تفسير سورة المؤمنون اايه1 الى ايه 32 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة المؤمنون اايه1 الى ايه 32 الشيخ سيد قطب
من الاية 1 الى الاية 11
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
تعريف بالسورة هذه سورة "المؤمنون" . . اسمها يدل عليها . ويحدد موضوعها . . فهي تبدأ بصفة المؤمنين , ثم يستطرد السياق فيها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق . ثم إلى حقيقة الإيمان كما عرضها رسل الله - صلوات الله عليهم - من لدن نوح - عليه السلام - إلى محمد خاتم الرسل والنبيين ; وشبهات المكذبين حول هذه الحقيقة واعتراضاتهم عليها , ووقوفهم في وجهها , حتى يستنصر الرسل بربهم , فيهلك المكذبين , وينجي المؤمنين . . ثم يستطرد إلى اختلاف الناس - بعد الرسل - في تلك الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد . . ومن هنا يتحدث عن موقف المشركين من الرسول [ ص ] ويستنكر هذا الموقف الذي ليس له مبرر . . وتنتهي السورة بمشهد من مشاهد القيامة يلقون فيه عاقبة التكذيب , ويؤنبون على ذلك الموقف المريب , يختم بتعقيب يقرر التوحيد المطلق والتوجه إلى الله بطلب الرحمة والغفران . .
فهي سورة "المؤمنون" أو هي سورة الإيمان , بكل قضاياه ودلائله وصفاته . وهو موضوع السورة ومحورها الأصيل .
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط:
يبدأ الشوط الأول بتقرير الفلاح للمؤمنينقد أفلح المؤمنون). . ويبين صفات المؤمنين هؤلاء الذين كتب لهم الفلاح . . ويثني بدلائل الإيمان في الأنفس والآفاق , فيعرض أطوار الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى إلى نهايتها في الحياة الدنيا متوسعا في عرض أطوار الجنين , مجملا في عرض المراحل الأخرى . . ثم يتابع خط الحياة البشرية إلى البعث يوم القيامة . . وبعد ذلك ينتقل من الحياة الإنسانية إلى الدلائل الكونية:في خلق السماء , وفي إنزال الماء , وفي إنبات الزرع والثمار . ثم إلى الأنعام المسخرة للإنسان ; والفلك التي يحمل عليها وعلى الحيوان .
فأما الشوط الثاني فينتقل من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق إلى حقيقة الإيمان . حقيقته الواحدة التي توافق عليها الرسل دون استثناء: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . قالها نوح - عليه السلام - وقالها كل من جاء بعده من الرسل , حتى انتهت إلى محمد [ ص ] وكان اعتراض المكذبين دائما: (ما هذا إلا بشر مثلكم !). . (ولو شاء الله لأنزل ملائكة). . وكان اعتراضهم كذلكأيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ?). . وكانت العاقبة دائما أن يلجأ الرسل إلى ربهم يطلبون نصره , وأن يستجيب الله لرسله , فيهلك المكذبين . . وينتهي الشوط بنداء للرسل جميعايا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا , إني بما تعملون عليم , وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
والشوط الثالث يتحدث عن تفرق الناس - بعد الرسل - وتنازعهم حول تلك الحقيقة الواحدة . التي جاءوا بهافتقطعوا أمرهم بينهم زبرا , كل حزب بما لديهم فرحون). وعن غفلتهم عن ابتلاء الله لهم بالنعمة , واغترارهم بما هم فيه من متاع . بينما المؤمنون مشفقون من خشية ربهم , يعبدونه ولا يشركون به , وهم مع ذلك دائمو الخوف والحذر (وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون). . وهنا يرسم مشهدا لأولئك الغافلين المغرورين يوم يأخذهم العذاب فإذا هم يجأرون ; فيأخذهم التوبيخ والتأنيبقد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون , مستكبرين به سامرا تهجرون). . ويستنكر السياق موقفهم العجيب من رسولهم الأمين , وهم يعرفونه ولا ينكرونه ; وقد جاءهم بالحق لا يسألهم عليه أجرا . فماذا ينكرون منه ومنالحق الذي جاءهم به ? وهم يسلمون بملكية الله لمن في السماوات والأرض , وربوبيته للسماوات والأرض , وسيطرته على كل شيء في السماوات والأرض . وبعد هذا التسليم هم ينكرون البعث , ويزعمون لله ولدا سبحانه ! ويشركون به آلهة أخرى (فتعالى عما يشركون).
والشوط الأخير يدعهم وشركهم وزعمهم ; ويتوجه بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن , وأن يستعيذ بالله من الشياطين , فلا يغضب ولا يضيق صدره بما يقولون . . وإلى جوار هذا مشهد من مشاهد القيامة يصور ما ينتظرهم هناك من عذاب ومهانة وتأنيب . . وتختم السورة بتنزيه الله سبحانهفتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم). وبنفي الفلاح عن الكافرين في مقابل تقرير الفلاح في أول السورة للمؤمنينومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه , إنه لا يفلح الكافرون). وبالتوجه إلى الله طلبا للرحمة والغفرانوقل:رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين).
جو السورة كلها هو جو البيان والتقرير , وجو الجدل الهادى ء , والمنطق الوجداني , واللمسات الموحية للفكر والضمير . والظل الذي يغلب عليها هو الظل الذي يلقيه موضوعها . . الإيمان . . ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاةالذين هم في صلاتهم خاشعون). وفي صفات المؤمنين في وسطهاوالذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون). . وفي اللمسات الوجدانيةوهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون).
وكلها مظللة بذلك الظل الإيماني اللطيف .
الدرس الأول:10 - 11 أهم صفات المؤمنين المفلحين
(قد أفلح المؤمنون , الذين هم في صلاتهم خاشعون , والذين هم عن اللغو معرضون , والذين هم للزكاة فاعلون , والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين , فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون , والذين هم على صلواتهم يحافظون . . أولئك هم الوارثون . الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون).
إنه الوعد الصادق , بل القرار الأكيد بفلاح المؤمنين . وعد الله لا يخلف الله وعده ; وقرار الله لا يملك أحد رده . الفلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة . فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة . الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه ويجد مصداقه في واقع حياته ; والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح , وما لا يعرفونه مما يدخره الله لعباده المؤمنين .
فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة , ووعدهم هذا الوعد , وأعلن عن فلاحهم هذا الإعلان ?
من هم المؤمنون المكتوب لهم الخير والنصر والسعادة والتوفيق والمتاع الطيب في الأرض ? والمكتوب لهم الفوز والنجاة , والثواب والرضوان في الآخرة ? ثم ما شاء الله غير هذا وذلك في الدارين مما لا يعلمه إلا الله ?
من الاية 12 الى الاية 13
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13)
وهم لم يذلوا ولم يخزوا لحظة أن كان هذا النص يتلى عليهم . إنما هو تصوير لمصيرهم المحتوم . الذي يذلون فيه ويخزون:فلعلهم حينذاك قائلونربنا لولا أرسلت إلينا رسولا . . .)فها هي ذي الحجة قد قطعت عليهم , فلم يعد لهم من عذر ولا عذير !
وعندما يصل السياق إلى تصوير المصير المحتوم الذي ينتظرهم يؤمر الرسول [ ص ] أن ينفض يده منهم , فلا يشقى بهم , ولا يكربه عدم إيمانهم , وأن يعلن إليهم أنه متربص بهم ذلك المصير , فليتربصوا هم كيف يشاءون:
(قل:كل متربص فتربصوا . فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى). .
بذلك تختم السورة التي بدأت بنفي إرادة الشقاء عن النبي [ ص ] من تنزيل القرآن , وحددت وظيفة القرآنإلا تذكرة لمن يخشى). . والختام يتناسق مع المطلع كل التناسق . فهو التذكرة الأخيرة لمن تنفعه التذكرة . وليس بعد البلاغ إلا انتظار العاقبة . والعاقبة بيد الله . .
من الاية 14 الى الاية 14
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير . . حتى تجيء مرحلة العظام . . (فخلقنا المضغة عظاما)فمرحلة كسوة العظام باللحم: (فكسونا العظام لحما). . وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي . ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم . وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين . ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام , وتمام الهيكل العظمي للجنين . وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني: (فخلقنا المضغة عظاما , فكسونا العظام لحما). . فسبحان العليم الخبير !
(ثم أنشأناه خلقا آخر). . هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة . فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية . ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر , ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة , المستعدة للارتقاء . ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان , مجردا من خصائص الارتقاء والكمال , التي يمتاز بها جنين الإنسان .
إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد . وهو ينشأ (خلقا آخر)في آخر أطواره الجنينية ; بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص . ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية , فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورا آليا - كما تقول النظريات المادية - فهما نوعان مختلفان . اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنسانا . واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني (خلقا آخر). إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ; ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه . ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو مهيأ له من الكمال . بواسطة خصائص مميزة , وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلى من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان .
(فتبارك الله أحسن الخالقين). . وليس هناك من يخلق سوى الله . فأحسن هنا ليست للتفضيل , إنما هي للحسن المطلق في خلق الله .
(فتبارك الله أحسن الخالقين). . الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار , وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف , حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني , على أدق ما يكون النظام !
وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه "معجزات العلم" حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا خاصا في تحركه , دون تدخل مباشر من الإنسان . . فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته ,
من الاية 15 الى الاية 16
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها , وتحولات كاملة في ماهيتها ? غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون , مغلقي القلوب , لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب . . وإن مجرد التفكر في أن الإنسان - هذا الكائن المعقد - كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة ; وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقا آخر . فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة أخرى . وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة . هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة . . إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب . . .
ثم يتابع السياق خطاه لاستكمال مراحل الرحلة , وأطوار النشأة . فالحياة الإنسانية التي نشأت من الأرض لا تنتهي في الأرض , لأن عنصرا غير أرضي قد امتزج بها , وتدخل في خط سيرها ; ولأن تلك النفخة العلوية قد جعلت لها غاية غير غاية الجسد الحيواني , ونهاية غير نهاية اللحم والدم القريبة ; وجعلت كمالها الحقيقي لا يتم في هذه الأرض , ولا في هذه الحياة الدنيا ; إنما يتم هنالك في مرحلة جديدة وفي الحياة الأخرى:
(ثم إنكم بعد ذلك لميتون . ثم إنكم يوم القيامة تبعثون). .
فهو الموت نهاية الحياة الأرضية , وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة . وهو إذن طور من أطوار النشأة الإنسانية وليس نهاية الأطوار .
ثم هو البعث المؤذن بالطور الأخير من أطوار تلك النشأة . وبعده تبدأ الحياة الكاملة , المبرأة من النقائص الأرضية , ومن ضرورات اللحم والدم , ومن الخوف والقلق , ومن التحول والتطور لأنها نهاية الكمال المقدر لهذا الإنسان . ذلك لمن يسلك طريق الكمال . الطريق الذي رسمه المقطع الأول في السورة . طريق المؤمنين فأما من ارتكس في مرحلة الحياة الدنيا إلى درك الحيوان , فهو صائر في الحياة الأخرى إلى غاية الارتكاس . حيث تهدر آدميته , ويستحيل حصبا من حصب جهنم , وقودا للنار , التي وقودها الناس والحجارة . والناس من هذا الصنف هو والحجارة سواء !
الدرس الثالث:17 - 23 أدلة الإيمان والوحدانية في الكون وإنعام الله على الإنسان
ومن دلائل الإيمان في الأنفس ينتقل إلى دلائل الإيمان في الآفاق . مما يشهده الناس ويعرفونه , ثم يمرون عليه غافلين:
(ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق , وما كنا عن الخلق غافلين . وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ; وإنا على ذهاب به لقادرون . فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب , لكم فيها فواكه كثيرة , ومنها تأكلون . وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين . وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها , ولكم فيها منافع كثيرة , ومنها تأكلون . وعليها وعلى الفلك تحملون). .
إن السياق يمضي في استعراض هذه الدلائل , وهو يربط بينها جميعا . يربط بينها بوصفها من دلائل القدرة ; ويربط بينها كذلك بوصفها من دلائل التدبير ; فهي متناسقة في تكوينها , متناسقة في وظائفها , متناسقة في اتجاهها . كلها محكومة بناموس واحد ; وكلها تتعاون في وظائفها ; وكلها محسوب فيها لهذا الإنسان الذي كرمه الله حساب .
من الاية 17 الى الاية 22
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
ومن ثم يربط بين هذه المشاهد الكونية وبين أطوار النشأة الإنسانية في سياق السورة .
(ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين). .
والطرائق هي الطبقات بعضها فوق بعض . أو وراء بعض . وقد يكون المقصود هنا سبع مدارات فلكية . أو سبع مجموعات نجمية كالمجموعة الشمسية . أو سبع كتل سديمية . والسدم - كما يقول الفلكيون - هي التي تكون منها المجموعات النجمية . . وعلى أية حال فهي سبع خلائق فلكية فوق البشر - أي إن مستواها أعلى من مستوى الأرض في هذا الفضاء - خلقها الله بتدبير وحكمة , وحفظها بناموس ملحوظ: (وما كنا عن الخلق غافلين). .
(وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ; وإنا على ذهاب به لقادرون). .
وهنا تتصل تلك الطرائق السبع بالأرض . فالماء نازل من السماء ; وله علاقة بتلك الأفلاك . فتكوين الكون على نظامه هذا , هو الذي يسمح بنزول الماء من السماء , ويسمح كذلك بإسكانه في الأرض .
ونظرية أن المياه الجوفية ناشئة من المياه السطحية الآتية من المطر ; وأنها تتسرب إلى باطن الأرض فتحفظ هناك . . نظرية حديثة . فقد كان المظنون إلى وقت قريب أنه لا علاقة بين المياه الجوفية والمياه السطحية . ولكن ها هو ذا القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قبل ألف وثلاث مائة عام .
(وأنزلنا من السماء ماء بقدر). . بحكمة وتدبير , لا أكثر فيغرق ويفسد ; ولا أقل فيكون الجدب والمحل ; ولا في غير أوانه فيذهب بددا بلا فائدة . .
(فأسكناه في الأرض). . وما أشبهه وهو مستكن في الأرض بماء النطفة وهو مستقر في الرحم .
(في قرار مكين). . كلاهما مستقر هنالك بتدبير الله لتنشأ عنه الحياة . . وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة القرآن في التصوير . .
(وإنا على ذهاب به لقادرون). . فيغور في طبقات الأرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي استقر عليها فحفظته . أو بغير هذا من الأسباب . فالذي أمسكه بقدرته قادر على تبديده وإضاعته . إنما هو فضل الله على الناس ونعمته .
ومن الماء تنشأ الحياة:
(فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب , لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون). .
والنخيل والأعناب نموذجان من الحياة التي تنشأ بالماء في عالم النبات - كما ينشأ الناس من ماء النطفة في عالم الإنسان - نموذجان قريبان لتصور المخاطبين إذ ذاك بالقرآن , يشيران إلى نظائرهما الكثيرة التي تحيا بالماء .
ويخصص من الأنواع الأخرى شجرة الزيتون:
وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين . .
وهي من أكثر الشجر فائدة بزيتها وطعامها وخشبها . وأقرب منابتها من بلاد العرب طور سيناء . عند الوادي المقدس المذكور في القرآن . لهذا ذكر هذا المنبت على وجه خاص . وهي تنبت هناك من الماء الذي
من الاية 23 الى الاية 23
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
أسكن في الأرض وعليه تعيش .
ويعرج من عالم النبات إلى عالم الحيوان:
(وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها , ولكم فيها منافع كثيرة , ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون). .
فهذه المخلوقات المسخرة للإنسان بقدرة الله وتدبيره , وتوزيعه للوظائف والخصائص في هذا الكون الكبير . . فيها عبرة لمن ينظر إليها بالقلب المفتوح والحس البصير ; ويتدبر ما وراءها من حكمة ومن تقدير ; ويرى أن اللبن السائغ اللطيف الذي يشربه الناس منها خارج من بطونها ; فهو مستخلص من الغذاء الذي تهضمه وتمثله ; فتحوله غدد اللبن إلى هذا السائل السائغ اللطيف .
(ولكم فيها منافع كثيرة). . يجملها أولا , ثم يخصص منها منفعتين: (ومنها تأكلون . وعليها وعلى الفلك تحملون). . وقد أحل للإنسان أكل الأنعام , وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ولم يحل له تعذيبها ولا التمثيل بها , لأن الأكل يحقق فائدة ضرورية في نظام الحياة . فأما التعذيب والتمثيل فهما من قسوة القلب , وفساد الفطرة . وليس وراءهما فائدة للأحياء .
ويربط السياق بين حمل الإنسان على الأنعام وحمله على الفلك . بوصفهما مسخرين بنظام الله الكوني , الذي ينظم وظائف الخلائق جميعا , كما ينسق بين وجودها جميعا . فهذا التكوين الخاص للماء , والتكوين الخاص للسفن , والتكوين الخاص لطبيعة الهواء فوق الماء والسفن . . هو الذي يسمح للفلك أن تطفو فوق سطح الماء . ولو اختل تركيب واحد من الثلاثة أو اختلف أدنى اختلاف ما أمكن أن تتم الملاحة التي عرفتها البشرية قديما , وما تزال تعتمد عليها جل الاعتماد .
وكل هذا من دلائل الإيمان الكونية , لمن يتدبرها تدبر الفهم والإدراك . وكلها ذات صلة بالمقطع الأول في السورة والمقطع الثاني , متناسقة معهما في السياق . .
الوحدة الثانية:23 - 52 الموضوع:العقيدة من خلال موكب الرسل موضوع الوحدة
ينتقل في هذا الدرس من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق , إلى حقيقة الإيمان التي جاء بها الرسل جميعا ; ويبين كيف كان استقبال الناس لهذه الحقيقة الواحدة التي لا تتبدل على مدار الزمان , وتعدد الرسالات ,وتتابع الرسل , من لدن نوح - عليه السلام - فإذا نحن نشهد موكب الرسل , أو أمة الرسل , وهم يلقون إلى البشرية بالكلمة الواحدة , ذات المدلول الواحد , والاتجاه الواحد , حتى ليوحد ترجمتها في العربية - وقد قيلت بشتى اللغات التي أرسل بها الرسل إلى أقوامهم - فإذا الكلمة التي قالها نوح - عليه السلام - هي ذاتها بنصها يقولها كل من جاء بعده من المرسلين , فتجيب البشرية جوابا واحدا , تكاد ألفاظه تتحد على مر القرون !
الدرس الأول:23 - 30 لقطات من قصة نوح
(ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه , فقال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون ? فقال الملأ الذين كفروا من قومه:ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم , ولو شاء الله لأنزل ملائكة , ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين . إن هو إلا رجل به جنة , فتربصوا به حتى حين). .
(يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . كلمة الحق التي لا تتبدل , يقوم عليها الوجود , ويشهد بها كل ما في الوجود (أفلا تتقون ?)وتخافون عاقبة الإنكار للحقيقة الأولى التي تقوم عليها الحقائق جميعا ? وتستشعرون ما في إنكارها من تجن على الحق الباهر , وما يعقب التجني من استحقاق للعذاب الأليم ?
ولكن كبراء قومه من الكفار لا يناقشون هذه الكلمة ; ولا يتدبرون شواهدها , ولا يستطيعون التخلص من النظرة الضيقة المتعلقة بأشخاصهم وبشخص الرجل الذي يدعوهم , ولا يرتفعون إلى الأفق الطليق الذي ينظرون منه إلى تلك الحقيقة الضخمة مجردة عن الأشخاص والذوات . . فإذا هم يتركون الحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الوجود , ويشهد بها كل ما في الوجود , ليتحدثوا عن شخص نوح:
(فقال الملأ الذين كفروا من قومه:ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم)!
من هذه الزاوية الضيقة الصغيرة نظر القوم إلى تلك الدعوة الكبيرة , فما كانوا إذن ليدركوا طبيعتها ولا ليروا حقيقتها ; وذواتهم الصغيرة الضئيلة تحجب عنهم جوهرها , وتعمي عليهم عنصرها , وتقف حائلا بين قلوبهم وبينها ; فإذا القضية كلها في نظرهم قضية رجل منهم لا يفترق في شيء عنهم , يريد أن يتفضل عليهم , وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم !
وهم في اندفاعهم الصغير لرد نوح عن المنزلة التي يتوهمون أنه يعمل لها , ويتوسل إليها بدعوى الرسالة . . في اندفاعهم هذا الصغير لا يردون فضل نوح وحده , بل يردون فضل الإنسانية التي هم منها ; ويرفضون تكريم الله لهذا الجنس ; ويستكثرون أن يرسل الله رسولا من البشر , إن يكن لا بد مرسلا:
(ولو شاء الله لأنزل ملائكة). .
ذلك أنهم لايجدون في أرواحهم تلك النفخة العلوية التي تصل البشر بالملأ الأعلى ; وتجعل المختارين من البشرية يتلقون ذلك الفيض العلوي ويطيقونه , ويحملونه إلى إخوانهم من البشر , فيهدونهم إلى مصدره الوضيء .
وهم يحيلون الأمر إلى السوابق المألوفة لا إلى العقل المتدبر:
(ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين). .
ومثل هذا يقع دائما عندما يطمس التقليد على حركة الفكر وحرية القلب . فلا يتدبر الناس ما هو بين أيديهم من القضايا , ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها . إنما هم يبحثون في ركام الماضي عن "سابقة " يستندون إليها ; فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية وطرحوها !
من الاية 24 الى الاية 26
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
وعند هذه الجماعات الجاحدة الخامدة أن ما كان مرة يمكن أن يكون ثانية . فأما الذي لم يكن فإنه لا يمكن أن يكون ! وهكذا تجمد الحياة , وتقف حركتها , وتتسمر خطاها , عند جيل معين من (آبائنا الأولين)!
ويا ليتهم يدركون أنهم جامدون متحجرون , إنما هم يتهمون دعاة التحرر والانطلاق بالجنون . وهم يدعونهم إلى التدبر والتفكر , والتخلية بين قلوبهم ودلائل الإيمان الناطقة في الوجود . فإذا هم يتلقون هذه الدعوة بالتبجح والاتهام:
(إن هو إلا رجل به جنة , فتربصوا به حتى حين). .
أي إلى أن يأخذه الموت , ويريحكم منه , ومن دعوته , ومن إلحاحه عليكم بالقول الجديد !
عندئذ لم يجد نوح - عليه السلام - منفذا إلى تلك القلوب الجامدة المتحجرة ; ولم يجد له موئلا من السخرية والأذى , إلا أن يتوجه إلى ربه وحده , يشكو إليه ما لقيه من تكذيب ويطلب منه النصر بسبب هذا التكذيب:
(قال:رب انصرني بما كذبون). .
وعندما يتجمد الأحياء على هذا النحو , وتهم الحياة بالحركة إلى الأمام , في طريق الكمال المرسوم , فتجدهم عقبة في الطريق . . عندئذ إما أن تتحطم هذه المتحجرات ; وإما أن تدعها الحياة في مكانها وتمضي . . والأمر الأول هو الذي حدث لقوم نوح . ذلك أنهم كانوا في فجر البشرية وفي أول الطريق ; فشاءت إرادة الله أن تطيح بهم من الطريق:
(فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا , فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين , وأهلك - إلا من سبق عليه القول منهم - ولا تخاطبني في الذين ظلموا . إنهم مغرقون). .
وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم . ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح , وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود . . كان العلاج هو الطوفان , الذي يجتب كل شيء , ويجرف كل شيء . ويغسل التربة , لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد , فتنشأ على نظافة , فتمد وتكبر حتى حين:
(فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا). . والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان , ولحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد . وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده , لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل , وبذل آخر ما في طوقه , ليستحق المدد من ربه . فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين , الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئا على الانتظار ! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني ; فدفع به إلى الأخذ بالأسباب ; مع رعاية الله له , وتعليمه صناعة الفلك , ليتم أمر الله , وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق .
وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور) , وانبجس منه الماء , فتلك هي العلامة ليسارع نوح , فيحمل في السفينة بذور الحياة: (فاسلك فيها من كل زوجين اثنين). . من أنواع الحيوان و الطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان , الميسرة كذلك لبني
من الاية 27 الى الاية 32
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
الإنسان (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم)وهم الذين كفروا وكذبوا , فاستحقوا كلمة الله السابقة , وسنته النافذة , وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله .
وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد , ولا يحاول إنقاذ أحد - ولو كان أقرب الأقربين إليه - ممن سبق عليهم القول .
(ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون).
فسنة الله لا تحابي , ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم , من أجل خاطر ولي ولا قريب !
ولا يفصل هنا ما حدث للقوم بعد هذا الأمر . فقد قضي الأمر , وتقرر: (إنهم مغرقون)ولكنه يمضي في تعليم نوح - عليه السلام - كيف يشكر نعمة ربه , وكيف يحمد فضله , وكيف يستهديه طريقه:
(فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك , فقل:الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين . وقل:رب أنزلني منزلا مباركا , وأنت خير المنزلين). .
فهكذا يحمد الله , وهكذا يتوجه إليه , وهكذا يوصف - سبحانه - بصفاته , ويعترف له بآياته . وهكذا يتأدب في حقه العباد , وفي طليعتهم النبيون , ليكونوا أسوة للآخرين .
ثم يعقب على القصة كلها , وما تتضمنه خطواتها من دلائل القدرة والحكمة:
(إن في ذلك لآيات , وإن كنا لمبتلين). .
والابتلاء ألوان . ابتلاء للصبر . وابتلاء للشكر . وابتلاء للأجر . وابتلاء للتوجيه . وابتلاء للتأديب . وابتلاء للتمحيص . وابتلاء للتقويم . . وفي قصة نوح ألوان من الابتلاء له ولقومه ولأبنائه القادمين . .
الدرس الثاني:31 - 41 لقطات من قصة هود مع عاد
ويمضي السياق يعرض مشهدا آخر من مشاهد الرسالة الواحدة والتكذيب المكرور:
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين . فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون ? وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة , وأترفناهم في الحياة الدنيا:ما هذا إلا بشر مثلكم , يأكل مما تأكلون منه , ويشرب مما تشربون . ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذن لخاسرون . أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ? هيهات هيهات لما توعدون ! إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا , وما نحن بمبعوثين . إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا , وما نحن له بمؤمنين . قال:رب انصرني بما كذبون . قال:عما قليل ليصبحن نادمين . فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء . فبعدا للقوم الظالمين . .
إن استعراض قصص الرسل في هذه السورة ليس للتقصي والتفصيل ; إنما هو لتقرير الكلمة الواحدة التي جاء بها الجميع , والاستقبال الواحد الذي لقوه من الجميع . ومن ثم بدأ بذكر نوح - عليه السلام - ليحدد نقطة البدء ; وانتهى بموسى وعيسى ليحدد النقطة الأخيرة قبل الرسالة الأخيرة . ولم يذكر الأسماء في وسط السلسلة الطويلة , كي يدل على تشابه حلقاتها بين البدء والنهاية . إنما ذكر الكلمة الواحدة في كل حلقة والاستقبال الواحد , لأن هذا هو المقصود .
(ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين). . لم يحدد من هم . وهم على الأرجح عاد قوم هود . .
(فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون ?). . ذات الكلمة الواحدة
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
تعريف بالسورة هذه سورة "المؤمنون" . . اسمها يدل عليها . ويحدد موضوعها . . فهي تبدأ بصفة المؤمنين , ثم يستطرد السياق فيها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق . ثم إلى حقيقة الإيمان كما عرضها رسل الله - صلوات الله عليهم - من لدن نوح - عليه السلام - إلى محمد خاتم الرسل والنبيين ; وشبهات المكذبين حول هذه الحقيقة واعتراضاتهم عليها , ووقوفهم في وجهها , حتى يستنصر الرسل بربهم , فيهلك المكذبين , وينجي المؤمنين . . ثم يستطرد إلى اختلاف الناس - بعد الرسل - في تلك الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد . . ومن هنا يتحدث عن موقف المشركين من الرسول [ ص ] ويستنكر هذا الموقف الذي ليس له مبرر . . وتنتهي السورة بمشهد من مشاهد القيامة يلقون فيه عاقبة التكذيب , ويؤنبون على ذلك الموقف المريب , يختم بتعقيب يقرر التوحيد المطلق والتوجه إلى الله بطلب الرحمة والغفران . .
فهي سورة "المؤمنون" أو هي سورة الإيمان , بكل قضاياه ودلائله وصفاته . وهو موضوع السورة ومحورها الأصيل .
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط:
يبدأ الشوط الأول بتقرير الفلاح للمؤمنينقد أفلح المؤمنون). . ويبين صفات المؤمنين هؤلاء الذين كتب لهم الفلاح . . ويثني بدلائل الإيمان في الأنفس والآفاق , فيعرض أطوار الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى إلى نهايتها في الحياة الدنيا متوسعا في عرض أطوار الجنين , مجملا في عرض المراحل الأخرى . . ثم يتابع خط الحياة البشرية إلى البعث يوم القيامة . . وبعد ذلك ينتقل من الحياة الإنسانية إلى الدلائل الكونية:في خلق السماء , وفي إنزال الماء , وفي إنبات الزرع والثمار . ثم إلى الأنعام المسخرة للإنسان ; والفلك التي يحمل عليها وعلى الحيوان .
فأما الشوط الثاني فينتقل من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق إلى حقيقة الإيمان . حقيقته الواحدة التي توافق عليها الرسل دون استثناء: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . قالها نوح - عليه السلام - وقالها كل من جاء بعده من الرسل , حتى انتهت إلى محمد [ ص ] وكان اعتراض المكذبين دائما: (ما هذا إلا بشر مثلكم !). . (ولو شاء الله لأنزل ملائكة). . وكان اعتراضهم كذلكأيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ?). . وكانت العاقبة دائما أن يلجأ الرسل إلى ربهم يطلبون نصره , وأن يستجيب الله لرسله , فيهلك المكذبين . . وينتهي الشوط بنداء للرسل جميعايا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا , إني بما تعملون عليم , وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
والشوط الثالث يتحدث عن تفرق الناس - بعد الرسل - وتنازعهم حول تلك الحقيقة الواحدة . التي جاءوا بهافتقطعوا أمرهم بينهم زبرا , كل حزب بما لديهم فرحون). وعن غفلتهم عن ابتلاء الله لهم بالنعمة , واغترارهم بما هم فيه من متاع . بينما المؤمنون مشفقون من خشية ربهم , يعبدونه ولا يشركون به , وهم مع ذلك دائمو الخوف والحذر (وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون). . وهنا يرسم مشهدا لأولئك الغافلين المغرورين يوم يأخذهم العذاب فإذا هم يجأرون ; فيأخذهم التوبيخ والتأنيبقد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون , مستكبرين به سامرا تهجرون). . ويستنكر السياق موقفهم العجيب من رسولهم الأمين , وهم يعرفونه ولا ينكرونه ; وقد جاءهم بالحق لا يسألهم عليه أجرا . فماذا ينكرون منه ومنالحق الذي جاءهم به ? وهم يسلمون بملكية الله لمن في السماوات والأرض , وربوبيته للسماوات والأرض , وسيطرته على كل شيء في السماوات والأرض . وبعد هذا التسليم هم ينكرون البعث , ويزعمون لله ولدا سبحانه ! ويشركون به آلهة أخرى (فتعالى عما يشركون).
والشوط الأخير يدعهم وشركهم وزعمهم ; ويتوجه بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن , وأن يستعيذ بالله من الشياطين , فلا يغضب ولا يضيق صدره بما يقولون . . وإلى جوار هذا مشهد من مشاهد القيامة يصور ما ينتظرهم هناك من عذاب ومهانة وتأنيب . . وتختم السورة بتنزيه الله سبحانهفتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم). وبنفي الفلاح عن الكافرين في مقابل تقرير الفلاح في أول السورة للمؤمنينومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه , إنه لا يفلح الكافرون). وبالتوجه إلى الله طلبا للرحمة والغفرانوقل:رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين).
جو السورة كلها هو جو البيان والتقرير , وجو الجدل الهادى ء , والمنطق الوجداني , واللمسات الموحية للفكر والضمير . والظل الذي يغلب عليها هو الظل الذي يلقيه موضوعها . . الإيمان . . ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاةالذين هم في صلاتهم خاشعون). وفي صفات المؤمنين في وسطهاوالذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون). . وفي اللمسات الوجدانيةوهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون).
وكلها مظللة بذلك الظل الإيماني اللطيف .
الدرس الأول:10 - 11 أهم صفات المؤمنين المفلحين
(قد أفلح المؤمنون , الذين هم في صلاتهم خاشعون , والذين هم عن اللغو معرضون , والذين هم للزكاة فاعلون , والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين , فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون , والذين هم على صلواتهم يحافظون . . أولئك هم الوارثون . الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون).
إنه الوعد الصادق , بل القرار الأكيد بفلاح المؤمنين . وعد الله لا يخلف الله وعده ; وقرار الله لا يملك أحد رده . الفلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة . فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة . الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه ويجد مصداقه في واقع حياته ; والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح , وما لا يعرفونه مما يدخره الله لعباده المؤمنين .
فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة , ووعدهم هذا الوعد , وأعلن عن فلاحهم هذا الإعلان ?
من هم المؤمنون المكتوب لهم الخير والنصر والسعادة والتوفيق والمتاع الطيب في الأرض ? والمكتوب لهم الفوز والنجاة , والثواب والرضوان في الآخرة ? ثم ما شاء الله غير هذا وذلك في الدارين مما لا يعلمه إلا الله ?
من الاية 12 الى الاية 13
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13)
وهم لم يذلوا ولم يخزوا لحظة أن كان هذا النص يتلى عليهم . إنما هو تصوير لمصيرهم المحتوم . الذي يذلون فيه ويخزون:فلعلهم حينذاك قائلونربنا لولا أرسلت إلينا رسولا . . .)فها هي ذي الحجة قد قطعت عليهم , فلم يعد لهم من عذر ولا عذير !
وعندما يصل السياق إلى تصوير المصير المحتوم الذي ينتظرهم يؤمر الرسول [ ص ] أن ينفض يده منهم , فلا يشقى بهم , ولا يكربه عدم إيمانهم , وأن يعلن إليهم أنه متربص بهم ذلك المصير , فليتربصوا هم كيف يشاءون:
(قل:كل متربص فتربصوا . فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى). .
بذلك تختم السورة التي بدأت بنفي إرادة الشقاء عن النبي [ ص ] من تنزيل القرآن , وحددت وظيفة القرآنإلا تذكرة لمن يخشى). . والختام يتناسق مع المطلع كل التناسق . فهو التذكرة الأخيرة لمن تنفعه التذكرة . وليس بعد البلاغ إلا انتظار العاقبة . والعاقبة بيد الله . .
من الاية 14 الى الاية 14
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير . . حتى تجيء مرحلة العظام . . (فخلقنا المضغة عظاما)فمرحلة كسوة العظام باللحم: (فكسونا العظام لحما). . وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي . ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم . وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين . ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام , وتمام الهيكل العظمي للجنين . وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني: (فخلقنا المضغة عظاما , فكسونا العظام لحما). . فسبحان العليم الخبير !
(ثم أنشأناه خلقا آخر). . هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة . فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية . ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر , ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة , المستعدة للارتقاء . ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان , مجردا من خصائص الارتقاء والكمال , التي يمتاز بها جنين الإنسان .
إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد . وهو ينشأ (خلقا آخر)في آخر أطواره الجنينية ; بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص . ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية , فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورا آليا - كما تقول النظريات المادية - فهما نوعان مختلفان . اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنسانا . واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني (خلقا آخر). إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ; ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه . ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو مهيأ له من الكمال . بواسطة خصائص مميزة , وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلى من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان .
(فتبارك الله أحسن الخالقين). . وليس هناك من يخلق سوى الله . فأحسن هنا ليست للتفضيل , إنما هي للحسن المطلق في خلق الله .
(فتبارك الله أحسن الخالقين). . الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار , وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف , حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني , على أدق ما يكون النظام !
وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه "معجزات العلم" حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا خاصا في تحركه , دون تدخل مباشر من الإنسان . . فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته ,
من الاية 15 الى الاية 16
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها , وتحولات كاملة في ماهيتها ? غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون , مغلقي القلوب , لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب . . وإن مجرد التفكر في أن الإنسان - هذا الكائن المعقد - كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة ; وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقا آخر . فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة أخرى . وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة . هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة . . إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب . . .
ثم يتابع السياق خطاه لاستكمال مراحل الرحلة , وأطوار النشأة . فالحياة الإنسانية التي نشأت من الأرض لا تنتهي في الأرض , لأن عنصرا غير أرضي قد امتزج بها , وتدخل في خط سيرها ; ولأن تلك النفخة العلوية قد جعلت لها غاية غير غاية الجسد الحيواني , ونهاية غير نهاية اللحم والدم القريبة ; وجعلت كمالها الحقيقي لا يتم في هذه الأرض , ولا في هذه الحياة الدنيا ; إنما يتم هنالك في مرحلة جديدة وفي الحياة الأخرى:
(ثم إنكم بعد ذلك لميتون . ثم إنكم يوم القيامة تبعثون). .
فهو الموت نهاية الحياة الأرضية , وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة . وهو إذن طور من أطوار النشأة الإنسانية وليس نهاية الأطوار .
ثم هو البعث المؤذن بالطور الأخير من أطوار تلك النشأة . وبعده تبدأ الحياة الكاملة , المبرأة من النقائص الأرضية , ومن ضرورات اللحم والدم , ومن الخوف والقلق , ومن التحول والتطور لأنها نهاية الكمال المقدر لهذا الإنسان . ذلك لمن يسلك طريق الكمال . الطريق الذي رسمه المقطع الأول في السورة . طريق المؤمنين فأما من ارتكس في مرحلة الحياة الدنيا إلى درك الحيوان , فهو صائر في الحياة الأخرى إلى غاية الارتكاس . حيث تهدر آدميته , ويستحيل حصبا من حصب جهنم , وقودا للنار , التي وقودها الناس والحجارة . والناس من هذا الصنف هو والحجارة سواء !
الدرس الثالث:17 - 23 أدلة الإيمان والوحدانية في الكون وإنعام الله على الإنسان
ومن دلائل الإيمان في الأنفس ينتقل إلى دلائل الإيمان في الآفاق . مما يشهده الناس ويعرفونه , ثم يمرون عليه غافلين:
(ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق , وما كنا عن الخلق غافلين . وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ; وإنا على ذهاب به لقادرون . فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب , لكم فيها فواكه كثيرة , ومنها تأكلون . وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين . وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها , ولكم فيها منافع كثيرة , ومنها تأكلون . وعليها وعلى الفلك تحملون). .
إن السياق يمضي في استعراض هذه الدلائل , وهو يربط بينها جميعا . يربط بينها بوصفها من دلائل القدرة ; ويربط بينها كذلك بوصفها من دلائل التدبير ; فهي متناسقة في تكوينها , متناسقة في وظائفها , متناسقة في اتجاهها . كلها محكومة بناموس واحد ; وكلها تتعاون في وظائفها ; وكلها محسوب فيها لهذا الإنسان الذي كرمه الله حساب .
من الاية 17 الى الاية 22
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
ومن ثم يربط بين هذه المشاهد الكونية وبين أطوار النشأة الإنسانية في سياق السورة .
(ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين). .
والطرائق هي الطبقات بعضها فوق بعض . أو وراء بعض . وقد يكون المقصود هنا سبع مدارات فلكية . أو سبع مجموعات نجمية كالمجموعة الشمسية . أو سبع كتل سديمية . والسدم - كما يقول الفلكيون - هي التي تكون منها المجموعات النجمية . . وعلى أية حال فهي سبع خلائق فلكية فوق البشر - أي إن مستواها أعلى من مستوى الأرض في هذا الفضاء - خلقها الله بتدبير وحكمة , وحفظها بناموس ملحوظ: (وما كنا عن الخلق غافلين). .
(وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ; وإنا على ذهاب به لقادرون). .
وهنا تتصل تلك الطرائق السبع بالأرض . فالماء نازل من السماء ; وله علاقة بتلك الأفلاك . فتكوين الكون على نظامه هذا , هو الذي يسمح بنزول الماء من السماء , ويسمح كذلك بإسكانه في الأرض .
ونظرية أن المياه الجوفية ناشئة من المياه السطحية الآتية من المطر ; وأنها تتسرب إلى باطن الأرض فتحفظ هناك . . نظرية حديثة . فقد كان المظنون إلى وقت قريب أنه لا علاقة بين المياه الجوفية والمياه السطحية . ولكن ها هو ذا القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قبل ألف وثلاث مائة عام .
(وأنزلنا من السماء ماء بقدر). . بحكمة وتدبير , لا أكثر فيغرق ويفسد ; ولا أقل فيكون الجدب والمحل ; ولا في غير أوانه فيذهب بددا بلا فائدة . .
(فأسكناه في الأرض). . وما أشبهه وهو مستكن في الأرض بماء النطفة وهو مستقر في الرحم .
(في قرار مكين). . كلاهما مستقر هنالك بتدبير الله لتنشأ عنه الحياة . . وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة القرآن في التصوير . .
(وإنا على ذهاب به لقادرون). . فيغور في طبقات الأرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي استقر عليها فحفظته . أو بغير هذا من الأسباب . فالذي أمسكه بقدرته قادر على تبديده وإضاعته . إنما هو فضل الله على الناس ونعمته .
ومن الماء تنشأ الحياة:
(فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب , لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون). .
والنخيل والأعناب نموذجان من الحياة التي تنشأ بالماء في عالم النبات - كما ينشأ الناس من ماء النطفة في عالم الإنسان - نموذجان قريبان لتصور المخاطبين إذ ذاك بالقرآن , يشيران إلى نظائرهما الكثيرة التي تحيا بالماء .
ويخصص من الأنواع الأخرى شجرة الزيتون:
وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين . .
وهي من أكثر الشجر فائدة بزيتها وطعامها وخشبها . وأقرب منابتها من بلاد العرب طور سيناء . عند الوادي المقدس المذكور في القرآن . لهذا ذكر هذا المنبت على وجه خاص . وهي تنبت هناك من الماء الذي
من الاية 23 الى الاية 23
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
أسكن في الأرض وعليه تعيش .
ويعرج من عالم النبات إلى عالم الحيوان:
(وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها , ولكم فيها منافع كثيرة , ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون). .
فهذه المخلوقات المسخرة للإنسان بقدرة الله وتدبيره , وتوزيعه للوظائف والخصائص في هذا الكون الكبير . . فيها عبرة لمن ينظر إليها بالقلب المفتوح والحس البصير ; ويتدبر ما وراءها من حكمة ومن تقدير ; ويرى أن اللبن السائغ اللطيف الذي يشربه الناس منها خارج من بطونها ; فهو مستخلص من الغذاء الذي تهضمه وتمثله ; فتحوله غدد اللبن إلى هذا السائل السائغ اللطيف .
(ولكم فيها منافع كثيرة). . يجملها أولا , ثم يخصص منها منفعتين: (ومنها تأكلون . وعليها وعلى الفلك تحملون). . وقد أحل للإنسان أكل الأنعام , وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ولم يحل له تعذيبها ولا التمثيل بها , لأن الأكل يحقق فائدة ضرورية في نظام الحياة . فأما التعذيب والتمثيل فهما من قسوة القلب , وفساد الفطرة . وليس وراءهما فائدة للأحياء .
ويربط السياق بين حمل الإنسان على الأنعام وحمله على الفلك . بوصفهما مسخرين بنظام الله الكوني , الذي ينظم وظائف الخلائق جميعا , كما ينسق بين وجودها جميعا . فهذا التكوين الخاص للماء , والتكوين الخاص للسفن , والتكوين الخاص لطبيعة الهواء فوق الماء والسفن . . هو الذي يسمح للفلك أن تطفو فوق سطح الماء . ولو اختل تركيب واحد من الثلاثة أو اختلف أدنى اختلاف ما أمكن أن تتم الملاحة التي عرفتها البشرية قديما , وما تزال تعتمد عليها جل الاعتماد .
وكل هذا من دلائل الإيمان الكونية , لمن يتدبرها تدبر الفهم والإدراك . وكلها ذات صلة بالمقطع الأول في السورة والمقطع الثاني , متناسقة معهما في السياق . .
الوحدة الثانية:23 - 52 الموضوع:العقيدة من خلال موكب الرسل موضوع الوحدة
ينتقل في هذا الدرس من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق , إلى حقيقة الإيمان التي جاء بها الرسل جميعا ; ويبين كيف كان استقبال الناس لهذه الحقيقة الواحدة التي لا تتبدل على مدار الزمان , وتعدد الرسالات ,وتتابع الرسل , من لدن نوح - عليه السلام - فإذا نحن نشهد موكب الرسل , أو أمة الرسل , وهم يلقون إلى البشرية بالكلمة الواحدة , ذات المدلول الواحد , والاتجاه الواحد , حتى ليوحد ترجمتها في العربية - وقد قيلت بشتى اللغات التي أرسل بها الرسل إلى أقوامهم - فإذا الكلمة التي قالها نوح - عليه السلام - هي ذاتها بنصها يقولها كل من جاء بعده من المرسلين , فتجيب البشرية جوابا واحدا , تكاد ألفاظه تتحد على مر القرون !
الدرس الأول:23 - 30 لقطات من قصة نوح
(ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه , فقال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون ? فقال الملأ الذين كفروا من قومه:ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم , ولو شاء الله لأنزل ملائكة , ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين . إن هو إلا رجل به جنة , فتربصوا به حتى حين). .
(يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . كلمة الحق التي لا تتبدل , يقوم عليها الوجود , ويشهد بها كل ما في الوجود (أفلا تتقون ?)وتخافون عاقبة الإنكار للحقيقة الأولى التي تقوم عليها الحقائق جميعا ? وتستشعرون ما في إنكارها من تجن على الحق الباهر , وما يعقب التجني من استحقاق للعذاب الأليم ?
ولكن كبراء قومه من الكفار لا يناقشون هذه الكلمة ; ولا يتدبرون شواهدها , ولا يستطيعون التخلص من النظرة الضيقة المتعلقة بأشخاصهم وبشخص الرجل الذي يدعوهم , ولا يرتفعون إلى الأفق الطليق الذي ينظرون منه إلى تلك الحقيقة الضخمة مجردة عن الأشخاص والذوات . . فإذا هم يتركون الحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الوجود , ويشهد بها كل ما في الوجود , ليتحدثوا عن شخص نوح:
(فقال الملأ الذين كفروا من قومه:ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم)!
من هذه الزاوية الضيقة الصغيرة نظر القوم إلى تلك الدعوة الكبيرة , فما كانوا إذن ليدركوا طبيعتها ولا ليروا حقيقتها ; وذواتهم الصغيرة الضئيلة تحجب عنهم جوهرها , وتعمي عليهم عنصرها , وتقف حائلا بين قلوبهم وبينها ; فإذا القضية كلها في نظرهم قضية رجل منهم لا يفترق في شيء عنهم , يريد أن يتفضل عليهم , وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم !
وهم في اندفاعهم الصغير لرد نوح عن المنزلة التي يتوهمون أنه يعمل لها , ويتوسل إليها بدعوى الرسالة . . في اندفاعهم هذا الصغير لا يردون فضل نوح وحده , بل يردون فضل الإنسانية التي هم منها ; ويرفضون تكريم الله لهذا الجنس ; ويستكثرون أن يرسل الله رسولا من البشر , إن يكن لا بد مرسلا:
(ولو شاء الله لأنزل ملائكة). .
ذلك أنهم لايجدون في أرواحهم تلك النفخة العلوية التي تصل البشر بالملأ الأعلى ; وتجعل المختارين من البشرية يتلقون ذلك الفيض العلوي ويطيقونه , ويحملونه إلى إخوانهم من البشر , فيهدونهم إلى مصدره الوضيء .
وهم يحيلون الأمر إلى السوابق المألوفة لا إلى العقل المتدبر:
(ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين). .
ومثل هذا يقع دائما عندما يطمس التقليد على حركة الفكر وحرية القلب . فلا يتدبر الناس ما هو بين أيديهم من القضايا , ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها . إنما هم يبحثون في ركام الماضي عن "سابقة " يستندون إليها ; فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية وطرحوها !
من الاية 24 الى الاية 26
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
وعند هذه الجماعات الجاحدة الخامدة أن ما كان مرة يمكن أن يكون ثانية . فأما الذي لم يكن فإنه لا يمكن أن يكون ! وهكذا تجمد الحياة , وتقف حركتها , وتتسمر خطاها , عند جيل معين من (آبائنا الأولين)!
ويا ليتهم يدركون أنهم جامدون متحجرون , إنما هم يتهمون دعاة التحرر والانطلاق بالجنون . وهم يدعونهم إلى التدبر والتفكر , والتخلية بين قلوبهم ودلائل الإيمان الناطقة في الوجود . فإذا هم يتلقون هذه الدعوة بالتبجح والاتهام:
(إن هو إلا رجل به جنة , فتربصوا به حتى حين). .
أي إلى أن يأخذه الموت , ويريحكم منه , ومن دعوته , ومن إلحاحه عليكم بالقول الجديد !
عندئذ لم يجد نوح - عليه السلام - منفذا إلى تلك القلوب الجامدة المتحجرة ; ولم يجد له موئلا من السخرية والأذى , إلا أن يتوجه إلى ربه وحده , يشكو إليه ما لقيه من تكذيب ويطلب منه النصر بسبب هذا التكذيب:
(قال:رب انصرني بما كذبون). .
وعندما يتجمد الأحياء على هذا النحو , وتهم الحياة بالحركة إلى الأمام , في طريق الكمال المرسوم , فتجدهم عقبة في الطريق . . عندئذ إما أن تتحطم هذه المتحجرات ; وإما أن تدعها الحياة في مكانها وتمضي . . والأمر الأول هو الذي حدث لقوم نوح . ذلك أنهم كانوا في فجر البشرية وفي أول الطريق ; فشاءت إرادة الله أن تطيح بهم من الطريق:
(فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا , فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين , وأهلك - إلا من سبق عليه القول منهم - ولا تخاطبني في الذين ظلموا . إنهم مغرقون). .
وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم . ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح , وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود . . كان العلاج هو الطوفان , الذي يجتب كل شيء , ويجرف كل شيء . ويغسل التربة , لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد , فتنشأ على نظافة , فتمد وتكبر حتى حين:
(فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا). . والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان , ولحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد . وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده , لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل , وبذل آخر ما في طوقه , ليستحق المدد من ربه . فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين , الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئا على الانتظار ! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني ; فدفع به إلى الأخذ بالأسباب ; مع رعاية الله له , وتعليمه صناعة الفلك , ليتم أمر الله , وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق .
وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور) , وانبجس منه الماء , فتلك هي العلامة ليسارع نوح , فيحمل في السفينة بذور الحياة: (فاسلك فيها من كل زوجين اثنين). . من أنواع الحيوان و الطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان , الميسرة كذلك لبني
من الاية 27 الى الاية 32
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
الإنسان (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم)وهم الذين كفروا وكذبوا , فاستحقوا كلمة الله السابقة , وسنته النافذة , وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله .
وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد , ولا يحاول إنقاذ أحد - ولو كان أقرب الأقربين إليه - ممن سبق عليهم القول .
(ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون).
فسنة الله لا تحابي , ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم , من أجل خاطر ولي ولا قريب !
ولا يفصل هنا ما حدث للقوم بعد هذا الأمر . فقد قضي الأمر , وتقرر: (إنهم مغرقون)ولكنه يمضي في تعليم نوح - عليه السلام - كيف يشكر نعمة ربه , وكيف يحمد فضله , وكيف يستهديه طريقه:
(فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك , فقل:الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين . وقل:رب أنزلني منزلا مباركا , وأنت خير المنزلين). .
فهكذا يحمد الله , وهكذا يتوجه إليه , وهكذا يوصف - سبحانه - بصفاته , ويعترف له بآياته . وهكذا يتأدب في حقه العباد , وفي طليعتهم النبيون , ليكونوا أسوة للآخرين .
ثم يعقب على القصة كلها , وما تتضمنه خطواتها من دلائل القدرة والحكمة:
(إن في ذلك لآيات , وإن كنا لمبتلين). .
والابتلاء ألوان . ابتلاء للصبر . وابتلاء للشكر . وابتلاء للأجر . وابتلاء للتوجيه . وابتلاء للتأديب . وابتلاء للتمحيص . وابتلاء للتقويم . . وفي قصة نوح ألوان من الابتلاء له ولقومه ولأبنائه القادمين . .
الدرس الثاني:31 - 41 لقطات من قصة هود مع عاد
ويمضي السياق يعرض مشهدا آخر من مشاهد الرسالة الواحدة والتكذيب المكرور:
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين . فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون ? وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة , وأترفناهم في الحياة الدنيا:ما هذا إلا بشر مثلكم , يأكل مما تأكلون منه , ويشرب مما تشربون . ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذن لخاسرون . أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ? هيهات هيهات لما توعدون ! إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا , وما نحن بمبعوثين . إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا , وما نحن له بمؤمنين . قال:رب انصرني بما كذبون . قال:عما قليل ليصبحن نادمين . فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء . فبعدا للقوم الظالمين . .
إن استعراض قصص الرسل في هذه السورة ليس للتقصي والتفصيل ; إنما هو لتقرير الكلمة الواحدة التي جاء بها الجميع , والاستقبال الواحد الذي لقوه من الجميع . ومن ثم بدأ بذكر نوح - عليه السلام - ليحدد نقطة البدء ; وانتهى بموسى وعيسى ليحدد النقطة الأخيرة قبل الرسالة الأخيرة . ولم يذكر الأسماء في وسط السلسلة الطويلة , كي يدل على تشابه حلقاتها بين البدء والنهاية . إنما ذكر الكلمة الواحدة في كل حلقة والاستقبال الواحد , لأن هذا هو المقصود .
(ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين). . لم يحدد من هم . وهم على الأرجح عاد قوم هود . .
(فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون ?). . ذات الكلمة الواحدة
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة المؤمنون من الاية 79 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المؤمنون من الاية 33 الى الاية 78 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المؤمنون ايه 43\\\60
» تفسير سورة المؤمنون ايه رقم 1\\\18
» تفسير سورة المؤمنون ايه 18\\\\28
» تفسير سورة المؤمنون من الاية 33 الى الاية 78 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة المؤمنون ايه 43\\\60
» تفسير سورة المؤمنون ايه رقم 1\\\18
» تفسير سورة المؤمنون ايه 18\\\\28
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى