تفسير سورة النور ايه رقم 1 الى ايه لى الاية 12 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة النور ايه رقم 1 الى ايه لى الاية 12 الشيخ سيد قطب
من الاية 1 الى الاية 2
سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
التعريف بالسورة هذه سورة النور . . يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله: (الله نور السماوات والأرض)ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ; ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة . وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية , تنير القلب , وتنير الحياة , ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح , وإشراق في القلوب , وشفافية في الضمائر , مستمدة كلها من ذلك النور الكبير .
وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف , ومن آدابوأخلاقسورة أنزلناها وفرضناها , وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). . فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة ; ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية , وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية . .
والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود . وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة , التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة . والهدف واحد في الشدة واللين . هو تربية الضمائر , واستجاشة المشاعر ; ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة , حتى تشف وترف , وتتصل بنور الله . . وتتداخل الآداب النفسية الفردية , وآداب البيت والأسرة , وآداب الجماعة والقيادة . بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله , متصلة كلها بنور واحد هو نور الله . وهي في صميمها نور وشفافية , وإشراق وطهارة . تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض . نور الله الذي أشرقت به الظلمات . في السماوات والأرض , والقلوب والضمائر , والنفوس والأرواح .
ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط:
الأول يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به ; ويليه بيان حد الزنا , وتفظيع هذه الفعلة , وتقطيع ما بين الزناة والجماعة المسلمة , فلا هي منهم ولا هم منها . ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه ; واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة . ثم حديث الإفك وقصته . . وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات , ومشاكلة الطيبين للطيبات . وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء .
ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة , وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية . فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها , والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم . والحض على إنكاح الأيامي . والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء . . وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور , ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية , وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين , وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية .
والشوط الثالث يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة , فيربطها بنور الله . ويتحدث عن أطهر البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت الله . . وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان الكاذب ; أو كظلمات بعضها فوق بعض . ثم يكشف عن فيوض من نور الله في الآفاق:في تسبيح الخلائق كلها لله . وفي إزجاء السحاب . وفي تقليب الليل والنهار . وفي خلق كل دابة من ماء , ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها , مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار . .
والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله [ ص ] في الطاعة والتحاكم . ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم . ويعدهم , على هذا , الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين , والنصر على الكافرين .
ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء . وإلى آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة , مع رئيسها ومربيها - رسول الله [ ص ] .وتتم السورة بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض , وعلمه بواقع الناس , وما تنطوي عليه حناياهم , ورجعتهم إليه , وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم . وهو بكل شيء عليم .
والآن نأخذ في التفصيل .
الدرس الأول:1 طبيعة السورة وأحكامها
(سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). .
مطلع فريد في القرآن كله . الجديد فيه كلمة(فرضناها)والمقصود بها - فيما نعلم - توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة , والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات , فتذكرهم بها تلك الآيات البينات , وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين .
الدرس الثاني:2 - 10 حد الزنا والقذف والملاعنة
ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا ; وتفظيع هذه الفعلة , التي تقطع ما بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات:
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ; ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله - إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر - وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ; وحرم ذلك على المؤمنين). .
كان حد الزانيين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساءواللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا). . فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعبير . وكان حد الرجل الأذى بالتعبير .
ثم أنزل الله حد الزنا في سورة النور . فكان هذا هو(السبيل)الذي أشارت إليه من قبل آية النساء .
والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء . وهو الذي لم يحصن بالزواج . ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا عاقلا حرا . فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم .
وقد ثبت الرجم بالسنة . وثبت الجلد بالقرآن . ولما كان النص القرآني مجملا وعاما . وكان رسول الله [ ص ] قد رجم الزانيين المحصنين , فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن .
وهناك خلاف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن . والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد والرجم . كما أن هناك خلافا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده . وحول حد الزاني غير الحر . . وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا , يطلب في موضعه من كتب الفقه . . إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع . فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد , وعقوبة المحصن هي الرجم . ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح - وهو مسلم حر بالغ - قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه , فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته وانحرافها , فهو جدير بتشديد العقوبة , بخلاف البكر الغفل الغر , الذي قد يندفع تحت ضغط الميل وهو غرير . . وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل . فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر . فهو حري بعقوبة كذلك أشد .
والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده - كما سلف - فيشدد في الأخذ به , دون تسامح ولا هوادة:
من الاية 3 الى الاية 5
الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة , ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله . إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).
فهي الصرامة في إقامة الحد ; وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما , وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته , تراخيا في دين الله وحقه . وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين , فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين .
ثم يزيد في تفظيع الفعلة وتبشيعها , فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة:
(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك . وحرم ذلك على المؤمنين). .
وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون . إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان . وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة ; لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز . حتى لقد ذهب الإمام أحمد إلى تحريم مثل هذا الرباط بين زان وعفيفة , وبين عفيف وزانية ; إلا أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر . وعلى أية حال فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية , ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني ; واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد: (وحرم ذلك على المؤمنين). . وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة .
ورد في سبب نزول هذه الآية أن رجلا يقال له:مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة . وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها:عناق . وكانت صديقة له . وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله . قال:فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة . قال:فجاءت عناق , فأبصرت سواد ظل تحت الحائط . فلما انتهت إلي عرفتني . فقالت:مرثد ? فقلت:مرثد ! فقالت:مرحبا وأهلا . هلم فبت عندنا الليلة:قال:فقلت:يا عناق حرم الله الزنا . فقالت:يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم . قال:فتبعني ثمانية , ودخلت الحديقة . فانتهيت إلى غار أو كهف , فدخلت , فجاءوا حتى قاموا على رأسي , فبالوا , فظل بولهم على رأسي , فأعماهم الله عني . قال:ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته ; وكان رجلا ثقيلا ; حتى انتهيت إلى الإذخر ; ففككت عنه أحبله , فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة ; فأتيت رسول الله [ ص ] فقلت:يا رسول الله أنكح عناقا ? - مرتين - فأمسك رسول الله [ ص ] فلم يرد علي شيئا حتى نزلت(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك , وحرم ذلك على المؤمنين)فقال رسول الله [ ص ]:" يا مرثد . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة . فلا تنكحها " .
فهذه الرواية تفيد تحريم نكاح المؤمن للزانية ما لم تتب , ونكاح المؤمنة للزاني كذلك . وهو ما أخذ به الإمام أحمد . ورأى غيره غير رأيه . والمسألة خلافية تطلب في كتب الفقه . وعلى أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها عن الجماعة المسلمة ; وتقطع ما بينه وبينها من روابط . وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعا !
والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها . فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول , ولا خير لهم في كبتها أو قتلها . ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله في كيانهم , وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر , يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة , وعمارة الأرض , التي استخلف فيها هذا الإنسان .
إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد , أو لا تهدف إلى إقامة بيت , وبناء عش , وإنشاء حياة مشتركة , لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة ! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية , التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين , وبتعبير شامل التقاء إنسانين , تربط بينهما حياة مشتركة , وآمال مشتركة , وآلام مشتركة , ومستقبل مشترك , يلتقي في الذرية المرتقبة , ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك , الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان .
من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية , تذهب بكل هذه المعاني , وتطيح بكل هذه الأهداف ; وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا , لا يفرق بين أنثى وأنثى , ولا بين ذكر وذكر . مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة . فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة , وليس وراءها عمارة في الأرض , وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج ! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية , لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار . وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المتقطع , الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها , وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان !
إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ; إنما ينظمها ويطهرها , ويرفعها عن المستوى الحيواني , ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية . فأما الزنا - وبخاصة البغاء - فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية , والأشواق العلوية ; ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل ; ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان , بل أشد غلظا من الحيوان . ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة , في حياة زوجية منظمة , بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا - وبخاصة البغاء - في بعض بيئات الإنسان !
دفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا . . ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن هذه الجريمة , من اختلاط الأنساب , وإثارة الأحقاد , وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة . . . وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة . ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية , ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس , والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد . . هذا السبب هو الأهم في اعتقادي . وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى .
على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل , ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها . فالإسلام منهج حياة متكامل , لا يقوم على العقوبة ; إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة . ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر .
وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق . .
فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله [ ص ]: ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطى ء في العفو خير من أن يخطى ء في العقوبة لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل . أو اعترافا لا شبهة في صحته .
وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية لا تردع أحدا , لأنها غير قابلة للتطبيق . ولكن الإسلام - كما ذكرنا - لا يقيم بناءه على العقوبة , بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة ; وعلى تهذيب النفوس , وتطهير الضمائر ; وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب , فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة . ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة , الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود . أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية . وقد جاء كل منهما يطلب من النبي [ ص ] أن يطهره بالحد , ويلح في ذلك , على الرغم من إعراض النبي مرارا ; حتى بلغ الإقرار أربع مرات . ولم يعد بد من إقامة الحد , لأنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها . والرسول [ ص ] يقول:" تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب "
فإذا وقع اليقين , وبلغ الأمر إلى الحاكم , فقد وجب الحد ولا هوادة , ولا رأفة في دين الله . فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة , وعلى الآداب الإنسانية , وعلى الضمير البشري . وهي رأفة مصطنعة . فالله أرأف بعباده . وقد اختار لهم . وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم . والله أعلم بمصالح العباد , وأعرف بطبائعهم , فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية ; فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا , وتفسد فيها الفطرة , وترتكس في الحمأة , وتنتكس إلى درك البهيمة الأولى . .
والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة , وتطهير الجو الذي تعيش فيه . والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة - كما قلنا - إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة .
لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة . ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة ; فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد:
(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا . وأولئك هم الفاسقون). .
إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات - وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا - بدون دليل قاطع , يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء ; ثم يمضي آمنا ! فتصبح الجماعة وتمسي , وإذا أعراضها مجرحة , وسمعتها ملوثة ; وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام ; وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه , وكل رجل فيها شاك في أصله , وكل بيت فيها مهدد بالانهيار . . وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق .
ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث ;
من الاية 6 الى الاية 9
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ (7) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
وأن الفعلة فيها شائعة ; فيقدم عليها من كان يتحرج منها , وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها , وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها !
ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه ; والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء .
لهذا , وصيانة للأعراض من التهجم , وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم . . شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف , فجعلها قريبة من عقوبة الزنا . . ثمانين جلدة . . مع إسقاط الشهادة , والوصم بالفسق . . والعقوبة الأولى جسدية . والثانية أدبية في وسط الجماعة ; ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة , وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام ! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم . . ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل , أو بثلاثة معه إن كان قد رآه . فيكون قوله إذن صحيحا . ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة .
والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه , وعدم التحرج من الإذاعة به , وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها , ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة . وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء ; وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت .
وتظل العقوبات التي توقع على القاذف , بعد الحد , مصلتة فوق رأسه , إلا أن يتوب:
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم). .
وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء:هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها , فيرفع عنه وصف الفسق , ويظل مردود الشهادة ? أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة . . فذهب الأئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته , وارتفع عنه حكم الفسق . وقال الإمام أبو حنيفة:إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة , فيرتفع الفسق بالتوبة , ويبقى مردود الشهادة . وقال الشعبي والضحاك:لا تقبل شهادته , وإن تاب , إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف ; فحينئذ تقبل شهادته .
وأنا أختار هذا الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف . وبذلك يمحي آخر أثر للقذف . ولا يقال:إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الأدلة ! ولا يحيك في أي نفس ممن سمعوا الاتهام أنه ربما كان صحيحا ; ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود . . بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما , ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية ; فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان .
ذلك حكم القذف العام . ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته . فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات . والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه . لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص:
(والذين يرمون أزواجهم , ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم . فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين , والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين , والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم). .
من الاية 10 الى الاية 10
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج , يناسب دقة الحالة وحرج الموقف . ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته ; وليس له من شاهد إلا نفسه . فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا , ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . وتمسى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد . فإذا فعل أعطاها قدر مهرها , وطلقت منه طلقة بائنة , وحق عليها حد الزنا وهو الرجم . . ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ; وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة . . بذلك يدرأ عنها الحد , وتبين من زوجها بالملاعنة ; ولا ينسب ولدها - إن كانت حاملا - إليه بل إليها . ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد . .
وقد عقب على هذا التخفيف والتيسير , ومراعاة الأحوال والظروف بقوله:
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته , وأن الله تواب حكيم). .
ولم يبين ما الذي كان يكون لولا فضل الله ورحمته بمثل هذه التيسيرات , وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب . . لم يبينه ليتركه مجملا مرهوبا , يتقيه المتقون . والنص يوحي بأنه شر عظيم .
وقد وردت روايات صحيحة في سبب نزول هذا الحكم:
روى الإمام أحمد - يإسناده - عن ابن عباس قال:لما نزلت: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار - رضي الله عنه -:أهكذا أنزلت يا رسول الله ? فقال رسول الله [ ص ]:" يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ? " فقالوا:يا رسول الله لا تلمه , فإنه رجل غيور . والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا , وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته . . فقال سعد:والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق , وأنها من الله ; ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء . فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته . . قال:فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية , فجاء من أرضه عشاء , فوجد عند أهله رجلا , فرأى بعينيه , وسمع بأذنيه , فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله [ ص ] فقال:يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء , فوجدت عندها رجلا , فرأيت بعيني وسمعت بأذني . . فكره رسول الله [ ص ] ما جاء به ; واشتد عليه ; واجتمعت عليه الأنصار وقالوا:قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة , إلا أن يضرب رسول الله [ ص ] هلال بن أمية , ويبطل شهادته في الناس . فقال هلال:والله إني لأرجو أن يجعل الله منها مخرجا . وقال هلال:يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به , والله يعلم إني لصادق . . فوالله إن رسول الله [ ص ] يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسول الله [ ص ] الوحي . وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه . [ يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي ] فنزلت: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله . . . الآية فسري عن رسول الله [ ص ] فقال:" أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " . . فقال هلال:قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . فقال رسول الله [ ص ]:" أرسلوا إليها " فأرسلوا إليها فجاءت ; فتلاها رسول الله [ ص ] عليهما , فذكرهما , وأخبرهما أنعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا . فقال هلال:والله يا رسول الله لقد صدقت عليها . فقالت:كذب . فقال رسول الله [ ص ]:" لاعنوا بينهما " . . فقيل لهلال:اشهد . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . فلما كانت الخامسة قيل له:يا هلال اتق الله , فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة , وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فقال:والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها . فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . . ثم قيل للمرأة . اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . وقيل لها عند الخامسة:اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف . ثم قالت:والله لا أفضح قومي . فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . . ففرق رسول الله [ ص ] بينهما ; وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ; ولا يرمي ولدها ; ومن رمى ولدها فعليه الحد ; وقضى أن لا بيت لها عليه , ولا قوت لها , من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها . وقال:" إن جاءت به , أصهيب أريسح حمش الساقين فهو لهلال . . وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو الذي رميت به " . . فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين . فقال رسول الله [ ص ]:" لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " . .
وهكذا جاء هذا التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل , وعلاج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين , قد اشتد على رسول الله [ ص ] ولم يجد منه مخرجا , حتى طفق يقول لهلال بن أمية - كما ورد في رواية البخاري - " البينة أو حد في ظهرك " وهلال يقول:يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ?
ولقد يقول قائل:أليس الله - سبحانه - يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف ; فلماذا لم ينزل الله الاستثناء إلا بعد ذلك الموقف المحرج ?
والجواب:بلى إنه سبحانه ليعلم . ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه , فتستقبله نفوس الناس باللهفة إليه , وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة . ومن ثم عقب عليه بقولهولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم).
ونقف قليلا أمام هذه الواقعة , لنرى كيف صنع الإسلام , وكيف صنعت تربية رسول الله [ ص ] للناس لهذا القرآن . . كيف صنع هذا بالنفس العربية الغيور الشديدة الانفعال , المتحمسة التي لا تفكر
من الاية 11 الى الاية 12
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)
13 قصة الافك طويلا قبل الاندفاع . فهذا حكم ينزل بعقوبة القذف , فيشق على هذه النفوس . يشق عليها حتى ليسأل سعد ابن عبادة رسول الله [ ص ] أهكذا أنزلت يا رسول الله ? يسأل هذا السؤال وهو مستيقن أنها هكذا أنزلت . ولكنه يعبر بهذا السؤال عن المشقة التي يجدها في نفسه من الخضوع لهذا الحكم في حالة معينة في فراشه . وهو يعبر عن مرارة هذا التصور بقوله:" والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق . وأنها من الله ; ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ? فوالله إني لا آتي بهم حتى يكون قد قضى حاجته" !
وما يلبث هذا التصور المرير الذي لا يطيقه سعد بن عبادة في خياله . . ما يلبث أن يتحقق . . فهذا رجل يرى بعينيه ويسمع بأذنيه , ولكنه يجد نفسه محجوزا بحاجز القرآن ; فيغلب مشاعره , ويغلب وراثاته , ويغلب منطق البيئة العربية العنيف العميق ; ويكبح غليان دمه , وفوران شعوره , واندفاع أعصابه . . ويربط على هذا كله في انتظار حكم الله وحكم رسول الله [ ص ] وهو جهد شاق مرهق ; ولكن التربية الإسلامية أعدت النفوس لاحتماله كي لا يكون حكم إلا لله , في ذات الأنفس وفي شؤون الحياة .
كيف أمكن أن يحدث هذا ? لقد حدث لأنهم كانوا يحسون أن الله معهم , وأنهم في كنف الله , وأن الله يرعاهم , ولا يكلفهم عنتا ولا رهقا , ولا يتركهم عندما يتجاوز الأمر طاقتهم , ولا يظلمهم أبدا . كانوا يعيشون دائما في ظل الله , يتنفسون من روح الله , ويتطلعون إليه دائما كما يتطلع الأطفال إلى العائل الكافل الرحيم . . فها هو ذا هلال بن أمية يرى بعينيه ويسمع بأذنيه , وهو وحده ; فيشكو إلى رسول الله [ ص ] فلا يجد رسول الله [ ص ] مناصا من تنفيذ حد الله , وهو يقول له:" البينة . أو حد في ظهرك " ولكن هلال بن أمية لا يتصور أن الله تاركه للحد , وهو صادق في دعواه . فإذا الله ينزل ذلك الاستثناء في حالة الأزواج ; فيبشر رسول الله [ ص ] هلالا به ; فإذا هو يقول قولة الواثق المطمئن:قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . . فهو الاطمئنان إلى رحمة الله ورعايته وعدله . والاطمئنان أكثر إلى أنه معهم , وأنهم ليسوا متروكين لأنفسهم ; إنما هم في حضرته , وفي كفالته . . وهذا هو الإيمان الذي راضهم على الطاعة والتسليم والرضى بحكم الله .
الدرس الثالث:11 - 18 استنكار موقف بعض المسلمين من الإفك
وبعد الانتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف , يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ; وهو يتناول بيت النبوة الطاهرة الكريم , وعرض رسول الله [ ص ] أكرم إنسان على الله , وعرض صديقه الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - أكرم إنسان على رسول الله [ ص ] وعرض رجل من الصحابة - صفوان بن المعطل رضي الله عنه - يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرا . . وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان . .
ذلك هو حديث الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع:
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم , بل هو خير لكم . لكل امرى ء منهم ما اكتسب من الإثم , والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا , وقالوا:هذا إفك مبين . لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم . إذ تلقونه بألسنتكم , وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ; وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم . ولولا إذ سمعتموه قلتم:ما يكونلنا أن نتكلم بهذا . سبحانك ! هذا بهتان عظيم . يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة , والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم . يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر , ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ; ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم . ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله . وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم . والله غفور رحيم . إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة , ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق , ويعلمون أن الله هو الحق المبين . الخبيثات للخبيثين , والخبيثون للخبيثات , والطيبات للطيبين , والطيبون للطيبات , أولئك مبرأون مما يقولون , لهم مغفرة ورزق كريم). .
هذا الحادث . حادث الإفك . قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق ; وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ; وعلق قلب رسول الله [ ص ] وقلب زوجة عائشة التي يحبها , وقلب أبي بكر الصديق وزوجه , وقلب صفوان بن المعطل . . شهرا كاملا . علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق .
فلندع عائشة - رضي الله عنها - تروي قصة هذا الألم , وتكشف عن سر هذه الآيات:
عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:
كان رسول الله [ ص ] إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه , فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ; وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي , فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب , وأنا أحمل في هودج , وأنزل فيه . فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله [ ص ] من غزوته تلك , وقفل , ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ; فقمت حين آذنوا بالرحيل , حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل , فلمست صدري , فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع , فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ; وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني , فاحتملوا هودجي , فرحلوه على بعيري , وهم يحسبون أني فيه ; وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ; وإنما نأكل العلقة من الطعام ; فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج , فحملوه ; وكنت جارية حديثة السن ; فبعثوا الجمل وساروا , فوجدت عقدي , بعدما استمر الجيش , فجئت منزلهم , وليس فيه أحد منهم , فتيممت منزلي الذي كنت فيه , وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ; فبينما أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت . وكان صفوان بن المعطل السلمي . ثم الذكواني . قد عرس وراء الجيش , فأدلج , فأصبح عند منزلي ; فرأى سواد إنسان نائم , فأتاني فعرفني حين رآني . وكان يراني قبل الحجاب . فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني , فخمرت وجهي بجلبابي ; والله ما يكلمني بكلمة , ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ; وهوى حتى أناخ راحلته , فوطى ء على يديها , فركبتها , فانطلق يقود بي الراحلة , حتى أتينا الجيش , بعد ما نزلوا معرسين .
قالت:فهلك في شأني من هلك . وكان الذي تولى كبرالإثم عبد الله بن أبي بن سلول ; فقدمنا المدينة , فاشتكيت بها شهرا ; والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر . وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي [ ص ] اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي , إنما يدخل فيسلم ثم يقول:كيف تيكم ? ثم ينصرف . فذلك الذي يريبني منه , ولا أشعر بالشر حتى نقهت , فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف , وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط . فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه , وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشي . فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت:تعس مسطح ! فقلت لها:بئسما قلت . أتسبين رجلا شهد بدرا ? فقالت:يا هنتاه ألم تسمعي ما قال ? فقلت:وما قال ? فأخبرتني بقول أهل الإفك , فازددت مرضا إلى مرضي . فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله [ ص ] فقال:كيف تيكم ? فقلت:ائذن لي أن آتي أبوي . وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما . فأذن لي , فأتيت أبوي , فقلت لأمي:يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ? فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن , فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . فقلت:سبحان الله ! ولقد تحدث الناس بهذا ? قالت:فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله [ ص ] علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله . قالت:فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله , وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم . فقال أسامة:هم أهلك يا رسول الله , ولا نعلم والله إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال:يا رسول الله لم يضيق الله عليك , والنساء سواها كثير , وسل الجارية تخبرك . قالت:فدعا رسول الله [ ص ] بريرة فقال لها:أي بريرة . هل رأيت فيها شيئا يريبك ? فقالت:لا والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها , فتأتي الداجن فتأكله . قالت:فقام رسول الله [ ص ] من يومه , واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول . فقال وهو على المنبر:من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ? فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا , وما كان يدخل على أهلي إلا معي . قالت:فقام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال:يا رسول الله أنا والله أعذرك منه . إن كان من الأوس ضربنا عنقه , وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام سعد بن عبادة - رضي الله عنه - وهو سيد الخزرج , وكان رجلا صالحا ولكن أخذته الحمية . فقال لسعد بن معاذ:كذبت لعمر الله , لا تقتله ولا تقدر على ذلك . فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة:كذبت - لعمر الله - لنقتلنه , فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيان - الأوسوالخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا , ورسول الله [ ص ] على المنبر , فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل .
وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع , ولا أكتحل بنوم . ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . فأصبح أبواي عندي , وقد بكيت ليلتين ويوما , حتى أظن أن البكاء فالق كبدي . فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار , فأذنت لها , فجلست تبكي معي . فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله [ ص ] , ثم جلس , ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها , وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء , فتشهد حين جلس , ثم قال:" أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا . فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى , وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه , فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه " . فلما قضى رسول الله [ ص ] مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة . فقلت لأبي:أجب عني رسول الله [ ص ] فيما قال . قال:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] فقلت لأمي:أجيبي عني رسول الله [ ص ] فيما قال . قالت:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] . قالت:وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن . فقلت:إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به , واستقر في نفوسكم , وصدقتم به . فلئن قلت لكم:إني بريئة لا تصدقوني بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة , لتصدقنني . فوالله مما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال:"فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون" . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي , وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة , وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى ; ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى ; ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ ص ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها . فوالله ما رام مجلسه , ولا خرج أحد من أهل البيت , حتى أنزل الله تعالى على نبيه [ ص ] فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء , فسري عنه , وهو يضحك , فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي:يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك . فقالت لي أمي:قومي إلى رسول الله [ ص ] فقلت:والله لا أقوم إليه , ولا أحمد إلا الله تعالى , هو الذي أنزل براءتي . فأنزل الله تعالى: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . . . العشر الآيات فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره:والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة . . إلى قوله (والله غفور رحيم)فقال أبو بكر - رضي الله عنه - بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي , فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه , وقال:والله لا أنزعها منه أبدا . قالت عائشة رضي الله عنها:وكان رسول الله [ ص ] سأل زينب بنت جحش عن أمري , فقال:" يا زينب . ما علمت وما رأيت ? " فقالت:يا رسول الله أحمي سمعي وبصري , والله ما علمت عليها إلا خيرا . وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي [ ص ] فعصمها الله تعالى بالورع . قالت:فطفقت أختها حمنة تحارب لها , فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .
وهكذا عاش رسول الله [ ص ] وأهل بيته . وعاش أبو بكر - رضي الله عنه - وأهل بيته . وعاش صفوان بن المعطل . وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق , وفي ظل تلك الآلام الهائلة , بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات .
وإن الإنسان ليقف متململا أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول [ ص ] وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة . وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة . تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيقة .
فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة . ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها , ونظافة تصوراتها , ها هي ذي ترمي في أعز ما تعتز به . ترمى في شرفها . وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع . وترمى في أمانتها . وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم . وترمى في وفائها . وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القرب الكبير . . ثم ترمى في إيمانها . وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام , من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة . وهي زوج رسول الله [ ص ] .
ها هي ذي ترمى , وهي بريئة غارة غافلة , لا تحتاط لشيء , ولا تتوقع شيئا ; فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله , وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا , تبرئها مما رميت به . ولكن الوحي يتلبث , لحكمة يريدها الله , شهرا كاملا ; وهي في مثل هذا العذاب .
ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح . وهي مهدودة من المرض . فتعاودها الحمى ; وهي تقول لأمها في أسى:سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ? وفي رواية أخرى تسأل:وقد علم به أبي ? فتجيب أمها:نعم ! فتقول:ورسول الله [ ص ] ? - فتجيبها أمها كذلك:نعم !
ويا لله لها ورسول الله [ ص ] نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه , يقول لها:" أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا ; فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى , وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه , فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه " . . فتعلم أنه شاك فيها , لا يستيقن من طهارتها , ولا يقضي في تهمتها . وربه لم يخبره بعد , ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها ; فتمسي وتصبح وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها , وأحلها في سويدائه !
وها هو ذا أبو بكر الصديق - في وقاره وحساسيته وطيب نفسه - يلذعه الألم , وهو يرمى في عرضه . في ابنته زوج محمد - صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه , ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل , لا يطلب دليلا من خارجه . . وإذا الألم يفيض على لسانه , وهو الصابر المحتسب القوي على الألم , فيقول:والله ما رمينا بهذا في جاهلية . أفنرضى به في الإسلام ? وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل . حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة:أجب عني رسول الله [ ص ] قال في مرارة هامدة:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] !
وأم رومان - زوج الصديق رضي الله عنهما - وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء . المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها . فتقول لها:يا بنية هوني على نفسك الشأن , فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . . ولكن هذا التماسك بتزايل وعائشة تقول لها:أجيبي عني رسول الله [ ص ] فتقول كما قال زوجها من قبل:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] !
والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل . وهو يرمي بخيانة نبيه في زوجه . فيرمي بذلك في إسلامه , وفي أمانته , وفي شرفه , وفي حميته . وفي كل ما يعتز به صحابي , وهو من ذلك كله برى ء . وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره , فيقول:سبحان الله ! والله ما
سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
التعريف بالسورة هذه سورة النور . . يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله: (الله نور السماوات والأرض)ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ; ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة . وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية , تنير القلب , وتنير الحياة , ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح , وإشراق في القلوب , وشفافية في الضمائر , مستمدة كلها من ذلك النور الكبير .
وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف , ومن آدابوأخلاقسورة أنزلناها وفرضناها , وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). . فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة ; ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية , وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية . .
والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود . وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة , التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة . والهدف واحد في الشدة واللين . هو تربية الضمائر , واستجاشة المشاعر ; ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة , حتى تشف وترف , وتتصل بنور الله . . وتتداخل الآداب النفسية الفردية , وآداب البيت والأسرة , وآداب الجماعة والقيادة . بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله , متصلة كلها بنور واحد هو نور الله . وهي في صميمها نور وشفافية , وإشراق وطهارة . تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض . نور الله الذي أشرقت به الظلمات . في السماوات والأرض , والقلوب والضمائر , والنفوس والأرواح .
ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط:
الأول يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به ; ويليه بيان حد الزنا , وتفظيع هذه الفعلة , وتقطيع ما بين الزناة والجماعة المسلمة , فلا هي منهم ولا هم منها . ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه ; واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة . ثم حديث الإفك وقصته . . وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات , ومشاكلة الطيبين للطيبات . وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء .
ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة , وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية . فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها , والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم . والحض على إنكاح الأيامي . والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء . . وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور , ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية , وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين , وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية .
والشوط الثالث يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة , فيربطها بنور الله . ويتحدث عن أطهر البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت الله . . وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان الكاذب ; أو كظلمات بعضها فوق بعض . ثم يكشف عن فيوض من نور الله في الآفاق:في تسبيح الخلائق كلها لله . وفي إزجاء السحاب . وفي تقليب الليل والنهار . وفي خلق كل دابة من ماء , ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها , مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار . .
والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله [ ص ] في الطاعة والتحاكم . ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم . ويعدهم , على هذا , الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين , والنصر على الكافرين .
ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء . وإلى آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة , مع رئيسها ومربيها - رسول الله [ ص ] .وتتم السورة بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض , وعلمه بواقع الناس , وما تنطوي عليه حناياهم , ورجعتهم إليه , وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم . وهو بكل شيء عليم .
والآن نأخذ في التفصيل .
الدرس الأول:1 طبيعة السورة وأحكامها
(سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). .
مطلع فريد في القرآن كله . الجديد فيه كلمة(فرضناها)والمقصود بها - فيما نعلم - توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة , والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات , فتذكرهم بها تلك الآيات البينات , وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين .
الدرس الثاني:2 - 10 حد الزنا والقذف والملاعنة
ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا ; وتفظيع هذه الفعلة , التي تقطع ما بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات:
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ; ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله - إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر - وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ; وحرم ذلك على المؤمنين). .
كان حد الزانيين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساءواللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا). . فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعبير . وكان حد الرجل الأذى بالتعبير .
ثم أنزل الله حد الزنا في سورة النور . فكان هذا هو(السبيل)الذي أشارت إليه من قبل آية النساء .
والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء . وهو الذي لم يحصن بالزواج . ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا عاقلا حرا . فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم .
وقد ثبت الرجم بالسنة . وثبت الجلد بالقرآن . ولما كان النص القرآني مجملا وعاما . وكان رسول الله [ ص ] قد رجم الزانيين المحصنين , فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن .
وهناك خلاف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن . والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد والرجم . كما أن هناك خلافا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده . وحول حد الزاني غير الحر . . وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا , يطلب في موضعه من كتب الفقه . . إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع . فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد , وعقوبة المحصن هي الرجم . ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح - وهو مسلم حر بالغ - قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه , فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته وانحرافها , فهو جدير بتشديد العقوبة , بخلاف البكر الغفل الغر , الذي قد يندفع تحت ضغط الميل وهو غرير . . وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل . فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر . فهو حري بعقوبة كذلك أشد .
والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده - كما سلف - فيشدد في الأخذ به , دون تسامح ولا هوادة:
من الاية 3 الى الاية 5
الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة , ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله . إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).
فهي الصرامة في إقامة الحد ; وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما , وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته , تراخيا في دين الله وحقه . وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين , فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين .
ثم يزيد في تفظيع الفعلة وتبشيعها , فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة:
(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك . وحرم ذلك على المؤمنين). .
وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون . إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان . وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة ; لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز . حتى لقد ذهب الإمام أحمد إلى تحريم مثل هذا الرباط بين زان وعفيفة , وبين عفيف وزانية ; إلا أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر . وعلى أية حال فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية , ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني ; واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد: (وحرم ذلك على المؤمنين). . وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة .
ورد في سبب نزول هذه الآية أن رجلا يقال له:مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة . وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها:عناق . وكانت صديقة له . وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله . قال:فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة . قال:فجاءت عناق , فأبصرت سواد ظل تحت الحائط . فلما انتهت إلي عرفتني . فقالت:مرثد ? فقلت:مرثد ! فقالت:مرحبا وأهلا . هلم فبت عندنا الليلة:قال:فقلت:يا عناق حرم الله الزنا . فقالت:يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم . قال:فتبعني ثمانية , ودخلت الحديقة . فانتهيت إلى غار أو كهف , فدخلت , فجاءوا حتى قاموا على رأسي , فبالوا , فظل بولهم على رأسي , فأعماهم الله عني . قال:ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته ; وكان رجلا ثقيلا ; حتى انتهيت إلى الإذخر ; ففككت عنه أحبله , فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة ; فأتيت رسول الله [ ص ] فقلت:يا رسول الله أنكح عناقا ? - مرتين - فأمسك رسول الله [ ص ] فلم يرد علي شيئا حتى نزلت(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك , وحرم ذلك على المؤمنين)فقال رسول الله [ ص ]:" يا مرثد . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة . فلا تنكحها " .
فهذه الرواية تفيد تحريم نكاح المؤمن للزانية ما لم تتب , ونكاح المؤمنة للزاني كذلك . وهو ما أخذ به الإمام أحمد . ورأى غيره غير رأيه . والمسألة خلافية تطلب في كتب الفقه . وعلى أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها عن الجماعة المسلمة ; وتقطع ما بينه وبينها من روابط . وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعا !
والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها . فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول , ولا خير لهم في كبتها أو قتلها . ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله في كيانهم , وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر , يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة , وعمارة الأرض , التي استخلف فيها هذا الإنسان .
إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد , أو لا تهدف إلى إقامة بيت , وبناء عش , وإنشاء حياة مشتركة , لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة ! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية , التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين , وبتعبير شامل التقاء إنسانين , تربط بينهما حياة مشتركة , وآمال مشتركة , وآلام مشتركة , ومستقبل مشترك , يلتقي في الذرية المرتقبة , ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك , الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان .
من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية , تذهب بكل هذه المعاني , وتطيح بكل هذه الأهداف ; وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا , لا يفرق بين أنثى وأنثى , ولا بين ذكر وذكر . مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة . فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة , وليس وراءها عمارة في الأرض , وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج ! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية , لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار . وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المتقطع , الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها , وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان !
إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ; إنما ينظمها ويطهرها , ويرفعها عن المستوى الحيواني , ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية . فأما الزنا - وبخاصة البغاء - فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية , والأشواق العلوية ; ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل ; ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان , بل أشد غلظا من الحيوان . ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة , في حياة زوجية منظمة , بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا - وبخاصة البغاء - في بعض بيئات الإنسان !
دفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا . . ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن هذه الجريمة , من اختلاط الأنساب , وإثارة الأحقاد , وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة . . . وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة . ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية , ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس , والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد . . هذا السبب هو الأهم في اعتقادي . وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى .
على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل , ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها . فالإسلام منهج حياة متكامل , لا يقوم على العقوبة ; إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة . ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر .
وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق . .
فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله [ ص ]: ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطى ء في العفو خير من أن يخطى ء في العقوبة لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل . أو اعترافا لا شبهة في صحته .
وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية لا تردع أحدا , لأنها غير قابلة للتطبيق . ولكن الإسلام - كما ذكرنا - لا يقيم بناءه على العقوبة , بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة ; وعلى تهذيب النفوس , وتطهير الضمائر ; وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب , فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة . ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة , الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود . أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية . وقد جاء كل منهما يطلب من النبي [ ص ] أن يطهره بالحد , ويلح في ذلك , على الرغم من إعراض النبي مرارا ; حتى بلغ الإقرار أربع مرات . ولم يعد بد من إقامة الحد , لأنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها . والرسول [ ص ] يقول:" تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب "
فإذا وقع اليقين , وبلغ الأمر إلى الحاكم , فقد وجب الحد ولا هوادة , ولا رأفة في دين الله . فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة , وعلى الآداب الإنسانية , وعلى الضمير البشري . وهي رأفة مصطنعة . فالله أرأف بعباده . وقد اختار لهم . وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم . والله أعلم بمصالح العباد , وأعرف بطبائعهم , فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية ; فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا , وتفسد فيها الفطرة , وترتكس في الحمأة , وتنتكس إلى درك البهيمة الأولى . .
والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة , وتطهير الجو الذي تعيش فيه . والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة - كما قلنا - إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة .
لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة . ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة ; فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد:
(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا . وأولئك هم الفاسقون). .
إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات - وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا - بدون دليل قاطع , يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء ; ثم يمضي آمنا ! فتصبح الجماعة وتمسي , وإذا أعراضها مجرحة , وسمعتها ملوثة ; وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام ; وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه , وكل رجل فيها شاك في أصله , وكل بيت فيها مهدد بالانهيار . . وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق .
ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث ;
من الاية 6 الى الاية 9
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ (7) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
وأن الفعلة فيها شائعة ; فيقدم عليها من كان يتحرج منها , وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها , وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها !
ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه ; والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء .
لهذا , وصيانة للأعراض من التهجم , وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم . . شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف , فجعلها قريبة من عقوبة الزنا . . ثمانين جلدة . . مع إسقاط الشهادة , والوصم بالفسق . . والعقوبة الأولى جسدية . والثانية أدبية في وسط الجماعة ; ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة , وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام ! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم . . ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل , أو بثلاثة معه إن كان قد رآه . فيكون قوله إذن صحيحا . ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة .
والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه , وعدم التحرج من الإذاعة به , وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها , ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة . وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء ; وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت .
وتظل العقوبات التي توقع على القاذف , بعد الحد , مصلتة فوق رأسه , إلا أن يتوب:
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم). .
وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء:هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها , فيرفع عنه وصف الفسق , ويظل مردود الشهادة ? أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة . . فذهب الأئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته , وارتفع عنه حكم الفسق . وقال الإمام أبو حنيفة:إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة , فيرتفع الفسق بالتوبة , ويبقى مردود الشهادة . وقال الشعبي والضحاك:لا تقبل شهادته , وإن تاب , إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف ; فحينئذ تقبل شهادته .
وأنا أختار هذا الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف . وبذلك يمحي آخر أثر للقذف . ولا يقال:إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الأدلة ! ولا يحيك في أي نفس ممن سمعوا الاتهام أنه ربما كان صحيحا ; ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود . . بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما , ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية ; فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان .
ذلك حكم القذف العام . ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته . فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات . والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه . لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص:
(والذين يرمون أزواجهم , ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم . فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين , والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين , والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم). .
من الاية 10 الى الاية 10
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج , يناسب دقة الحالة وحرج الموقف . ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته ; وليس له من شاهد إلا نفسه . فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا , ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . وتمسى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد . فإذا فعل أعطاها قدر مهرها , وطلقت منه طلقة بائنة , وحق عليها حد الزنا وهو الرجم . . ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ; وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة . . بذلك يدرأ عنها الحد , وتبين من زوجها بالملاعنة ; ولا ينسب ولدها - إن كانت حاملا - إليه بل إليها . ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد . .
وقد عقب على هذا التخفيف والتيسير , ومراعاة الأحوال والظروف بقوله:
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته , وأن الله تواب حكيم). .
ولم يبين ما الذي كان يكون لولا فضل الله ورحمته بمثل هذه التيسيرات , وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب . . لم يبينه ليتركه مجملا مرهوبا , يتقيه المتقون . والنص يوحي بأنه شر عظيم .
وقد وردت روايات صحيحة في سبب نزول هذا الحكم:
روى الإمام أحمد - يإسناده - عن ابن عباس قال:لما نزلت: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار - رضي الله عنه -:أهكذا أنزلت يا رسول الله ? فقال رسول الله [ ص ]:" يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ? " فقالوا:يا رسول الله لا تلمه , فإنه رجل غيور . والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا , وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته . . فقال سعد:والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق , وأنها من الله ; ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء . فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته . . قال:فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية , فجاء من أرضه عشاء , فوجد عند أهله رجلا , فرأى بعينيه , وسمع بأذنيه , فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله [ ص ] فقال:يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء , فوجدت عندها رجلا , فرأيت بعيني وسمعت بأذني . . فكره رسول الله [ ص ] ما جاء به ; واشتد عليه ; واجتمعت عليه الأنصار وقالوا:قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة , إلا أن يضرب رسول الله [ ص ] هلال بن أمية , ويبطل شهادته في الناس . فقال هلال:والله إني لأرجو أن يجعل الله منها مخرجا . وقال هلال:يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به , والله يعلم إني لصادق . . فوالله إن رسول الله [ ص ] يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسول الله [ ص ] الوحي . وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه . [ يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي ] فنزلت: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله . . . الآية فسري عن رسول الله [ ص ] فقال:" أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " . . فقال هلال:قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . فقال رسول الله [ ص ]:" أرسلوا إليها " فأرسلوا إليها فجاءت ; فتلاها رسول الله [ ص ] عليهما , فذكرهما , وأخبرهما أنعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا . فقال هلال:والله يا رسول الله لقد صدقت عليها . فقالت:كذب . فقال رسول الله [ ص ]:" لاعنوا بينهما " . . فقيل لهلال:اشهد . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . فلما كانت الخامسة قيل له:يا هلال اتق الله , فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة , وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فقال:والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها . فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . . ثم قيل للمرأة . اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . وقيل لها عند الخامسة:اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف . ثم قالت:والله لا أفضح قومي . فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . . ففرق رسول الله [ ص ] بينهما ; وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ; ولا يرمي ولدها ; ومن رمى ولدها فعليه الحد ; وقضى أن لا بيت لها عليه , ولا قوت لها , من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها . وقال:" إن جاءت به , أصهيب أريسح حمش الساقين فهو لهلال . . وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو الذي رميت به " . . فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين . فقال رسول الله [ ص ]:" لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " . .
وهكذا جاء هذا التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل , وعلاج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين , قد اشتد على رسول الله [ ص ] ولم يجد منه مخرجا , حتى طفق يقول لهلال بن أمية - كما ورد في رواية البخاري - " البينة أو حد في ظهرك " وهلال يقول:يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ?
ولقد يقول قائل:أليس الله - سبحانه - يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف ; فلماذا لم ينزل الله الاستثناء إلا بعد ذلك الموقف المحرج ?
والجواب:بلى إنه سبحانه ليعلم . ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه , فتستقبله نفوس الناس باللهفة إليه , وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة . ومن ثم عقب عليه بقولهولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم).
ونقف قليلا أمام هذه الواقعة , لنرى كيف صنع الإسلام , وكيف صنعت تربية رسول الله [ ص ] للناس لهذا القرآن . . كيف صنع هذا بالنفس العربية الغيور الشديدة الانفعال , المتحمسة التي لا تفكر
من الاية 11 الى الاية 12
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)
13 قصة الافك طويلا قبل الاندفاع . فهذا حكم ينزل بعقوبة القذف , فيشق على هذه النفوس . يشق عليها حتى ليسأل سعد ابن عبادة رسول الله [ ص ] أهكذا أنزلت يا رسول الله ? يسأل هذا السؤال وهو مستيقن أنها هكذا أنزلت . ولكنه يعبر بهذا السؤال عن المشقة التي يجدها في نفسه من الخضوع لهذا الحكم في حالة معينة في فراشه . وهو يعبر عن مرارة هذا التصور بقوله:" والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق . وأنها من الله ; ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ? فوالله إني لا آتي بهم حتى يكون قد قضى حاجته" !
وما يلبث هذا التصور المرير الذي لا يطيقه سعد بن عبادة في خياله . . ما يلبث أن يتحقق . . فهذا رجل يرى بعينيه ويسمع بأذنيه , ولكنه يجد نفسه محجوزا بحاجز القرآن ; فيغلب مشاعره , ويغلب وراثاته , ويغلب منطق البيئة العربية العنيف العميق ; ويكبح غليان دمه , وفوران شعوره , واندفاع أعصابه . . ويربط على هذا كله في انتظار حكم الله وحكم رسول الله [ ص ] وهو جهد شاق مرهق ; ولكن التربية الإسلامية أعدت النفوس لاحتماله كي لا يكون حكم إلا لله , في ذات الأنفس وفي شؤون الحياة .
كيف أمكن أن يحدث هذا ? لقد حدث لأنهم كانوا يحسون أن الله معهم , وأنهم في كنف الله , وأن الله يرعاهم , ولا يكلفهم عنتا ولا رهقا , ولا يتركهم عندما يتجاوز الأمر طاقتهم , ولا يظلمهم أبدا . كانوا يعيشون دائما في ظل الله , يتنفسون من روح الله , ويتطلعون إليه دائما كما يتطلع الأطفال إلى العائل الكافل الرحيم . . فها هو ذا هلال بن أمية يرى بعينيه ويسمع بأذنيه , وهو وحده ; فيشكو إلى رسول الله [ ص ] فلا يجد رسول الله [ ص ] مناصا من تنفيذ حد الله , وهو يقول له:" البينة . أو حد في ظهرك " ولكن هلال بن أمية لا يتصور أن الله تاركه للحد , وهو صادق في دعواه . فإذا الله ينزل ذلك الاستثناء في حالة الأزواج ; فيبشر رسول الله [ ص ] هلالا به ; فإذا هو يقول قولة الواثق المطمئن:قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . . فهو الاطمئنان إلى رحمة الله ورعايته وعدله . والاطمئنان أكثر إلى أنه معهم , وأنهم ليسوا متروكين لأنفسهم ; إنما هم في حضرته , وفي كفالته . . وهذا هو الإيمان الذي راضهم على الطاعة والتسليم والرضى بحكم الله .
الدرس الثالث:11 - 18 استنكار موقف بعض المسلمين من الإفك
وبعد الانتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف , يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ; وهو يتناول بيت النبوة الطاهرة الكريم , وعرض رسول الله [ ص ] أكرم إنسان على الله , وعرض صديقه الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - أكرم إنسان على رسول الله [ ص ] وعرض رجل من الصحابة - صفوان بن المعطل رضي الله عنه - يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرا . . وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان . .
ذلك هو حديث الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع:
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم , بل هو خير لكم . لكل امرى ء منهم ما اكتسب من الإثم , والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا , وقالوا:هذا إفك مبين . لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم . إذ تلقونه بألسنتكم , وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ; وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم . ولولا إذ سمعتموه قلتم:ما يكونلنا أن نتكلم بهذا . سبحانك ! هذا بهتان عظيم . يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة , والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم . يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر , ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ; ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم . ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله . وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم . والله غفور رحيم . إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة , ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق , ويعلمون أن الله هو الحق المبين . الخبيثات للخبيثين , والخبيثون للخبيثات , والطيبات للطيبين , والطيبون للطيبات , أولئك مبرأون مما يقولون , لهم مغفرة ورزق كريم). .
هذا الحادث . حادث الإفك . قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق ; وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ; وعلق قلب رسول الله [ ص ] وقلب زوجة عائشة التي يحبها , وقلب أبي بكر الصديق وزوجه , وقلب صفوان بن المعطل . . شهرا كاملا . علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق .
فلندع عائشة - رضي الله عنها - تروي قصة هذا الألم , وتكشف عن سر هذه الآيات:
عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:
كان رسول الله [ ص ] إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه , فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ; وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي , فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب , وأنا أحمل في هودج , وأنزل فيه . فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله [ ص ] من غزوته تلك , وقفل , ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ; فقمت حين آذنوا بالرحيل , حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل , فلمست صدري , فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع , فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ; وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني , فاحتملوا هودجي , فرحلوه على بعيري , وهم يحسبون أني فيه ; وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ; وإنما نأكل العلقة من الطعام ; فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج , فحملوه ; وكنت جارية حديثة السن ; فبعثوا الجمل وساروا , فوجدت عقدي , بعدما استمر الجيش , فجئت منزلهم , وليس فيه أحد منهم , فتيممت منزلي الذي كنت فيه , وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ; فبينما أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت . وكان صفوان بن المعطل السلمي . ثم الذكواني . قد عرس وراء الجيش , فأدلج , فأصبح عند منزلي ; فرأى سواد إنسان نائم , فأتاني فعرفني حين رآني . وكان يراني قبل الحجاب . فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني , فخمرت وجهي بجلبابي ; والله ما يكلمني بكلمة , ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ; وهوى حتى أناخ راحلته , فوطى ء على يديها , فركبتها , فانطلق يقود بي الراحلة , حتى أتينا الجيش , بعد ما نزلوا معرسين .
قالت:فهلك في شأني من هلك . وكان الذي تولى كبرالإثم عبد الله بن أبي بن سلول ; فقدمنا المدينة , فاشتكيت بها شهرا ; والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر . وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي [ ص ] اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي , إنما يدخل فيسلم ثم يقول:كيف تيكم ? ثم ينصرف . فذلك الذي يريبني منه , ولا أشعر بالشر حتى نقهت , فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف , وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط . فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه , وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشي . فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت:تعس مسطح ! فقلت لها:بئسما قلت . أتسبين رجلا شهد بدرا ? فقالت:يا هنتاه ألم تسمعي ما قال ? فقلت:وما قال ? فأخبرتني بقول أهل الإفك , فازددت مرضا إلى مرضي . فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله [ ص ] فقال:كيف تيكم ? فقلت:ائذن لي أن آتي أبوي . وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما . فأذن لي , فأتيت أبوي , فقلت لأمي:يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ? فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن , فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . فقلت:سبحان الله ! ولقد تحدث الناس بهذا ? قالت:فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله [ ص ] علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله . قالت:فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله , وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم . فقال أسامة:هم أهلك يا رسول الله , ولا نعلم والله إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال:يا رسول الله لم يضيق الله عليك , والنساء سواها كثير , وسل الجارية تخبرك . قالت:فدعا رسول الله [ ص ] بريرة فقال لها:أي بريرة . هل رأيت فيها شيئا يريبك ? فقالت:لا والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها , فتأتي الداجن فتأكله . قالت:فقام رسول الله [ ص ] من يومه , واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول . فقال وهو على المنبر:من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ? فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا , وما كان يدخل على أهلي إلا معي . قالت:فقام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال:يا رسول الله أنا والله أعذرك منه . إن كان من الأوس ضربنا عنقه , وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام سعد بن عبادة - رضي الله عنه - وهو سيد الخزرج , وكان رجلا صالحا ولكن أخذته الحمية . فقال لسعد بن معاذ:كذبت لعمر الله , لا تقتله ولا تقدر على ذلك . فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة:كذبت - لعمر الله - لنقتلنه , فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيان - الأوسوالخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا , ورسول الله [ ص ] على المنبر , فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل .
وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع , ولا أكتحل بنوم . ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . فأصبح أبواي عندي , وقد بكيت ليلتين ويوما , حتى أظن أن البكاء فالق كبدي . فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار , فأذنت لها , فجلست تبكي معي . فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله [ ص ] , ثم جلس , ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها , وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء , فتشهد حين جلس , ثم قال:" أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا . فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى , وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه , فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه " . فلما قضى رسول الله [ ص ] مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة . فقلت لأبي:أجب عني رسول الله [ ص ] فيما قال . قال:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] فقلت لأمي:أجيبي عني رسول الله [ ص ] فيما قال . قالت:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] . قالت:وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن . فقلت:إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به , واستقر في نفوسكم , وصدقتم به . فلئن قلت لكم:إني بريئة لا تصدقوني بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة , لتصدقنني . فوالله مما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال:"فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون" . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي , وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة , وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى ; ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى ; ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ ص ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها . فوالله ما رام مجلسه , ولا خرج أحد من أهل البيت , حتى أنزل الله تعالى على نبيه [ ص ] فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء , فسري عنه , وهو يضحك , فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي:يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك . فقالت لي أمي:قومي إلى رسول الله [ ص ] فقلت:والله لا أقوم إليه , ولا أحمد إلا الله تعالى , هو الذي أنزل براءتي . فأنزل الله تعالى: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . . . العشر الآيات فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره:والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة . . إلى قوله (والله غفور رحيم)فقال أبو بكر - رضي الله عنه - بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي , فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه , وقال:والله لا أنزعها منه أبدا . قالت عائشة رضي الله عنها:وكان رسول الله [ ص ] سأل زينب بنت جحش عن أمري , فقال:" يا زينب . ما علمت وما رأيت ? " فقالت:يا رسول الله أحمي سمعي وبصري , والله ما علمت عليها إلا خيرا . وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي [ ص ] فعصمها الله تعالى بالورع . قالت:فطفقت أختها حمنة تحارب لها , فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .
وهكذا عاش رسول الله [ ص ] وأهل بيته . وعاش أبو بكر - رضي الله عنه - وأهل بيته . وعاش صفوان بن المعطل . وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق , وفي ظل تلك الآلام الهائلة , بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات .
وإن الإنسان ليقف متململا أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول [ ص ] وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة . وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة . تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيقة .
فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة . ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها , ونظافة تصوراتها , ها هي ذي ترمي في أعز ما تعتز به . ترمى في شرفها . وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع . وترمى في أمانتها . وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم . وترمى في وفائها . وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القرب الكبير . . ثم ترمى في إيمانها . وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام , من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة . وهي زوج رسول الله [ ص ] .
ها هي ذي ترمى , وهي بريئة غارة غافلة , لا تحتاط لشيء , ولا تتوقع شيئا ; فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله , وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا , تبرئها مما رميت به . ولكن الوحي يتلبث , لحكمة يريدها الله , شهرا كاملا ; وهي في مثل هذا العذاب .
ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح . وهي مهدودة من المرض . فتعاودها الحمى ; وهي تقول لأمها في أسى:سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ? وفي رواية أخرى تسأل:وقد علم به أبي ? فتجيب أمها:نعم ! فتقول:ورسول الله [ ص ] ? - فتجيبها أمها كذلك:نعم !
ويا لله لها ورسول الله [ ص ] نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه , يقول لها:" أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا ; فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى , وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه , فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه " . . فتعلم أنه شاك فيها , لا يستيقن من طهارتها , ولا يقضي في تهمتها . وربه لم يخبره بعد , ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها ; فتمسي وتصبح وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها , وأحلها في سويدائه !
وها هو ذا أبو بكر الصديق - في وقاره وحساسيته وطيب نفسه - يلذعه الألم , وهو يرمى في عرضه . في ابنته زوج محمد - صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه , ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل , لا يطلب دليلا من خارجه . . وإذا الألم يفيض على لسانه , وهو الصابر المحتسب القوي على الألم , فيقول:والله ما رمينا بهذا في جاهلية . أفنرضى به في الإسلام ? وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل . حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة:أجب عني رسول الله [ ص ] قال في مرارة هامدة:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] !
وأم رومان - زوج الصديق رضي الله عنهما - وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء . المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها . فتقول لها:يا بنية هوني على نفسك الشأن , فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . . ولكن هذا التماسك بتزايل وعائشة تقول لها:أجيبي عني رسول الله [ ص ] فتقول كما قال زوجها من قبل:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] !
والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل . وهو يرمي بخيانة نبيه في زوجه . فيرمي بذلك في إسلامه , وفي أمانته , وفي شرفه , وفي حميته . وفي كل ما يعتز به صحابي , وهو من ذلك كله برى ء . وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره , فيقول:سبحان الله ! والله ما
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة النور من الاية 13 الى ايه 31 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النور من الاية 60 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المؤمنون من الاية 33 الى الاية 78 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النورمن الاية 33 الى الاية 59 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانبياء من الاية 51 الى الاية 78 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النور من الاية 60 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المؤمنون من الاية 33 الى الاية 78 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة النورمن الاية 33 الى الاية 59 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانبياء من الاية 51 الى الاية 78 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى