تفسير سورة الروم ايه 24 الى ايه 47 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الروم ايه 24 الى ايه 47 الشيخ سيد قطب
من الاية 24 الى الاية 26
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (26)
(ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا , وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون). .
وظاهرة البرق ظاهرة ناشئة من النظام الكوني ; ويعللها بعضهم بأنها تنشأ من انطلاق شرارة كهربائية بين سحابتين محملتين بالكهرباء , أو بين سحابة وجسم أرضي كقمة جبل مثلا . ينشأ عنها تفريغ في الهواء يتمثل في الرعد الذي يعقب البرق . وفي الغالب يصاحب هذا وذلك تساقط المطر نتيجة لذلك التصادم . وأيا ما كان السبب فالبرق ظاهرة ناشئة عن نظام هذا الكون كما خلقه البارىء وقدره تقديرا .
والقرآن الكريم حسب طبيعته لا يفصل كثيرا في ماهية الظواهر الكونية وعللها ; إنما يتخذ منها أداة لوصل القلب البشري بالوجود وخالق الوجود . ومن ثم يقرر هنا أنها آية من آيات الله أن يريهم البرق (خوفا وطمعا). . وهما الشعوران الفطريان اللذان يتعاوران النفس البشرية أمام تلك الظاهرة . شعور الخوف من الصواعق التي تحرق الناس والأشياء أحيانا عندما يبرق البرق . أو الخوف الغامض من رؤية البرق وما يوقعه في الحس من الشعور بالقوة المصرفة لهيكل هذا الكون الهائل . وشعور الطمع في الخير من وراء المطر الذي يصاحب البرق في معظم الأحوال ; والذي عقب بذكره في الآية بعد ذكر البرق: (وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها). .
والتعبير بالحياة والموت بالقياس إلى الأرض تعبير يخيل أن الأرض كائن حي , يحيا ويموت . وإنها لكذلك في حقيقتها التي يصورها القرآن الكريم . فهذا الكون خليقة حية متعاطفة متجاوبة , مطيعة لربها خاضعة خاشعة , ملبية لأمره مسبحة عابدة . والإنسان الذي يدب على هذا الكوكب الأرضي واحد من خلائق الله هذه , يسير معها في موكب واحد متجه إلى الله رب العالمين .
ذلك كله بالإضافة إلى أن الماء حين يصيب الأرض , يبعث فيها الخصب , فتنبت الزرع الحي النامي ; وتموج صفحتها بالحياة المنبثقة في هذا النبات . ومن ثم في الحيوان والإنسان . والماء رسول الحياة فحيث كان تكون الحياة .
(إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون). . فهنا للعقل مجال للتدبر والتفكير .
(ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره , ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون . وله من في السماوات والأرض كل له قانتون).
وقيام السماء والأرض منتظمة سليمة مقدرة الحركات لا يكون إلا بقدرة من الله وتدبير . وما من مخلوق يملك أن يدعي أنه هو أو سواه يفعل هذا . وما من عاقل يملك أن يقول:إن هذا كله يقع بدون تدبير . وإذن فهي آية من آيات الله أن تقوم السماء والأرض بأمره , ملبية لهذا الأمر , طائعة له , دون انحراف ولا تلكؤ ولا اضطراب .
(ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون). .
ومن يرى هذا التقدير في نظام الكون , وهذه السلطة على مقدراته , لا يشك في تلبية البشر الضعاف لدعوة تصدر إليهم من الخالق القادر العظيم , بالخروج من القبور !
ثم يأتي الإيقاع الأخير ختاما لهذا التقرير ; فإذا كل من في السماوت والأرض من خلائق قانتون لله طائعون .
(وله من في السماوات والأرض كل له قانتون). .
من الاية 27 الى الاية 28
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
ولقد نرى أن الكثيرين من الناس لا قانتين لله ولا عابدين . ولكن هذا التقرير إنما يعني خضوع كل من في السماوات والأرض لإرادة الله ومشيئته التي تصرفهم وفق السنة المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد . فهم محكومون بهذه السنة ولو كانوا عصاة كافرين . إنما تعصى عقولهم وتكفر قلوبهم ولكنهم مع هذا محكومون بالناموس مأخوذون بالسنة , يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت .
ثم يختم تلك الجولة الضخمة الهائلة اللطيفة العميقة بتقرير قضية البعث والقيامة التي يغفل عنها الغافلون:
(وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده - وهو أهون عليه - وله المثل الأعلى في السماوات والأرض , وهو العزيز الحكيم). .
وقد سبق في السورة تقرير البدء والإعادة , وهو يعاد هنا بعد تلك الجولة العريضة ويضاف إليه جديد: (وهو أهون عليه). . وليس شيء أهون على الله ولا أصعب .(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له:كن . فيكون)ولكنه إنما يخاطب الناس بحسب إدراكهم , ففي تقدير الناس أن بدء الخلق أصعب من إعادته , فما بالهم يرون الإعادة عسيرة على الله . وهي في طبيعتها أهون وأيسر ?!
(وله المثل الأعلى في السماوات والأرض). . فهو سبحانه ينفرد في السماوات والأرض بصفاته لا يشاركه فيها أحد , وليس كمثله شيء , إنما هو الفرد الصمد .
(وهو العزيز الحكيم). . العزيز القاهر الذي يفعل ما يريد . الحكيم الذي يدبر الخلق بإحكام وتقدير .
الدرس السادس:28 - 29 ضرب مثل على نفي الشركاء لله
وعندما تنتهي تلك الجولة التي طوف فيها القلب البشري بتلك الآفاق والآماد , والأعماق والأغوار , والظواهر والأحوال , يواجهه سياق السورة بإيقاع جديد:
ضرب لكم مثلا من أنفسكم:هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم . فأنتم فيه سواء , تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ? كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون . .
ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه:جنا أو ملائكة أو أصناما وأشجارا . وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال . ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء من الاعتبار . فيبدو أمرهم عجبا . يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده . و يأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم . ومالهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله . وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير .
وهو يفصل لهم هذا المثل خطوة خطوة: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم)ليس بعيدا عنكم ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره . . (هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ?). . وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شيء من الرزق فضلا على أن يساووهم فيه (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم). . أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار , وتخشون أن يجوروا عليكم , وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم , لأنهم أكفاء لكم وأنداد ? هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص ? وإذا لم يكن شيء من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى ?
وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه , وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون). .
من الاية 29 الى الاية 32
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
وعند هذا الحد من عرض تناقضهم في دعوى الشرك المتهافتة , يكشف عن العلة الأصلية في هذا التناقض المريب:إنه الهوى الذي لا يستند على عقل أو تفكير:
(بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم . فمن يهدي من أضل الله ? وما لهم من ناصرين). .
والهوى لا ضابط له ولا مقياس . إنما هو شهوة النفس المتقلبة ونزوتها المضطربة , ورغباتها ومخاوفها . وآمالها ومطامعها التي لا تستند إلى حق ولا تقف عند حد ولا تزن بميزان . وهو الضلال الذي لا يرجى عمه هدى , والشرود الذي لا ترجى معه أوبة: (فمن يهدي من أضل الله ?)نتيجة لاتباعه هواه ? (وما لهم من ناصرين)يمنعونهم من سوء المصير .
الدرس السابع:30 - 32 الفطرة الإنسانية وتوحيد الله وعبادته
وعند هذا الحد يفرغ من أمر هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم المتقلبة المضطربة ; ويتجه بالخطاب إلى الرسول [ ص ] ليستقيم على دين الله الثابت المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها ; وهو عقيدة واحدة ثابتة لا تتفرق معها السبل كما تفرق المشركون شيعا وأحزابا مع الأهواء والنزوات !
(فأقم وجهك للدين حنيفا . فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله . ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). .
هذا التوجيه لإقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده , وفي موضعه , بعد تلك الجولات في ضمير الكون ومشاهده , وفي أغوار النفس وفطرتها . . يجيء في أوانه وقد تهيأت القلوب المستقيمة الفطرة لاستقباله ; كما أن القلوب المنحرفة قد فقدت كل حجة لها وكل دليل , ووقفت مجردة من كل عدة لها وكل سلاح . . وهذا هو السلطان القوي الذي يصدع به القرآن . السلطان الذي لا تقف له القلوب ولا تملك رده النفوس .
(فأقم وجهك للدين حنيفا). . واتجه إليه مستقيما . فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق , ولا تستمد من علم , إنما تتبع الشهوات , والنزوات بغير ضابط ولا دليل . . أقم وجهك للدين حنيفا مائلا عن كل ما عداه , مستقيما على نهيه دون سواه:
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). . وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين ; وكلاهما من صنع الله ; و كلاهما موافق لناموس الوجود ; وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه . والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف . وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير . والفطرة ثابتة والدين ثابت: (لا تبديل لخلق الله). فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة . فطرة البشر وفطرة الوجود .
ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . . فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم .
والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم , ولو أنه موجه إلى الرسول [ ص ] إلا أن المقصود به جميع المؤمنين . لذلك يستمر التوجيه لهم مفصلا معنى إقامة الوجه للدين:
(منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا . كل حزب بما لديهم فرحون). .
من الاية 33 الى الاية 34
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
فهي الإنابة إلى الله والعودة في كل أمر إليه . وهي التقوى وحساسية الضمير ومراقبة الله في السر والعلانية ; والشعور به عند كل حركة وكل سكنة . وهي إقامة الصلاة للعبادة الخالصة لله . وهي التوحيد الخالص الذي يميز المؤمنين من المشركين . .
ويصف المشركين بأنهم (الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا). . والشرك ألوان وأنماط كثيرة . منهم من يشركون الجن , ومنهم من يشركون الملائكة , ومنهم من يشركون الأجداد والآباء . و منهم من يشركون الملوك والسلاطين . ومنهم من يشركون الكهان والأحبار . ومنهم من يشركون الأشجار والأحجار . ومنهم من يشركون الكواكب والنجوم . ومنهم من يشركون النار . ومنهم من يشركون الليل والنهار . ومنهم من يشركون القيم الزائفة والرغائب والأطماع . ولا تنتهي أنماط الشرك وأشكاله . . و (كل حزب بما لديهم فرحون)بينما الدين القيم واحد لا يتبدل ولا يتفرق , ولا يقود أهله إلا إلى الله الواحد , الذي تقوم السماوات والأرض بأمره , وله من في السماوات والأرض كل له قانتون .
الوحدة الثانية:33 - 60
يمضي هذا الشوط من السورة في مجالها الأصيل . المجال الكوني العام الذي ترتبط به أقدار الناس وأقدار الأحداث ; والذي تتناسق فيه سنن الحياة وسنن الكون وسنن الدين القيم بلا تعارض ولا اصطدام .
وفي هذا الشوط يرسم صورة لتقلب الأهواء البشرية أمام ثبات السنن ; ووهن عقائد الشرك أمام قوة الدين القيم . ويصور نفوس البشر في السراء والضراء وعند قبض الرزق وبسطه , وهي تضطرب في تقديراتها وتصوراتها ما لم تستند إلى ميزان الله الذي لا يضطرب أبدا ; وما لم ترجع إلى قدر الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . وبمناسبة الرزق يوجههم إلى الطريقة التي تنمي المال وتزكيه . الطريقة المتفقة مع النهج القيم والطريق الواصل . ويردهم بهذا إلى معرفة الخالق الرازق الذي يميت ويحيي . أما الشركاء الذين يتخذونهم من دون الله فماذا يفعلون ? وينبههم إلى الفساد الذي تنشئه عقيدة الشرك في كل مكان . كما يوجه الرسول [ ص ] والمسلمين إلى الاستقامة على منهجهم القيم . قبل أن يأتي اليوم الذي لا عمل فيه ولا كسب , ولكن حساب وجزاء عما كانوا يعملون . وفي معرض الحديث عن رزق الله يوجه قلوبهم إلى أنماط من هذا الرزق . منها ما يتعلق بحياتهم المادية كالماء النازل من السماء الذي يحيي الأرض بعد موتها . وتجري الفلك فيه بأمره . ومنها تلك الآيات البينات التي تنزل على الرسول لإحياء موات القلوب والنفوس , ولكنهم لا يهتدون ولا يسمعون . ويطوف بهم في جولة مع أطوار نشأتهم وحياتهم حتى ينتهوا إلى خالقهم , فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون . . ويختم هذا الشوط بتثبيت الرسول [ ص ] وتوجيهه إلى الصبر حتى يتحقق وعد الله الحق اليقين .
الدرس الأول:33 اختلاف موقف معظم الناس في السراء والضراء
(وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه , ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون , ليكفروا بما آتيناهم , فتمتعوا فسوف تعلمون . أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ? وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها , وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون . أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ? إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون). .
إنها صورة للنفس البشرية التي لا تستمد من قيمة ثابتة , ولا تسير على نهج واضح . صورة لها وهي تتأرجح بين الانفعالات الطارئة , والتصورات العارضة , والاندفاعات مع الأحداث والتيارات . فعند مس الضر يذكر الناس ربهم , ويلجأون إلى القوة التي لا عاصم إلا إياها , ولا نجاة إلا بالإنابة إليها . حتى إذا انكشفت الغمة , وانفرجت الشدة , وأذاقهم الله رحمة منه: (إذا فريق منهم بربهم يشركون). . وهو الفريق الذي لا يستند إلى عقيدة صحيحة تهديه إلى نهج مستقيم . ذلك أن الرخاء يرفع عنهم الأضطرار الذي ألجأهم إلى الله ; وينسيهم الشدة التي ردتهم إليه . فيقودهم هذا إلى الكفر بما آتاهم الله من الهدى وما آتاهم من الرحمة , بدلا من الشكر والاستقامة على الإنابة .
وهنا يعاجل هذا الفريق بالتهديد في أشخاص المشركين الذين كانوا يواجهون الرسالة المحمدية , فيوجه إليهم الخطاب , ويحدد أنهم من هذا الفريق الذي يعنيه:
(فتمتعوا فسوف تعلمون). .
وهو تهديد ملفوف , هائل مخيف . وإن الإنسان ليخاف من تهديد حاكم أو رئيس فكيف وهذا التهديد من فاطر هذا الكون الهائل , الذي أنشأه كله بقولة:كن ! (فتمتعوا فسوف تعلمون)!
وبعد هذه المعاجلة بالتهديد الرعيب يعود فيسأل في استنكار عن سندهم في هذا الشرك الذي يجازون به
من الاية 35 الى الاية 37
أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
نعمة الله ورحمته ; وهذا الكفر الذي ينتهون إليه:
(أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ?). .
فإنه لا ينبغي لبشر أن يتلقى شيئا في أمر عقيدته إلا من الله . فهل أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد بهذا الشرك الذي يتخذونه ? وهو سؤال استنكاري تهكمي , يكشف عن تهافت عقيدة الشرك , التي لا تستند إلى حجة ولا تقوم على دليل . ثم هو سؤال تقريري من جانب آخر , يقرر أنه لا عقيدة إلا ما يتنزل من عند الله . وما يأتي بسلطان من عنده . وإلا فهو واهن ضعيف .
ثم يعرض صفحة أخرى من صفحات النفس البشرية في الفرح بالرحمة فرح الخفة والاغترار ; والقنوط من الشدة واليأس من رحمة الله:
(وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها , وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون). .
وهي كذلك صورة للنفس التي لا ترتبط بخط ثابت تقيس إليه أمرها في جميع الأحوال ; وميزان دقيق لا يضطرب مع التقلبات . والناس هنا مقصود بهم أولئك الذين لا يرتبطون بذلك الخط ولا يزنون بهذا الميزان . فهم يفرحون بالرحمة فرح البطر الذي ينسيهم مصدرها وحكمتها , فيطيرون بها , ويستغرقون فيها , ولا يشكرون المنعم , ولا يستيقظون إلى ما في النعمة من امتحان واتبلاء . حتى إذا شاءت إرادة الله أن تأخذهم بعملهم فتذيقهم حالة(سيئة)عموا كذلك عن حكمة الله في الابتلاء بالشدة , وفقدوا كل رجاء في أن يكشف الله عنه الغمة ; وقنطوا من رحمته ويئسوا من فرجه . . وذلك شأن القلوب المنقطعة عن الله , التي لا تدرك سننه ولا تعرف حكمته . أولئك الذين لا يعلمون . يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا !
ويعقب على هذه الصورة بسؤال استنكاري يعجب فيه من أمرهم , وقصر نظرهم وعمى بصيرتهم . فالأمر في السراء والضراء يتبع قانونا ثابتا , ويرجع إلى مشيئة الله سبحانه , فهو الذي ينعم بالرحمة , ويبتلي بالشدة ; ويبسط الرزق ويضيقه وفق سنته , وبمقتضى حكمته . وهذا ما يقع كل آن , ولكنهم هم لا يبصرون:
(أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ?). .
فلا داعي للفرح والبطر عند البسط , ولا لليأس والقنوط عند القبض ; فإنما هي أحوال تتعاور الناس وفق حكمة الله , وفيها للقلب المؤمن دلالة على أن مرد الأمر كله لله , ودلالة على اطراد السنة , وثبات النظام , رغم تقلب الأحوال:
إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . .
الدرس الثاني:38 - 39 المال الرابح والمال الخاسر
وإذا كان الله هو الذي يبسط الرزق ويقبضه ; وهو الذي يعطي ويمنع وفق مشيئته ; فهو يبين للناس الطريق الذي تربو أموالهم فيه وتربح . لا كما يظنون هم , بل كما يهديهم الله:
فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل . ذلك خير للذين يريدون وجه الله ; وأولئك هم المفلحون . وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ; و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون . .
وما دام المال مال الله , أعطاه رزقا لبعض عباده , فالله صاحب المال الأول قد قرر قسما منه لفئات من عباده , يؤديها إليهم من يضع يده على ذلك المال . ومن ثم سماها حقا . ويذكر هنا من هذه الفئات (ذا القربى
من الاية 38 الى الاية 40
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
والمسكين وابن السبيل). ولم تكن الزكاة بعد قد حددت ولا مستحقوها قد حصروا . ولكن المبدأ كان قد تقرر . مبدأ أن المال مال الله , بما أنه هو الرازق به , وأن لفئات من المحتاجين حقا فيه مقررا لهم من صاحب المال الحقيقي , يصل إليهم عن طريق واضع اليد على هذا المال . . . وهذا هو أساس النظرية الإسلامية في المال . وإلى هذا الأساس ترجع جميع التفريعات في النظرية الاقتصادية للإسلام . فما دام المال مال الله , فهو خاضع إذن لكل ما يقرره الله بشأنه بوصفه المالك الأول , سواء في طريقة تملكه أو في طريقة تنميته , أو في طريقة إنفاقه . وليس واضع اليد حرا في أن يفعل به ما يشاء .
وهو هنا يوجه أصحاب المال الذين اختارهم ليكونوا أمناء عليه إلى خير الطرق للتنمية والفلاح . وهي إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل , والإنفاق بصفة عامة في سبيل الله: (ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون). .
وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس , كي ترد عليه الهدية مضاعفة ! فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي: وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله . . هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال . . وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية:
(وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون). .
هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال:إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس . إنما هي إرادة وجه الله . أليس هو الذي يبسط الرزق ويقدر ? أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع ? فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه ; وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس . . ذلك حساب الدينا , وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة . فهي التجارة الرابحة هنا وهناك !
الدرس الثالث:40 - 42 أدلة الوحدانية وتهديد المشركين
ومن زاوية الرزق والكسب يعالج قضية الشرك , وآثارها في حياتهم وفي حياة من قبلهم , ويعرض نهاية المشركين من قبل وعاقبتهم التي تشهد بها آثارهم:
(الله الذي خلقكم , ثم رزقكم , ثم يميتكم ثم يحييكم . هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ? سبحانه وتعالى عما يشركون . ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس , ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون . قل:سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين). .
وهو يواجههم بواقع أمرهم وحقائق حالهم التي لا يملكون أن يماروا في أن الله وحده هو موجدها ; أو التي لا يملكون أن يزعموا أن لآلهتهم المدعاة مشاركة فيها . يواجههم بأن الله هو الذي خلقهم . وأنه هو الذي رزقهم . وأنه هو يميتهم . وأنه هو يحييهم . فأما الخلق فهم يقرون به . وأما الرزق فهم لا يملكون أن يزعموا أن آلهتهم المدعاة ترزقهم شيئا . وأما الإماتة فلا حجة لهم على غير ما يقرره القرآن فيها . بقي الإحياء وكانوا يمارون في وقوعه . وهو يسوقه إليهم ضمن هذه المسلمات ليقرره في وجدانهم بهذه الوسيلة الفريدة , التي تخاطب فطرتهم من وراء الانحراف الذي أصابهم . وما تملك الفطرة أن تنكر أمر البعث والإعادة .
ثم يسألهم: (هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ?)ولا ينتظر جوابا منهم , فهو سؤال للنفي في
من الاية 41 الى الاية 45
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
صورة التقريع غير محتاج إلى جواب ! إنما يعقب عليه بتنزيه الله: (سبحانه وتعالى عما يشركون).
ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم ; وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد , ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد , ويجعله مسيطرا على أقدارها , غالبا عليها:
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس). .
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا , ولا يقع مصادفة ; إنما هو تدبير الله وسنته . . (ليذيقهم بعض الذي عملوا)من الشر والفساد , حينما يكتوون بناره , ويتألمون لما يصيبهم منه: (لعلهم يرجعون)فيعزمون على مقاومة الفساد , ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم .
ويحذرهم في نهاية هذه الجولة أن يصيبهم ما أصاب المشركين قبلهم , وهم يعرفون عاقبة الكثيرين منهم , ويرونها في آثارهم حين يسيرون في الأرض , ويمرون بهذه الآثار في الطريق:
(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين).
وكانت عاقبتهم ما يرون حين يسيرون في الأرض ; وهي عاقبة لا تشجع أحدا على سلوك ذلك الطريق !
الدرس الرابع:43 - 45 دعوة إلى عبادة الله وجزاء العابدين
وعند هذا المقطع يشير إلى الطريق الآخر الذي لا يضل سالكوه , وإلى الأفق الآخر الذي لا يخيب قاصدوه . .
(فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله . يومئذ يصدعون . من كفر فعليه كفره ; ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون . ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله . إنه لا يحب الكافرين).
والصورة التي يعبر بها عن الاتجاه إلى الدين القيم صورة موحية معبرة عن كمال الاتجاه , وجديته , واستقامته:
(فأقم وجهك للدين القيم). . وفيها الاهتمام والانتباه والتطلع , واستشراف الوجهة السامية والأفق العالي والاتجاه السديد .
وقد جاء هذا التوجيه أول مرة في السورة بمناسبة الكلام عن الأهواء المتفرقة والأحزاب المختلفة . أما هنا فيجيء بمناسبة الشركاء , والرزق ومضاعفته , والفساد الناشئ من الشرك , وما يذوقه الناس في الأرض من ظهور الفساد واستعلائه , وعاقبة المشركين في الأرض . يجيء بهذه المناسبة فيبين جزاء الآخرة ونصيب المؤمنين والكافرين فيها ; ويحذرهم من يوم لا مرد له من الله . يوم يتفرقون فريقينمن كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون). .
ويمهد معناها يمهد ويعبد , ويعد المهد الذي فيه يستريح , ويهييء الطريق أو المضجع المريح . وكلها ظلال تتجمع وتتناسق , لتصور طبيعة العمل الصالح ووظيفته . فالذي يعمل العمل الصالح إنما يمهد لنفسه ويهييء أسباب الراحة في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالعمل الصالح لا بعدها . وهذا هو الظل الذي يلقيه التعبير . وذلك: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات). . (من فضله). . فما يستحق أحد من بني آدم الجنة بعمله . وما يبلغ مهما عمل أن يشكر الله على جزء من فضله . إنما هو فضل الله ورحمته بالمؤمنين . وكراهيته سبحانه للكافرين: (إنه لا يحب الكافرين). .
الدرس الخامس:46 - 51 آيات الله ونعمه على الناس بالمطر والزرع والثمر
بعد ذلك يأخذ معهم في جولة أخرى تكشف عن بعض آيات الله , وما فيها من فضل الله ورحمته , فيما يهبهم من رزق وهدى ينزل عليهم , فيعرفون بعضه وينكرون بعضه . ثم لا يشكرون ولا يهتدون .
من الاية 46 الى الاية 47
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
(ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات , وليذيقكم من رحمته , ولتجري الفلك بأمره , ولتبتغوا من فضله , ولعلكم تشكرون . ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات , فانتقمنا من الذين أجرموا , وكان حقا علينا نصر المؤمنين . الله الذي يرسل الرياح , فتثير سحابا , فيبسطه في السماء كيف يشاء , ويجعله كسفا , فترى الودق يخرج من خلاله , فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون . وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين . فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها . إن ذلك لمحيي الموتى , وهو على كل شيء قدير . ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون). .
إنه يجمع في هذه الآيات بين إرسال الرياح مبشرات , وإرسال الرسل بالبينات , ونصر المؤمنين بالرسل , وإنزال المطر المحيي , وإحياء الموتى وبعثهم . . وهو جمع له مغزاه . . إنها كلها من رحمة الله , وكلها تتبع سنة الله . وبين نظام الكون , ورسالات الرسل بالهدى , ونصر المؤمنين , صلة وثيقة . وكلها من آيات الله . ومن نعمته ورحمته , وبها تتعلق حياتهم , وهي مرتبطة كلها بنظام الكون الأصيل .
(ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات). . تبشر بالمطر . وهم يعرفون الريح الممطرة بالخبرة والتجربة فيستبشرون بها . (وليذيقكم من رحمته)بآثار هذه البشرى من الخصب والنماء . (ولتجري الفلك بأمره)سواء بدفع الرياح لها ; أو بتكوين الأنهار من الأمطار فتجري السفن فيها . وهي تجري - مع هذا - بأمر الله . ووفق سنته التي فطر عليها الكون ; وتقديره الذي أودع كل شيء خاصيته ووظيفته , وجعل من شأن هذا أن تخف الفلك على سطح الماء فتسير , وأن تدفعها الرياح فتجري مع التيار وضد التيار . وكل شيء عنده بمقدار . . (ولتبتغوا من فضله)في الرحلات التجارية , وفي الزرع والحصاد , وفي الأخذ والعطاء . وكله من فضل الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . (ولعلكم تشكرون)على نعمة الله في هذا كله . . وهذا توجيه إلى ما ينبغي أن يقابل به العباد نعمة الله الوهاب .
ومثل إرسال الرياح مبشرات إرسال الرسل بالبينات:
ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات . .
ولكن الناس لم يستقبلوا رحمة الله هذه - وهي أجل وأعظم - استقبالهم للرياح المبشرات . ولا انتفعوا بها - وهي أنفع وأدوم - انتفاعهم بالمطر والماء ! ووقفوا تجاه الرسل فريقين:مجرمين لا يؤمنون ولا يتدبرون ولا يكفون عن إيذاء الرسل والصد عن سبيل الله . و مؤمنين يدركون آيات الله , ويشكرون رحمته , ويثقون بوعده , ويحتملون من المجرمين ما يحتملون . . ثم كانت العاقبة التي تتفق مع عدل الله ووعده الوثيق .
(فانتقمنا من الذين أجرموا . وكان حقا علينا نصر المؤمنين). .
وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين ; وجعله لهم حقا , فضلا وكرما . وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكا ولا ريبا . وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر , القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير . يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد , وسنته التي لا تتخلف , وناموسه الذي يحكم الوجود .
وقد يبطئ هذا النصر أحيانا - في تقدير البشر - لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله , ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله . والله هو الحكيم الخبير . يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه , وفق مشيئته وسنته . وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف . ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح . ووعده القاطع واقع عن يقين , يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين .
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (26)
(ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا , وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون). .
وظاهرة البرق ظاهرة ناشئة من النظام الكوني ; ويعللها بعضهم بأنها تنشأ من انطلاق شرارة كهربائية بين سحابتين محملتين بالكهرباء , أو بين سحابة وجسم أرضي كقمة جبل مثلا . ينشأ عنها تفريغ في الهواء يتمثل في الرعد الذي يعقب البرق . وفي الغالب يصاحب هذا وذلك تساقط المطر نتيجة لذلك التصادم . وأيا ما كان السبب فالبرق ظاهرة ناشئة عن نظام هذا الكون كما خلقه البارىء وقدره تقديرا .
والقرآن الكريم حسب طبيعته لا يفصل كثيرا في ماهية الظواهر الكونية وعللها ; إنما يتخذ منها أداة لوصل القلب البشري بالوجود وخالق الوجود . ومن ثم يقرر هنا أنها آية من آيات الله أن يريهم البرق (خوفا وطمعا). . وهما الشعوران الفطريان اللذان يتعاوران النفس البشرية أمام تلك الظاهرة . شعور الخوف من الصواعق التي تحرق الناس والأشياء أحيانا عندما يبرق البرق . أو الخوف الغامض من رؤية البرق وما يوقعه في الحس من الشعور بالقوة المصرفة لهيكل هذا الكون الهائل . وشعور الطمع في الخير من وراء المطر الذي يصاحب البرق في معظم الأحوال ; والذي عقب بذكره في الآية بعد ذكر البرق: (وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها). .
والتعبير بالحياة والموت بالقياس إلى الأرض تعبير يخيل أن الأرض كائن حي , يحيا ويموت . وإنها لكذلك في حقيقتها التي يصورها القرآن الكريم . فهذا الكون خليقة حية متعاطفة متجاوبة , مطيعة لربها خاضعة خاشعة , ملبية لأمره مسبحة عابدة . والإنسان الذي يدب على هذا الكوكب الأرضي واحد من خلائق الله هذه , يسير معها في موكب واحد متجه إلى الله رب العالمين .
ذلك كله بالإضافة إلى أن الماء حين يصيب الأرض , يبعث فيها الخصب , فتنبت الزرع الحي النامي ; وتموج صفحتها بالحياة المنبثقة في هذا النبات . ومن ثم في الحيوان والإنسان . والماء رسول الحياة فحيث كان تكون الحياة .
(إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون). . فهنا للعقل مجال للتدبر والتفكير .
(ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره , ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون . وله من في السماوات والأرض كل له قانتون).
وقيام السماء والأرض منتظمة سليمة مقدرة الحركات لا يكون إلا بقدرة من الله وتدبير . وما من مخلوق يملك أن يدعي أنه هو أو سواه يفعل هذا . وما من عاقل يملك أن يقول:إن هذا كله يقع بدون تدبير . وإذن فهي آية من آيات الله أن تقوم السماء والأرض بأمره , ملبية لهذا الأمر , طائعة له , دون انحراف ولا تلكؤ ولا اضطراب .
(ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون). .
ومن يرى هذا التقدير في نظام الكون , وهذه السلطة على مقدراته , لا يشك في تلبية البشر الضعاف لدعوة تصدر إليهم من الخالق القادر العظيم , بالخروج من القبور !
ثم يأتي الإيقاع الأخير ختاما لهذا التقرير ; فإذا كل من في السماوت والأرض من خلائق قانتون لله طائعون .
(وله من في السماوات والأرض كل له قانتون). .
من الاية 27 الى الاية 28
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
ولقد نرى أن الكثيرين من الناس لا قانتين لله ولا عابدين . ولكن هذا التقرير إنما يعني خضوع كل من في السماوات والأرض لإرادة الله ومشيئته التي تصرفهم وفق السنة المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد . فهم محكومون بهذه السنة ولو كانوا عصاة كافرين . إنما تعصى عقولهم وتكفر قلوبهم ولكنهم مع هذا محكومون بالناموس مأخوذون بالسنة , يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت .
ثم يختم تلك الجولة الضخمة الهائلة اللطيفة العميقة بتقرير قضية البعث والقيامة التي يغفل عنها الغافلون:
(وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده - وهو أهون عليه - وله المثل الأعلى في السماوات والأرض , وهو العزيز الحكيم). .
وقد سبق في السورة تقرير البدء والإعادة , وهو يعاد هنا بعد تلك الجولة العريضة ويضاف إليه جديد: (وهو أهون عليه). . وليس شيء أهون على الله ولا أصعب .(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له:كن . فيكون)ولكنه إنما يخاطب الناس بحسب إدراكهم , ففي تقدير الناس أن بدء الخلق أصعب من إعادته , فما بالهم يرون الإعادة عسيرة على الله . وهي في طبيعتها أهون وأيسر ?!
(وله المثل الأعلى في السماوات والأرض). . فهو سبحانه ينفرد في السماوات والأرض بصفاته لا يشاركه فيها أحد , وليس كمثله شيء , إنما هو الفرد الصمد .
(وهو العزيز الحكيم). . العزيز القاهر الذي يفعل ما يريد . الحكيم الذي يدبر الخلق بإحكام وتقدير .
الدرس السادس:28 - 29 ضرب مثل على نفي الشركاء لله
وعندما تنتهي تلك الجولة التي طوف فيها القلب البشري بتلك الآفاق والآماد , والأعماق والأغوار , والظواهر والأحوال , يواجهه سياق السورة بإيقاع جديد:
ضرب لكم مثلا من أنفسكم:هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم . فأنتم فيه سواء , تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ? كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون . .
ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه:جنا أو ملائكة أو أصناما وأشجارا . وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال . ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء من الاعتبار . فيبدو أمرهم عجبا . يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده . و يأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم . ومالهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله . وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير .
وهو يفصل لهم هذا المثل خطوة خطوة: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم)ليس بعيدا عنكم ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره . . (هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ?). . وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شيء من الرزق فضلا على أن يساووهم فيه (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم). . أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار , وتخشون أن يجوروا عليكم , وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم , لأنهم أكفاء لكم وأنداد ? هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص ? وإذا لم يكن شيء من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى ?
وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه , وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون). .
من الاية 29 الى الاية 32
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
وعند هذا الحد من عرض تناقضهم في دعوى الشرك المتهافتة , يكشف عن العلة الأصلية في هذا التناقض المريب:إنه الهوى الذي لا يستند على عقل أو تفكير:
(بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم . فمن يهدي من أضل الله ? وما لهم من ناصرين). .
والهوى لا ضابط له ولا مقياس . إنما هو شهوة النفس المتقلبة ونزوتها المضطربة , ورغباتها ومخاوفها . وآمالها ومطامعها التي لا تستند إلى حق ولا تقف عند حد ولا تزن بميزان . وهو الضلال الذي لا يرجى عمه هدى , والشرود الذي لا ترجى معه أوبة: (فمن يهدي من أضل الله ?)نتيجة لاتباعه هواه ? (وما لهم من ناصرين)يمنعونهم من سوء المصير .
الدرس السابع:30 - 32 الفطرة الإنسانية وتوحيد الله وعبادته
وعند هذا الحد يفرغ من أمر هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم المتقلبة المضطربة ; ويتجه بالخطاب إلى الرسول [ ص ] ليستقيم على دين الله الثابت المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها ; وهو عقيدة واحدة ثابتة لا تتفرق معها السبل كما تفرق المشركون شيعا وأحزابا مع الأهواء والنزوات !
(فأقم وجهك للدين حنيفا . فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله . ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). .
هذا التوجيه لإقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده , وفي موضعه , بعد تلك الجولات في ضمير الكون ومشاهده , وفي أغوار النفس وفطرتها . . يجيء في أوانه وقد تهيأت القلوب المستقيمة الفطرة لاستقباله ; كما أن القلوب المنحرفة قد فقدت كل حجة لها وكل دليل , ووقفت مجردة من كل عدة لها وكل سلاح . . وهذا هو السلطان القوي الذي يصدع به القرآن . السلطان الذي لا تقف له القلوب ولا تملك رده النفوس .
(فأقم وجهك للدين حنيفا). . واتجه إليه مستقيما . فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق , ولا تستمد من علم , إنما تتبع الشهوات , والنزوات بغير ضابط ولا دليل . . أقم وجهك للدين حنيفا مائلا عن كل ما عداه , مستقيما على نهيه دون سواه:
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). . وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين ; وكلاهما من صنع الله ; و كلاهما موافق لناموس الوجود ; وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه . والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف . وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير . والفطرة ثابتة والدين ثابت: (لا تبديل لخلق الله). فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة . فطرة البشر وفطرة الوجود .
ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . . فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم .
والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم , ولو أنه موجه إلى الرسول [ ص ] إلا أن المقصود به جميع المؤمنين . لذلك يستمر التوجيه لهم مفصلا معنى إقامة الوجه للدين:
(منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا . كل حزب بما لديهم فرحون). .
من الاية 33 الى الاية 34
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
فهي الإنابة إلى الله والعودة في كل أمر إليه . وهي التقوى وحساسية الضمير ومراقبة الله في السر والعلانية ; والشعور به عند كل حركة وكل سكنة . وهي إقامة الصلاة للعبادة الخالصة لله . وهي التوحيد الخالص الذي يميز المؤمنين من المشركين . .
ويصف المشركين بأنهم (الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا). . والشرك ألوان وأنماط كثيرة . منهم من يشركون الجن , ومنهم من يشركون الملائكة , ومنهم من يشركون الأجداد والآباء . و منهم من يشركون الملوك والسلاطين . ومنهم من يشركون الكهان والأحبار . ومنهم من يشركون الأشجار والأحجار . ومنهم من يشركون الكواكب والنجوم . ومنهم من يشركون النار . ومنهم من يشركون الليل والنهار . ومنهم من يشركون القيم الزائفة والرغائب والأطماع . ولا تنتهي أنماط الشرك وأشكاله . . و (كل حزب بما لديهم فرحون)بينما الدين القيم واحد لا يتبدل ولا يتفرق , ولا يقود أهله إلا إلى الله الواحد , الذي تقوم السماوات والأرض بأمره , وله من في السماوات والأرض كل له قانتون .
الوحدة الثانية:33 - 60
يمضي هذا الشوط من السورة في مجالها الأصيل . المجال الكوني العام الذي ترتبط به أقدار الناس وأقدار الأحداث ; والذي تتناسق فيه سنن الحياة وسنن الكون وسنن الدين القيم بلا تعارض ولا اصطدام .
وفي هذا الشوط يرسم صورة لتقلب الأهواء البشرية أمام ثبات السنن ; ووهن عقائد الشرك أمام قوة الدين القيم . ويصور نفوس البشر في السراء والضراء وعند قبض الرزق وبسطه , وهي تضطرب في تقديراتها وتصوراتها ما لم تستند إلى ميزان الله الذي لا يضطرب أبدا ; وما لم ترجع إلى قدر الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . وبمناسبة الرزق يوجههم إلى الطريقة التي تنمي المال وتزكيه . الطريقة المتفقة مع النهج القيم والطريق الواصل . ويردهم بهذا إلى معرفة الخالق الرازق الذي يميت ويحيي . أما الشركاء الذين يتخذونهم من دون الله فماذا يفعلون ? وينبههم إلى الفساد الذي تنشئه عقيدة الشرك في كل مكان . كما يوجه الرسول [ ص ] والمسلمين إلى الاستقامة على منهجهم القيم . قبل أن يأتي اليوم الذي لا عمل فيه ولا كسب , ولكن حساب وجزاء عما كانوا يعملون . وفي معرض الحديث عن رزق الله يوجه قلوبهم إلى أنماط من هذا الرزق . منها ما يتعلق بحياتهم المادية كالماء النازل من السماء الذي يحيي الأرض بعد موتها . وتجري الفلك فيه بأمره . ومنها تلك الآيات البينات التي تنزل على الرسول لإحياء موات القلوب والنفوس , ولكنهم لا يهتدون ولا يسمعون . ويطوف بهم في جولة مع أطوار نشأتهم وحياتهم حتى ينتهوا إلى خالقهم , فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون . . ويختم هذا الشوط بتثبيت الرسول [ ص ] وتوجيهه إلى الصبر حتى يتحقق وعد الله الحق اليقين .
الدرس الأول:33 اختلاف موقف معظم الناس في السراء والضراء
(وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه , ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون , ليكفروا بما آتيناهم , فتمتعوا فسوف تعلمون . أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ? وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها , وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون . أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ? إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون). .
إنها صورة للنفس البشرية التي لا تستمد من قيمة ثابتة , ولا تسير على نهج واضح . صورة لها وهي تتأرجح بين الانفعالات الطارئة , والتصورات العارضة , والاندفاعات مع الأحداث والتيارات . فعند مس الضر يذكر الناس ربهم , ويلجأون إلى القوة التي لا عاصم إلا إياها , ولا نجاة إلا بالإنابة إليها . حتى إذا انكشفت الغمة , وانفرجت الشدة , وأذاقهم الله رحمة منه: (إذا فريق منهم بربهم يشركون). . وهو الفريق الذي لا يستند إلى عقيدة صحيحة تهديه إلى نهج مستقيم . ذلك أن الرخاء يرفع عنهم الأضطرار الذي ألجأهم إلى الله ; وينسيهم الشدة التي ردتهم إليه . فيقودهم هذا إلى الكفر بما آتاهم الله من الهدى وما آتاهم من الرحمة , بدلا من الشكر والاستقامة على الإنابة .
وهنا يعاجل هذا الفريق بالتهديد في أشخاص المشركين الذين كانوا يواجهون الرسالة المحمدية , فيوجه إليهم الخطاب , ويحدد أنهم من هذا الفريق الذي يعنيه:
(فتمتعوا فسوف تعلمون). .
وهو تهديد ملفوف , هائل مخيف . وإن الإنسان ليخاف من تهديد حاكم أو رئيس فكيف وهذا التهديد من فاطر هذا الكون الهائل , الذي أنشأه كله بقولة:كن ! (فتمتعوا فسوف تعلمون)!
وبعد هذه المعاجلة بالتهديد الرعيب يعود فيسأل في استنكار عن سندهم في هذا الشرك الذي يجازون به
من الاية 35 الى الاية 37
أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
نعمة الله ورحمته ; وهذا الكفر الذي ينتهون إليه:
(أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ?). .
فإنه لا ينبغي لبشر أن يتلقى شيئا في أمر عقيدته إلا من الله . فهل أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد بهذا الشرك الذي يتخذونه ? وهو سؤال استنكاري تهكمي , يكشف عن تهافت عقيدة الشرك , التي لا تستند إلى حجة ولا تقوم على دليل . ثم هو سؤال تقريري من جانب آخر , يقرر أنه لا عقيدة إلا ما يتنزل من عند الله . وما يأتي بسلطان من عنده . وإلا فهو واهن ضعيف .
ثم يعرض صفحة أخرى من صفحات النفس البشرية في الفرح بالرحمة فرح الخفة والاغترار ; والقنوط من الشدة واليأس من رحمة الله:
(وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها , وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون). .
وهي كذلك صورة للنفس التي لا ترتبط بخط ثابت تقيس إليه أمرها في جميع الأحوال ; وميزان دقيق لا يضطرب مع التقلبات . والناس هنا مقصود بهم أولئك الذين لا يرتبطون بذلك الخط ولا يزنون بهذا الميزان . فهم يفرحون بالرحمة فرح البطر الذي ينسيهم مصدرها وحكمتها , فيطيرون بها , ويستغرقون فيها , ولا يشكرون المنعم , ولا يستيقظون إلى ما في النعمة من امتحان واتبلاء . حتى إذا شاءت إرادة الله أن تأخذهم بعملهم فتذيقهم حالة(سيئة)عموا كذلك عن حكمة الله في الابتلاء بالشدة , وفقدوا كل رجاء في أن يكشف الله عنه الغمة ; وقنطوا من رحمته ويئسوا من فرجه . . وذلك شأن القلوب المنقطعة عن الله , التي لا تدرك سننه ولا تعرف حكمته . أولئك الذين لا يعلمون . يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا !
ويعقب على هذه الصورة بسؤال استنكاري يعجب فيه من أمرهم , وقصر نظرهم وعمى بصيرتهم . فالأمر في السراء والضراء يتبع قانونا ثابتا , ويرجع إلى مشيئة الله سبحانه , فهو الذي ينعم بالرحمة , ويبتلي بالشدة ; ويبسط الرزق ويضيقه وفق سنته , وبمقتضى حكمته . وهذا ما يقع كل آن , ولكنهم هم لا يبصرون:
(أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ?). .
فلا داعي للفرح والبطر عند البسط , ولا لليأس والقنوط عند القبض ; فإنما هي أحوال تتعاور الناس وفق حكمة الله , وفيها للقلب المؤمن دلالة على أن مرد الأمر كله لله , ودلالة على اطراد السنة , وثبات النظام , رغم تقلب الأحوال:
إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . .
الدرس الثاني:38 - 39 المال الرابح والمال الخاسر
وإذا كان الله هو الذي يبسط الرزق ويقبضه ; وهو الذي يعطي ويمنع وفق مشيئته ; فهو يبين للناس الطريق الذي تربو أموالهم فيه وتربح . لا كما يظنون هم , بل كما يهديهم الله:
فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل . ذلك خير للذين يريدون وجه الله ; وأولئك هم المفلحون . وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ; و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون . .
وما دام المال مال الله , أعطاه رزقا لبعض عباده , فالله صاحب المال الأول قد قرر قسما منه لفئات من عباده , يؤديها إليهم من يضع يده على ذلك المال . ومن ثم سماها حقا . ويذكر هنا من هذه الفئات (ذا القربى
من الاية 38 الى الاية 40
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
والمسكين وابن السبيل). ولم تكن الزكاة بعد قد حددت ولا مستحقوها قد حصروا . ولكن المبدأ كان قد تقرر . مبدأ أن المال مال الله , بما أنه هو الرازق به , وأن لفئات من المحتاجين حقا فيه مقررا لهم من صاحب المال الحقيقي , يصل إليهم عن طريق واضع اليد على هذا المال . . . وهذا هو أساس النظرية الإسلامية في المال . وإلى هذا الأساس ترجع جميع التفريعات في النظرية الاقتصادية للإسلام . فما دام المال مال الله , فهو خاضع إذن لكل ما يقرره الله بشأنه بوصفه المالك الأول , سواء في طريقة تملكه أو في طريقة تنميته , أو في طريقة إنفاقه . وليس واضع اليد حرا في أن يفعل به ما يشاء .
وهو هنا يوجه أصحاب المال الذين اختارهم ليكونوا أمناء عليه إلى خير الطرق للتنمية والفلاح . وهي إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل , والإنفاق بصفة عامة في سبيل الله: (ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون). .
وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس , كي ترد عليه الهدية مضاعفة ! فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي: وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله . . هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال . . وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية:
(وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون). .
هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال:إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس . إنما هي إرادة وجه الله . أليس هو الذي يبسط الرزق ويقدر ? أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع ? فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه ; وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس . . ذلك حساب الدينا , وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة . فهي التجارة الرابحة هنا وهناك !
الدرس الثالث:40 - 42 أدلة الوحدانية وتهديد المشركين
ومن زاوية الرزق والكسب يعالج قضية الشرك , وآثارها في حياتهم وفي حياة من قبلهم , ويعرض نهاية المشركين من قبل وعاقبتهم التي تشهد بها آثارهم:
(الله الذي خلقكم , ثم رزقكم , ثم يميتكم ثم يحييكم . هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ? سبحانه وتعالى عما يشركون . ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس , ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون . قل:سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين). .
وهو يواجههم بواقع أمرهم وحقائق حالهم التي لا يملكون أن يماروا في أن الله وحده هو موجدها ; أو التي لا يملكون أن يزعموا أن لآلهتهم المدعاة مشاركة فيها . يواجههم بأن الله هو الذي خلقهم . وأنه هو الذي رزقهم . وأنه هو يميتهم . وأنه هو يحييهم . فأما الخلق فهم يقرون به . وأما الرزق فهم لا يملكون أن يزعموا أن آلهتهم المدعاة ترزقهم شيئا . وأما الإماتة فلا حجة لهم على غير ما يقرره القرآن فيها . بقي الإحياء وكانوا يمارون في وقوعه . وهو يسوقه إليهم ضمن هذه المسلمات ليقرره في وجدانهم بهذه الوسيلة الفريدة , التي تخاطب فطرتهم من وراء الانحراف الذي أصابهم . وما تملك الفطرة أن تنكر أمر البعث والإعادة .
ثم يسألهم: (هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ?)ولا ينتظر جوابا منهم , فهو سؤال للنفي في
من الاية 41 الى الاية 45
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
صورة التقريع غير محتاج إلى جواب ! إنما يعقب عليه بتنزيه الله: (سبحانه وتعالى عما يشركون).
ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم ; وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد , ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد , ويجعله مسيطرا على أقدارها , غالبا عليها:
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس). .
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا , ولا يقع مصادفة ; إنما هو تدبير الله وسنته . . (ليذيقهم بعض الذي عملوا)من الشر والفساد , حينما يكتوون بناره , ويتألمون لما يصيبهم منه: (لعلهم يرجعون)فيعزمون على مقاومة الفساد , ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم .
ويحذرهم في نهاية هذه الجولة أن يصيبهم ما أصاب المشركين قبلهم , وهم يعرفون عاقبة الكثيرين منهم , ويرونها في آثارهم حين يسيرون في الأرض , ويمرون بهذه الآثار في الطريق:
(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين).
وكانت عاقبتهم ما يرون حين يسيرون في الأرض ; وهي عاقبة لا تشجع أحدا على سلوك ذلك الطريق !
الدرس الرابع:43 - 45 دعوة إلى عبادة الله وجزاء العابدين
وعند هذا المقطع يشير إلى الطريق الآخر الذي لا يضل سالكوه , وإلى الأفق الآخر الذي لا يخيب قاصدوه . .
(فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله . يومئذ يصدعون . من كفر فعليه كفره ; ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون . ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله . إنه لا يحب الكافرين).
والصورة التي يعبر بها عن الاتجاه إلى الدين القيم صورة موحية معبرة عن كمال الاتجاه , وجديته , واستقامته:
(فأقم وجهك للدين القيم). . وفيها الاهتمام والانتباه والتطلع , واستشراف الوجهة السامية والأفق العالي والاتجاه السديد .
وقد جاء هذا التوجيه أول مرة في السورة بمناسبة الكلام عن الأهواء المتفرقة والأحزاب المختلفة . أما هنا فيجيء بمناسبة الشركاء , والرزق ومضاعفته , والفساد الناشئ من الشرك , وما يذوقه الناس في الأرض من ظهور الفساد واستعلائه , وعاقبة المشركين في الأرض . يجيء بهذه المناسبة فيبين جزاء الآخرة ونصيب المؤمنين والكافرين فيها ; ويحذرهم من يوم لا مرد له من الله . يوم يتفرقون فريقينمن كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون). .
ويمهد معناها يمهد ويعبد , ويعد المهد الذي فيه يستريح , ويهييء الطريق أو المضجع المريح . وكلها ظلال تتجمع وتتناسق , لتصور طبيعة العمل الصالح ووظيفته . فالذي يعمل العمل الصالح إنما يمهد لنفسه ويهييء أسباب الراحة في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالعمل الصالح لا بعدها . وهذا هو الظل الذي يلقيه التعبير . وذلك: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات). . (من فضله). . فما يستحق أحد من بني آدم الجنة بعمله . وما يبلغ مهما عمل أن يشكر الله على جزء من فضله . إنما هو فضل الله ورحمته بالمؤمنين . وكراهيته سبحانه للكافرين: (إنه لا يحب الكافرين). .
الدرس الخامس:46 - 51 آيات الله ونعمه على الناس بالمطر والزرع والثمر
بعد ذلك يأخذ معهم في جولة أخرى تكشف عن بعض آيات الله , وما فيها من فضل الله ورحمته , فيما يهبهم من رزق وهدى ينزل عليهم , فيعرفون بعضه وينكرون بعضه . ثم لا يشكرون ولا يهتدون .
من الاية 46 الى الاية 47
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
(ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات , وليذيقكم من رحمته , ولتجري الفلك بأمره , ولتبتغوا من فضله , ولعلكم تشكرون . ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات , فانتقمنا من الذين أجرموا , وكان حقا علينا نصر المؤمنين . الله الذي يرسل الرياح , فتثير سحابا , فيبسطه في السماء كيف يشاء , ويجعله كسفا , فترى الودق يخرج من خلاله , فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون . وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين . فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها . إن ذلك لمحيي الموتى , وهو على كل شيء قدير . ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون). .
إنه يجمع في هذه الآيات بين إرسال الرياح مبشرات , وإرسال الرسل بالبينات , ونصر المؤمنين بالرسل , وإنزال المطر المحيي , وإحياء الموتى وبعثهم . . وهو جمع له مغزاه . . إنها كلها من رحمة الله , وكلها تتبع سنة الله . وبين نظام الكون , ورسالات الرسل بالهدى , ونصر المؤمنين , صلة وثيقة . وكلها من آيات الله . ومن نعمته ورحمته , وبها تتعلق حياتهم , وهي مرتبطة كلها بنظام الكون الأصيل .
(ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات). . تبشر بالمطر . وهم يعرفون الريح الممطرة بالخبرة والتجربة فيستبشرون بها . (وليذيقكم من رحمته)بآثار هذه البشرى من الخصب والنماء . (ولتجري الفلك بأمره)سواء بدفع الرياح لها ; أو بتكوين الأنهار من الأمطار فتجري السفن فيها . وهي تجري - مع هذا - بأمر الله . ووفق سنته التي فطر عليها الكون ; وتقديره الذي أودع كل شيء خاصيته ووظيفته , وجعل من شأن هذا أن تخف الفلك على سطح الماء فتسير , وأن تدفعها الرياح فتجري مع التيار وضد التيار . وكل شيء عنده بمقدار . . (ولتبتغوا من فضله)في الرحلات التجارية , وفي الزرع والحصاد , وفي الأخذ والعطاء . وكله من فضل الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . (ولعلكم تشكرون)على نعمة الله في هذا كله . . وهذا توجيه إلى ما ينبغي أن يقابل به العباد نعمة الله الوهاب .
ومثل إرسال الرياح مبشرات إرسال الرسل بالبينات:
ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات . .
ولكن الناس لم يستقبلوا رحمة الله هذه - وهي أجل وأعظم - استقبالهم للرياح المبشرات . ولا انتفعوا بها - وهي أنفع وأدوم - انتفاعهم بالمطر والماء ! ووقفوا تجاه الرسل فريقين:مجرمين لا يؤمنون ولا يتدبرون ولا يكفون عن إيذاء الرسل والصد عن سبيل الله . و مؤمنين يدركون آيات الله , ويشكرون رحمته , ويثقون بوعده , ويحتملون من المجرمين ما يحتملون . . ثم كانت العاقبة التي تتفق مع عدل الله ووعده الوثيق .
(فانتقمنا من الذين أجرموا . وكان حقا علينا نصر المؤمنين). .
وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين ; وجعله لهم حقا , فضلا وكرما . وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكا ولا ريبا . وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر , القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير . يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد , وسنته التي لا تتخلف , وناموسه الذي يحكم الوجود .
وقد يبطئ هذا النصر أحيانا - في تقدير البشر - لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله , ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله . والله هو الحكيم الخبير . يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه , وفق مشيئته وسنته . وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف . ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح . ووعده القاطع واقع عن يقين , يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الروم ايه48 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الروم ايه رقم و1 \\\6
» تفسير سورة الروم ايه 6\\\\\16
» تفسير سورة الروم ايه 42\\\51
» تفسير سورة الروم ايه 33\\\42
» تفسير سورة الروم ايه رقم و1 \\\6
» تفسير سورة الروم ايه 6\\\\\16
» تفسير سورة الروم ايه 42\\\51
» تفسير سورة الروم ايه 33\\\42
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى