غير الله ?
ألا لقد وضح الأمر ولقد تعين الطريق ; ولم يعد هناك مجال لجدال أو محال !
الدرس الثاني:41 - 42 المهتدون بالقرآن وقبض الله لأرواح خلقه
تلك حقيقة الوضع بين رسل الله وسائر قوى الأرض التي تقف لهم في الطريق . فما حقيقة وظيفتهم وما شأنهم مع المكذبين ?
إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق . فمن اهتدى فلنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها . وما أنت عليهم بوكيل . الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها , فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . أم اتخذوا من دون الله شفعاء ? قل:أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ? قل:لله الشفاعة جميعاً . له ملك السماوات والأرض , ثم إليه ترجعون . .
(إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق). . الحق في طبيعته . والحق في منهجه . والحق في شريعته . الحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض ; ويلتقي عليه نظام البشرية في هذا الكتاب ونظام الكون كله في تناسق . هذا الحق نزل(للناس)ليهتدوا به ويعيشوا معه ويقوموا عليه . وأنت مبلغ . وهم بعد ذلك وما يشاءون لأنفسهم من هدى أو ضلال , ومن نعيم أو عذاب . فكل مورد نفسه ما يشاء ; وما أنت بمسيطر عليهم ولا بمسؤول عنهم:
(فمن اهتدى فلنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها , وما أنت عليهم بوكيل). .
إنما الوكيل عليهم هو الله . وهم في قبضته في صحوهم ونومهم وفي كل حالة من حالاتهم , وهو يتصرف بهم كما يشاء:
من الاية 43 الى الاية 46
أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
(الله يتوفى الأنفس حين موتها , والتي لم تمت في منامها . فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى). .
فالله يستوفي الآجال للأنفس التي تموت . وهو يتوفاها كذلك في منامها - وإن لم تمت بعد - ولكنها في النوم متوفاة إلى حين . فالتي حان أجلها يمسكها فلا تستيقظ . والتي لم يحن أجلها بعد يرسلها فتصحو . إلى أن يحل أجلها المسمى . فالأنفس في قبضته دائماً في صحوها ونومها .
(إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). .
الدرس الثالث:43 - 44 لا شفاعة إلا بإذن الله
إنهم هكذا في قبضة الله دائما . وهو الوكيل عليهم . ولست عليهم بوكيل . وإنهم إن يهتدوا فلأنفسهم وإن يضلوا فعليها . وإنهم محاسبون إذن وليسوا بمتروكين . . فماذا يرجون إذن للفكاك والخلاص ?
أم اتخذوا من دون الله شفعاء ? قل:أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ? قل:لله الشفاعة جميعاً . له ملك السماوات والأرض , ثم إليه ترجعون . .
وهو سؤال للتهكم والسخرية من زعمهم أنهم يعبدون تماثيل الملائكة ليقربوهم إلى الله زلفى ! (أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ?). . يعقبه تقرير جازم بأن لله الشفاعة جميعاً . فهو الذي يأذن بها لمن يشاء على يد من شاء . فهل مما يؤهلهم للشفاعة أن يتخذوا من دون الله شركاء ?!
(له ملك السماوات والأرض). . فليس هنالك خارج على إرادته في هذا الملك . . (ثم إليه ترجعون). . فلا مهرب ولا مفر من الرجوع إليه وحده في نهاية المطاف . .
الدرس الرابع:45 - 46 كراهية الكفار لذكر الله
وفي هذا الموقف الذي يتفرد فيه الله سبحانه بالملك والقهر يعرض كيف هم ينفرون من كلمة التوحيد ويهشون لكلمة الشرك , الذي ينكره كل ما حولهم في الوجود:
(وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة , وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون).
والآية تصف واقعة حال على عهد النبي [ ص ] حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم ; وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد . ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان . فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إلهاً , وإلى شريعة الله وحدها قانوناً , وإلى منهج الله وحده نظاماً . حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث , وفتحوا صدورهم للأخذ والرد . هؤلاء هم بعينهم الذين يصور الله نموذجاً منهم في هذه الآية , وهم بذاتهم في كل زمان ومكان . هم الممسوخو الفطرة , المنحرفو الطبيعة , الضالون المضلون , مهما تنوعت البيئات والأزمنة , ومهما تنوعت الأجناس والأقوام .
والجواب على هذا المسخ والانحراف والضلال هو ما لقنه الله لرسوله [ ص ] في مواجهة مثل هذه الحال:
(قل:اللهم فاطر السماوات والأرض , عالم الغيب والشهادة , أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون). .
إنه دعاء الفطرة التي ترى السماء والأرض ; ويتعذر عليها أن تجد لها خالقاً إلا الله فاطر السماوات والأرض , فتتجه إليه بالاعتراف والإقرار . وتعرفه بصفته اللائقة بفاطر السماوات والأرض . (عالم الغيب والشهادة)المطلع
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
في هذا المقطع من السورة لفتة إلى حياة النبات في الأرض عقب إنزال الماء من السماء ; وانتهائها إلى غايتها القريبة , وكثيراً ما يضرب هذا مثلاً للحياة الدنيا في حقيقتها الزائلة - وتوجيه لأولي الألباب الذين يذكرون ويتدبرون ليتدبروا هذا المثل ويذكروه . وعلى ذكر إنزال الماء من السماء يشير إلى الكتاب المنزل من السماء كذلك لتحيا به القلوب وتنشرح له الصدور ; مع تصوير موح لاستجابة القلوب المفتوحة لهذا الكتاب , بخشية وقشعريرة ثم لين وطمأنينة . وتصوير كذلك لعاقبة المستجيبين لذكر الله , والقاسية قلوبهم من ذكر الله , وفي النهاية يتجه إلى حقيقة التوحيد , فيضرب مثالاً لمن يعبد إلهاً واحداً ومن يعبد آلهة متعددة . وهما لا يستويان مثلاً ولا يتفقان حالاً . كما لا يستوي حال العبد الذي يملكه سادة متنازعون والعبد الذي يعمل لسيد واحد لا ينازعه أحد فيه !
الدرس الأول:21 المطر والينابيع والثمار
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء , فسلكه ينابيع في الأرض , ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه , ثم يهيج فتراه مصفراً , ثم يجعله حطاماً ? إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب).
إن هذه الظاهرة التي يوجه القرآن إليها الأنظار للتأمل والتدبر , ظاهرة تتكرر في أنحاء الأرض , حتى لتذهب الألفة بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها . والقرآن يوجه النظر إلى رؤية يد الله وتتبع آثارها في كل خطوة من خطوات الحياة .
فهذا الماء النازل من السماء . . ما هو وكيف نزل ? إننا نمر بهذه الخارقة سراعاً لطول الألفة وطول التكرار . إن خلق الماء في ذاته خارقة . ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتي أيدروجين بذرة أكسوجين تحت ظروف معينة , فإن هذه المعرفة خليقة بأن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد الله التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد الأيدروجين ويوجد الأكسوجين وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما , وبوجود الماء من هذا الاتحاد . ومن ثم وجود الحياة في هذه الأرض . ولولا الماء ما وجدت حياة . إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود الماء ووجود الحياة . والله من وراء هذا التدبير , وكله مما صنعت يداه . . ثم نزول هذا الماء بعد وجوده وهو الآخر خارقة جديدة , ناشئة من قيام الأرض والكون على هذا النظام الذي يسمح بتكون الماء ونزوله وفق تدبير الله .
ثم تجيء الخطوة التالية لإنزال الماء:
(فسلكه ينابيع في الأرض). .
سواء في ذلك الأنهار الجارية على سطح الأرض ; أو الأنهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه السطحية , ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيوناً , أو يتكشف آباراً . ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبداً !
(ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه). .
والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه ; خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيراً . ورؤية النبتة الصغيرة وهي تشق حجاب الأرض عنها ; وتزيح أثقال الركام من فوقها ; وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية ; وهي تصعد إلى الفضاء رويداً رويداً . . هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى ; وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة . بل في النبتة الواحدة . بل في الزهرة الواحدة إن هو إلا معرض لإبداع القدرة ; يُشعر الإنسان بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً !
هذا الزرع النامي اللدن الرخص الطري بالحياة , يبلغ تمامه , ويستوفي أيامه:
(ثم يهيج فتراه مصفراً). .
وقد بلغ غايته المقدرة له في ناموس الوجود , وفي نظام الكون , وفي مراحل الحياة , فينضج للحصاد:
(ثم يجعله حطاماً). .
وقد استوفى أجله , وأدى دوره , وأنهى دورته كما قدر له واهب الحياة . .
(إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب). .
الذين يتدبرون فيذكرون , وينتفعون بما وهبهم الله من عقل وإدراك .
الدرس الثاني:22 - 26 بين المهتدي المنشرح للقرآن والمعرض المعذب في النار
(أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ? فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله . أولئك في ضلال مبين . الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ; ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ; ومن يضلل الله فما له من هاد). .
وكما ينزل الماء من السماء فينبت لهم به زرعاً مختلفاً ألوانه كذلك ينزل من السماء ذكراً تتلقاه القلوب الحية ; فتتفتح وتنشرح وتتحرك حركة الحياة , وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقاه الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة !
والله يشرح للإسلام قلوباً يعلم منها الخير , ويصلها بنوره فتشرق به وتستضيء . والفرق بين هذه القلوب وقلوب آخرى قاسية فرق بعيد . (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله). .
(أولئك في ضلال مبين). .
وهذه الآية تصور حقيقة القلوب التي تتلقى الإسلام فتنشرح له وتندى به . وتصور حالها مع الله . حال الانشراح والتفتح والنداوة والبشاشة , والإشراق والاستنارة . كما تصور حقيقة القلوب الأخرى في قساوتها وغلظتها وموتها وجفافها , وعتمتها وظلامها . ومن يشرح الله صدره للإسلام ويمد له من نوره , ليس قطعاً كالقاسية قلوبهم من ذكر الله . وشتان شتان بين هؤلاء وهؤلاء .
كذلك تصور الآية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن . هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته , ولا في روحه , ولا في خصائصه . فهو(متشابه)وهو(مثاني)تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهده . ولكنها لا تختلف ولا تتعارض , إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في الإعادة والتكرار . في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة . لا تعارض فيها ولا اصطدام .
والذين يخشون ربهم ويتقونه , ويعيشون في حذر وخشية , وفي تطلع ورجاء , يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش , وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود ; ثم تهدأ نفوسهم , وتأنس قلوبهم بهذا الذكر فتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله . .
وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات , فتكاد تشخص فيها الحركات .
(ذلك هدى الله يهدي به من يشاء). .
فما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق . والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال:
(ومن يضلل الله فما له من هاد). .
من الاية 24 الى الاية 29
أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
فهو يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال , التي لا تقبل الهدى ولا تجنح إليه بحال .
ثم يعرض ما ينتظر أهل الضلال يوم القيامة في مشهد بائس في موعد حصاد الأعمال !
(أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ? وقيل للظالمين:ذوقوا ما كنتم تكسبون). .
والإنسان يقي وجهه عادة بيديه وجسمه . فأما هنا فهو لا يملك أن يدفع عن نفسه النار بيديه ولا برجليه , فيدفعها بوجهه , ويتقي به سوء العذاب . مما يدل على الهول والشدة والاضطراب . وفي زحمة هذا العذاب يتلقى التأنيب , وتدفع إليه حصيلة حياته ويا لها من حصيلة: (وقيل للظالمين:ذوقوا ما كنتم تكسبون)!
ويلتفت من هذا المشهد إلى الحديث عن المكذبين الذين يواجهون محمداً [ ص ] ليعرض عليهم ما جرى للمكذبين قبلهم لعلهم يتداركون أنفسهم:
(كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون . فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا , ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون). .
فهذه حال المكذبين في الدنيا والآخرة . في الدنيا أذاقهم الله الخزي . وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الأكبر . وسنة الله ماضية لا تتخلف . ومصارع القرون من قبلهم شاهدة . ووعيد الله لهم في الآخرة قائم . والفرصة أمامهم سانحة . وهذا الذكر لمن يتعظ ويذكر (لو كانوا يعلمون)!
الدرس الثالث:27 - 29 ضرب الأمثال في القرآن
(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون , قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون . ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل , هل يستويان مثلاً ? الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون). .
يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه , وهو بينهم موزع ; ولكل منهم فيه توجيه , ولكل منهم عليه تكليف ; وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق ; ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه ! وعبد يملكه سيد واحد , وهو يعلم ما يطلبه منه , ويكلفه به , فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح . .
(هل يستويان مثلاً ?). .
إنهما لا يستويان . فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين . وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه , ووضوح الطريق . والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال ولا يرضي واحداً منهم فضلاً على أن يرضي الجميع !
وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال . فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى , لأن بصره أبداً معلق بنجم واحد على الأفق فلا يلتوي به الطريق . ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق , ومصدراً واحداً للنفع والضر , ومصدراً واحداً للمنح والمنع , فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد , يستمد منه وحده , ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته . ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره . ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه . . وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد , فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء . .
ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي , بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة
من الاية 30 الى الاية 32
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (32)
والاستقرار . وهم مع هذا ينحرفون , وأكثرهم لا يعلمون . .
وهذا مثل من الأمثلة التي يضربها القرآن للناس لعلهم يتذكرون . وهو قرآن عربي , مستقيم , واضح , لا لبس فيه ولا عوج ولا انحراف . يخاطب الفطرة بمنطقها القريب المفهوم .
الوحدة الخامسة:30 - 35 موت العباد وثواب الصالحين وعقاب الكافرين
هذا المقطع تعقيب على ما قبله فبعد أن عرض آية الماء النازل من السماء , وآية الزرع الذي يخرج بهذا الماء , وآية الكتاب النازل من عند الله ; وأشار إلى ما يضربه في القرآن من الأمثال (ولكن أكثرهم لا يعلمون)عقب على هذا بأن أمر النبي [ ص ] وأمرهم موكول إلى الله ; وأنه هو الذي يحكم بينهم بعد الموت , فيجازي الكاذبين المكذبين بما يستحقون ; ويجازي الصادقين المصدقين جزاء المحسنين .
(إنك ميت وإنهم ميتون , ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون). .
إنه الموت نهاية كل حي ; ولا يتفرد بالبقاء إلا الله وفي الموت يستوي كل البشر بما فيهم محمد رسول الله [ ص ] وذكر هذه الحقيقة هنا حلقة من حلقات التوحيد الذي تقرره السورة كلها وتؤكده . ثم يلي ذلك تقرير ما بعد الموت . فالموت ليس نهاية المطاف . إنما هو حلقة لها ما بعدها من حلقات النشأة المقدرة المدبرة , التي ليس شيء منها عبثاً ولا سدى . فيوم القيامة يختصم العباد فيما كان بينهم من خلاف . ويجيء رسول الله [ ص ] أمام ربه ويوقف القوم للخصومة فيما كانوا يقولونه ويأتونه , ويواجهون به ما أنزل الله إليهم من الهدى .
(فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه ? أليس في جهنم مثوى للكافرين ?)
سؤال للتقرير . فليس هنالك من هو أظلم ممن كذب على الله فزعم أن له بنات وأنه له شركاء ; وكذب بالصدق الذي جاء به رسوله ; فلم يصدق بكلمة التوحيد . إنه الكفر . وفي جهنم مثوى للكافرين . على سبيل التقرير الذي يرد في صورة سؤال لزيادة الإيضاح والتوكيد .
هذا طرف من الخصومة فأما الطرف الآخر فهو الذي جاء بالصدق من عند الله . وصدق به فبلغه عن عقيدة واقتناع . ويشترك مع رسول الله [ ص ] في هذه الصفة كل الرسل قبله . كما يشاركه فيها كل
من الاية 33 الى الاية 35
وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
من دعا إلى هذا الصدق وهو مقتنع به مؤمن بأنه الحق , يشارك قلبه لسانه فيما يدعو إليه . . (أولئك هم المتقون). .
ويتوسع في عرض صفة المتقين هؤلاء وما أعده لهم من جزاء:
لهم ما يشاءون عند ربهم , ذلك جزاء المحسنين . .
وهو تعبير جامع , يشمل كل ما يخطر للنفس المؤمنة من رغائب , ويقرر أن هذا(لهم)عند ربهم , فهو حقهم الذي لا يخيب ولا يضيع . . (ذلك جزاء المحسنين). .
ذلك ليحقق الله ما أراده لهم من خير ومن كرامة , ومن فضل يزيد على العدل يعاملهم به , متفضلاً محسناً:
(ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ; ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون). .
فالعدل أن تحسب الحسنات وتحسب السيئات ; ثم يكون الجزاء .
والفضل هو هذا الذي يتجلى به الله على عباده المتقين هؤلاء أن يكفر عنهم أسوأ أعمالهم فلا يبقى لها حساب في ميزانهم . وأن يجزيهم أجرهم بحساب الأحسن فيما كانوا يعملون , فتزيد حسناتهم وتعلو وترجح في الميزان .
إنه فضل الله يؤتيه من يشاء . كتبه الله على نفسه بوعده . فهو واقع يطمئن إليه المتقون المحسنون . .
الوحدة السادسة:36 - 52 الموضوع:حقائق إعتقادية حول الموت والحياة والتوكل والتوحيد
من الاية 36 الى الاية 37
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ (37)
مقدمة الوحدة
هذه الجولة أوسع مقاطع السورة . وهي تتناول حقيقة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة . تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن وموقفه بإزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة ; واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة . ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية ويكل أمره وأمر المجادلين له إلى الله يوم القيامة ويمضي في طريقه ثابتاً واثقاً مستيقناً بالمصير .
يتلو هذا بيان وظيفة الرسول [ ص ] وأنه ليس وكيلاً على العباد في هداهم وضلالهم . إنما الله هو المسيطر عليهم ; الآخذ بناصيتهم في كل حالة من حالاتهم . وليس لهم من دونه شفيع فإن لله الشفاعة جميعاً . وإليه ملك السماوات والأرض . وإليه المرجع والمصير .
ثم يصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد وانبساطها عند ذكر كلمة الشرك . ويعقب على هذا بدعوة الرسول [ ص ] إلى إعلان كلمة التوحيد خالصة , وترك أمر المشركين لله . ويصورهم يوم القيامة وهم يودون لو يفتدون بملء الأرض ومثله معه . وقد تكشف لهم من الله ما يذهل ويخيف !
ذلك . وهم يدعون الله وحده إذا أصابهم الضر . فإذا وهبهم منه نعمة ادعوا دعاوى عريضة وقال قائلهم:إنما أوتيته على علم عندي ! الكلمة التي قالها الذين من قبلهم فأخذهم الله القادر على أن يأخذ هؤلاء . وما هم بمعجزين . وما كان بسط الرزق وقبضه إلا سنة من سنن الله , تجري وفق حكمته وتقديره وهو وحده الباسط القابض: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . .
الدرس الأول:36 - 40 التوكل على الله وكفالته لعباده
(أليس الله بكاف عبده ? ويخوفونك بالذين من دونه . ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل . أليس الله بعزيز ذي انتقام ? ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله . قل:أفرأيتم ما تدعون من دون الله , إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ? قل:حسبي الله , عليه يتوكل المتوكلون . قل:يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذابيخزيه ويحل عليه عذاب مقيم). .
هذه الآيات الأربع تصور منطق الإيمان الصحيح , في بساطته وقوته , ووضوحه , وعمقه . كما هو في قلب رسول الله [ ص ] وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالة , وكل قائم بدعوة . وهي وحدها دستوره الذي يغنيه ويكفيه , ويكشف له الطريق الواصل الثابت المستقيم .
وقد ورد في سبب نزولها أن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله [ ص ] من آلهتهم , ويحذرونه من غضبها , وهو يصفها بتلك الأوصاف المزرية بها , ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى . . .
ولكن مدلول هذه الآيات أوسع وأشمل . فهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل ما في الأرض من قوى مضادة . كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن , بعد وزن هذه القوى بميزانها الصحيح .
(أليس الله بكاف عبده)?
بلى ! فمن ذا يخيفه , وماذا يخيفه ? إذا كان الله معه ? وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام ? ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده ?
(ويخوفونك بالذين من دونه). .
فكيف يخاف ? والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله . وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله ?
إنها قضية بسيطة واضحة , لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن . . إنه الله . ومَن هم دون الله . وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه .
وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة . وهو الذي يقضي في العباد قضاءه . في ذوات أنفسهم , وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم:
(ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل). . .
وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله , ومن يستحق الهدى فيهديه . فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء .
(أليس الله بعزيز ذي انتقام ?)
بلى . وإنه لعزيز قوي . وإنه ليجازي كلاً بما يستحق . وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام . فكيف يخشى أحداً أو شيئاً من يقوم بحق العبودية له , وهو كافله وكافيه ?
ثم يقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى منتزعة من منطقهم هم أنفسهم , ومن واقع ما يقررونه من حقيقة الله في فطرتهم:
(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ? ليقولن الله . قل . أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ? أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ? قل:حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون). .
لقد كانوا يقررون - حين يسألون - أن الله هو خالق السماوات والأرض . وما تملك فطرة أن تقول غير هذا , وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السماوات والأرض إلا بوجود إرادة عليا . فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء جميعاً بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة . . إذا كان الله هو خالق السماوات والأرض . فهل يملك أحد أو شيء في هذه
من الاية 38 الى الاية 42
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (40) إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
السماوات والأرض أن يكشف ضراً أراد الله أن يصيب به عبداً من عباده ? أم يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يحبس رحمة أراد الله أن تنال عبداً من عباده ?
والجواب القاطع:أن لا . . فإذا تقرر هذا فما الذي يخشاه داعية إلى الله ? ما الذي يخشاه وما الذي يرجوه ? وليس أحد بكاشف الضر عنه ? وليس أحد بمانع الرحمة عنه ? وما الذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن طريقه ?
إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه . وقد انقطع الجدل . وانقطع الخوف وانقطع الأمل . إلا في جناب الله سبحانه . فهو كاف عبده وعليه يتوكل وحده:
(قل:حسبي الله . عليه يتوكل المتوكلون). .
ثم إنها الطمأنينة بعد هذا والثقة واليقين . الطمأنينة التي لا تخاف . والثقة التي لا تقلق . واليقين الذي لا يتزعزع . والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق:
قل:يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم . .
يا قوم اعملوا على طريقكم وعلى حالكم . إني ماض في طريقي لا أميل ولا أخاف ولا أقلق . وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدينا , ويحل عليه عذاب مقيم في الآخرة . .
لقد قضي الأمر بعد عرض الحقيقة البسيطة التي تنطق بها الفطرة ويشهد بها الوجود . . إن الله هو خالق السماوات والأرض . القاهر فوق السماوات والأرض . وهو صاحب هذه الدعوة التي يحملها الرسل ويتولاها الدعاة . فمن ذا في السماوات والأرض يملك لرسله شيئاً أو لدعاته ? ومن ذا يملك أن يدفع عنهم ضراً أو يمسك عنهم رحمة ? وإذا لم يكن . فماذا يخشون وماذا يرجون عند غير الله ?
ألا لقد وضح الأمر ولقد تعين الطريق ; ولم يعد هناك مجال لجدال أو محال !
الدرس الثاني:41 - 42 المهتدون بالقرآن وقبض الله لأرواح خلقه
تلك حقيقة الوضع بين رسل الله وسائر قوى الأرض التي تقف لهم في الطريق . فما حقيقة وظيفتهم وما شأنهم مع المكذبين ?
إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق . فمن اهتدى فلنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها . وما أنت عليهم بوكيل . الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها , فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . أم اتخذوا من دون الله شفعاء ? قل:أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ? قل:لله الشفاعة جميعاً . له ملك السماوات والأرض , ثم إليه ترجعون . .
(إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق). . الحق في طبيعته . والحق في منهجه . والحق في شريعته . الحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض ; ويلتقي عليه نظام البشرية في هذا الكتاب ونظام الكون كله في تناسق . هذا الحق نزل(للناس)ليهتدوا به ويعيشوا معه ويقوموا عليه . وأنت مبلغ . وهم بعد ذلك وما يشاءون لأنفسهم من هدى أو ضلال , ومن نعيم أو عذاب . فكل مورد نفسه ما يشاء ; وما أنت بمسيطر عليهم ولا بمسؤول عنهم:
(فمن اهتدى فلنفسه , ومن ضل فإنما يضل عليها , وما أنت عليهم بوكيل). .
إنما الوكيل عليهم هو الله . وهم في قبضته في صحوهم ونومهم وفي كل حالة من حالاتهم , وهو يتصرف بهم كما يشاء:
من الاية 43 الى الاية 46
أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
(الله يتوفى الأنفس حين موتها , والتي لم تمت في منامها . فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى). .
فالله يستوفي الآجال للأنفس التي تموت . وهو يتوفاها كذلك في منامها - وإن لم تمت بعد - ولكنها في النوم متوفاة إلى حين . فالتي حان أجلها يمسكها فلا تستيقظ . والتي لم يحن أجلها بعد يرسلها فتصحو . إلى أن يحل أجلها المسمى . فالأنفس في قبضته دائماً في صحوها ونومها .
(إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). .
الدرس الثالث:43 - 44 لا شفاعة إلا بإذن الله
إنهم هكذا في قبضة الله دائما . وهو الوكيل عليهم . ولست عليهم بوكيل . وإنهم إن يهتدوا فلأنفسهم وإن يضلوا فعليها . وإنهم محاسبون إذن وليسوا بمتروكين . . فماذا يرجون إذن للفكاك والخلاص ?
أم اتخذوا من دون الله شفعاء ? قل:أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ? قل:لله الشفاعة جميعاً . له ملك السماوات والأرض , ثم إليه ترجعون . .
وهو سؤال للتهكم والسخرية من زعمهم أنهم يعبدون تماثيل الملائكة ليقربوهم إلى الله زلفى ! (أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ?). . يعقبه تقرير جازم بأن لله الشفاعة جميعاً . فهو الذي يأذن بها لمن يشاء على يد من شاء . فهل مما يؤهلهم للشفاعة أن يتخذوا من دون الله شركاء ?!
(له ملك السماوات والأرض). . فليس هنالك خارج على إرادته في هذا الملك . . (ثم إليه ترجعون). . فلا مهرب ولا مفر من الرجوع إليه وحده في نهاية المطاف . .
الدرس الرابع:45 - 46 كراهية الكفار لذكر الله
وفي هذا الموقف الذي يتفرد فيه الله سبحانه بالملك والقهر يعرض كيف هم ينفرون من كلمة التوحيد ويهشون لكلمة الشرك , الذي ينكره كل ما حولهم في الوجود:
(وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة , وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون).
والآية تصف واقعة حال على عهد النبي [ ص ] حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم ; وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد . ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان . فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إلهاً , وإلى شريعة الله وحدها قانوناً , وإلى منهج الله وحده نظاماً . حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث , وفتحوا صدورهم للأخذ والرد . هؤلاء هم بعينهم الذين يصور الله نموذجاً منهم في هذه الآية , وهم بذاتهم في كل زمان ومكان . هم الممسوخو الفطرة , المنحرفو الطبيعة , الضالون المضلون , مهما تنوعت البيئات والأزمنة , ومهما تنوعت الأجناس والأقوام .
والجواب على هذا المسخ والانحراف والضلال هو ما لقنه الله لرسوله [ ص ] في مواجهة مثل هذه الحال:
(قل:اللهم فاطر السماوات والأرض , عالم الغيب والشهادة , أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون). .
إنه دعاء الفطرة التي ترى السماء والأرض ; ويتعذر عليها أن تجد لها خالقاً إلا الله فاطر السماوات والأرض , فتتجه إليه بالاعتراف والإقرار . وتعرفه بصفته اللائقة بفاطر السماوات والأرض . (عالم الغيب والشهادة)المطلع
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الزمر ايه رقم 1 الى ايه 20 الشيخ سيد قطب
» تفسير الزمر ايه 47 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الزمر ابه 41----48
» تفسير سورة الزمر ايه 48----57
» تفسير سورة الزمر ايه 68=---75
» تفسير الزمر ايه 47 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الزمر ابه 41----48
» تفسير سورة الزمر ايه 48----57
» تفسير سورة الزمر ايه 68=---75
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى