تفسير سورة الانبياء ايه واحد الى ايه 21 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الانبياء ايه واحد الى ايه 21 الشيخ سيد قطب
من الاية 1 الى الاية 3
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
التعريف بالسورة
هذه السورة , مكية تعالج الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السور المكية . . موضوع العقيدة . . تعالجه في ميادينه الكبيرة:ميادين التوحيد , والرسالة والبعث .
وسياق السورة يعالج ذلك الموضوع بعرض النواميس الكونية الكبرى وربط العقيدة بها . فالعقيدة جزءمن بناء هذا الكون , يسير على نواميسه الكبرى ; وهي تقوم على الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض , وعلى الجد الذي تدبر به السموات والأرض , وليست لعبا ولا باطلا , كما أن هذا الكون لم يخلق لعبا , ولم يشب خلقه باطلوما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين). .
ومن ثم يجول بالناس . . بقلوبهم وأبصارهم وأفكارهم . . بين مجالي الكون الكبرى:السماء والأرض . الرواسي والفجاج . الليل والنهار . الشمس والقمر . . . موجها أنظارهم إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرفها , وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبر , والمالك الذي لا شريك له في الملك , كما أنه لا شريك له في الخلق . . (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). .
ثم يوجه مداركهم إلى وحدة النواميس التي تحكم الحياة في هذه الأرض , وإلى وحدة مصدر الحياة: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)وإلى وحدة النهاية التي ينتهي إليها الأحياء: (كل نفس ذائقة الموت). . وإلى وحدة المصير الذي إليه ينتهون: (وإلينا ترجعون). .
والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية الكبرى . فهي واحدة كذلك وإن تعدد الرسل على مدار الزمانوما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). . وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون الرسل كلهم من البشر: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم). .
وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى , فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض . فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل , لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). . وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين , وينجي الله الرسل والمؤمنينثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين). . وأن يرث الأرض عباد الله الصالحونولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون). .
ومن ثم يستعرض السياق أمة الرسل الواحدة في سلسلة طويلة استعراضا سريعا . يطول بعض الشيء عند عرض حلقة من قصة إبراهيم - عليه السلام - وعند الإشارة إلى داود وسليمان . ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح , وموسى , وهارون , ولوط , وإسماعيل , وإدريس , وذي الكفل , وذي النون , وزكريا , ويحيى , وعيسى عليهم السلام .
وفي هذا الاستعراض تتجلى المعاني التي سبقت في سياق السورة . تتجلى . في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات , بعدما تجلت في صورة قواعد عامة ونواميس .
كذلك يتضمن سياق السورة بعض مشاهد القيامة ; وتتمثل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة . .
وهكذا تتجمع الإيقاعات المنوعة في السورة على هدف واحد , هو استجاشة القلب البشري لإدراك الحق الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل [ ص ] فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لاهين كما يصفهم في مطلع السورة: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم . . .).
إن هذه الرسالة حق وجد . كما أن هذا الكون حق وجد . فلا مجال للهو في استقبال الرسالة ; ولا مجاللطلب الآيات الخارقة ; وآيات الله في الكون وسنن الكون كله . توحي بأنه الخالق القادر الواحد , والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد .
نظم هذه السورة من ناحية بنائه اللفظي وإيقاعه الموسيقي هو نظم التقرير , الذي يتناسق مع موضوعها , ومع جو السياق في عرض هذا الموضوع . . يبدو هذا واضحا بموازنته بنظم سورتي مريم وطه مثلا . فهناك الإيقاع الرخي الذي يناسب جوهما . وهنا الإيقاع المستقر الذي يناسب موضوع السورة وجوها . .
ويزيد هذا وضوحا بموازنة نظم قصة إبراهيم - عليه السلام - في مريم ونظمها هنا . وكذلك بالتأمل في الحلقة التي أخذت منها هنا الحلقة التي أخذت منها هناك . ففي سورة مريم أخذت حلقة الحوار الرخي بين إبراهيم وأبيه . أما هنا فجاءت حلقة تحطيم الأصنام , وإلقاء إبراهيم في النار . ليتم التناسق في الموضوع والجو والنظم والإيقاع .
والسياق في هذه السورة يمضي في أشواط أربعة:
الأول:ويبدأ بمطلع قوي الضربات , يهز القلوب هزا , وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق , وهي عنه غافلة لاهية: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . . . الخ.
ثم يهزها هزة أخرى بمشهد من مصارع الغابرين , الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين , فعاشوا سادرين في الغي ظالمينوكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين . فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون . لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون . قالوا:يا ويلنا ! إنا كنا ظالمين . فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين). .
ثم يربط بين الحق والجد في الدعوة , والحق والجد في نظام الكون . وبين عقيدة التوحيد ونواميس الوجود . وبين وحدة الخالق المدبر ووحدة الرسالة والعقيدة . ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها على النحو الذي أسلفناه .
فأما الشوط الثاني فيرجع بالحديث إلى الكفار الذين يواجهون الرسول [ ص ] بالسخرية والاستهزاء , بينما الأمر جد وحق , وكل ما حولهم يوحي باليقظة والاهتمام . وهم يستعجلون العذاب والعذاب منهم قريب . . وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة . ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرسل قبلهم . ويقرر أن ليس لهم من الله من عاصم . ويوجه قلوبهم إلى تأمل يد القدرة وهي تنقص الأرض من أطرافها , وتزوي رقعتها وتطويها , فلعل هذا أن يوقظهم من غفلتهم التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء . .
وينتهي هذا الشوط بتوجيه الرسول [ ص ] إلى بيان وظيفته: (قل:إنما أنذركم بالوحي)وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم: (ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون)حتى تنصب الموازين القسط وهم في غفلتهم سادرون .
ويتضمن الشوط الثالث استعراض أمة النبيين , وفيها تتجلى وحدة الرسالة والعقيدة . كما تتجلى رحمة الله بعباده الصالحين وإيحاؤه لهم وأخذ المكذبين .
أما الشوط الرابع والأخير فيعرض النهاية والمصير , في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة:ويتضمن ختام السورة بمثل ما بدأت:إيقاعا قويا , وإنذارا صريحا , وتخلية بينهم وبين مصيرهم المحتوم . .
الدرس الأول:1 - 9 ذم الكفار لغفلتهم ونقض شبهاتهم على الأنبياء
والآن نأخذ في دراسة الشوط الأول بالتفصيل . .
(اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا . هل هذا إلا بشر مثلكم . أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ? قال:ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم . بل قالوا:أضغاث أحلام , بل افتراه , بل هو شاعر , فليأتنا بآية كما أرسل الأولون . ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها . . أفهم يؤمنون ? وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم , فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام , وما كانوا خالدين . ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين). .
مطلع قوي يهز الغافلين هزا . والحساب يقترب وهم في غفلة . والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى . والموقف جد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته . وكلما جاءهم من القرآن جديد قابلوه باللهو والاستهتار , واستمعوه وهم هازلون يلعبون . . (لاهية قلوبهم). . والقلوب هي موضع التأمل والتدبر والتفكير .
إنها صورة للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد , فتلهو في أخطر المواقف , وتهزل في مواطن الجد ; وتستهتر في مواقف القداسة . فالذكر الذي يأتيهم يأتيهم (من ربهم)فيستقبلونه لا عبين , بلا وقار ولا تقديس . والنفس التي تفرع من الجد والاحتفال والقداسة تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال ; فلا تصلح للنهوض بعبء , ولا الاضطلاع بواجب , ولا القيام بتكليف . وتغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة !
إن روح الاستهتار التي تلهو بالمقدسات روح مريضة . والاستهتار غير الاحتمال . فالاحتمال قوة جادة شاعرة . والاستهتار فقدان للشعور واسترخاء .
وهؤلاء الذين يصفهم القرآن الكريم كانوا يواجهون ما ينزل من القرآن ليكون دستورا للحياة , ومنهاجا للعمل , وقانونا للتعامل . . باللعب . ويواجهون اقتراب الحساب بالغفلة . وأمثال هؤلاء موجودون في كل زمان . فحيثما خلت الروح من الجد والاحتفال والقداسة صارت إلى هذه الصورة المريضة الشائهة التي يرسمها القرآن . والتي تحيل الحياة كلها إلى هزل فارغ , لا هدف له ولا قوام !
ذلك بينما كان المؤمنون يتلقون هذه السورة بالاهتمام الذي يذهل القلوب عن الدنيا وما فيها:
جاء في ترجمة الأمدي لعامر بن ربيعة أنه كان قد نزل به رجل من العرب فأكرم مثواه . . ثم جاءه هذا الرجل وقد أصاب أرضا فقال له:إني استقطعت من رسول الله [ ص ] واديا في العرب . وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك . فقال عامر:لا حاجة لي في قطيعتك . نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيااقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون). .
وهذا هو فرق ما بين القلوب الحية المتلقية المتأثرة , والقلوب الميتة المغلقة الخامدة . التي تكفن ميتتها باللهو ; وتواري خمودها بالاستهتار ; ولا تتأثر بالذكر لأنها خاوية من مقومات الحياة .
(وأسروا النجوى الذين ظلموا). . وقد كانوا يتناجون فيما بينهم ويتآمرون خفية , يقولون عن رسول الله [ ص ]: (هل هذا إلا بشر مثلكم ? أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ?).
فهم على موت قلوبهم وفراغها من الحياة لم يكونوا يملكون أنفسهم من أن تتزلزل بهذا القرآن ; فكانوا
من الاية 4 الى الاية 8
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (
يلجأون في مقاومة تأثيره الطاغي إلى التعلات , يقولون:إن محمدا بشر . فكيف تؤمنون لبشر مثلكم ? وإن ما جاء به السحر . فكيف تجيئون للسحر وتنقادون له وفيكم عيون وأنتم تبصرون ?!
عند ذلك وكل الرسول [ ص ] أمرهم وأمره إلى ربه , وقد أخبره الله بنجواهم التي أداروها بينهم خفية ; وأطلعه على كيدهم الذي يتقون به القرآن وأثره !
(قال:ربي يعلم القول في السماء والأرض , وهو السميع العليم).
فما من نجوى في مكان على الأرض إلا وهو مطلع عليها - وهو الذي يعلم القول في السماء والأرض . . . وما من مؤامرة يحدثونها إلا وهو كاشفها ومطلع رسوله عليها - وهو السميع العليم .
ولقد حاروا كيف يصفون هذا القرآن وكيف يتقونه . فقالوا:إنه سحر . وقالوا:إنه أحلام مختلطة يراها محمد ويرويها . وقالوا:إنه شعر . وقالوا:إنه افتراه وزعم إنه وحي من عند الله:
(بل قالوا:أضغاث أحلام , بل افتراه , بل هو شاعر). .
ولم يثبتوا على صفة له , ولا على رأي يرونه فيه , لأنهم إنما يتمحلون ويحاولون أن يعللوا أثره المزلزل في نفوسهم بشتى التعلات فلا يستطيعون ; فينتقلون من ادعاء إلى ادعاء , ومن تعليل إلى تعليل , حائرين غير مستقرين . . ثم يخلصون من الحرج بأن يطلبوا بدل القرآن خارقة من الخوارق التي جاء بها الأولون:
(فليأتنا بآية كما أرسل الأولون). .
ولقد جاءت الخوارق من قبل , فلم يؤمن بها من جاءتهم , فحل بهم الهلاك , وفقا لسنة الله التي لا تتخلف في إهلاك من يكذبون بالخوارق:
(ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها). .
ذلك أن من يبلغ به العناد ألا يؤمن بالخارقة المادية المحسوسة , لا يبقى له عذر , ولا يرجى له صلاح . فيحق عليه الهلاك .
ولقد تكررت الآيات , وتكرر التكذيب بها , وتكرر كذلك إهلاك المكذبين . . فما بال هؤلاء سيؤمنون بالخارقة لو جاءتهم ; وهم ليسوا سوى بشر كهؤلاء الهالكين !
(أفهم يؤمنون). .
(وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم , فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام , وما كانوا خالدين). .
فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل من البشر , يتلقون الوحي فيدعون به الناس . وما كان الرسل من قبل إلا رجالا ذوي أجساد . وما جعل الله لهم أجسادا ثم جعلهم لا يأكلون الطعام . فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية , والجسدية من مقتضيات البشرية . وهم بحكم أنهم بشر مخلوقون لم يكونوا خالدين . . هذه هي سنة الله المطردة فليسألوا أهل الكتاب الذين عرفوا الأنبياء من قبل . إن كانوا هم لا يعلمون .
لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر ; فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم . وسلوكهم العملي نموذجا حيا لما يدعون إليه الناس . فالكلمة الحية الواقعية هي التي تؤثر وتهدي , لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة .
ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام , ولا يمشون في الأسواق , ولا يعاشرون النساء .
من الاية 9 الى الاية 9
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس . فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم , ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون .
وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره , فإنه يقف على هامش حياتهم , لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه . ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول . لما بينه وبينهم من قطيعة في الحس والشعور .
وأيما داعية لا يصدق فعله قوله . فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب . مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة . فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال , ويؤيدها العمل . هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل .
والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة , كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزها عن انفعالات البشر . . كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة . وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها . . لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته , ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص . وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر , وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس .
وهنالك اعتبار آخر , وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته ; لأنه من جنس غير جنسهم , وطبيعة غير طبيعتهم , فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية . وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس .
وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله , باختيار الرسل منه , ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه .
لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر ; وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت . ومن عواطف وانفعالات . ومن آلام وآمال . ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء . . وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم . . أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض , بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة .
تلك سنة الله في اختيار الرسل . ومثلها سنته في إنجائهم ومن معهم , وإهلاك المسرفين الظالمين المكذبين:
(ثم صدقناهم الوعد , فأنجيناهم ومن نشاء , وأهلكنا المسرفين). .
فهي كذلك سنة جارية كسنة اختيارهم . وقد وعدهم الله النجاة هم والمؤمنون معهم إيمانا حقيقيا يصدقه العمل ; فصدقهم وعده , وأهلك , الذين كانوا يسرفون عليهم , ويتجاوزون الحد معهم .
الدرس الثاني:10 - 15 مهمة القرآن ولفت نظر الكفار لمصارع السابقين
هذه السنة يخوف الله بها المشركين الذين كانوا يواجهون الرسول [ ص ] بالإسراف عليه , وتكذيبه , وإيذائه والمؤمنين معه . وينبههم إلى أنه رحمة بهم لم يرسل إليهم بخارقة مادية , يتبعها هلاكهم , إذا هم كذبوا بها كما كذب من قبلهم . إنما أرسل إليهم بكتاب يشرفهم لأنه بلغتهم , ويقوم حياتهم , ويخلق منهم أمة ذات سيادة في الأرض وذكر في الناس . وهو مفتوح للعقول تتدبره , وترتفع به في سلم البشرية:
(لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ?)
من الاية 10 الى الاية 12
لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال , وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد , ولا يتأثر بها إلا الذين يرونها من ذلك الجيل .
ولقد كان به ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا . فلم يكن لهم قبله ذكر , ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به . ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب , وقادوا به البشرية قرونا طويلة , فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب . حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية , وانحط فيها ذكرهم , وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس , وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون !
وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد . وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة . فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم , لأنها تجد عندهم ما تنتفع به . فأما إذا تقدموا إليها عربا فحسب بجنسية العرب . فما هم ? وما ذاك ? وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب ? إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة . . لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب . فذلك لا يساوي شيئا في تاريخ البشرية , ولا مدلول له في معجم الحضارة ! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته . وهذا أمر له مدلوله في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة !
. . ذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم , وهو يقول للمشركين , الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة والتكذيبلقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ?).
ولقد كانت رحمة بهم أن ينزل الله لهم هذا القرآن . ولا يأتيهم بالخارقة التي يطلبونها . فلا يأخذهم وفق سنته بالفاصمة كالقرى التي كذبت فاستأصلت . . وهنا يعرض مشهدا حيا من القصم والاستئصال:
(وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين . فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون . لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون . . قالوا:يا ويلنا إنا كنا ظالمين . فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين). .
والقصم أشد حركات القطع . وجرسها اللفظي يصور معناها , ويلقي ظل الشدة والعنف والتحطيم والقضاء الحاسم على القرى التي كانت ظالمة . فإذا هي مدمرة محطمة . . (وأنشأنا بعدها قوما آخرين).
وهو عند القصم يوقع الفعل على القرى ليشمل ما فيها ومن فيها . وعند الإنشاء يوقع الفعل على القوم الذين ينشأون ويعيدون إنشاء القرى . . وهذه حقيقة في ذاتها .
فالدمار يحل بالديار والديار . والإنشاء يبدأ بالديارين فيعيدون إنشاء الدور . . ولكن عرض هذه الحقيقة في هذه الصورة يضخم عملية القصم والتدمير , وهذا هو الظل المراد إلقاؤه بالتعبير على طريقة التصوير !
ثم ننظر فنشهد حركة القوم في تلك القرى وبأس الله يأخذهم , وهم كالفيران في المصيدة يضطربون من هنا إلى هناك قبيل الخمود:
(فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون). .
يسارعون بالخروج من القرية ركضا وعدوا , وقد تبين لهم أنهم مأخوذون ببأس الله . كأنما الركض ينجيهم
من الاية 13 الى الاية 17
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
من بأس الله . وكأنما هم أسرع عدوا فلا يلحق بهم حيث يركضون ! ولكنها حركة الفأر في المصيدة بلا تفكير ولا شعور .
عندئذ يتلقون التهكم المرير:
(لا تركضوا , وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون)!
لا تركضوا من قريتكم . وعودوا إلى متاعكم الهنيء وعيشكم الرغيد وسكنكم المريح . . عودوا لعلكم تسألون عن ذلك كله فيم أنفقتموه ?!
وما عاد هنالك مجال لسؤال ولا لجواب . إنما هو التهكم والاستهزاء !
عند ذلك يفيقون فيشعرون بأن لا مفر ولا مهرب من بأس الله المحيط . وأنه لا ينفعهم ركض , ولا ينقذهم فرار . فيحاولون الاعتراف والتوبة والاستغفار:
(قالوا:يا ويلنا ! إنا كنا ظالمين). .
ولكن لقد فات الأوان . فليقولوا ما يشاءون . فإنهم لمتروكون يقولون حتى يقضى الأمر وتخمد الأنفاس:
(فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين). .
ويا له من حصيد آدمي , لا حركة فيه ولا حياة ; وكان منذ لحظة يموج بالحركة , وتضطرب فيه الحياة !
الدرس الثالث:16 - 18 الجدية في خلق الكون وهزيمة الباطل أمام الحق
هنا يربط السياق بين العقيدة التي سبق الحديث عنها , وسننها التي تجري عليها , والتي تأخذ المكذبين بها . يربط بينها وبين الحق الكبير والجد الأصيل , اللذين يقوم بهما الكون كله , ويتلبس بهما خلق السماوات والأرض في صميمه .
فإذا كان المشركون يستقبلون القرآن كلما جاءهم منه جديد باللعب واللهو , غافلين عما في الأمر من حق وجد . وإذا كانوا يغفلون عن يوم الحساب القريب , وعما ينتظر المكذبين المستهزئين . . فإن سنة الله مطردة نافذة مرتبطة بالحق الكبير والجد الأصيل:
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين . لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا . إن كنا فاعلين . بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق , ولكم الويل مما تصفون). .
لقد خلق الله سبحانه هذا الكون لحكمة , لا لعبا ولا لهوا . ودبره بحكمة , لا جزافا ولا هوى , وبالجد الذي خلق به السماء والأرض وما بينهما أرسل الرسل , وأنزل الكتب , وفرض الفرائض , وشرع التكاليف . . فالجد أصيل في طبيعة هذا الكون , أصيل في تدبيره , أصيل في العقيدة التي أرادها الله للناس , أصيل في الحساب الذي يأخذهم به بعد الممات .
ولو أراد الله سبحانه - أن يتخذ لهوا لاتخذه من لدنه . لهوا ذاتيا لا يتعلق بشيء من مخلوقاته الحادثة الفانية .
وهو مجرد فرض جدلي: (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا). . ولو - كما يقول النحاة - حرف امتناع لامتناع . تفيد امتناع وقوع فعل الجواب لامتناع وقوع فعل الشرط . فالله سبحانه لم يرد أن يتخذ لهوا فلم يكن هناك لهو . لا من لدنه ولا من شيء خارج عنه .
ولن يكون لأن الله - سبحانه - لم يرده ابتداء ولم يوجه إليه إرادته أصلا: إن كنا فاعلين . . وإن حرف نفي بمعنى ما , والصيغة لنفي إرادة الفعل ابتداء
من الاية 18 الى الاية 18
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
إنما هو فرض جدلي لتقرير حقيقة مجردة . . هي أن كل ما يتعلق بذات الله - سبحانه - قديم لا حادث , وباق غير فان . فلو أراد - سبحانه - أن يتخذ لهوا لما كان هذا اللهو حادثا , ولا كان متعلقا بحادث كالسماء والأرض وما بينهما فكلها حوادث . . إنما كان يكون ذاتيا من لدنه سبحانه . فيكون أزليا باقيا , لأنه يتعلق بالذات الأزلية الباقية .
إنما الناموس المقرر والسنة المطردة ألا يكون هناك لهو , إنما يكون هناك جد , ويكون هناك حق , فيغلب الحق الأصيل على الباطل العارض:
(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). .
و(بل)للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو ; والعدول عنه إلى الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس . وهو غلبة الحق وزهوق الباطل .
والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية حية متحركة . فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة . تقذف به على الباطل , فيشق دماغه ! فإذا هو زاهق هالك ذاهب . .
هذه هي السنة المقررة , فالحق أصيل في طبيعة الكون , عميق في تكوين الوجود . والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلا , طاريء لا أصالة فيه , ولا سلطان له , يطارده الله , ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله ; ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه !
ولقد يخيل للناس أحيانا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب , ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان , يمد الله فيها ما يشاء , للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ; وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء .
والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده ; وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ; وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه . . فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة ; وأدركوا أنه الابتلاء ; وأحسوا أن ربهم يربيهم , لأن فيهم ضعفا أو نقصا ; وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر , وأن يجعلهم ستار القدرة , فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف . . وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء , وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)والله يفعل ما يريد .
الدرس الرابع:19 - 20 عبادة الملائكة وخضوعهم لله
هكذا يقرر القرآن الكريم تلك الحقيقة للمشركين , الذين يتقولون على القرآن وعلى الرسول [ ص ] ويصفونه بالسحر والشعر والافتراء . وهو الحق الغالب الذي يدمغ الباطل , فإذا هو زاهق . . ثم يعقب على ذلك التقرير بإنذارهم عاقبة ما يتقولون: (ولكم الويل مما تصفون). .
ثم يعرض لهم نموذجا من نماذج الطاعة والعبادة في مقابل عصيانهم وإعراضهم . نموذجا ممن هم أقرب منهم إلى الله . ومع هذا فهم دائبون على طاعته وعبادته , لا يفترون ولا يقصرون:
(وله من في السماوات والأرض . ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون , يسبحون الليل والنهار لا يفترون). . من الاية 19 الى الاية 21
وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21)
ومن في السماوات والأرض لا يعلمهم إلا الله , ولا يحصيهم إلا الله . والعلم البشري لا يستيقن إلا من وجود البشر . والمؤمنون يستيقنون من وجود الملائكة والجن كذلك لذكرهما في القرآن . ولكننا لا نعرف عنهم إلا ما أخبرنا به خالقهم . وقد يكون هناك غيرهم من العقلاء في غير هذا الكوكب الأرضي , بطبائع وأشكال تناسب طبيعة تلك الكواكب . وعلم ذلك عند الله .
فإذا نحن قرأنا: (وله من في السماوات والأرض)عرفنا منهم من نعرف , وتركنا علم من لا نعلم لخالق السماوات والأرض ومن فيهن .
(ومن عنده)المفهوم القريب أنهم الملائكة . ولكننا لا نحدد ولا نقيد ما دام النص عاما يشمل الملائكة وغيرهم . والمفهوم من التعبير أنهم هم الأقرب إلى الله . فكلمة "عند" بالقياس إلى الله لا تعني مكانا , ولا تحدد وصفا .
(ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته)كما يستكبر هؤلاء المشركون (ولا يستحسرون)- أي يقصرون - في العبادة . فحياتهم كلها عبادة وتسبيح بالليل والنهار دون انقطاع ولا فتور . .
والبشر يملكون أن تكون حياتهم كلها عبادة دون أن ينقطعوا للتسبيح والتعبد كالملائكة . فالإسلام يعد كل حركة وكل نفس عبادة إذا توجه بها صاحبها إلى الله . ولو كانت متاعا ذاتيا بطيبات الحياة !
الدرس الخامس:21 - 25 إبطال شرك الكفار والإستدلال على الوحدانية
وفي ظل التسبيح الذي لا يفتر ولا ينقطع لله الواحد , مالك السماوات والأرض ومن فيهن . يجيء الإنكار على المشركين واستنكار دعواهم في الآلهة . ويعرض السياق دليل الوحدانية من المشهود في نظام الكون وناموسه الواحد الدال على المدبر الواحد ; ومن المنقول عن الكتب السابقة عند أهل الكتاب:
(أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ? لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا . فسبحان الله رب العرش عما يصفون . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . أم اتخذوا من دونه آلهة ? قل:هاتوا برهانكم . هذا ذكر من معي وذكر من قبلي . بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون . وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). .
والسؤال عن اتخاذهم آلهة هو سؤال استنكار للواقع منهم . ووصف هؤلاء الآلهة بأنهم ينشرون من الأرض أي يقيمون الأموات ويبعثونهم أحياء . فيه تهكم بتلك الآلهة التي اتخذوها . فمن أول صفات الإله الحق أن ينشر الأموات من الأرض . فهل الآلهة التي اتخذوها تفعل هذا ? إنها لا تفعل , ولا يدعون لها هم أنها تخلق حياة أو تعيد حياة . فهي إذن فاقدة للصفة الأولى من صفات الإله .
ذلك منطق الواقع المشهود في الأرض . وهنالك الدليل الكوني المستمد من واقع الوجود: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). .
فالكون قائم على الناموس الواحد الذي يربط بين أجزائه جميعا ; وينسق بين أجزائه جميعا ; وبين حركات هذه الأجزاء وحركة المجموع المنظم . . هذا الناموس الواحد من صنع إرادة واحدة لإله واحد . فلو تعددت الذوات لتعددت الإرادات . ولتعددت النواميس تبعا لها - فالإرادة مظهر الذات المريدة . والناموس مظهر الإرادة النافذة - ولانعدمت الوحدة التي تنسق الجهاز الكوني كله , وتوحد منهجه واتجاهه وسلوكه ; ولوقع الاضطراب والفساد تبعا لفقدان التناسق . . هذا التناسق الملحوظ الذي لا ينكره أشد الملحدين لأنه واقع محسوس .
وإن الفطرة السليمة التي تتلقي إيقاع الناموس الواحد للوجود كله , لتشهد شهادة فطرية بوحدة هذا
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
التعريف بالسورة
هذه السورة , مكية تعالج الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السور المكية . . موضوع العقيدة . . تعالجه في ميادينه الكبيرة:ميادين التوحيد , والرسالة والبعث .
وسياق السورة يعالج ذلك الموضوع بعرض النواميس الكونية الكبرى وربط العقيدة بها . فالعقيدة جزءمن بناء هذا الكون , يسير على نواميسه الكبرى ; وهي تقوم على الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض , وعلى الجد الذي تدبر به السموات والأرض , وليست لعبا ولا باطلا , كما أن هذا الكون لم يخلق لعبا , ولم يشب خلقه باطلوما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين). .
ومن ثم يجول بالناس . . بقلوبهم وأبصارهم وأفكارهم . . بين مجالي الكون الكبرى:السماء والأرض . الرواسي والفجاج . الليل والنهار . الشمس والقمر . . . موجها أنظارهم إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرفها , وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبر , والمالك الذي لا شريك له في الملك , كما أنه لا شريك له في الخلق . . (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). .
ثم يوجه مداركهم إلى وحدة النواميس التي تحكم الحياة في هذه الأرض , وإلى وحدة مصدر الحياة: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)وإلى وحدة النهاية التي ينتهي إليها الأحياء: (كل نفس ذائقة الموت). . وإلى وحدة المصير الذي إليه ينتهون: (وإلينا ترجعون). .
والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية الكبرى . فهي واحدة كذلك وإن تعدد الرسل على مدار الزمانوما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). . وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون الرسل كلهم من البشر: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم). .
وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى , فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض . فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل , لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). . وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين , وينجي الله الرسل والمؤمنينثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين). . وأن يرث الأرض عباد الله الصالحونولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون). .
ومن ثم يستعرض السياق أمة الرسل الواحدة في سلسلة طويلة استعراضا سريعا . يطول بعض الشيء عند عرض حلقة من قصة إبراهيم - عليه السلام - وعند الإشارة إلى داود وسليمان . ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح , وموسى , وهارون , ولوط , وإسماعيل , وإدريس , وذي الكفل , وذي النون , وزكريا , ويحيى , وعيسى عليهم السلام .
وفي هذا الاستعراض تتجلى المعاني التي سبقت في سياق السورة . تتجلى . في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات , بعدما تجلت في صورة قواعد عامة ونواميس .
كذلك يتضمن سياق السورة بعض مشاهد القيامة ; وتتمثل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة . .
وهكذا تتجمع الإيقاعات المنوعة في السورة على هدف واحد , هو استجاشة القلب البشري لإدراك الحق الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل [ ص ] فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لاهين كما يصفهم في مطلع السورة: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم . . .).
إن هذه الرسالة حق وجد . كما أن هذا الكون حق وجد . فلا مجال للهو في استقبال الرسالة ; ولا مجاللطلب الآيات الخارقة ; وآيات الله في الكون وسنن الكون كله . توحي بأنه الخالق القادر الواحد , والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد .
نظم هذه السورة من ناحية بنائه اللفظي وإيقاعه الموسيقي هو نظم التقرير , الذي يتناسق مع موضوعها , ومع جو السياق في عرض هذا الموضوع . . يبدو هذا واضحا بموازنته بنظم سورتي مريم وطه مثلا . فهناك الإيقاع الرخي الذي يناسب جوهما . وهنا الإيقاع المستقر الذي يناسب موضوع السورة وجوها . .
ويزيد هذا وضوحا بموازنة نظم قصة إبراهيم - عليه السلام - في مريم ونظمها هنا . وكذلك بالتأمل في الحلقة التي أخذت منها هنا الحلقة التي أخذت منها هناك . ففي سورة مريم أخذت حلقة الحوار الرخي بين إبراهيم وأبيه . أما هنا فجاءت حلقة تحطيم الأصنام , وإلقاء إبراهيم في النار . ليتم التناسق في الموضوع والجو والنظم والإيقاع .
والسياق في هذه السورة يمضي في أشواط أربعة:
الأول:ويبدأ بمطلع قوي الضربات , يهز القلوب هزا , وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق , وهي عنه غافلة لاهية: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . . . الخ.
ثم يهزها هزة أخرى بمشهد من مصارع الغابرين , الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين , فعاشوا سادرين في الغي ظالمينوكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين . فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون . لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون . قالوا:يا ويلنا ! إنا كنا ظالمين . فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين). .
ثم يربط بين الحق والجد في الدعوة , والحق والجد في نظام الكون . وبين عقيدة التوحيد ونواميس الوجود . وبين وحدة الخالق المدبر ووحدة الرسالة والعقيدة . ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها على النحو الذي أسلفناه .
فأما الشوط الثاني فيرجع بالحديث إلى الكفار الذين يواجهون الرسول [ ص ] بالسخرية والاستهزاء , بينما الأمر جد وحق , وكل ما حولهم يوحي باليقظة والاهتمام . وهم يستعجلون العذاب والعذاب منهم قريب . . وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة . ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرسل قبلهم . ويقرر أن ليس لهم من الله من عاصم . ويوجه قلوبهم إلى تأمل يد القدرة وهي تنقص الأرض من أطرافها , وتزوي رقعتها وتطويها , فلعل هذا أن يوقظهم من غفلتهم التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء . .
وينتهي هذا الشوط بتوجيه الرسول [ ص ] إلى بيان وظيفته: (قل:إنما أنذركم بالوحي)وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم: (ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون)حتى تنصب الموازين القسط وهم في غفلتهم سادرون .
ويتضمن الشوط الثالث استعراض أمة النبيين , وفيها تتجلى وحدة الرسالة والعقيدة . كما تتجلى رحمة الله بعباده الصالحين وإيحاؤه لهم وأخذ المكذبين .
أما الشوط الرابع والأخير فيعرض النهاية والمصير , في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة:ويتضمن ختام السورة بمثل ما بدأت:إيقاعا قويا , وإنذارا صريحا , وتخلية بينهم وبين مصيرهم المحتوم . .
الدرس الأول:1 - 9 ذم الكفار لغفلتهم ونقض شبهاتهم على الأنبياء
والآن نأخذ في دراسة الشوط الأول بالتفصيل . .
(اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون . ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا . هل هذا إلا بشر مثلكم . أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ? قال:ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم . بل قالوا:أضغاث أحلام , بل افتراه , بل هو شاعر , فليأتنا بآية كما أرسل الأولون . ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها . . أفهم يؤمنون ? وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم , فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام , وما كانوا خالدين . ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين). .
مطلع قوي يهز الغافلين هزا . والحساب يقترب وهم في غفلة . والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى . والموقف جد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته . وكلما جاءهم من القرآن جديد قابلوه باللهو والاستهتار , واستمعوه وهم هازلون يلعبون . . (لاهية قلوبهم). . والقلوب هي موضع التأمل والتدبر والتفكير .
إنها صورة للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد , فتلهو في أخطر المواقف , وتهزل في مواطن الجد ; وتستهتر في مواقف القداسة . فالذكر الذي يأتيهم يأتيهم (من ربهم)فيستقبلونه لا عبين , بلا وقار ولا تقديس . والنفس التي تفرع من الجد والاحتفال والقداسة تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال ; فلا تصلح للنهوض بعبء , ولا الاضطلاع بواجب , ولا القيام بتكليف . وتغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة !
إن روح الاستهتار التي تلهو بالمقدسات روح مريضة . والاستهتار غير الاحتمال . فالاحتمال قوة جادة شاعرة . والاستهتار فقدان للشعور واسترخاء .
وهؤلاء الذين يصفهم القرآن الكريم كانوا يواجهون ما ينزل من القرآن ليكون دستورا للحياة , ومنهاجا للعمل , وقانونا للتعامل . . باللعب . ويواجهون اقتراب الحساب بالغفلة . وأمثال هؤلاء موجودون في كل زمان . فحيثما خلت الروح من الجد والاحتفال والقداسة صارت إلى هذه الصورة المريضة الشائهة التي يرسمها القرآن . والتي تحيل الحياة كلها إلى هزل فارغ , لا هدف له ولا قوام !
ذلك بينما كان المؤمنون يتلقون هذه السورة بالاهتمام الذي يذهل القلوب عن الدنيا وما فيها:
جاء في ترجمة الأمدي لعامر بن ربيعة أنه كان قد نزل به رجل من العرب فأكرم مثواه . . ثم جاءه هذا الرجل وقد أصاب أرضا فقال له:إني استقطعت من رسول الله [ ص ] واديا في العرب . وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك . فقال عامر:لا حاجة لي في قطيعتك . نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيااقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون). .
وهذا هو فرق ما بين القلوب الحية المتلقية المتأثرة , والقلوب الميتة المغلقة الخامدة . التي تكفن ميتتها باللهو ; وتواري خمودها بالاستهتار ; ولا تتأثر بالذكر لأنها خاوية من مقومات الحياة .
(وأسروا النجوى الذين ظلموا). . وقد كانوا يتناجون فيما بينهم ويتآمرون خفية , يقولون عن رسول الله [ ص ]: (هل هذا إلا بشر مثلكم ? أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ?).
فهم على موت قلوبهم وفراغها من الحياة لم يكونوا يملكون أنفسهم من أن تتزلزل بهذا القرآن ; فكانوا
من الاية 4 الى الاية 8
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (
يلجأون في مقاومة تأثيره الطاغي إلى التعلات , يقولون:إن محمدا بشر . فكيف تؤمنون لبشر مثلكم ? وإن ما جاء به السحر . فكيف تجيئون للسحر وتنقادون له وفيكم عيون وأنتم تبصرون ?!
عند ذلك وكل الرسول [ ص ] أمرهم وأمره إلى ربه , وقد أخبره الله بنجواهم التي أداروها بينهم خفية ; وأطلعه على كيدهم الذي يتقون به القرآن وأثره !
(قال:ربي يعلم القول في السماء والأرض , وهو السميع العليم).
فما من نجوى في مكان على الأرض إلا وهو مطلع عليها - وهو الذي يعلم القول في السماء والأرض . . . وما من مؤامرة يحدثونها إلا وهو كاشفها ومطلع رسوله عليها - وهو السميع العليم .
ولقد حاروا كيف يصفون هذا القرآن وكيف يتقونه . فقالوا:إنه سحر . وقالوا:إنه أحلام مختلطة يراها محمد ويرويها . وقالوا:إنه شعر . وقالوا:إنه افتراه وزعم إنه وحي من عند الله:
(بل قالوا:أضغاث أحلام , بل افتراه , بل هو شاعر). .
ولم يثبتوا على صفة له , ولا على رأي يرونه فيه , لأنهم إنما يتمحلون ويحاولون أن يعللوا أثره المزلزل في نفوسهم بشتى التعلات فلا يستطيعون ; فينتقلون من ادعاء إلى ادعاء , ومن تعليل إلى تعليل , حائرين غير مستقرين . . ثم يخلصون من الحرج بأن يطلبوا بدل القرآن خارقة من الخوارق التي جاء بها الأولون:
(فليأتنا بآية كما أرسل الأولون). .
ولقد جاءت الخوارق من قبل , فلم يؤمن بها من جاءتهم , فحل بهم الهلاك , وفقا لسنة الله التي لا تتخلف في إهلاك من يكذبون بالخوارق:
(ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها). .
ذلك أن من يبلغ به العناد ألا يؤمن بالخارقة المادية المحسوسة , لا يبقى له عذر , ولا يرجى له صلاح . فيحق عليه الهلاك .
ولقد تكررت الآيات , وتكرر التكذيب بها , وتكرر كذلك إهلاك المكذبين . . فما بال هؤلاء سيؤمنون بالخارقة لو جاءتهم ; وهم ليسوا سوى بشر كهؤلاء الهالكين !
(أفهم يؤمنون). .
(وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم , فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام , وما كانوا خالدين). .
فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل من البشر , يتلقون الوحي فيدعون به الناس . وما كان الرسل من قبل إلا رجالا ذوي أجساد . وما جعل الله لهم أجسادا ثم جعلهم لا يأكلون الطعام . فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية , والجسدية من مقتضيات البشرية . وهم بحكم أنهم بشر مخلوقون لم يكونوا خالدين . . هذه هي سنة الله المطردة فليسألوا أهل الكتاب الذين عرفوا الأنبياء من قبل . إن كانوا هم لا يعلمون .
لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر ; فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم . وسلوكهم العملي نموذجا حيا لما يدعون إليه الناس . فالكلمة الحية الواقعية هي التي تؤثر وتهدي , لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة .
ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام , ولا يمشون في الأسواق , ولا يعاشرون النساء .
من الاية 9 الى الاية 9
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس . فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم , ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون .
وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره , فإنه يقف على هامش حياتهم , لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه . ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول . لما بينه وبينهم من قطيعة في الحس والشعور .
وأيما داعية لا يصدق فعله قوله . فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب . مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة . فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال , ويؤيدها العمل . هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل .
والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة , كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزها عن انفعالات البشر . . كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة . وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها . . لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته , ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص . وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر , وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس .
وهنالك اعتبار آخر , وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته ; لأنه من جنس غير جنسهم , وطبيعة غير طبيعتهم , فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية . وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس .
وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله , باختيار الرسل منه , ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه .
لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر ; وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت . ومن عواطف وانفعالات . ومن آلام وآمال . ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء . . وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم . . أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض , بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة .
تلك سنة الله في اختيار الرسل . ومثلها سنته في إنجائهم ومن معهم , وإهلاك المسرفين الظالمين المكذبين:
(ثم صدقناهم الوعد , فأنجيناهم ومن نشاء , وأهلكنا المسرفين). .
فهي كذلك سنة جارية كسنة اختيارهم . وقد وعدهم الله النجاة هم والمؤمنون معهم إيمانا حقيقيا يصدقه العمل ; فصدقهم وعده , وأهلك , الذين كانوا يسرفون عليهم , ويتجاوزون الحد معهم .
الدرس الثاني:10 - 15 مهمة القرآن ولفت نظر الكفار لمصارع السابقين
هذه السنة يخوف الله بها المشركين الذين كانوا يواجهون الرسول [ ص ] بالإسراف عليه , وتكذيبه , وإيذائه والمؤمنين معه . وينبههم إلى أنه رحمة بهم لم يرسل إليهم بخارقة مادية , يتبعها هلاكهم , إذا هم كذبوا بها كما كذب من قبلهم . إنما أرسل إليهم بكتاب يشرفهم لأنه بلغتهم , ويقوم حياتهم , ويخلق منهم أمة ذات سيادة في الأرض وذكر في الناس . وهو مفتوح للعقول تتدبره , وترتفع به في سلم البشرية:
(لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ?)
من الاية 10 الى الاية 12
لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال , وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد , ولا يتأثر بها إلا الذين يرونها من ذلك الجيل .
ولقد كان به ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا . فلم يكن لهم قبله ذكر , ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به . ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب , وقادوا به البشرية قرونا طويلة , فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب . حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية , وانحط فيها ذكرهم , وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس , وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون !
وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد . وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة . فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم , لأنها تجد عندهم ما تنتفع به . فأما إذا تقدموا إليها عربا فحسب بجنسية العرب . فما هم ? وما ذاك ? وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب ? إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة . . لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب . فذلك لا يساوي شيئا في تاريخ البشرية , ولا مدلول له في معجم الحضارة ! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته . وهذا أمر له مدلوله في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة !
. . ذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم , وهو يقول للمشركين , الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة والتكذيبلقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ?).
ولقد كانت رحمة بهم أن ينزل الله لهم هذا القرآن . ولا يأتيهم بالخارقة التي يطلبونها . فلا يأخذهم وفق سنته بالفاصمة كالقرى التي كذبت فاستأصلت . . وهنا يعرض مشهدا حيا من القصم والاستئصال:
(وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين . فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون . لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون . . قالوا:يا ويلنا إنا كنا ظالمين . فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين). .
والقصم أشد حركات القطع . وجرسها اللفظي يصور معناها , ويلقي ظل الشدة والعنف والتحطيم والقضاء الحاسم على القرى التي كانت ظالمة . فإذا هي مدمرة محطمة . . (وأنشأنا بعدها قوما آخرين).
وهو عند القصم يوقع الفعل على القرى ليشمل ما فيها ومن فيها . وعند الإنشاء يوقع الفعل على القوم الذين ينشأون ويعيدون إنشاء القرى . . وهذه حقيقة في ذاتها .
فالدمار يحل بالديار والديار . والإنشاء يبدأ بالديارين فيعيدون إنشاء الدور . . ولكن عرض هذه الحقيقة في هذه الصورة يضخم عملية القصم والتدمير , وهذا هو الظل المراد إلقاؤه بالتعبير على طريقة التصوير !
ثم ننظر فنشهد حركة القوم في تلك القرى وبأس الله يأخذهم , وهم كالفيران في المصيدة يضطربون من هنا إلى هناك قبيل الخمود:
(فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون). .
يسارعون بالخروج من القرية ركضا وعدوا , وقد تبين لهم أنهم مأخوذون ببأس الله . كأنما الركض ينجيهم
من الاية 13 الى الاية 17
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
من بأس الله . وكأنما هم أسرع عدوا فلا يلحق بهم حيث يركضون ! ولكنها حركة الفأر في المصيدة بلا تفكير ولا شعور .
عندئذ يتلقون التهكم المرير:
(لا تركضوا , وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون)!
لا تركضوا من قريتكم . وعودوا إلى متاعكم الهنيء وعيشكم الرغيد وسكنكم المريح . . عودوا لعلكم تسألون عن ذلك كله فيم أنفقتموه ?!
وما عاد هنالك مجال لسؤال ولا لجواب . إنما هو التهكم والاستهزاء !
عند ذلك يفيقون فيشعرون بأن لا مفر ولا مهرب من بأس الله المحيط . وأنه لا ينفعهم ركض , ولا ينقذهم فرار . فيحاولون الاعتراف والتوبة والاستغفار:
(قالوا:يا ويلنا ! إنا كنا ظالمين). .
ولكن لقد فات الأوان . فليقولوا ما يشاءون . فإنهم لمتروكون يقولون حتى يقضى الأمر وتخمد الأنفاس:
(فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين). .
ويا له من حصيد آدمي , لا حركة فيه ولا حياة ; وكان منذ لحظة يموج بالحركة , وتضطرب فيه الحياة !
الدرس الثالث:16 - 18 الجدية في خلق الكون وهزيمة الباطل أمام الحق
هنا يربط السياق بين العقيدة التي سبق الحديث عنها , وسننها التي تجري عليها , والتي تأخذ المكذبين بها . يربط بينها وبين الحق الكبير والجد الأصيل , اللذين يقوم بهما الكون كله , ويتلبس بهما خلق السماوات والأرض في صميمه .
فإذا كان المشركون يستقبلون القرآن كلما جاءهم منه جديد باللعب واللهو , غافلين عما في الأمر من حق وجد . وإذا كانوا يغفلون عن يوم الحساب القريب , وعما ينتظر المكذبين المستهزئين . . فإن سنة الله مطردة نافذة مرتبطة بالحق الكبير والجد الأصيل:
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين . لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا . إن كنا فاعلين . بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق , ولكم الويل مما تصفون). .
لقد خلق الله سبحانه هذا الكون لحكمة , لا لعبا ولا لهوا . ودبره بحكمة , لا جزافا ولا هوى , وبالجد الذي خلق به السماء والأرض وما بينهما أرسل الرسل , وأنزل الكتب , وفرض الفرائض , وشرع التكاليف . . فالجد أصيل في طبيعة هذا الكون , أصيل في تدبيره , أصيل في العقيدة التي أرادها الله للناس , أصيل في الحساب الذي يأخذهم به بعد الممات .
ولو أراد الله سبحانه - أن يتخذ لهوا لاتخذه من لدنه . لهوا ذاتيا لا يتعلق بشيء من مخلوقاته الحادثة الفانية .
وهو مجرد فرض جدلي: (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا). . ولو - كما يقول النحاة - حرف امتناع لامتناع . تفيد امتناع وقوع فعل الجواب لامتناع وقوع فعل الشرط . فالله سبحانه لم يرد أن يتخذ لهوا فلم يكن هناك لهو . لا من لدنه ولا من شيء خارج عنه .
ولن يكون لأن الله - سبحانه - لم يرده ابتداء ولم يوجه إليه إرادته أصلا: إن كنا فاعلين . . وإن حرف نفي بمعنى ما , والصيغة لنفي إرادة الفعل ابتداء
من الاية 18 الى الاية 18
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
إنما هو فرض جدلي لتقرير حقيقة مجردة . . هي أن كل ما يتعلق بذات الله - سبحانه - قديم لا حادث , وباق غير فان . فلو أراد - سبحانه - أن يتخذ لهوا لما كان هذا اللهو حادثا , ولا كان متعلقا بحادث كالسماء والأرض وما بينهما فكلها حوادث . . إنما كان يكون ذاتيا من لدنه سبحانه . فيكون أزليا باقيا , لأنه يتعلق بالذات الأزلية الباقية .
إنما الناموس المقرر والسنة المطردة ألا يكون هناك لهو , إنما يكون هناك جد , ويكون هناك حق , فيغلب الحق الأصيل على الباطل العارض:
(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). .
و(بل)للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو ; والعدول عنه إلى الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس . وهو غلبة الحق وزهوق الباطل .
والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية حية متحركة . فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة . تقذف به على الباطل , فيشق دماغه ! فإذا هو زاهق هالك ذاهب . .
هذه هي السنة المقررة , فالحق أصيل في طبيعة الكون , عميق في تكوين الوجود . والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلا , طاريء لا أصالة فيه , ولا سلطان له , يطارده الله , ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله ; ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه !
ولقد يخيل للناس أحيانا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب , ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان , يمد الله فيها ما يشاء , للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ; وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء .
والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده ; وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ; وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه . . فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة ; وأدركوا أنه الابتلاء ; وأحسوا أن ربهم يربيهم , لأن فيهم ضعفا أو نقصا ; وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر , وأن يجعلهم ستار القدرة , فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف . . وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء , وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)والله يفعل ما يريد .
الدرس الرابع:19 - 20 عبادة الملائكة وخضوعهم لله
هكذا يقرر القرآن الكريم تلك الحقيقة للمشركين , الذين يتقولون على القرآن وعلى الرسول [ ص ] ويصفونه بالسحر والشعر والافتراء . وهو الحق الغالب الذي يدمغ الباطل , فإذا هو زاهق . . ثم يعقب على ذلك التقرير بإنذارهم عاقبة ما يتقولون: (ولكم الويل مما تصفون). .
ثم يعرض لهم نموذجا من نماذج الطاعة والعبادة في مقابل عصيانهم وإعراضهم . نموذجا ممن هم أقرب منهم إلى الله . ومع هذا فهم دائبون على طاعته وعبادته , لا يفترون ولا يقصرون:
(وله من في السماوات والأرض . ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون , يسبحون الليل والنهار لا يفترون). . من الاية 19 الى الاية 21
وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21)
ومن في السماوات والأرض لا يعلمهم إلا الله , ولا يحصيهم إلا الله . والعلم البشري لا يستيقن إلا من وجود البشر . والمؤمنون يستيقنون من وجود الملائكة والجن كذلك لذكرهما في القرآن . ولكننا لا نعرف عنهم إلا ما أخبرنا به خالقهم . وقد يكون هناك غيرهم من العقلاء في غير هذا الكوكب الأرضي , بطبائع وأشكال تناسب طبيعة تلك الكواكب . وعلم ذلك عند الله .
فإذا نحن قرأنا: (وله من في السماوات والأرض)عرفنا منهم من نعرف , وتركنا علم من لا نعلم لخالق السماوات والأرض ومن فيهن .
(ومن عنده)المفهوم القريب أنهم الملائكة . ولكننا لا نحدد ولا نقيد ما دام النص عاما يشمل الملائكة وغيرهم . والمفهوم من التعبير أنهم هم الأقرب إلى الله . فكلمة "عند" بالقياس إلى الله لا تعني مكانا , ولا تحدد وصفا .
(ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته)كما يستكبر هؤلاء المشركون (ولا يستحسرون)- أي يقصرون - في العبادة . فحياتهم كلها عبادة وتسبيح بالليل والنهار دون انقطاع ولا فتور . .
والبشر يملكون أن تكون حياتهم كلها عبادة دون أن ينقطعوا للتسبيح والتعبد كالملائكة . فالإسلام يعد كل حركة وكل نفس عبادة إذا توجه بها صاحبها إلى الله . ولو كانت متاعا ذاتيا بطيبات الحياة !
الدرس الخامس:21 - 25 إبطال شرك الكفار والإستدلال على الوحدانية
وفي ظل التسبيح الذي لا يفتر ولا ينقطع لله الواحد , مالك السماوات والأرض ومن فيهن . يجيء الإنكار على المشركين واستنكار دعواهم في الآلهة . ويعرض السياق دليل الوحدانية من المشهود في نظام الكون وناموسه الواحد الدال على المدبر الواحد ; ومن المنقول عن الكتب السابقة عند أهل الكتاب:
(أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ? لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا . فسبحان الله رب العرش عما يصفون . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . أم اتخذوا من دونه آلهة ? قل:هاتوا برهانكم . هذا ذكر من معي وذكر من قبلي . بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون . وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). .
والسؤال عن اتخاذهم آلهة هو سؤال استنكار للواقع منهم . ووصف هؤلاء الآلهة بأنهم ينشرون من الأرض أي يقيمون الأموات ويبعثونهم أحياء . فيه تهكم بتلك الآلهة التي اتخذوها . فمن أول صفات الإله الحق أن ينشر الأموات من الأرض . فهل الآلهة التي اتخذوها تفعل هذا ? إنها لا تفعل , ولا يدعون لها هم أنها تخلق حياة أو تعيد حياة . فهي إذن فاقدة للصفة الأولى من صفات الإله .
ذلك منطق الواقع المشهود في الأرض . وهنالك الدليل الكوني المستمد من واقع الوجود: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). .
فالكون قائم على الناموس الواحد الذي يربط بين أجزائه جميعا ; وينسق بين أجزائه جميعا ; وبين حركات هذه الأجزاء وحركة المجموع المنظم . . هذا الناموس الواحد من صنع إرادة واحدة لإله واحد . فلو تعددت الذوات لتعددت الإرادات . ولتعددت النواميس تبعا لها - فالإرادة مظهر الذات المريدة . والناموس مظهر الإرادة النافذة - ولانعدمت الوحدة التي تنسق الجهاز الكوني كله , وتوحد منهجه واتجاهه وسلوكه ; ولوقع الاضطراب والفساد تبعا لفقدان التناسق . . هذا التناسق الملحوظ الذي لا ينكره أشد الملحدين لأنه واقع محسوس .
وإن الفطرة السليمة التي تتلقي إيقاع الناموس الواحد للوجود كله , لتشهد شهادة فطرية بوحدة هذا
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الانبياء ابه 79 الى ايه 92 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانبياء ايه 22 الى ايه50 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانبياء ايه93 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاحقاف ايه رقم واحد الى 14 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الرحمن ايه رقم واحد الى 28 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانبياء ايه 22 الى ايه50 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الانبياء ايه93 الى آخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الاحقاف ايه رقم واحد الى 14 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الرحمن ايه رقم واحد الى 28 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى