تفسير سورة العنكبوت ايه21 الى ابه 44 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة العنكبوت ايه21 الى ابه 44 الشيخ سيد قطب
من الاية 21 الى الاية 24
يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
والعذاب والرحمة يتبعان مشيئة الله ; من حيث أنه بين طريق الهدى وطريق الضلال ; وخلق للإنسان من الاستعداد ما يختار به هذا أو ذاك , ويسر له الطريقين سواء , وهو بعد ذلك , وما يختار غير أن اتجاهه إلى الله ورغبته في هداه , ينتهيان به إلى عون الله له - كما كتب على نفسه - وإعراضه عن دلائل الهدى وصده عنها يؤديان به إلى الإنقطاع والضلال . ومن ثم تكون الرحمة ويكون العذاب .
من الاية 25 الى الاية 27
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار . فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم للمعجزة الواضحة . فإذا هو يجبههم بحقيقة أمرهم , قبل أن يعتزلهم جميعا:
(وقال:إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا , ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض , ويلعن بعضكم بعضا , ومأواكم النار , وما لكم من ناصرين). .
إنه يقول لهم:إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله , لا اعتقادا واقتناعا بأحقية هذه العبادة ; إنما يجامل بعضكم بعضا , ويوافق بعضكم بعضا , على هذه العبادة ; ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة صاحبه - حين يظهر الحق له - استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة ! وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد , فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة ; ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه ! وهي الجد كل الجد . الجد الذي لا يقبل تهاونا ولا استرخاء ولا استرضاء .
ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة . فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على العقيدة , والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليه . . إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام:
(ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا). .
يوم يتنكر التابعون للمتبوعين , ويكفر الأولياء بالأولياء , ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله , ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه !
ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئا , ولا يدفع عن أحد عذابا:
(ومأواكم النار وما لكم من ناصرين). .
النار التي أرادوا أن يحرقوه بها , فنصره الله منها ونجاه . فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة !
وانتهت دعوة إبراهيم لقومه , والمعجزة التي لا شك فيها . انتهت هذه وتلك بإيمان فرد واحد غير امرأته هو لوط . ابن أخيه فيما تذكر بعض الروايات . وهاجر معه من أور الكلدانيين في العراق , إلى ما وراء الأردن حيث استقر بهما المقام:
(فآمن له لوط , وقال:إني مهاجر إلى ربي , إنه هو العزيز الحكيم). .
ونقف أمام قولة لوط: (إني مهاجر إلى ربي). . لنرى فيم هاجر . إنه لم يهاجر للنجاة . ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة . إنما هاجر إلى ربه . هاجر متقربا له ملتجئا إلى حماه . هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه . هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره , بعيدا عن موطن الكفر والضلال . بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال .
وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله - عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته . وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة:
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب . وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب . وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين).
وهو فيض من العطاء جزيل , يتجلى فيه رضوان الله سبحانه على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته , والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار , فكان كل شيء من حوله بردا وسلاما , وعطفا وإنعاما . جزاء وفاقا .
(وإليه تقلبون). .
تعبير عن المآب فيه عنف , يناسب المعنى بعده:
(وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء). .
فليس لكم من قوة في هذا الوجود تمتنعون بها من الانقلاب إلى الله . لا من قوتكم في الأرض , ولا من قوة ما تعبدونه أحيانا من الملائكة والجن وتحسبون له قوة في السماء .
(وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير). .
وأين من دون الله الولي والنصير ? أين الولي والنصير من الناس ? أو من الملائكة والجن ? وكلهم عباد من خلق الله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فوق أن يملكوا لسواهم شيئا ?
(والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم). .
ذلك أنه لا ييأس الإنسان من رحمة الله إلا حين يكفر قلبه , وينقطع ما بينه وبين ربه . وكذلك هو لا يكفر إلا وقد يئس من اتصال قلبه بالله , وجفت نداوته , ولم يعد له إلى رحمة الله سبيل . والعاقبة معروفة: (وأولئك لهم عذاب أليم). .
الدرس الرابع 24 - 27 عناد الكفار لدرجة قتل أنبيائهم وطلبهم حرق إبراهيم
وبعد هذا الخطاب المعترض في ثنايا القصة , الذي جاء خطابا لكل منكر لدعوة الإيمان ولقوم إبراهيم ضمنا . . بعد هذا الخطاب يعود لبيان جواب قوم إبراهيم , فيبدو هذا الجواب غربيا عجيبا , ويكشف عن تبجح الكفر والطغيان , بما يملك من قوة ومن سلطان:
(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:اقتلوه أو حرقوه . فأنجاه الله من النار . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون). .
اقتلوه أو حرقوه . . ردا على تلك الدعوة الواضحة البسيطة المرتبة التي خاطب بها قلوبهم وعقولهم على النحو الذي بينا قيمته في عرض الدعوات .
وإذ أن الطغيان أسفر عن وجهه الكالح ; ولم يكن إبراهيم - عليه السلام - يملك له دفعا , ولا يستطيع منه وقاية . وهو فرد أعزل لا حول له ولا طول . فهنا تتدخل القدرة سافرة كذلك . تتدخل بالمعجزة الخارقة لمألوف البشر:
(فأنجاه الله من النار). .
وكان في نجاته من النار على النحو الخارق الذي تمت به آية لمن تهيأ قلبه للإيمان . ولكن القوم لم يؤمنوا على الرغم من هذه الآية الخارقة , فدل هذا على أن الخوارق لا تهدي القلوب , إنما هوالاستعداد للهدى والإيمان:
إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون . .
الآية الأولى هي تلك النجاة من النار . والآية الثانية هي عجز الطغيان عن إيذاء رجل واحد يريد الله له النجاة . والآية الثالثة هي أن الخارقة لا تهدي القلوب الجاحدة ذلك لمن يريد أن يتدبر تاريخ الدعوات , وتصريف القلوب , وعوامل الهدى والضلال .
من الاية 28 الى الاية 30
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
الدرس الخامس:28 - 35 لقطات من قصة قوم لوط ودمارهم
ثم تأتي قصة لوط عقب قصة إبراهيم , بعد ما هاجر إلى ربه مع إبراهيم , فنزلا بوادي الأردن ; ثم عاش لوط وحده في إحدى القبائل على ضفاف البحر الميت أو بحيرة لوط كما سميت فيما بعد . وكانت تسكن مدينة سدوم . وصار لوط منهم بالصهر والمعيشة .
ثم حدث أن فشا في القوم شذوذ عجيب , يذكر القرآن أنه يقع لأول مرة في تاريخ البشرية . ذلك هو الميل الجنسي المنحرف إلى الذكور بدلا من الإناث اللاتي خلقهن الله للرجال , لتتكون من الجنسين وحدات طبيعية منتجة تكفل امتداد الحياة بالنسل وفق الفطرة المطردة في جميع الأحياء . إذ خلقها الله أزواجا:ذكرانا وإناثا . فلم يقع الشذوذ والانحراف إلى الجنس المماثل قبل قوم لوط هؤلاء:
(ولوطا إذ قال لقومه:إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين . أئنكم لتأتون الرجال , وتقطعون السبيل , وتأتون في ناديكم المنكر . فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين . قال:رب انصرني على القوم المفسدين).
ومن خطاب لوط لقومه يظهر أن الفساد قد استشرى فيهم بكل ألوانه . فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين:
يأتون الرجال . وهي فاحشة شاذة قذرة تدل على انحراف الفطرة وفسادها من أعماقها . فالفطرة قد تفسد بتجاوز حد الاعتدال والطهارة مع المرأة , فتكون هذه الجريمة فاحشة , ولكنها داخلة في نطاق الفطرة ومنطقها . فأما ذلك الشذوذ الآخر فهو انخلاع من فطرة الأحياء جميعا . وفساد في التركيب النفسي والتركيب العضوي سواء . فقد جعل الله لذة المباشرة الجنسية بين الزوجين متناسقة مع خط الحياة الأكبر , وامتداده بالنسل الذي ينشأ عن هذه المباشرة . وجهز كيان كل من الزوجين بالإستعداد للإلتذاذ بهذه المباشرة , نفسيا وعضويا , وفقا لذلك التناسق , فأما المباشرة الشاذة فلا هدف لها , ولم يجهز الله الفطرة بالتذاذها تبعا لانعدام الهدف منها . فإذا وجد فيها أحد لذة فمعنى هذا أنه انسلخ نهائيا من خط الفطرة , وعاد مسخا لا يرتبط بخط الحياة !
ويقطعون السبيل , فينهبون المال , ويروعون المارة , ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرها . وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى , إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض . .
ويأتون في ناديهم المنكر . يأتونه جهارا وفي شكل جماعي متفق عليه , لا يخجل بعضهم من بعض . وهي درجة أبعد في الفحش , وفساد الفطرة , والتبجح بالرذيلة إلى حد لا يرجى معه صلاح !
والقصة هنا مختصرة , وظاهر أن لوطا أمرهم في أول الأمر ونهاهم بالحسنى ; وأنهم أصروا على ما هم فيه , فخوفهم عذاب الله , وجبههم بشناعة جرائمهم الكبرى:
(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين). .
فهو التبجح في وجه الإنذار , والتحدي المصحوب بالتكذيب , والشرود الذي لا تنتظر منه أوبة . وقد أعذر إليهم رسولهم فلم يبق إلا أن يتوجه إلى ربه طالبا نصره الأخير:
(قال:رب انصرني على القوم المفسدين). .
وهنا يسدل الستار على دعاء لوط , ليرفع عن الاستجابة . و في الطريق يلم الملائكة المكلفون بالتنفيذ بإبراهيم , يبشرونه بولد صالح من زوجه التي كانت من قبل عقيما:
ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا:إنا مهلكو أهل هذه القرية , إن أهلها كانوا ظالمين . قال:إن
من الاية 31 الى الاية 37
وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
فيها لوطا . قالوا:نحن أعلم بمن فيها , لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين). .
وهذا المشهد . مشهد الملائكة مع إبراهيم . مختصر في هذا الموضع لأنه ليس مقصودا ; قد سبق في قصة إبراهيم أن الله وهب له إسحاق ويعقوب ; وولادة اسحاق هي موضوع البشرى , ومن ثم لم يفصل قصتها هنا لأن الغرض هو إتمام قصة لوط . فذكر أن مرور الملائكة بإبراهيم كان للبشرى . ثم أخبروه بمهمتهم الأولى: إنا مهلكوا أهل هذه القرية . إن أهلها كانوا ظالمين . .
وأدركت إبراهيم رقته ورأفته , فراح يذكر الملائكة أن في هذه القرية لوطا ; وهو صالح وليس بظالم !
وأجابه الرسل بما يطمئنه من ناحيته , ويكشف له عن معرفتهم بمهمتهم وأنهم أولى بهذه المعرفة !
(قالوا:نحن أعلم بمن فيها ; لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين). .
وقد كان هواها مع القوم , تقر جرائمهم وانحرافهم , وهو أمر عجيب .
وينتقل إلى مشهد ثالث . مشهد لوط وقد جاء إليه الملائكة في هيئة فتية صباح ملاح ; وهو يعلم شنشنة قومه , وما ينتظر ضيوفه هؤلاء منهم من سوء لا يملك له دفعا . فضاق صدره وساءه حضورهم إليه , في هذا الظرف العصيب:
(ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا). .
ويختصر هنا هجوم القوم على الضيوف , ومحاورة لوط لهم , وهم في سعار الشذوذ المريض . . ويمضي إلى النهاية الأخيرة . إذ يكشف له الرسل عن حقيقتهم , ويخبرونه بمهمتهم , وهو في هذا الكرب وذلك الضيق:
(وقالوا:لا تخف ولا تحزن . إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين . إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون). .
وترسم هذه الآية مشهد التدمير الذي أصاب القرية وأهلها جميعا - إلا لوطا وأهله المؤمنين - وقد كان هذا التدمير بأمطار وأحجار ملوثة بالطين . ويغلب أنها ظاهرة بركاينة قلبت المدينة وابتلعتها ; وأمطرت عليها هذا المطر الذي يصاحب البراكين .
وما تزال آثار هذا التدمير باقية تحدث عن آيات الله لمن يعقلها ويتدبرها من القرون:
(ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون). .
وكان هذا هو المصير الطبيعي لهذه الشجرة الخبيثة التي فسدت وأنتنت , فلم تعد صالحة للإثمار وللحياة . ولم تعد تصلح إلا للاجتثاث والتحطيم .
الدرس السادس:36 - 37 إشارة إلى قصة مدين
ثم إشارة إلى قصة شعيب ومدين:
(وإلى مدين أخاهم شعيبا , فقال:يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر , ولا تعثوا في الأرض مفسدين . فكذبوه فأخذتهم الرجفة , فأصبحوا في دارهم جاثمين). .
وهي إشارة تبين وحدة الدعوة , ولباب العقيدة: (اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر). وعبادة الله الواحد هي قاعدة العقيدة . ورجاء اليوم الآخر كفيل بتحويلهم عما كانوا يرجونه في هذه الحياة الدنيا من الكسب المادي الحرام بالتطفيف في الكيل والميزان , وغصب المارين بطريقهم للتجارة , وبخس الناس أشياءهم , والإفساد في الأرض , والاستطالة على الخلق .
المن الاية 38 الى الاية 39
وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
وفي اختصار يذكر انتهاء أمرهم إلى تكذيب رسولهم ; وأخذهم بالهلاك والتدمير , على سنة الله في أخذ المكذبين .
(فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين). .
وقد تقدم بيان الرجفة التي زلزلت عليهم بلادهم ورجتها بعد الصيحة المدوية التي أسقطت قلوبهم وتركتهم مصعوقين حيث كانوا في دارهم لا يتحركون . فأصبحوا فيها جاثمين . جزاء ما كانوا يروعون الناس وهم يخرجون عليهم مغيرين صائحين !
الدرس السابع:38 إشارة إلى عاد وثمود
وإشارة كذلك إلى مصرع عاد وثمود:
(وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم ; وزين لهم الشيطان أعمالهم , فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين). .
وعاد كانت تسكن بالأحقاف في جنوب الجزيرة بالقرب من حضرموت , وثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة بالقرب من وادي القرى . وقد هلكت عاد بريح صرصر عاتية , وهلكت ثمود بالصيحة المزلزلة . وبقيت مساكنها معروفة للعرب يمرون عليها في رحلتي الشتاء والصيف , ويشهدون آثار التدمير , بعد العز والتمكين .
وهذه الإشارة المجملة تكشف عن سر ضلالهم , وهو سر ضلال الآخرين .
(وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين).
فقد كانت لهم عقول , وكانت أمامهم دلائل الهدى ; ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم . وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة , وهي غرورهم بأنفسهم , وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال , وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع . (فصدهم عن السبيل)سبيل الدى الواحد المؤدي إلى الإيمان . وضيع عليهم الفرصة (وكانوا مستبصرين)يملكون التبصر , وفيهم مدارك ولهم عقول .
الدرس الثامن:39 إشارة إلى فرعون وآله
وإشارة إلى قارون وفرعون وهامان . (ولقد جاءهم موسى بالبينات , فاستكبروا في الأرض , وما كانوا سابقين). .
وقارون كان من قوم موسى فبغى عليهم بثروته وعلمه , ولم يستمع نصح الناصحين بالإحسان والاعتدال والتواضع وعدم البغي والفساد . وفرعون كان طاغية غشوما , يرتكب أبشع الجرائم وأغلظها , ويسخر الناس ويجعلهم شيعا , ويقتل ذكور بني إسرائيل ويستحيي نساءهم عتوا وظلما . وهامان كان وزيره المدبر لمكائده , المعين له على ظلمه وبطشه .
(ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض). .
فلم يعصمهم الثراء والقوة والدهاء . لم تعصمهم من أخذ الله , ولم تجعلهم ناجين ولا مفلتين من عذاب الله , بل أدركهم وأخذهم كما سيجيء .
(وما كانوا سابقين). .
الدرس التاسع:40 مصارع الأقوام السابقين
هؤلاء الذين ملكوا القوة والمال وأسباب البقاء والغلبة , قد أخذهم الله جميعا . بعد ما فتنوا الناس وآذوهم طويلا:
من الاية 40 الى الاية 40
فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
(فكلا أخذنا بذنبه , فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا , ومنهم من أخذته الصيحة , ومنهم من خسفنا به الأرض , ومنهم من أغرقنا . وما كان الله ليظلمهم , ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
فعاد أخذهم حاصب وهو الريح الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم , وثمود أخذتهم الصيحة . وقارون خسف به وبداره الأرض , وفرعون وهامان غرقا في اليم . وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم . (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). .
الدرس العاشر 41 ولاية غير الله والعنكبوت
والآن . وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون . . والآن . وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء . . الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال . . إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله . وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن , من تعلق به أو احتمى , فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية . فهي وما تحتمي به سواء:
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا , وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون . إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهوالعزيز الحكيم . وتلك الأمثال نضربها للناس , وما يعقلها إلا العالمون . .
إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود . الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا , فيسوء تقديرهم لجميع القيم , ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات , وتختل في أيديهم جميع الموازين . ولا يعرفون إلى أين يتوجهون . ماذا يأخذون وماذا يدعون ?
وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض , فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم , ويخشونها ويفزعون منها , ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها , أو يضمنوا لأنفسهم حماها !
وتخدعهم قوة المال , يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة . ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ; ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون !
وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال , وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول , ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب !
وتخدعهم هذه القوى الظاهرة . تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول , فيدورون حولها , ويتهافتون عليها , كما يدور الفراش على المصباح , وكما يتهافت الفراش على النار !
وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة , وتملكها , وتمنحها , وتوجهها , وتسخرها كما تريد , حيثما تريد . وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد , أو الجماعات , أو الدول . . كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت . . . حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو , ولا وقاية لها من بيتها الواهن .
وليس هنالك إلا حماية الله , وإلا حماه , وإلا ركنه القوي الركين .
هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة , فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها ; وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون .
من الاية 41 الى الاية 44
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44)
لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس , وعمرت كل قلب , واختلطت بالدم , وجرت معه في العروق , ولم تعد كملة تقال باللسان , ولا قضية تحتاج إلى جدل . بل بديهة مستقرة في النفس , لا يجول غيرها في حس ولا خيال .
قوة الله وحدها هي القوة . وولاية الله وحدها هي الولاية . وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل ; مهما علا واستطال , ومهما تجبر وطغى , ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل .
إنها العنكبوت:وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).
وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى , وللإغراء والإغواء . لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة , وهم يواجهون القوى المختلفة . هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم . وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم . . وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله , وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة , وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير .
إن الله يعلم ما يدعون من دونه شيء . .
إنهم يستعينون بأولياء يتخذونهم من دون الله والله يعلم حقيقة هؤلاء الأولياء . وهي الحقيقة التي صورت في المثل السابق . . عنكبوت تحتمي بخيوط العنكبوت !
(وهو العزيز الحكيم). .
هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبر لهذا الوجود .
(وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون). .
فلقد اتخذها جماعة من المشركين المغلقي القلوب والعقول مادة للسخرية والتهكم . وقالوا:إن رب محمد يتحدث عن الذباب والعنكبوت . ولم يهز مشاعرهم هذا التصوير العجيب لأنهم لا يعقلون ولا يعلمون: (وما يعقلها إلا العالمون). .
الدرس الحادي عشر:42 خلق الله الكون بالحق
ثم يربط تلك الحقيقة الضخمة التي قدمها بالحق الكبير في تصميم هذا الكون كله على طريقة القرآن في ربط كل حقيقة بذلك الحق الكبير:
(خلق الله السماوات والأرض بالحق . إن في ذلك لآية للمؤمنين). .
وهكذا تجيء هذه الآية عقب قصص الأنبياء , وعقب المثل المصور لحقيقة القوى في الوجود , متناسقة معها مرتبطة بها , بتلك الصلة الملحوظة . صلة الحقائق المتناثرة كلها بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض ; والذي قامت به السماوات والأرض , في ذلك النظام الدقيق الذي لا يتخلف ولا يبطئ ولا يختلف ولا يصدم بعضه بعضا , لأنه حق متناسق لا عوج فيه !
(إن في ذلك لآية للمؤمنين). .
الذين تتفتح قلوبهم لآيات الله الكونية المبثوثة في تضاعيف هذا الكون وحناياه , المشهودة في تنسيقه وتنظيمه , المنثورة في جوانبه حيثما امتدت الأبصار . والمؤمنون هم الذين يدركونها , لأنهم مفتوحو البصائر والمشاعر للتلقي والإدراك .
يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
والعذاب والرحمة يتبعان مشيئة الله ; من حيث أنه بين طريق الهدى وطريق الضلال ; وخلق للإنسان من الاستعداد ما يختار به هذا أو ذاك , ويسر له الطريقين سواء , وهو بعد ذلك , وما يختار غير أن اتجاهه إلى الله ورغبته في هداه , ينتهيان به إلى عون الله له - كما كتب على نفسه - وإعراضه عن دلائل الهدى وصده عنها يؤديان به إلى الإنقطاع والضلال . ومن ثم تكون الرحمة ويكون العذاب .
من الاية 25 الى الاية 27
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار . فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم للمعجزة الواضحة . فإذا هو يجبههم بحقيقة أمرهم , قبل أن يعتزلهم جميعا:
(وقال:إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا , ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض , ويلعن بعضكم بعضا , ومأواكم النار , وما لكم من ناصرين). .
إنه يقول لهم:إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله , لا اعتقادا واقتناعا بأحقية هذه العبادة ; إنما يجامل بعضكم بعضا , ويوافق بعضكم بعضا , على هذه العبادة ; ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة صاحبه - حين يظهر الحق له - استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة ! وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد , فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة ; ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه ! وهي الجد كل الجد . الجد الذي لا يقبل تهاونا ولا استرخاء ولا استرضاء .
ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة . فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على العقيدة , والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليه . . إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام:
(ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا). .
يوم يتنكر التابعون للمتبوعين , ويكفر الأولياء بالأولياء , ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله , ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه !
ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئا , ولا يدفع عن أحد عذابا:
(ومأواكم النار وما لكم من ناصرين). .
النار التي أرادوا أن يحرقوه بها , فنصره الله منها ونجاه . فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة !
وانتهت دعوة إبراهيم لقومه , والمعجزة التي لا شك فيها . انتهت هذه وتلك بإيمان فرد واحد غير امرأته هو لوط . ابن أخيه فيما تذكر بعض الروايات . وهاجر معه من أور الكلدانيين في العراق , إلى ما وراء الأردن حيث استقر بهما المقام:
(فآمن له لوط , وقال:إني مهاجر إلى ربي , إنه هو العزيز الحكيم). .
ونقف أمام قولة لوط: (إني مهاجر إلى ربي). . لنرى فيم هاجر . إنه لم يهاجر للنجاة . ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة . إنما هاجر إلى ربه . هاجر متقربا له ملتجئا إلى حماه . هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه . هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره , بعيدا عن موطن الكفر والضلال . بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال .
وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله - عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته . وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة:
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب . وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب . وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين).
وهو فيض من العطاء جزيل , يتجلى فيه رضوان الله سبحانه على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته , والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار , فكان كل شيء من حوله بردا وسلاما , وعطفا وإنعاما . جزاء وفاقا .
(وإليه تقلبون). .
تعبير عن المآب فيه عنف , يناسب المعنى بعده:
(وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء). .
فليس لكم من قوة في هذا الوجود تمتنعون بها من الانقلاب إلى الله . لا من قوتكم في الأرض , ولا من قوة ما تعبدونه أحيانا من الملائكة والجن وتحسبون له قوة في السماء .
(وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير). .
وأين من دون الله الولي والنصير ? أين الولي والنصير من الناس ? أو من الملائكة والجن ? وكلهم عباد من خلق الله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فوق أن يملكوا لسواهم شيئا ?
(والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم). .
ذلك أنه لا ييأس الإنسان من رحمة الله إلا حين يكفر قلبه , وينقطع ما بينه وبين ربه . وكذلك هو لا يكفر إلا وقد يئس من اتصال قلبه بالله , وجفت نداوته , ولم يعد له إلى رحمة الله سبيل . والعاقبة معروفة: (وأولئك لهم عذاب أليم). .
الدرس الرابع 24 - 27 عناد الكفار لدرجة قتل أنبيائهم وطلبهم حرق إبراهيم
وبعد هذا الخطاب المعترض في ثنايا القصة , الذي جاء خطابا لكل منكر لدعوة الإيمان ولقوم إبراهيم ضمنا . . بعد هذا الخطاب يعود لبيان جواب قوم إبراهيم , فيبدو هذا الجواب غربيا عجيبا , ويكشف عن تبجح الكفر والطغيان , بما يملك من قوة ومن سلطان:
(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:اقتلوه أو حرقوه . فأنجاه الله من النار . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون). .
اقتلوه أو حرقوه . . ردا على تلك الدعوة الواضحة البسيطة المرتبة التي خاطب بها قلوبهم وعقولهم على النحو الذي بينا قيمته في عرض الدعوات .
وإذ أن الطغيان أسفر عن وجهه الكالح ; ولم يكن إبراهيم - عليه السلام - يملك له دفعا , ولا يستطيع منه وقاية . وهو فرد أعزل لا حول له ولا طول . فهنا تتدخل القدرة سافرة كذلك . تتدخل بالمعجزة الخارقة لمألوف البشر:
(فأنجاه الله من النار). .
وكان في نجاته من النار على النحو الخارق الذي تمت به آية لمن تهيأ قلبه للإيمان . ولكن القوم لم يؤمنوا على الرغم من هذه الآية الخارقة , فدل هذا على أن الخوارق لا تهدي القلوب , إنما هوالاستعداد للهدى والإيمان:
إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون . .
الآية الأولى هي تلك النجاة من النار . والآية الثانية هي عجز الطغيان عن إيذاء رجل واحد يريد الله له النجاة . والآية الثالثة هي أن الخارقة لا تهدي القلوب الجاحدة ذلك لمن يريد أن يتدبر تاريخ الدعوات , وتصريف القلوب , وعوامل الهدى والضلال .
من الاية 28 الى الاية 30
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
الدرس الخامس:28 - 35 لقطات من قصة قوم لوط ودمارهم
ثم تأتي قصة لوط عقب قصة إبراهيم , بعد ما هاجر إلى ربه مع إبراهيم , فنزلا بوادي الأردن ; ثم عاش لوط وحده في إحدى القبائل على ضفاف البحر الميت أو بحيرة لوط كما سميت فيما بعد . وكانت تسكن مدينة سدوم . وصار لوط منهم بالصهر والمعيشة .
ثم حدث أن فشا في القوم شذوذ عجيب , يذكر القرآن أنه يقع لأول مرة في تاريخ البشرية . ذلك هو الميل الجنسي المنحرف إلى الذكور بدلا من الإناث اللاتي خلقهن الله للرجال , لتتكون من الجنسين وحدات طبيعية منتجة تكفل امتداد الحياة بالنسل وفق الفطرة المطردة في جميع الأحياء . إذ خلقها الله أزواجا:ذكرانا وإناثا . فلم يقع الشذوذ والانحراف إلى الجنس المماثل قبل قوم لوط هؤلاء:
(ولوطا إذ قال لقومه:إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين . أئنكم لتأتون الرجال , وتقطعون السبيل , وتأتون في ناديكم المنكر . فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين . قال:رب انصرني على القوم المفسدين).
ومن خطاب لوط لقومه يظهر أن الفساد قد استشرى فيهم بكل ألوانه . فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين:
يأتون الرجال . وهي فاحشة شاذة قذرة تدل على انحراف الفطرة وفسادها من أعماقها . فالفطرة قد تفسد بتجاوز حد الاعتدال والطهارة مع المرأة , فتكون هذه الجريمة فاحشة , ولكنها داخلة في نطاق الفطرة ومنطقها . فأما ذلك الشذوذ الآخر فهو انخلاع من فطرة الأحياء جميعا . وفساد في التركيب النفسي والتركيب العضوي سواء . فقد جعل الله لذة المباشرة الجنسية بين الزوجين متناسقة مع خط الحياة الأكبر , وامتداده بالنسل الذي ينشأ عن هذه المباشرة . وجهز كيان كل من الزوجين بالإستعداد للإلتذاذ بهذه المباشرة , نفسيا وعضويا , وفقا لذلك التناسق , فأما المباشرة الشاذة فلا هدف لها , ولم يجهز الله الفطرة بالتذاذها تبعا لانعدام الهدف منها . فإذا وجد فيها أحد لذة فمعنى هذا أنه انسلخ نهائيا من خط الفطرة , وعاد مسخا لا يرتبط بخط الحياة !
ويقطعون السبيل , فينهبون المال , ويروعون المارة , ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرها . وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى , إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض . .
ويأتون في ناديهم المنكر . يأتونه جهارا وفي شكل جماعي متفق عليه , لا يخجل بعضهم من بعض . وهي درجة أبعد في الفحش , وفساد الفطرة , والتبجح بالرذيلة إلى حد لا يرجى معه صلاح !
والقصة هنا مختصرة , وظاهر أن لوطا أمرهم في أول الأمر ونهاهم بالحسنى ; وأنهم أصروا على ما هم فيه , فخوفهم عذاب الله , وجبههم بشناعة جرائمهم الكبرى:
(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين). .
فهو التبجح في وجه الإنذار , والتحدي المصحوب بالتكذيب , والشرود الذي لا تنتظر منه أوبة . وقد أعذر إليهم رسولهم فلم يبق إلا أن يتوجه إلى ربه طالبا نصره الأخير:
(قال:رب انصرني على القوم المفسدين). .
وهنا يسدل الستار على دعاء لوط , ليرفع عن الاستجابة . و في الطريق يلم الملائكة المكلفون بالتنفيذ بإبراهيم , يبشرونه بولد صالح من زوجه التي كانت من قبل عقيما:
ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا:إنا مهلكو أهل هذه القرية , إن أهلها كانوا ظالمين . قال:إن
من الاية 31 الى الاية 37
وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
فيها لوطا . قالوا:نحن أعلم بمن فيها , لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين). .
وهذا المشهد . مشهد الملائكة مع إبراهيم . مختصر في هذا الموضع لأنه ليس مقصودا ; قد سبق في قصة إبراهيم أن الله وهب له إسحاق ويعقوب ; وولادة اسحاق هي موضوع البشرى , ومن ثم لم يفصل قصتها هنا لأن الغرض هو إتمام قصة لوط . فذكر أن مرور الملائكة بإبراهيم كان للبشرى . ثم أخبروه بمهمتهم الأولى: إنا مهلكوا أهل هذه القرية . إن أهلها كانوا ظالمين . .
وأدركت إبراهيم رقته ورأفته , فراح يذكر الملائكة أن في هذه القرية لوطا ; وهو صالح وليس بظالم !
وأجابه الرسل بما يطمئنه من ناحيته , ويكشف له عن معرفتهم بمهمتهم وأنهم أولى بهذه المعرفة !
(قالوا:نحن أعلم بمن فيها ; لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين). .
وقد كان هواها مع القوم , تقر جرائمهم وانحرافهم , وهو أمر عجيب .
وينتقل إلى مشهد ثالث . مشهد لوط وقد جاء إليه الملائكة في هيئة فتية صباح ملاح ; وهو يعلم شنشنة قومه , وما ينتظر ضيوفه هؤلاء منهم من سوء لا يملك له دفعا . فضاق صدره وساءه حضورهم إليه , في هذا الظرف العصيب:
(ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا). .
ويختصر هنا هجوم القوم على الضيوف , ومحاورة لوط لهم , وهم في سعار الشذوذ المريض . . ويمضي إلى النهاية الأخيرة . إذ يكشف له الرسل عن حقيقتهم , ويخبرونه بمهمتهم , وهو في هذا الكرب وذلك الضيق:
(وقالوا:لا تخف ولا تحزن . إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين . إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون). .
وترسم هذه الآية مشهد التدمير الذي أصاب القرية وأهلها جميعا - إلا لوطا وأهله المؤمنين - وقد كان هذا التدمير بأمطار وأحجار ملوثة بالطين . ويغلب أنها ظاهرة بركاينة قلبت المدينة وابتلعتها ; وأمطرت عليها هذا المطر الذي يصاحب البراكين .
وما تزال آثار هذا التدمير باقية تحدث عن آيات الله لمن يعقلها ويتدبرها من القرون:
(ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون). .
وكان هذا هو المصير الطبيعي لهذه الشجرة الخبيثة التي فسدت وأنتنت , فلم تعد صالحة للإثمار وللحياة . ولم تعد تصلح إلا للاجتثاث والتحطيم .
الدرس السادس:36 - 37 إشارة إلى قصة مدين
ثم إشارة إلى قصة شعيب ومدين:
(وإلى مدين أخاهم شعيبا , فقال:يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر , ولا تعثوا في الأرض مفسدين . فكذبوه فأخذتهم الرجفة , فأصبحوا في دارهم جاثمين). .
وهي إشارة تبين وحدة الدعوة , ولباب العقيدة: (اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر). وعبادة الله الواحد هي قاعدة العقيدة . ورجاء اليوم الآخر كفيل بتحويلهم عما كانوا يرجونه في هذه الحياة الدنيا من الكسب المادي الحرام بالتطفيف في الكيل والميزان , وغصب المارين بطريقهم للتجارة , وبخس الناس أشياءهم , والإفساد في الأرض , والاستطالة على الخلق .
المن الاية 38 الى الاية 39
وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
وفي اختصار يذكر انتهاء أمرهم إلى تكذيب رسولهم ; وأخذهم بالهلاك والتدمير , على سنة الله في أخذ المكذبين .
(فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين). .
وقد تقدم بيان الرجفة التي زلزلت عليهم بلادهم ورجتها بعد الصيحة المدوية التي أسقطت قلوبهم وتركتهم مصعوقين حيث كانوا في دارهم لا يتحركون . فأصبحوا فيها جاثمين . جزاء ما كانوا يروعون الناس وهم يخرجون عليهم مغيرين صائحين !
الدرس السابع:38 إشارة إلى عاد وثمود
وإشارة كذلك إلى مصرع عاد وثمود:
(وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم ; وزين لهم الشيطان أعمالهم , فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين). .
وعاد كانت تسكن بالأحقاف في جنوب الجزيرة بالقرب من حضرموت , وثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة بالقرب من وادي القرى . وقد هلكت عاد بريح صرصر عاتية , وهلكت ثمود بالصيحة المزلزلة . وبقيت مساكنها معروفة للعرب يمرون عليها في رحلتي الشتاء والصيف , ويشهدون آثار التدمير , بعد العز والتمكين .
وهذه الإشارة المجملة تكشف عن سر ضلالهم , وهو سر ضلال الآخرين .
(وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين).
فقد كانت لهم عقول , وكانت أمامهم دلائل الهدى ; ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم . وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة , وهي غرورهم بأنفسهم , وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال , وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع . (فصدهم عن السبيل)سبيل الدى الواحد المؤدي إلى الإيمان . وضيع عليهم الفرصة (وكانوا مستبصرين)يملكون التبصر , وفيهم مدارك ولهم عقول .
الدرس الثامن:39 إشارة إلى فرعون وآله
وإشارة إلى قارون وفرعون وهامان . (ولقد جاءهم موسى بالبينات , فاستكبروا في الأرض , وما كانوا سابقين). .
وقارون كان من قوم موسى فبغى عليهم بثروته وعلمه , ولم يستمع نصح الناصحين بالإحسان والاعتدال والتواضع وعدم البغي والفساد . وفرعون كان طاغية غشوما , يرتكب أبشع الجرائم وأغلظها , ويسخر الناس ويجعلهم شيعا , ويقتل ذكور بني إسرائيل ويستحيي نساءهم عتوا وظلما . وهامان كان وزيره المدبر لمكائده , المعين له على ظلمه وبطشه .
(ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض). .
فلم يعصمهم الثراء والقوة والدهاء . لم تعصمهم من أخذ الله , ولم تجعلهم ناجين ولا مفلتين من عذاب الله , بل أدركهم وأخذهم كما سيجيء .
(وما كانوا سابقين). .
الدرس التاسع:40 مصارع الأقوام السابقين
هؤلاء الذين ملكوا القوة والمال وأسباب البقاء والغلبة , قد أخذهم الله جميعا . بعد ما فتنوا الناس وآذوهم طويلا:
من الاية 40 الى الاية 40
فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
(فكلا أخذنا بذنبه , فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا , ومنهم من أخذته الصيحة , ومنهم من خسفنا به الأرض , ومنهم من أغرقنا . وما كان الله ليظلمهم , ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
فعاد أخذهم حاصب وهو الريح الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم , وثمود أخذتهم الصيحة . وقارون خسف به وبداره الأرض , وفرعون وهامان غرقا في اليم . وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم . (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). .
الدرس العاشر 41 ولاية غير الله والعنكبوت
والآن . وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون . . والآن . وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء . . الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال . . إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله . وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن , من تعلق به أو احتمى , فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية . فهي وما تحتمي به سواء:
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا , وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون . إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهوالعزيز الحكيم . وتلك الأمثال نضربها للناس , وما يعقلها إلا العالمون . .
إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود . الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا , فيسوء تقديرهم لجميع القيم , ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات , وتختل في أيديهم جميع الموازين . ولا يعرفون إلى أين يتوجهون . ماذا يأخذون وماذا يدعون ?
وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض , فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم , ويخشونها ويفزعون منها , ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها , أو يضمنوا لأنفسهم حماها !
وتخدعهم قوة المال , يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة . ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ; ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون !
وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال , وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول , ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب !
وتخدعهم هذه القوى الظاهرة . تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول , فيدورون حولها , ويتهافتون عليها , كما يدور الفراش على المصباح , وكما يتهافت الفراش على النار !
وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة , وتملكها , وتمنحها , وتوجهها , وتسخرها كما تريد , حيثما تريد . وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد , أو الجماعات , أو الدول . . كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت . . . حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو , ولا وقاية لها من بيتها الواهن .
وليس هنالك إلا حماية الله , وإلا حماه , وإلا ركنه القوي الركين .
هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة , فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها ; وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون .
من الاية 41 الى الاية 44
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44)
لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس , وعمرت كل قلب , واختلطت بالدم , وجرت معه في العروق , ولم تعد كملة تقال باللسان , ولا قضية تحتاج إلى جدل . بل بديهة مستقرة في النفس , لا يجول غيرها في حس ولا خيال .
قوة الله وحدها هي القوة . وولاية الله وحدها هي الولاية . وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل ; مهما علا واستطال , ومهما تجبر وطغى , ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل .
إنها العنكبوت:وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).
وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى , وللإغراء والإغواء . لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة , وهم يواجهون القوى المختلفة . هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم . وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم . . وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله , وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة , وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير .
إن الله يعلم ما يدعون من دونه شيء . .
إنهم يستعينون بأولياء يتخذونهم من دون الله والله يعلم حقيقة هؤلاء الأولياء . وهي الحقيقة التي صورت في المثل السابق . . عنكبوت تحتمي بخيوط العنكبوت !
(وهو العزيز الحكيم). .
هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبر لهذا الوجود .
(وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون). .
فلقد اتخذها جماعة من المشركين المغلقي القلوب والعقول مادة للسخرية والتهكم . وقالوا:إن رب محمد يتحدث عن الذباب والعنكبوت . ولم يهز مشاعرهم هذا التصوير العجيب لأنهم لا يعقلون ولا يعلمون: (وما يعقلها إلا العالمون). .
الدرس الحادي عشر:42 خلق الله الكون بالحق
ثم يربط تلك الحقيقة الضخمة التي قدمها بالحق الكبير في تصميم هذا الكون كله على طريقة القرآن في ربط كل حقيقة بذلك الحق الكبير:
(خلق الله السماوات والأرض بالحق . إن في ذلك لآية للمؤمنين). .
وهكذا تجيء هذه الآية عقب قصص الأنبياء , وعقب المثل المصور لحقيقة القوى في الوجود , متناسقة معها مرتبطة بها , بتلك الصلة الملحوظة . صلة الحقائق المتناثرة كلها بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض ; والذي قامت به السماوات والأرض , في ذلك النظام الدقيق الذي لا يتخلف ولا يبطئ ولا يختلف ولا يصدم بعضه بعضا , لأنه حق متناسق لا عوج فيه !
(إن في ذلك لآية للمؤمنين). .
الذين تتفتح قلوبهم لآيات الله الكونية المبثوثة في تضاعيف هذا الكون وحناياه , المشهودة في تنسيقه وتنظيمه , المنثورة في جوانبه حيثما امتدت الأبصار . والمؤمنون هم الذين يدركونها , لأنهم مفتوحو البصائر والمشاعر للتلقي والإدراك .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة السجدة ايه رقم واحد الى ايه21 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة العنكبوت ايه 1 الى ايه 20 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة العنكبوت ايه45 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الفرقان ايه21\\\\33
» تفسير ة سورة العنكبوت ايه 31\\\39
» تفسير سورة العنكبوت ايه 1 الى ايه 20 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة العنكبوت ايه45 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الفرقان ايه21\\\\33
» تفسير ة سورة العنكبوت ايه 31\\\39
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى