تفسير سورة الكهف ايه 14 الى اي 30 الشيخ سيد قطب ه
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الكهف ايه 14 الى اي 30 الشيخ سيد قطب ه
من الاية 14 الى الاية 16
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16)
يدبرون أمرهم . (وربطنا على قلوبهم)فإذا هي ثابتة راسخة , مطمئنة إلى الحق الذي عرفت . معتزة بالإيمان الذي اختارت (إذ قاموا). . والقيام حركة تدل على العزم والثبات . (فقالوا:ربنا رب السماوات والأرض). . فهو رب هذا الكون كله (لن ندعو من دونه إلها). . فهو واحد بلا شريك . (لقد قلنا إذن شططا). . وتجاوزنا الحق وحدنا عن الصواب .
ثم يلتفتون إلى ما عليه قومهم فيستنكرونه , ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه في تكوين العقيدة:
(هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين ?). .
فهذا هو طريق الاعتقاد:أن يكون للإنسان دليل قوي يستند إليه , وبرهان له سلطان على النفوس والعقول . وإلا فهو الكذب الشنيع , لأنه الكذب على الله: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ?). .
وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحا صريحا حاسما , لا تردد فيه ولا تلعثم . . إنهم فتية , أشداء في أجسامهم , أشداء في إيمانهم . أشداء في استنكار ما عليه قومهم . .
ولقد تبين الطريقان , واختلف المنهجان . فلا سبيل إلى الالتقاء , ولا للمشاركة في الحياة . ولا بد من الفرار بالعقيدة . إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها , ويتلقوا ما يتلقاه الرسل . إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر , ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها , وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويراوردهم , ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله . والأرجح أن أمرهم قد كشف . فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله , وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة . وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم:
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف , ينشر لكم ربكم من رحمته , ويهيء لكم من أمركم مرفقا . .
وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة . فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم , ويهجرون ديارهم , ويفارقون أهلهم . ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة . هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم . هؤلاء يستروجون رحمة الله . ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة . (ينشر لكم ربكم من رحمته)ولفظة(ينشر)تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح . فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها , وتشملهم بالرفق واللين والرخاء . . إن الحدود الضيقة لتنزاح , وإن الجدران الصلدة لترق , وإن الوحشة الموغلة لتشف , فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق .
إنه الإيمان . .
وما قيمة الظواهر ? وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية ? إن هنالك عالما آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان , المأنوس بالرحمن . عالما تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان .
ويسدل الستار على هذا المشهد . ليرفع على مشهد آخر والفتية في الكهف وقد ضرب الله عليهم النعاس .
الدرس الرابع:17 - 18 تصوير حي لوضعهم داخل الكهف
(وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين , وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال , وهم في فجوة منه . ذلك من آيات الله . من يهد الله فهو المهتد . ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا . وتحسبهم أيقاظا
من الاية 17 الى الاية 18
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
وهم رقود . ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال . وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد . لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا , ولملئت منهم رعبا).
وهو مشهد تصويري عجيب , ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف , كما يلتقطها شريط متحرك . والشمس تطلع على الكهف فتميل عنه كأنها متعمدة . ولفظ(تزاور)تصور مدلولها وتلقي ظل الإرادة في عملها . والشمس تغرب فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه . .
وقبل أن يكمل نقل المشهد العجيب يعلق على وضعهم ذاك بأحد التعليقات القرآنية التي تتخلل سياق القصص لتوجيه القلوب في اللحظة المناسبة :
(ذلك من آيات الله). . وضعهم هكذا في الكهف والشمس لا تنالهم بأشعتها وتقرب منهم بضوئها . وهم في مكانهم لا يموتون ولا يتحركون .
(من يهد الله فهو المهتد . ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا). . وللهدى والضلال ناموس . فمن اهتدى بآيات الله فقد هداه الله وفق ناموسه وهو المهتدي حقا . ومن لم يأخذ بأسباب الهدى ضل , وجاء ضلاله وفق الناموس الإلهي فقد أضله الله إذن , ولن تجد له من بعد هاديا .
ثم يمضي السياق يكمل المشهد العجيب . وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة . فيحسبهم الرائي أيقاظا وهم رقود . وكلبهم - على عادة الكلاب - باسط ذراعيه بالفناء قريبا من باب الكهف كأنه يحرسهم . وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم . إذ يراهم نياما كالأيقاظ , يتقلبون ولا يستيقظون . وذلك من تدبير الله كي لا يبعث بهم عابث , حتى يحين الوقت المعلوم .
الدرس الخامس:19 - 24 الأحداث بين إستيقاظهم وبناء المسجد عليهم وتوجيه للرسول بشأنهم
وفجأة تدب فيهم الحياة . فلننظر ولنسمع:
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم . قال قائل منهم:كم لبثتم ? قالوا:لبثنا يوما أو بعض يوم . قالوا:ربكم أعلم بما لبثتم , فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة , فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم , ولن تفلحوا إذن أبدا . .
إن السياق يحتفظ بالمفاجأة في عرض القصة , فيعرض هذا المشهد , والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس . . إنهم يفركون أعينهم , ويلتفت أحدهم إلى الآخرين فيسأل:كم لبثتم ? كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل . ولا بد أنه كان يحس بآثار نوم طويل . (قالوا:لبثنا يوما أو بعض يوم)!
ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها , ويدعو أمرها لله - شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله - وأن يأخذوا في شأن عملي . فهم جائعون . ولديهم نقود فضية خرجوا بها من المدينة: (قالوا:ربكم أعلم بما لبثتم , فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة , فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه). . أي فليختر أطيب طعام في المدينة فليأتكم بشيء منه .
من الاية 19 الى الاية 21
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً (21)
وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم ويعرف مخبؤهم , فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة فيقتلوهم رجما - بوصفهم خارجين على الدين لأنهم يعبدون إلها واحدا في المدينة المشركة ! - أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب . وهذه هي التي يتقونها . لذلك يوصون الرسول أن يكون حذرا لبقا: وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا . . فما يفلح من يرتد عن الإيمان إلى الشرك , وإنها للخسارة الكبرى .
وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم , حذرين خائفين , لا يدرون أن الأعوام قد كرت , وأن عجلة الزمن قد دارت , وأن أجيالا قد تعاقبت , وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيرت معالمها , وأن المتسلطين الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم , وأن قصة الفتية الذين فروا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف ; وأن الأقاويل حولهم متعارضة ; حول عقيدتهم , وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم .
وهنا يسدل الستار على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر . وبين المشهدين فجوة متروكة في السياق القرآني .
ونفهم أن أهل المدينة اليوم مؤمنون , فهم شديدو الحفاوة بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم بذهاب أحدهم لشراء الطعام , وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فروا بدينهم منذ عهد بعيد .
ولنا أن نتصور ضخامة المفاجأة التي اعترت الفتية - بعد أن أيقن زميلهم أن المدينة قد مضى عليها العهد الطويل منذ أن فارقوها ; وأن الدنيا قد تبدلت من حولهم فلم يعد لشيء مما ينكرونه ولا لشيء مما يعرفونه وجود ! وأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون . وأنهم أعجوبة في نظر الناس وحسهم , فلن يمكن أن يعاملوهم كبشر عاديين . وأن كل ما يربطهم بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد . . كله قد تقطع , فهم أشبه بالذكرى الحية منهم بالأشخاص الواقعية . . فيرحمهم الله من هذا كله فيتوفاهم .
لنا أن نتصور هذا كله . أما السياق القرآني فيعرض المشهد الأخير , مشهد وفاتهم , والناس خارج الكهف يتنازعون في شأنهم:على أي دين كانوا , وكيف يخلدونهم ويحفظون ذكراهم للأجيال . ويعهد مباشرة إلى العبرة المستقاة من هذا الحادث العجيب:
(وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق , وأن الساعة لا ريب فيها . إذ يتنازعون بينهم أمرهم , فقالوا:ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم . قال الذين غلبوا على أمرهم:لنتخذن عليهم مسجدا).
إن العبرة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالتها على البعث بمثل واقعي قريب محسوس . يقرب إلى الناس قضية البعث . فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق , وأن الساعة لا ريب فيها . . وعلى هذا النحو بعث الله الفتية من نومتهم وأعثر قومهم عليهم .
وقال بعض الناس: (ابنوا عليهم بنيانا)لا يحدد عقيدتهم (ربهم أعلم بهم)وبما كانوا عليه من عقيدة . وقال أصحاب السلطان في ذلك الأوان: (لنتخذن عليهم مسجدا)والمقصود معبد , على طريقة اليهود والنصارى في اتخاذ المعابد على مقابر الأنبياء والقديسين . وكما يصنع اليوم من يقلدونهم من المسلمين مخالفين لهدى الرسول [ ص ] " لعن الله اليهود والنصارى , اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " .
ويسدل الستار على هذا المشهد . ثم يرفع لنسمع الجدل حول أصحاب الكهف - على عادة الناس يتناقلون
من الاية 22 الى الاية 24
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24)
الروايات والأخبار , ويزيدون فيها وينقصون , ويضيفون إليها من خيالهم جيلا بعد جيل , حتى تتضخم وتتحول , وتكثر الأقاويل حول الخبر الواحد أو الحادث الواحد كلما مرت القرون:
(سيقولون:ثلاثة رابعهم كلبهم , ويقولون:خمسة سادسهم كلبهم - رجما بالغيب , ويقولون:سبعة وثامنهم كلبهم . قل:ربي أعلم بعدتهم . ما يعلمهم إلا قليل . فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا , ولا تستفت فيهم منهم أحدا). .
فهذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه . وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة , أو أكثر . وأمرهم موكول إلى الله , وعلمهم عند الله . وعند القليلين الذين تثبتوا من الحادث عند وقوعه أو من روايته الصحيحة . فلا ضرورة إذن للجدل الطويل حول عددهم . والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير . لذلك يوجه القرآن الرسول [ ص ] إلى ترك الجدل في هذه القضية , وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم . تمشيا مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيد . وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق . وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله , فليترك إلى علم الله .
وبمناسبة النهي عن الجدل في غيب الماضي , يرد النهي عن الحكم على غيب المستقبل وما يقع فيه ; فالإنسان لا يدري ما يكون في المستقبل حتى يقطع برأي فيه:
(ولا تقولن لشيء:إني فاعل ذلك غدا - إلا أن يشاء الله - واذكر ربك إذا نسيت , وقل:عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا). .
إن كل حركة وكل نأمة , بل كل نفس من أنفاس الحي , مرهون بإرادة الله . وسجف الغيب مسبل يحجب ما وراء اللحظة الحاضرة ; وعين الإنسان لا تمتد إلى ما وراء الستر المسدل ; وعقله مهما علم قاصر كليل . فلا يقل إنسان:إني فاعل ذلك غدا . وغدا في غيب الله وأستار غيب الله دون العواقب .
وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان , لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له ; وأن يعيش يوما بيوم , لحظة بلحظة . وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله . . كلا . ولكن معناه أن يحسب حساب الغيب وحساب المشيئة التي تدبره ; وأن يعزم ما يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما يعزم , ويستشعر أن يد الله فوق يده , فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره . فإن وقفة الله إلى ما اعتزم فبها . وإن جرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم ييأس , لأن الأمر لله أولا وأخيرا .
فليفكر الإنسان وليدبر ; ولكن ليشعر أنه إنما يفكر بتيسير الله , ويدبر بتوفيق الله , وأنه لا يملك إلا ما يمده الله به من تفكير وتدبير . ولن يدعو هذا إلى كسل أو تراخ , أو ضعف أو فتور ; بل على العكس يمده بالثقة والقوة والاطمئنان والعزيمة . فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره , فليتقبل قضاء الله بالرضى والطمأنينة والاستسلام . لأنه الأصل الذي كان مجهولا له فكشف عنه الستار .
هذا هو المنهج الذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم . فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكر ويدبر . ولا يحس بالغرور والتبطر وهو يفلح وينجح . ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق . بل يبقى في كل أحواله متصلا بالله , قويا بالاعتماد عليه , شاكرا لتوفيقه إياه , مسلما بقضائه وقدره . غير متبطر ولا قنوط .
(واذكر ربك إذا نسيت). . إذا نسيت هذا التوجيه والاتجاه فاذكر ربك وارجع إلي
من الاية 25 الى الاية 27
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
(وقل:عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا). . من هذا النهج الذي يصل القلب دائما بالله , في كل ما يهم به وكل ما يتوجه إليه .
وتجيء كلمة(عسى)وكلمة(لأقرب)للدلالة على ارتفاع هذا المرتقى , وضرورة المحاولة الدائمة للاستواء عليه في جميع الأحوال .
الدرس السادس:25 - 26 مدة لبثهم في الكهف
وإلى هنا لم نكن نعلم:كم لبث الفتية في الكهف . فلنعرفه الآن لنعرفه على وجه اليقين:
ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين , وازدادوا تسعا . قل:الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض . أبصر به وأسمع . .
فهذا هو فصل الخطاب في أمرهم , يقرره عالم غيب السماوات والأرض . ما أبصره , وما أسمعه ! سبحانه . فلا جدال بعد هذا ولا مراء .
الدرس الرابع:27 توجيه للرسول بالإستمساك بالقرآن
ويعقب على القصة بإعلان الوحدانية الظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها: (ما لهم من دونه من ولي . ولا يشرك في حكمه أحدا). .
وبتوجيه الرسول [ ص ] إلى تلاوة ما أوحاه ربه إليه , وفيه فصل الخطاب - وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل - والاتجاه إلى الله وحده , فليس من حمى إلا حماه . وقد فر إليه أصحاب الكهف فشملهم برحمته وهداه:
واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته , ولن تجد من دونه ملتحدا . .
وهكذا تنتهي القصة , تسبقها وتتخللها وتعقبها تلك التوجيهات التي من أجلها يساق القصص في القرآن . مع التناسق المطلق بين التوجيه الديني والعرض الفني في السياق .
الوحدة الثانية:28 - 46 الموضوع:تقرير القيم بميزان العقيدة وقصة صاحب الجنتين مقدمة الوحدة
هذا الدرس كله تقرير للقيم في ميزان العقيدة . إن القيم الحقيقية ليست هي المال , وليست هي الجاه , وليست هي السلطان . كذلك ليست هي اللذائذ والمتاع في هذه الحياة . . إن هذه كلها قيم زائفة وقيم زائلة . والإسلام لا يحرم الطيب منها ; ولكنه لا يجعل منها غاية لحياة الإنسان . فمن شاء أن يتمتع بها فليتمتع , ولكن ليذكر الله الذي أنعم بها . وليشكره على النعمة بالعمل الصالح , فالباقيات الصالحات خير وأبقى .
وهو يبدأ بتوجيه الرسول [ ص ] أن يصبر نفسه مع الذين يتجهون إلى الله ; وأن يغفل ويهمل
من الاية 28 الى الاية 30
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30)
الذين يغفلون عن ذكر الله . ثم يضرب للفريقين مثلا رجلين:أحدهما يعتز بما أوتي من مال وعزة ومتاع . والآخر يعتز بالإيمان الخالص , ويرجو عند ربه ما هو خير . ثم يعقب بمثل يضرب للحياة الدنيا كلها , فإذا هي قصيرة زائلة كالهشيم تذروه الرياح . وينتهي من ذلك كله بتقرير الحقيقة الباقيةالمال والبنون زينة الحياة الدنيا , والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا). .
الدرس الأول:28 - 29 البقاء مع الصالحين وترك الكافرين ووزن الناس على أساس العقيدة
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه , ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا , ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا , واتبع هواه وكان أمره فرطا . وقل:الحق من ربكم . فمن شاء فليؤمن . ومن شاء فليكفر). .
يروي أنها نزلت في أشراف قريش , حين طلبوا إلى الرسول [ ص ] أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان رؤوس قريش . أو أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس هؤلاء النفر , لأن عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق , فتؤذي السادة من كبراء قريش !
ويروى أن الرسول [ ص ] طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه . فأنزل الله عز وجل: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . . .)أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية , وتقيم الميزان الذي لا يخطيء . وبعد ذلك (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)فالإسلام لا يتملق أحدا , ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى , ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه .
(واصبر نفسك). . لا تمل ولا تستعجل (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). . فالله غايتهم , يتجهون إليه بالغداة والعشي , لا يتحولون عنه , ولا يبتغون إلا رضاه . وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة .
اصبر نفسك مع هؤلاء . صاحبهم وجالسهم وعلمهم . ففيهم الخير , وعلى مثلهم تقوم الدعوات . فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة ; ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع ; ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع , وليتجروا بها في سوق الدعوات تشتري منهم وتباع ! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له , لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا , إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه .
(ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا). . ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة . فهذه زينة الحياة(الدنيا)لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .
(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا , واتبع هواه , وكان أمره فرطا). . لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء . فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم , وخففوا من غلوائهم , وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة , واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس ; وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة . ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم . أهواء الجاهلية . ويحكمون مقاييسها في العباد . فهو وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله .
لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله . فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه . فهذه قيم زائفة ,وقيم زائلة . إنما التفاضل بمكانها عند الله . ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له . وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان .
(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا). . أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته , وإلى ماله , وإلى أبنائه , وإلى متاعه ولذائذه وشهواته , فلم يعد في قلبه متسع لله . والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل , ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله , فيزيده الله غفلة , ويملي له فيما هو فيه , حتى تفلت الأيام من بين يديه , ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم , ويظلمون غيرهم:
(وقل:الحق من ربكم , فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). .
بهذه العزة , وبهذه الصراحة , وبهذه الصرامة , فالحق لا ينثني ولا ينحني , إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه , قويا لا ضعف فيه , صريحا لا مداورة فيه . فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن لم يعجبه الحق فليذهب , ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة ; ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه .
إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها . إنما هي ملك لله , والله غني عن العالمين . والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة , ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير . والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين .
الدرس الثاني:29 - 31 بين نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين
ثم يعرض ما أعد للكافرين , وما أعد للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة:
(إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ; وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه . بئس الشراب وساءت مرتفقا . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا . أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار , يحلون فيها من أساور من ذهب ; ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق , متكئين فيها على الأرائك . نعم الثواب وحسنت مرتفقا).
(إنا أعتدنا للظالمين نارا). . أعددناها وأحضرناها . . فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها , ولا تستغرق زمنا لإعدادها ! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة:كن . فيكون . إلا أن التعبير هنا بلفظ(اعتدنا)يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد , والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال !
وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين , فلا سبيل إلى الهرب , ولا أمل في النجاة والإفلات . ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة , أو يكون فيه استرواح !
فإن استغاثوا من الحريق والظمأ أغيثوا . . أغيثوا بماء كدردي الزيت المغلي في قول , وكالصديد الساخن في قول ! يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه (بئس الشراب)الذي يغاث به الملهوفون من الحريق ! ويا لسوء النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء . وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير . فما هم هنالك للارتفاق , إنما هم للاشتواء ! ولكنها مقابلة مع ارتفاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات هنالك في الجنان . . وشتان شتان !
وبينما هؤلاء كذلك إذا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات عدن . للإقامة . تجري من تحتهم الأنهار بالري وبهجة المنظر واعتدال النسيم . وهم هنالك للارتفاق حقا (متكئين فيها على الأرائك)وهم رافلون ف
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16)
يدبرون أمرهم . (وربطنا على قلوبهم)فإذا هي ثابتة راسخة , مطمئنة إلى الحق الذي عرفت . معتزة بالإيمان الذي اختارت (إذ قاموا). . والقيام حركة تدل على العزم والثبات . (فقالوا:ربنا رب السماوات والأرض). . فهو رب هذا الكون كله (لن ندعو من دونه إلها). . فهو واحد بلا شريك . (لقد قلنا إذن شططا). . وتجاوزنا الحق وحدنا عن الصواب .
ثم يلتفتون إلى ما عليه قومهم فيستنكرونه , ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه في تكوين العقيدة:
(هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين ?). .
فهذا هو طريق الاعتقاد:أن يكون للإنسان دليل قوي يستند إليه , وبرهان له سلطان على النفوس والعقول . وإلا فهو الكذب الشنيع , لأنه الكذب على الله: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ?). .
وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحا صريحا حاسما , لا تردد فيه ولا تلعثم . . إنهم فتية , أشداء في أجسامهم , أشداء في إيمانهم . أشداء في استنكار ما عليه قومهم . .
ولقد تبين الطريقان , واختلف المنهجان . فلا سبيل إلى الالتقاء , ولا للمشاركة في الحياة . ولا بد من الفرار بالعقيدة . إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها , ويتلقوا ما يتلقاه الرسل . إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر , ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها , وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويراوردهم , ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله . والأرجح أن أمرهم قد كشف . فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله , وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة . وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم:
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف , ينشر لكم ربكم من رحمته , ويهيء لكم من أمركم مرفقا . .
وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة . فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم , ويهجرون ديارهم , ويفارقون أهلهم . ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة . هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم . هؤلاء يستروجون رحمة الله . ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة . (ينشر لكم ربكم من رحمته)ولفظة(ينشر)تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح . فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها , وتشملهم بالرفق واللين والرخاء . . إن الحدود الضيقة لتنزاح , وإن الجدران الصلدة لترق , وإن الوحشة الموغلة لتشف , فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق .
إنه الإيمان . .
وما قيمة الظواهر ? وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية ? إن هنالك عالما آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان , المأنوس بالرحمن . عالما تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان .
ويسدل الستار على هذا المشهد . ليرفع على مشهد آخر والفتية في الكهف وقد ضرب الله عليهم النعاس .
الدرس الرابع:17 - 18 تصوير حي لوضعهم داخل الكهف
(وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين , وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال , وهم في فجوة منه . ذلك من آيات الله . من يهد الله فهو المهتد . ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا . وتحسبهم أيقاظا
من الاية 17 الى الاية 18
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
وهم رقود . ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال . وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد . لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا , ولملئت منهم رعبا).
وهو مشهد تصويري عجيب , ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف , كما يلتقطها شريط متحرك . والشمس تطلع على الكهف فتميل عنه كأنها متعمدة . ولفظ(تزاور)تصور مدلولها وتلقي ظل الإرادة في عملها . والشمس تغرب فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه . .
وقبل أن يكمل نقل المشهد العجيب يعلق على وضعهم ذاك بأحد التعليقات القرآنية التي تتخلل سياق القصص لتوجيه القلوب في اللحظة المناسبة :
(ذلك من آيات الله). . وضعهم هكذا في الكهف والشمس لا تنالهم بأشعتها وتقرب منهم بضوئها . وهم في مكانهم لا يموتون ولا يتحركون .
(من يهد الله فهو المهتد . ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا). . وللهدى والضلال ناموس . فمن اهتدى بآيات الله فقد هداه الله وفق ناموسه وهو المهتدي حقا . ومن لم يأخذ بأسباب الهدى ضل , وجاء ضلاله وفق الناموس الإلهي فقد أضله الله إذن , ولن تجد له من بعد هاديا .
ثم يمضي السياق يكمل المشهد العجيب . وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة . فيحسبهم الرائي أيقاظا وهم رقود . وكلبهم - على عادة الكلاب - باسط ذراعيه بالفناء قريبا من باب الكهف كأنه يحرسهم . وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم . إذ يراهم نياما كالأيقاظ , يتقلبون ولا يستيقظون . وذلك من تدبير الله كي لا يبعث بهم عابث , حتى يحين الوقت المعلوم .
الدرس الخامس:19 - 24 الأحداث بين إستيقاظهم وبناء المسجد عليهم وتوجيه للرسول بشأنهم
وفجأة تدب فيهم الحياة . فلننظر ولنسمع:
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم . قال قائل منهم:كم لبثتم ? قالوا:لبثنا يوما أو بعض يوم . قالوا:ربكم أعلم بما لبثتم , فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة , فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم , ولن تفلحوا إذن أبدا . .
إن السياق يحتفظ بالمفاجأة في عرض القصة , فيعرض هذا المشهد , والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس . . إنهم يفركون أعينهم , ويلتفت أحدهم إلى الآخرين فيسأل:كم لبثتم ? كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل . ولا بد أنه كان يحس بآثار نوم طويل . (قالوا:لبثنا يوما أو بعض يوم)!
ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها , ويدعو أمرها لله - شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله - وأن يأخذوا في شأن عملي . فهم جائعون . ولديهم نقود فضية خرجوا بها من المدينة: (قالوا:ربكم أعلم بما لبثتم , فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة , فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه). . أي فليختر أطيب طعام في المدينة فليأتكم بشيء منه .
من الاية 19 الى الاية 21
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً (21)
وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم ويعرف مخبؤهم , فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة فيقتلوهم رجما - بوصفهم خارجين على الدين لأنهم يعبدون إلها واحدا في المدينة المشركة ! - أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب . وهذه هي التي يتقونها . لذلك يوصون الرسول أن يكون حذرا لبقا: وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا . . فما يفلح من يرتد عن الإيمان إلى الشرك , وإنها للخسارة الكبرى .
وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم , حذرين خائفين , لا يدرون أن الأعوام قد كرت , وأن عجلة الزمن قد دارت , وأن أجيالا قد تعاقبت , وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيرت معالمها , وأن المتسلطين الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم , وأن قصة الفتية الذين فروا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف ; وأن الأقاويل حولهم متعارضة ; حول عقيدتهم , وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم .
وهنا يسدل الستار على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر . وبين المشهدين فجوة متروكة في السياق القرآني .
ونفهم أن أهل المدينة اليوم مؤمنون , فهم شديدو الحفاوة بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم بذهاب أحدهم لشراء الطعام , وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فروا بدينهم منذ عهد بعيد .
ولنا أن نتصور ضخامة المفاجأة التي اعترت الفتية - بعد أن أيقن زميلهم أن المدينة قد مضى عليها العهد الطويل منذ أن فارقوها ; وأن الدنيا قد تبدلت من حولهم فلم يعد لشيء مما ينكرونه ولا لشيء مما يعرفونه وجود ! وأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون . وأنهم أعجوبة في نظر الناس وحسهم , فلن يمكن أن يعاملوهم كبشر عاديين . وأن كل ما يربطهم بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد . . كله قد تقطع , فهم أشبه بالذكرى الحية منهم بالأشخاص الواقعية . . فيرحمهم الله من هذا كله فيتوفاهم .
لنا أن نتصور هذا كله . أما السياق القرآني فيعرض المشهد الأخير , مشهد وفاتهم , والناس خارج الكهف يتنازعون في شأنهم:على أي دين كانوا , وكيف يخلدونهم ويحفظون ذكراهم للأجيال . ويعهد مباشرة إلى العبرة المستقاة من هذا الحادث العجيب:
(وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق , وأن الساعة لا ريب فيها . إذ يتنازعون بينهم أمرهم , فقالوا:ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم . قال الذين غلبوا على أمرهم:لنتخذن عليهم مسجدا).
إن العبرة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالتها على البعث بمثل واقعي قريب محسوس . يقرب إلى الناس قضية البعث . فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق , وأن الساعة لا ريب فيها . . وعلى هذا النحو بعث الله الفتية من نومتهم وأعثر قومهم عليهم .
وقال بعض الناس: (ابنوا عليهم بنيانا)لا يحدد عقيدتهم (ربهم أعلم بهم)وبما كانوا عليه من عقيدة . وقال أصحاب السلطان في ذلك الأوان: (لنتخذن عليهم مسجدا)والمقصود معبد , على طريقة اليهود والنصارى في اتخاذ المعابد على مقابر الأنبياء والقديسين . وكما يصنع اليوم من يقلدونهم من المسلمين مخالفين لهدى الرسول [ ص ] " لعن الله اليهود والنصارى , اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " .
ويسدل الستار على هذا المشهد . ثم يرفع لنسمع الجدل حول أصحاب الكهف - على عادة الناس يتناقلون
من الاية 22 الى الاية 24
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24)
الروايات والأخبار , ويزيدون فيها وينقصون , ويضيفون إليها من خيالهم جيلا بعد جيل , حتى تتضخم وتتحول , وتكثر الأقاويل حول الخبر الواحد أو الحادث الواحد كلما مرت القرون:
(سيقولون:ثلاثة رابعهم كلبهم , ويقولون:خمسة سادسهم كلبهم - رجما بالغيب , ويقولون:سبعة وثامنهم كلبهم . قل:ربي أعلم بعدتهم . ما يعلمهم إلا قليل . فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا , ولا تستفت فيهم منهم أحدا). .
فهذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه . وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة , أو أكثر . وأمرهم موكول إلى الله , وعلمهم عند الله . وعند القليلين الذين تثبتوا من الحادث عند وقوعه أو من روايته الصحيحة . فلا ضرورة إذن للجدل الطويل حول عددهم . والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير . لذلك يوجه القرآن الرسول [ ص ] إلى ترك الجدل في هذه القضية , وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم . تمشيا مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيد . وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق . وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله , فليترك إلى علم الله .
وبمناسبة النهي عن الجدل في غيب الماضي , يرد النهي عن الحكم على غيب المستقبل وما يقع فيه ; فالإنسان لا يدري ما يكون في المستقبل حتى يقطع برأي فيه:
(ولا تقولن لشيء:إني فاعل ذلك غدا - إلا أن يشاء الله - واذكر ربك إذا نسيت , وقل:عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا). .
إن كل حركة وكل نأمة , بل كل نفس من أنفاس الحي , مرهون بإرادة الله . وسجف الغيب مسبل يحجب ما وراء اللحظة الحاضرة ; وعين الإنسان لا تمتد إلى ما وراء الستر المسدل ; وعقله مهما علم قاصر كليل . فلا يقل إنسان:إني فاعل ذلك غدا . وغدا في غيب الله وأستار غيب الله دون العواقب .
وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان , لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له ; وأن يعيش يوما بيوم , لحظة بلحظة . وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله . . كلا . ولكن معناه أن يحسب حساب الغيب وحساب المشيئة التي تدبره ; وأن يعزم ما يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما يعزم , ويستشعر أن يد الله فوق يده , فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره . فإن وقفة الله إلى ما اعتزم فبها . وإن جرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم ييأس , لأن الأمر لله أولا وأخيرا .
فليفكر الإنسان وليدبر ; ولكن ليشعر أنه إنما يفكر بتيسير الله , ويدبر بتوفيق الله , وأنه لا يملك إلا ما يمده الله به من تفكير وتدبير . ولن يدعو هذا إلى كسل أو تراخ , أو ضعف أو فتور ; بل على العكس يمده بالثقة والقوة والاطمئنان والعزيمة . فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره , فليتقبل قضاء الله بالرضى والطمأنينة والاستسلام . لأنه الأصل الذي كان مجهولا له فكشف عنه الستار .
هذا هو المنهج الذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم . فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكر ويدبر . ولا يحس بالغرور والتبطر وهو يفلح وينجح . ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق . بل يبقى في كل أحواله متصلا بالله , قويا بالاعتماد عليه , شاكرا لتوفيقه إياه , مسلما بقضائه وقدره . غير متبطر ولا قنوط .
(واذكر ربك إذا نسيت). . إذا نسيت هذا التوجيه والاتجاه فاذكر ربك وارجع إلي
من الاية 25 الى الاية 27
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
(وقل:عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا). . من هذا النهج الذي يصل القلب دائما بالله , في كل ما يهم به وكل ما يتوجه إليه .
وتجيء كلمة(عسى)وكلمة(لأقرب)للدلالة على ارتفاع هذا المرتقى , وضرورة المحاولة الدائمة للاستواء عليه في جميع الأحوال .
الدرس السادس:25 - 26 مدة لبثهم في الكهف
وإلى هنا لم نكن نعلم:كم لبث الفتية في الكهف . فلنعرفه الآن لنعرفه على وجه اليقين:
ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين , وازدادوا تسعا . قل:الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض . أبصر به وأسمع . .
فهذا هو فصل الخطاب في أمرهم , يقرره عالم غيب السماوات والأرض . ما أبصره , وما أسمعه ! سبحانه . فلا جدال بعد هذا ولا مراء .
الدرس الرابع:27 توجيه للرسول بالإستمساك بالقرآن
ويعقب على القصة بإعلان الوحدانية الظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها: (ما لهم من دونه من ولي . ولا يشرك في حكمه أحدا). .
وبتوجيه الرسول [ ص ] إلى تلاوة ما أوحاه ربه إليه , وفيه فصل الخطاب - وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل - والاتجاه إلى الله وحده , فليس من حمى إلا حماه . وقد فر إليه أصحاب الكهف فشملهم برحمته وهداه:
واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته , ولن تجد من دونه ملتحدا . .
وهكذا تنتهي القصة , تسبقها وتتخللها وتعقبها تلك التوجيهات التي من أجلها يساق القصص في القرآن . مع التناسق المطلق بين التوجيه الديني والعرض الفني في السياق .
الوحدة الثانية:28 - 46 الموضوع:تقرير القيم بميزان العقيدة وقصة صاحب الجنتين مقدمة الوحدة
هذا الدرس كله تقرير للقيم في ميزان العقيدة . إن القيم الحقيقية ليست هي المال , وليست هي الجاه , وليست هي السلطان . كذلك ليست هي اللذائذ والمتاع في هذه الحياة . . إن هذه كلها قيم زائفة وقيم زائلة . والإسلام لا يحرم الطيب منها ; ولكنه لا يجعل منها غاية لحياة الإنسان . فمن شاء أن يتمتع بها فليتمتع , ولكن ليذكر الله الذي أنعم بها . وليشكره على النعمة بالعمل الصالح , فالباقيات الصالحات خير وأبقى .
وهو يبدأ بتوجيه الرسول [ ص ] أن يصبر نفسه مع الذين يتجهون إلى الله ; وأن يغفل ويهمل
من الاية 28 الى الاية 30
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30)
الذين يغفلون عن ذكر الله . ثم يضرب للفريقين مثلا رجلين:أحدهما يعتز بما أوتي من مال وعزة ومتاع . والآخر يعتز بالإيمان الخالص , ويرجو عند ربه ما هو خير . ثم يعقب بمثل يضرب للحياة الدنيا كلها , فإذا هي قصيرة زائلة كالهشيم تذروه الرياح . وينتهي من ذلك كله بتقرير الحقيقة الباقيةالمال والبنون زينة الحياة الدنيا , والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا). .
الدرس الأول:28 - 29 البقاء مع الصالحين وترك الكافرين ووزن الناس على أساس العقيدة
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه , ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا , ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا , واتبع هواه وكان أمره فرطا . وقل:الحق من ربكم . فمن شاء فليؤمن . ومن شاء فليكفر). .
يروي أنها نزلت في أشراف قريش , حين طلبوا إلى الرسول [ ص ] أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان رؤوس قريش . أو أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس هؤلاء النفر , لأن عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق , فتؤذي السادة من كبراء قريش !
ويروى أن الرسول [ ص ] طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه . فأنزل الله عز وجل: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . . .)أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية , وتقيم الميزان الذي لا يخطيء . وبعد ذلك (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)فالإسلام لا يتملق أحدا , ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى , ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه .
(واصبر نفسك). . لا تمل ولا تستعجل (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). . فالله غايتهم , يتجهون إليه بالغداة والعشي , لا يتحولون عنه , ولا يبتغون إلا رضاه . وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة .
اصبر نفسك مع هؤلاء . صاحبهم وجالسهم وعلمهم . ففيهم الخير , وعلى مثلهم تقوم الدعوات . فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة ; ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع ; ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع , وليتجروا بها في سوق الدعوات تشتري منهم وتباع ! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له , لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا , إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه .
(ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا). . ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة . فهذه زينة الحياة(الدنيا)لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .
(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا , واتبع هواه , وكان أمره فرطا). . لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء . فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم , وخففوا من غلوائهم , وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة , واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس ; وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة . ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم . أهواء الجاهلية . ويحكمون مقاييسها في العباد . فهو وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله .
لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله . فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه . فهذه قيم زائفة ,وقيم زائلة . إنما التفاضل بمكانها عند الله . ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له . وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان .
(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا). . أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته , وإلى ماله , وإلى أبنائه , وإلى متاعه ولذائذه وشهواته , فلم يعد في قلبه متسع لله . والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل , ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله , فيزيده الله غفلة , ويملي له فيما هو فيه , حتى تفلت الأيام من بين يديه , ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم , ويظلمون غيرهم:
(وقل:الحق من ربكم , فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). .
بهذه العزة , وبهذه الصراحة , وبهذه الصرامة , فالحق لا ينثني ولا ينحني , إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه , قويا لا ضعف فيه , صريحا لا مداورة فيه . فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن لم يعجبه الحق فليذهب , ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة ; ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه .
إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها . إنما هي ملك لله , والله غني عن العالمين . والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة , ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير . والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين .
الدرس الثاني:29 - 31 بين نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين
ثم يعرض ما أعد للكافرين , وما أعد للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة:
(إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ; وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه . بئس الشراب وساءت مرتفقا . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا . أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار , يحلون فيها من أساور من ذهب ; ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق , متكئين فيها على الأرائك . نعم الثواب وحسنت مرتفقا).
(إنا أعتدنا للظالمين نارا). . أعددناها وأحضرناها . . فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها , ولا تستغرق زمنا لإعدادها ! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة:كن . فيكون . إلا أن التعبير هنا بلفظ(اعتدنا)يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد , والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال !
وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين , فلا سبيل إلى الهرب , ولا أمل في النجاة والإفلات . ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة , أو يكون فيه استرواح !
فإن استغاثوا من الحريق والظمأ أغيثوا . . أغيثوا بماء كدردي الزيت المغلي في قول , وكالصديد الساخن في قول ! يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه (بئس الشراب)الذي يغاث به الملهوفون من الحريق ! ويا لسوء النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء . وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير . فما هم هنالك للارتفاق , إنما هم للاشتواء ! ولكنها مقابلة مع ارتفاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات هنالك في الجنان . . وشتان شتان !
وبينما هؤلاء كذلك إذا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات عدن . للإقامة . تجري من تحتهم الأنهار بالري وبهجة المنظر واعتدال النسيم . وهم هنالك للارتفاق حقا (متكئين فيها على الأرائك)وهم رافلون ف
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الكهف ايه 1 الى اي 13 الشيخ سيد قطب ه
» تفسير سورة الكهف ايه 31 الى ايه 50 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الكهف ايه 51 الى اي 97 الشيخ سيد قطب ه
» تفسير سورة الكهف ايه98 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب ه
» تفسير سورة الكهف ايه رقم واحد الى اي20 الشيخ سيد قطب ه
» تفسير سورة الكهف ايه 31 الى ايه 50 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الكهف ايه 51 الى اي 97 الشيخ سيد قطب ه
» تفسير سورة الكهف ايه98 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب ه
» تفسير سورة الكهف ايه رقم واحد الى اي20 الشيخ سيد قطب ه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى