تفسير سورة الحجر ايه32 الى ايه 77 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الحجر ايه32 الى ايه 77 الشيخ سيد قطب
من الاية 32 الى الاية 40
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قال ربك للملائكة). . فكيف شمل إبليس ? فإن صدور الأمر إلى إبليس يدل عليه ما بعده , وقد ذكر صريحا في سورة الأعراف: (قال:ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ?). . وأسلوب القرآن يكتفي بالدلالة اللاحقة في كثير من المواضع . فقول الله تعالى له: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ?). . قاطع في أن الأمر قد صدر له . وليس من الضروري أن يكون هذا الأمر هو أمره للملائكة . فقد يصدر إليه معهم لاجتماعه بهم في ملابسة ما . وقد يصدر إليه منفردا ولا يذكر تهوينا لشأنه وإظهارا للملائكة في الموقف . ولكن المقطوع به من النصوص ومن دلالة تصرفه أنه ليس من الملائكة . وهذا ما نختاره .
وعلى أية حال فنحن نتعامل هنا مع مسلمات غيبية لا نملك تصور ماهياتها ولا كيفياتها في غير حدود النصوص . لأن العقل كما أسلفنا لا سبيل له في هذا المجال بحال من الأحوال .
قال:يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين ? قال:لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون . .
وصرحت طبيعة الغرور والاستكبار والعصيان في ذلك المخلوق من نار السموم . وذكر إبليس الصلصال والحمأ , ولم يذكر النفخة العلوية التي تلابس هذا الطين . وتشامخ برأسه المغرور يقول:إنه ليس من شأنه في عظمته أن يسجد لبشر خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون ! .
وكان ما ينبغي أن يكون:
قال:فاخرج منها فإنك رجيم , وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين . .
جزاء العصيان والشرود .
عندئذ تتبدى خليفة الحقد وخليقة الشر:
(قال:رب فأنظرني إلى يوم يبعثون . قال:فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم). .
لقد طلب النظرة إلى يوم البعث , لا ليندم على خطيئته في حضرة الخالق العظيم , ولا ليتوب إلى الله ويرجع ويكفر عن إثمه الجسيم . ولكن لينتقم من آدم وذريته جزاء ما لعنه الله وطرده . يربط لعنة الله له بآدم , ولا يربطها بعصيانه لله في تبجح نكير !
(قال:رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين). .
وبذلك حدد إبليس ساحة المعركة . إنها الأرض:
(لأزينن لهم في الأرض). .
وحدد عدته فيها إنه التزيين . تزيين القبيح وتجميله , والإغراء بزينته المصطنعة على ارتكابه . وهكذا لا يجترح الإنسان الشر إلا وعليه من الشيطان مسحة تزينه وتجمله , وتظهره في غير حقيقته وردائه . فليفطن الناس إلى عدة الشيطان ; وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزيينا , وكلما وجدوا من نفوسهم إليه اشتهاء . ليحذروا فقد يكون الشيطان هناك . إلا أن يتصلوا بالله ويعبدوه حق عبادته , فليس للشيطان - بشرطه هو - على عباد الله المخلصين من سبيل:
(ولأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين). .
من الاية 41 الى الاية 41
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
والله يستخلص لنفسه من عباده من يخلص نفسه لله , ويجردها له وحده , ويعبده كأنه يراه . وهؤلاء ليس للشيطان عليهم من سلطان .
هذا الشرط الذي قرره إبليس - اللعين - قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه , لأنه سنة الله . . أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه , وأن يحميه ويرعاه . . ومن ثم كان الجواب:
(هذا صراط علي مستقيم . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . إلا من اتبعك من الغاوين). .
هذا صراط . هذا ناموس . هذه سنة . وهي السنة التي ارتضتها الإرادة قانونا وحكما في الهدى والضلال . (إن عبادي)المخلصين لي ليس لك عليهم سلطان , ولا لك فيهم تأثير , ولا تملك أن تزين لهم لأنك عنهم محصور , ولأنهم منك في حمى , ولأن مداخلك إلى نفوسهم مغلقة , وهم يعلقون أبصارهم بالله , ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله . إنما سلطانك على من اتبعك من الغاوين الضالين . فهو استثناء مقطوع لأن الغاوين ليسوا جزءا من عباد الله المخلصين . إن الشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع . فأما من يخلصون أنفسهم لله , فالله لا يتركهم للضياع . ورحمة الله أوسع ولو تخلفوا فإنهم يثوبون من قريب !
فأما العاقبة . عاقبة الغاوين . فهي معلنة في الساحة منذ البدء:
(وإن جهنم لموعدهم أجمعين . لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم).
فهؤلاء الغاوون صنوف ودرجات . والغواية ألوان وأشكال . ولكل باب منهم جزء مقسوم , بحسب ما يكونون وما يعملون .
وينتهي المشهد وقد وصل السياق بالقصة إلى نقطة التركيز وموضع العبرة . ووضح كيف يسلك الشيطان طريقه إلى النفوس . وكيف تغلب خصائص الطين في الإنسان على خصائص النفخة . فأما من يتصل بالله ويحتفظ بنفخة روحه فلا سلطان عليه للشيطان . .
وبمناسبة ذكر مصير الغاوين يذكر مصير المخلصين:
(إن المتقين في جنات وعيون . ادخلوها بسلام آمنين . ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين . لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين).
والمتقون هم الذين يرقبون الله ويقون أنفسهم عذابه وأسبابه . ولعل العيون في الجنات تقابل في المشهد تلك الأبواب في جهنم . وهم يدخلون الجنات بسلام آمنين في مقابل الخوف والفزع هناك . ونزعنا ما في صدورهم من غل , في مقابل الحقد الذي يغلي به صدر إبليس فيما سلف من السياق . لا يمسهم فيها نصب ولا يخافون منها خروجا . جزاء ما خافوا في الأرض واتقوا فاستحقوا المقام المطمئن الآمن في جوار الله الكريم . . . .
تعقيب علي قصة آدم في السورة
وبعد , فإن قصة البشرية الكبرى - كما تعرض في هذا السياق القرآني - تستحق تعقيبات مفصلة لا نملك أن نستطرد فيها - في ظلال القرآن - فنكتفي أن نلم بها إلماما , على قدر المناسبة:
إن دلالتها واضحة على طبيعة تكوين هذا الخلق المسمى بالإنسان . فهو تكوين خاص متفرد , يزيد على مجرد التركيب العضوي الحيوي , الذي يشترك فيه مع بقية الأحياء . وأيا كانت نشأة الحياة , ونشأة الأحياء ; فإن الخلق الإنساني يتفرد بخاصية أخرى هي التي ورد بها النص القرآني . . خاصية الروح الإلهي المودع فيه . .وهي الخاصية التي تجعل من هذا الإنسان إنسانا , يتفرد بخصائصه عن كل الأحياء الأخرى . وهي قطعا ليست مجرد الحياة . فهو يشترك في "الحياة " مع سائر الأحياء . ولكنها خاصية الروح الزائد عن مجرد الحياة .
هذه الخاصية - كما يلهم النص القرآني - لم تجيء للإنسان بعد مراحل أو أطوار من نشأته - كما تزعم الدارونية - ولكنها جاءت مصاحبة لخلقه ونشأته . فلم يجيء على هذا الكائن الإنساني زمان كان فيه مجرد حي من الأحياء - بلا روح إنساني خاص - ثم دخلته هذه الروح , فصار بها هو هذا الإنسان !
ولقد اضطرت الدارونية الحديثة - على يد جوليان هاكسلي - أن تعترف بشطر من هذه الحقيقة الكبيرة ; وهي تقرر "تفرد الإنسان" من الناحية الحيوية والوظيفية . ومن ثم تفرده من الناحية العقلية , وما نشأ عن ذلك كله من تفرده من الناحية الحضارية . .
ولكنها ظلت تزعم أن هذا الإنسان المتفرد متطور عن حيوان !
والتوفيق عسير بين ما انتهت إليه الداروينية الحديثة من تفرد الإنسان , وبين القاعدة التي تقوم عليها الداروينية - قاعدة التطور المطلق وتطور الإنسان عن الحيوان - ولكن الداروينيين ومن والاهم لا يزالون مصرين على ذلك الاندفاع - غير العلمي - الذي صبغوه بصبغة العلم , في دفعة الانسلاخ من كل مقررات الكنيسة ! والذي شجع اليهود على نشره وتمكينه وتثبيته , وإضفاء الصبغة "العلمية " عليه لغرض في نفوسهم ; ولغاية في مخططاتهم !
ولقد سبق أن تحدثنا عن هذه القضية , ونحن نواجه النصوص القرآنية المشابهة في سورة الأعراف في هذه الظلال ; فنقتطف هذه الفقرات مما سبق تقريره هناك:
"وعلى أية حال , فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام , وفي نشأة الجنس البشري , ترجح أن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة , كان مصاحبا لخلقه . وأن الترقي "الإنساني" كان ترقيا في بروز هذه الخصائص , ونموها , وتدريبها , واكتسابها الخبرة العالية . ولم يكن ترقيا في "وجود" الإنسان . . من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان . . كما تقول الداروينية .
"ووجود أنواع مترقية من الحيوان تتبع ترتيبا زمنيا - بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والارتقاء - هو مجرد نظرية "ظنية " وليست "يقينية " لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس إلا ظنا ! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها . وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها !
"على أنه - على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور - ليس هناك ما يمنع من وجود "أنواع" من الحيوان , في أزمان متوالية , بعضها أرقى من بعض , بفعل الظروف السائدة في الأرض ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة في حياتها . ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة [ وظهور أنواع أخرى أكثر ملاءمة للظروف السائدة ] . . ولكن هذا لا "يحتم" أن يكون بعضها "متطورا" من بعض . . وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا , لا تستطيع أن تثبت- في يقين مقطوع به - أن هذا النوع تطور تطورا عضويا من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية - وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها - ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعا أرقى من النوع الذي قبله زمنيا . . وهذا يمكن تعليله بما قلنا من أن الظروف السائدة في الأرض كان
من الاية 42 الى الاية 48
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
بما فيها ما يسمونه هناك:"الاشتراكية العلمية " فإن هو إلا إفراز خبيث من إفرازات المادية الحقيرة المحتقرة للإنسان الذي كرمه الله .
والمعركة الخالدة بين الشيطان والإنسان في هذه الأرض ترتكز ابتداء إلى استدراج الشيطان للإنسان بعيدا عن منهج الله ; والتزيين له فيما عداه . استدراجه إلى الخروج من عبادة الله - أي الدينونة له في كل ما شرع من عقيدة وتصور , وشعيرة ونسك , وشريعة ونظام - فأما الذين يدينون له وحده - أي يعبدونه وحده - فليس للشيطان عليهم من سلطان . . (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان). .
ومفرق الطريق بين الاتجاه إلى الجنة التي وعد بها المتقون ; وبين الاتجاه إلى جهنم التي وعد بها الغاوون , هو الدينونة لله وحده - التي يعبر عنها في القرآن دائما بالعبادة - أو اتباع تزيين الشيطان بالخروج على هذه الدينونة .
والشيطان نفسه لم يكن ينكر وجود الله سبحانه , ولا صفاته . . أي إنه لم يكن يلحد في الله من ناحية العقيدة ! إنما الذي فعله هو الخروج على الدينونة لله . . وهذا هو ما أورده جهنم هو ومن اتبعه من الغاوين .
إن الدينونة لله وحده هي مناط الإسلام . فلا قيمة لإسلام يدين أصحابه لغير الله في حكم من الأحكام . وسواء كان هذا الحكم خاصا بالاعتقاد والتصور . أو خاصا بالشعائر والمناسك . أو خاصا بالشرائع والقوانين . أو خاصا بالقيم والموازين . . . فهو سواء . . الدينونة فيه لله هي الإسلام . والدينونة فيه لغير الله هي الجاهلية الذاهبة مع الشيطان .
ولا يمكن تجزئة هذه الدينونة ; واختصاصها بالاعتقاد والشعائر دون النظام والشرائع . فالدينونة لله كل لا يتجزأ . وهي العبادة لله في معناها اللغوي وفي معناها الاصطلاحي على السواء . . وعليها تدور المعركة الخالدة بين الإنسان والشيطان !
وأخيرا نقف أمام اللفتة الصادقة العميقة في قوله تعالى عن المتقين:
(إن المتقين في جنات وعيون . ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين . لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين). .
إن هذا الدين لا يحاول تغيير طبيعة البشر في هذه الأرض ; ولا تحويلهم خلقا آخر . ومن ثم يعترف لهم بأنه كان في صدورهم غل في الدنيا ; وبأن هذا من طبيعة بشريتهم التي لا يذهب بها الإيمان والإسلام من جذورها ; ولكنه يعالجها فقط لتخف حدتها , ويتسامى بها لتنصرف إلى الحب في الله والكره في الله - وهل الإيمان إلا الحب والبغض ? - ولكنهم في الجنة - وقد وصلت بشريتهم إلى منتهى رقيها وأدت كذلك دورها في الحياة الدنيا - ينزع أصل الإحساس بالغل من صدورهم ; ولا تكون إلا الأخوة الصافية الودود . .
إنها درجة أهل الجنة . . فمن وجدها في نفسه غالبة في هذه الأرض , فليستبشر بأنه من أهلها , مادام ذلك وهو مؤمن , فهذا هو الشرط الذي لا تقوم بغيره الأعمال . .
الوحدة الرابعة:49 - 84 الموضوع:لقطات من هلاك الغابرين الكافرين
من الاية 49 الى الاية 53
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِ بْراَهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53)
مقدمة الوحدة
يتضمن هذا الدرس نماذج من رحمة الله وعذابه , ممثلة في قصص إبراهيم وبشارته على الكبر بغلام عليم , ولوط ونجاته وأهله إلا امرأته من القوم الظالمين , وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر وما حل بهم من عذاب أليم .
هذا القصص يساق بعد مقدمة: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم فيجيء بعضه مصداقا لنبأ الرحمة , ويجيء بعضه مصداقا لنبأ العذاب . . كذلك هو يرجع إلى مطالع السورة , فيصدق ما جاء فيها من نذيرذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون . وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون). . فهذه نماذج من القرى المهلكة بعد النذر , حل بها جزاؤها بعد انقضاء الأجل . . وكذلك يصدق هذا القصص ما جاء في مطالع السورة في شأن الملائكة حين يرسلون: (وقالوا:يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون . لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين .ما ننزل الملائكة إلا بالحق , وما كانوا إذن منظرين). .
فتبدو السورة وحدة متناسقة , يظاهر بعضها بعضا . . وذلك مع ما هو معلوم من أن السور لم تكن تنزل جملة إلا نادرا , وأن الآيات الواردة فيها لم تكن تنزل متتالية تواليها في المصحف . ولكن ترتيب هذه الآيات في السور ترتيب توقيفي , فلا بد من حكمة في ترتيبها على هذا النسق . وقد كشفت لنا جوانب من هذه الحكمة حتى الآن في السور التي عرضناها في تماسك بنيان السور , واتحاد الجو والظلال في كل سورة . . والعلم بعد ذلك لله . إنما هو اجتهاد . والله الموفق إلى الصواب .
الدرس الأول:49 - 77 لقطات من قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام
نبى ء عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم . .
يجيء هذا الأمر للرسول [ ص ] بعد ذكر جزاء الغاوين وجزاء المتقين في سياق السورة . والمناسبة بينهما ظاهرة في السياق . ويقدم الله نبأ الغفران والرحمة على نبأ العذاب . جريا على الأصل الذي ارتضت مشيئته . فقد كتب على نفسه الرحمة . وإنما يذكر العذاب وحده أحيانا أو يقدم في النص لحكمة خاصة في السياق تقتضي إفراده بالذكر أو تقديمه .
ثم تجيء قصة إبراهيم مع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط . . وقد وردت هذه الحلقة من قصة إبراهيم وقصة لوط في مواضع متعددة بأشكال متنوعة , تناسب السياق الذي وردت فيه . ووردت قصة لوط وحده في مواضع أخرى .
وقد مرت بنا حلقة من قصة لوط في الأعراف , وحلقة من قصة إبراهيم ولوط في هود . . فأما في الأولى فقد تضمنت استنكار لوط لما يأتيه قومه من الفاحشة , وجواب قومه: (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون). . وإنجاءه هو وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين . وذلك دون ذكر لمجيء الملائكة إليه وائتمار قومه بهم . . وأما في الثانية فقد جاءت قصة الملائكة مع إبراهيم ولوط مع اختلاف في طريقة العرض . فهناك تفصيل في الجزء الخاص بإبراهيم وتبشيره وامرأته قائمة , وجداله مع الملائكة عن لوط وقومه . وهو ما لم يذكر هنا . وكذلك يختلف ترتيب الحوادث في القسم الخاص بلوط في السورتين . . ففي سورة هود لم يكشف عن طبيعة الملائكة إلا بعد أن جاءه قومه يهرعون إليه وهو يرجوهم في ضيفه فلا يقبلون رجاءه , حتى ضاق بهم ذرعا وقال قولته الأسيفة: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد !). وأما هنا فقدم الكشف عن طبيعة الملائكة منذ اللحظة الأولى , وأخر حكاية القوم وائتمارهم بضيف لوط . لأن المقصود هنا ليس هو القصة بترتيبها الذي وقعت به , ولكن تصديق النذير , وأن الملائكة حين ينزلون فإنما ينزلون للعذاب فلا ينظر القوم ولا يمهلون . .
(ونبئهم عن ضيف إبراهيم . إذ دخلوا عليه فقالوا:سلاما . قال:إنا منكم وجلون . قالوا:لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم . قال:أبشرتموني على أن مسني الكبر ? فبم تبشرون ? قالوا:بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين . قال:ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ?).
قالوا:سلاما . قال:إنا منكم وجلون . . ولم يذكر هنا سبب قوله , ولم يذكر أنه جاءهم بعجل حنيذ . . (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة). . كما جاء في سورة هود . ذلك أن المجال هنا هو مجال تصديق الرحمة التي ينبيء الله بها عباده على لسان رسوله , لا مجال تفصيلات قصة إبراهيم . .
(قالوا:لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم). .
من الاية 54 الى الاية 64
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (60) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (62) قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
وهكذا عجلوا له البشرى , وعجل بها السياق دون تفصيل .
كذلك يثبت هنا رد إبراهيم ولا يدخل امرأته وحوارها في هذه الحلقة:
(قال:أبشرتموني على أن مسني الكبر ? فبم تبشرون ?)
فقد استبعد إبراهيم في أول الأمر أن يرزق بولد وقد مسه الكبر [ وزوجته كذلك عجوز عقيم كما جاء في مجال آخر ] فرده الملائكة إلى اليقين:
(. . قالوا:بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين). .
أي من اليائسين . فآب إبراهيم سريعا , ونفى عن نفسه القنوط من رحمة الله:
(قال:ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ?)
وبرزت كلمة "الرحمة " في حكاية قول إبراهيم تنسيقا مع المقدمة في هذا السياق ; وبرزت معها الحقيقة الكلية:أنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . الضالون عن طريق الله , الذين لا يستروحون روحه , ولا يحسون رحمته , ولا يستشعرون رأفته وبره ورعايته . فأما القلب الندي بالإيمان , المتصل بالرحمن , فلا ييأس ولا يقنط مهما أحاطت به الشدائد , ومهما ادلهمت حوله الخطوب , ومهما غام الجو وتلبد , وغاب وجه الأمل في ظلام الحاضر وثقل هذا الواقع الظاهر . . فإن رحمة الله قريب من قلوب المؤمنين المهتدين . وقدرة الله تنشيء الأسباب كما تنشيء النتائج , وتغير الواقع كما تغير الموعود .
وهنا - وقد اطمأن إبراهيم إلى الملائكة , وثابت نفسه واطمأنت للبشرى - راح يستطلع سبب مجيئهم وغايته:
قال:فما خطبكم أيها المرسلون ? قالوا:إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين . إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين , إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين . .
ولا يعرض السياق لجدال إبراهيم عن لوط وقومه هنا كما عرض له في سورة هود . بل يصل إخبار الملائكة له , بالنبأ كله . ذلك أنه يصدق رحمة الله بلوط وأهله , وعذابه لامرأته وقومه . وينتهي بذلك دورهم مع إبراهيم , ويمضون لعملهم مع قوم لوط . .
(فلما جاء آل لوط المرسلون , قال:إنكم قوم منكرون . قالوا:بل جئناك بما كانوا فيه يمترون . وأتيناك بالحق وإنا لصادقون . فأسر بأهلك بقطع من الليل , واتبع أدبارهم , ولا يلتفت منكم أحد , وامضوا حيث تؤمرون . وقضينا إليه ذلك الأمر:أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين). .
وهكذا يعجل السياق إخبارهم للوط بأنهم الملائكة , جاءوه بما كان قومه يمترون فيه من أخذهم بذنوبهم وإهلاكهم جزاء ما يرتكبون , تصديقا لوعد الله , وتوكيدا لوقوع العذاب حين ينزل الملائكة بلا إبطاء .
(قال:إنكم قوم منكرون). .
قالها ضيق النفس بهم , وهو يعرف قومه , ويعرف ماذا سيحاولون بأضيافه هؤلاء , وهو بين قومه غريب , وهم فجرة فاحشون . . إنكم قوم منكرون أن تجيئوا إلى هذه القرية وأهلها مشهورون بما يفعلون مع أمثالكم حين يجيئون !
من الاية 65 الى الاية 70
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66) وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
(قالوا:بل جئناك بما كانوا فيه يمترون , وأتيناك بالحق وإنا لصادقون). .
وهذه التوكيدات كلها تصور لنا جزع لوط وكربه . وهو في حيرة بين واجبه لضيفه وضعفه عن حمايتهم في وجه قومه . فجاءه التوكيد بعد التوكيد , لإدخال الطمأنينة عليه قبل إلقاء التعليمات إليه:
(فأسر بأهلك بقطع من الليل . واتبع أدبارهم , ولا يلتفت منكم أحد , وامضوا حيث تؤمرون). .
والسرى سير الليل , والقطع من الليل جزؤه . وقد كان الأمر للوط أن يسير بقومه في الليل قبل الصبح , وأن يكون هو في مؤخرتهم يتفقدهم ولا يدع أحدا منهم يتخلف أو يتلكأ أو يلتفت إلى الديار على عادة المهاجرين الذين يتنازعهم الشوق إلى ما خلفوا من ديارهم فيتلفتون إليها ويتلكأون . وكان الموعد هو الصبح والصبح قريب:
وقضينا إليك ذلك الأمر:أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين . .
وأطلعناه على ذلك الأمر الخطير:أن آخر هؤلاء القوم - وهو دابرهم - مقطوع في الصباح . وإذا انقطع آخرهم فقد انقطع أولهم ; والتعبير على هذا النحو يصور النهاية الشاملة التي لا تبقي أحدا . فلا بد من الحرص واليقظة كي لا يتخلف أحد ولا يتلفت , فيصيبه ما يصيب أهل المدينة المتخلفين .
قدم السياق هذه الواقعة في القصة لأنها الأنسب لموضوع السورة كله . ثم أكمل ما حدث من قوم لوط قبلها .
لقد تسامعوا بأن في بيت لوط شبانا صباح الوجوه ففرحوا بأن هناك صيدا:
(وجاء أهل المدينة يستبشرون). .
والتعبير على هذا النحو يكشف عن مدى الشناعة والبشاعة الذي وصل إليه القوم في الدنس والفجور في الفاحشة الشاذة المريضة . يكشف عن هذا المدى في مشهد أهل المدينة يجيئون جماعة , يستبشرون بالعثور على شبان يعتدون عليهم جهرة وعلانية . هذه العلانية الفاضحة في طلب هذا المنكر - فوق المنكر ذاته - شيء بشع لا يكاد الخيال يتصور وقوعه لولا أنه وقع . فقد يشذ فرد مريض فيتوارى بشذوذه , ويتخفى بمرضه , ويحاول الحصول على لذته المستقذرة في الخفاء وهو يخجل أن يطلع عليه الناس . وإن الفطرة السليمة لتتخفى بهذه اللذة حين تكون طبيعية . بل حين تكون شرعية . وبعض أنواع الحيوان يتخفى بها كذلك . . بينما أولئك القوم المنحوسون يجاهرون بها , ويتجمهرون لتحصيلها , ويستبشرون جماعات وهم يتلمظون عليها ! إنها حالة من الارتكاس معدومة النظير .
فأما لوط فوقف مكروبا يحاول أن يدفع عن ضيفه وعن شرفه . وقف يستثير النخوة الآدمية فيهم ويستجيش وجدان التقوى لله . وإنه ليعلم أنهم لا يتقون الله , ويعلم أن هذه النفوس المرتكسة المطموسة لم تعد فيها نخوة ولا شعور إنساني يستجاش . ولكنه في كربه وشدته يحاول ما يستطيع:
(قال:إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون , واتقوا الله ولا تخزون). .
وبدلا من أن يثير هذا في نفوسهم رواسب المروءة والحياة , إذا هم يتبجحون فيؤنبون لوطا على استضافة أحد من الرجال . كأنما هو الجاني الذي هيأ لهم أسباب الجريمة ودفعهم إليها وهم لا يملكون له دفاعا !
(قالوا:أو لم ننهك عن العالمين ?). .
ويمضي لوط في محاولته يلوح لهم باتجاه الفطرة السليم إلى الجنس الآخر . إلى الإناث اللواتي جعلهن الله
من الاية 71 الى الاية 77
قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ (77)
لتلبية هذا الدافع العميق في نظام الحياة ; ليكون النسل الذي تمتد به الحياة وجعل تلبية هذا الدافع معهن موضع اللذة السليمة المريحة للجنسين معا - في الحالات الطبيعية - ليكون هذا ضمانا لامتداد الحياة , بدافع من الرغبة الشخصية العميقة . . يمضي لوط في محاولته هذه:
(قال:هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين). .
ولوط النبي لا يعرض بناته على هؤلاء الفجار ليأخذوهن سفاحا . إنما هو يلوح لهم بالطريق الطبيعي الذي ترضاه الفطرة السليمة , لينبه فيهم هذه الفطرة . وهو يعلم أنهم إن ثابوا إليها فلن يطلبوا النساء سفاحا . فهو مجرد هتاف للفطرة السليمة في نفوسهم لعلها تستيقظ على هذا العرض الذي هم عنه معرضون .
وبينما هذا المشهد معروض . القوم في سعارهم المريض يستبشرون ويتلمظون . ولوط يدافعهم ويستثير نخوتهم , ويستجيش وجدانهم , ويحرك دواعي الفطرة السليمة فيهم , وهم في سعارهم مندفعون . .
بينما المشهد البشع معروض على هذا النحو المثير يلتفت السياق خطابا لمن يشهد ذلك المشهد , على طريقة العرب في كلامهم بالقسم:
(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون). .
لتصوير حالتهم الأصيلة الدائمة التي لا يرجى معها أن يفيقوا ولا أن يسمعوا هواتف النخوة والتقوى والفطرة السليمة .
ثم تكون الخاتمة . وتحق عليهم كلمة الله:
ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذن منظرين . .
وإذا نحن أمام مشهد الدمار والخراب والخسف والهلاك المناسب لتلك الطبائع المقلوبة:
(فأخذتهم الصيحة مشرقين , فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل). .
وقد خسف بقرى لوط بظاهرة تشبه ظاهرة الزلازل أو البراكين وتصاحبها أحيانا ظاهرة الخسف وتناثر أحجار ملوثة بالطين وهبوط مدن بكاملها تسيح في الأرض . ويقال:إن بحيرة لوط الحالية وجدت بعد هذا الحادث , بعد انقلاب عمورة وسدوم في باطن الأرض , وهبوط مكانها وامتلائه بالماء . ولكننا لا نعلل ما وقع لهم بأنه كان زلزالا أو بركانا عابرا مما يقع في كل حين . . فالمنهج الإيماني الذي نحرص عليه في هذه الظلال يبعد كل البعد عن هذه المحاولة !
إننا نعلم علم اليقين أن الظواهر الكونية كلها تجري وفق ناموس الله الذي أودعه هذا الكون . ولكن كل ظاهرة وكل حدث في هذا الكون لا يقع بأية حتمية إنما يقع وفق قدر خاص به . بلا تعارض بين ثبات الناموس وجريان المشيئة بقدر خاص لكل حدث . . كذلك نحن نعلم علم اليقين أن الله سبحانه يجري في حالات معينة أقدارا معينة بأحداث معينة لوجهة معينة . وليس من الضروري أن يكون ذلك الذي دمر قرى لوط زلزال أو بركان عادي ; فقد يريد الله أن ينزل بهم ما يشاء , وقتما يشاء , فيكون ما يشاء , وفق ما يشاء . . وهذا هو المنهج الإيماني في تفسير معجزات الرسل أجمعين . .
وقرى لوط تقع في طريق مطروق بين الحجاز والشام يمر عليها الناس . وفيها عظات لمن يتفرس ويتأمل , ويجد العبرة في مصارع الغابرين . وإن كانت الآيات لا تنفع إلا القلوب المؤمنة المتفتحة المستعدة للتلقي والتدبر واليقين:
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قال ربك للملائكة). . فكيف شمل إبليس ? فإن صدور الأمر إلى إبليس يدل عليه ما بعده , وقد ذكر صريحا في سورة الأعراف: (قال:ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ?). . وأسلوب القرآن يكتفي بالدلالة اللاحقة في كثير من المواضع . فقول الله تعالى له: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ?). . قاطع في أن الأمر قد صدر له . وليس من الضروري أن يكون هذا الأمر هو أمره للملائكة . فقد يصدر إليه معهم لاجتماعه بهم في ملابسة ما . وقد يصدر إليه منفردا ولا يذكر تهوينا لشأنه وإظهارا للملائكة في الموقف . ولكن المقطوع به من النصوص ومن دلالة تصرفه أنه ليس من الملائكة . وهذا ما نختاره .
وعلى أية حال فنحن نتعامل هنا مع مسلمات غيبية لا نملك تصور ماهياتها ولا كيفياتها في غير حدود النصوص . لأن العقل كما أسلفنا لا سبيل له في هذا المجال بحال من الأحوال .
قال:يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين ? قال:لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون . .
وصرحت طبيعة الغرور والاستكبار والعصيان في ذلك المخلوق من نار السموم . وذكر إبليس الصلصال والحمأ , ولم يذكر النفخة العلوية التي تلابس هذا الطين . وتشامخ برأسه المغرور يقول:إنه ليس من شأنه في عظمته أن يسجد لبشر خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون ! .
وكان ما ينبغي أن يكون:
قال:فاخرج منها فإنك رجيم , وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين . .
جزاء العصيان والشرود .
عندئذ تتبدى خليفة الحقد وخليقة الشر:
(قال:رب فأنظرني إلى يوم يبعثون . قال:فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم). .
لقد طلب النظرة إلى يوم البعث , لا ليندم على خطيئته في حضرة الخالق العظيم , ولا ليتوب إلى الله ويرجع ويكفر عن إثمه الجسيم . ولكن لينتقم من آدم وذريته جزاء ما لعنه الله وطرده . يربط لعنة الله له بآدم , ولا يربطها بعصيانه لله في تبجح نكير !
(قال:رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين). .
وبذلك حدد إبليس ساحة المعركة . إنها الأرض:
(لأزينن لهم في الأرض). .
وحدد عدته فيها إنه التزيين . تزيين القبيح وتجميله , والإغراء بزينته المصطنعة على ارتكابه . وهكذا لا يجترح الإنسان الشر إلا وعليه من الشيطان مسحة تزينه وتجمله , وتظهره في غير حقيقته وردائه . فليفطن الناس إلى عدة الشيطان ; وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزيينا , وكلما وجدوا من نفوسهم إليه اشتهاء . ليحذروا فقد يكون الشيطان هناك . إلا أن يتصلوا بالله ويعبدوه حق عبادته , فليس للشيطان - بشرطه هو - على عباد الله المخلصين من سبيل:
(ولأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين). .
من الاية 41 الى الاية 41
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
والله يستخلص لنفسه من عباده من يخلص نفسه لله , ويجردها له وحده , ويعبده كأنه يراه . وهؤلاء ليس للشيطان عليهم من سلطان .
هذا الشرط الذي قرره إبليس - اللعين - قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه , لأنه سنة الله . . أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه , وأن يحميه ويرعاه . . ومن ثم كان الجواب:
(هذا صراط علي مستقيم . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . إلا من اتبعك من الغاوين). .
هذا صراط . هذا ناموس . هذه سنة . وهي السنة التي ارتضتها الإرادة قانونا وحكما في الهدى والضلال . (إن عبادي)المخلصين لي ليس لك عليهم سلطان , ولا لك فيهم تأثير , ولا تملك أن تزين لهم لأنك عنهم محصور , ولأنهم منك في حمى , ولأن مداخلك إلى نفوسهم مغلقة , وهم يعلقون أبصارهم بالله , ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله . إنما سلطانك على من اتبعك من الغاوين الضالين . فهو استثناء مقطوع لأن الغاوين ليسوا جزءا من عباد الله المخلصين . إن الشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع . فأما من يخلصون أنفسهم لله , فالله لا يتركهم للضياع . ورحمة الله أوسع ولو تخلفوا فإنهم يثوبون من قريب !
فأما العاقبة . عاقبة الغاوين . فهي معلنة في الساحة منذ البدء:
(وإن جهنم لموعدهم أجمعين . لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم).
فهؤلاء الغاوون صنوف ودرجات . والغواية ألوان وأشكال . ولكل باب منهم جزء مقسوم , بحسب ما يكونون وما يعملون .
وينتهي المشهد وقد وصل السياق بالقصة إلى نقطة التركيز وموضع العبرة . ووضح كيف يسلك الشيطان طريقه إلى النفوس . وكيف تغلب خصائص الطين في الإنسان على خصائص النفخة . فأما من يتصل بالله ويحتفظ بنفخة روحه فلا سلطان عليه للشيطان . .
وبمناسبة ذكر مصير الغاوين يذكر مصير المخلصين:
(إن المتقين في جنات وعيون . ادخلوها بسلام آمنين . ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين . لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين).
والمتقون هم الذين يرقبون الله ويقون أنفسهم عذابه وأسبابه . ولعل العيون في الجنات تقابل في المشهد تلك الأبواب في جهنم . وهم يدخلون الجنات بسلام آمنين في مقابل الخوف والفزع هناك . ونزعنا ما في صدورهم من غل , في مقابل الحقد الذي يغلي به صدر إبليس فيما سلف من السياق . لا يمسهم فيها نصب ولا يخافون منها خروجا . جزاء ما خافوا في الأرض واتقوا فاستحقوا المقام المطمئن الآمن في جوار الله الكريم . . . .
تعقيب علي قصة آدم في السورة
وبعد , فإن قصة البشرية الكبرى - كما تعرض في هذا السياق القرآني - تستحق تعقيبات مفصلة لا نملك أن نستطرد فيها - في ظلال القرآن - فنكتفي أن نلم بها إلماما , على قدر المناسبة:
إن دلالتها واضحة على طبيعة تكوين هذا الخلق المسمى بالإنسان . فهو تكوين خاص متفرد , يزيد على مجرد التركيب العضوي الحيوي , الذي يشترك فيه مع بقية الأحياء . وأيا كانت نشأة الحياة , ونشأة الأحياء ; فإن الخلق الإنساني يتفرد بخاصية أخرى هي التي ورد بها النص القرآني . . خاصية الروح الإلهي المودع فيه . .وهي الخاصية التي تجعل من هذا الإنسان إنسانا , يتفرد بخصائصه عن كل الأحياء الأخرى . وهي قطعا ليست مجرد الحياة . فهو يشترك في "الحياة " مع سائر الأحياء . ولكنها خاصية الروح الزائد عن مجرد الحياة .
هذه الخاصية - كما يلهم النص القرآني - لم تجيء للإنسان بعد مراحل أو أطوار من نشأته - كما تزعم الدارونية - ولكنها جاءت مصاحبة لخلقه ونشأته . فلم يجيء على هذا الكائن الإنساني زمان كان فيه مجرد حي من الأحياء - بلا روح إنساني خاص - ثم دخلته هذه الروح , فصار بها هو هذا الإنسان !
ولقد اضطرت الدارونية الحديثة - على يد جوليان هاكسلي - أن تعترف بشطر من هذه الحقيقة الكبيرة ; وهي تقرر "تفرد الإنسان" من الناحية الحيوية والوظيفية . ومن ثم تفرده من الناحية العقلية , وما نشأ عن ذلك كله من تفرده من الناحية الحضارية . .
ولكنها ظلت تزعم أن هذا الإنسان المتفرد متطور عن حيوان !
والتوفيق عسير بين ما انتهت إليه الداروينية الحديثة من تفرد الإنسان , وبين القاعدة التي تقوم عليها الداروينية - قاعدة التطور المطلق وتطور الإنسان عن الحيوان - ولكن الداروينيين ومن والاهم لا يزالون مصرين على ذلك الاندفاع - غير العلمي - الذي صبغوه بصبغة العلم , في دفعة الانسلاخ من كل مقررات الكنيسة ! والذي شجع اليهود على نشره وتمكينه وتثبيته , وإضفاء الصبغة "العلمية " عليه لغرض في نفوسهم ; ولغاية في مخططاتهم !
ولقد سبق أن تحدثنا عن هذه القضية , ونحن نواجه النصوص القرآنية المشابهة في سورة الأعراف في هذه الظلال ; فنقتطف هذه الفقرات مما سبق تقريره هناك:
"وعلى أية حال , فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام , وفي نشأة الجنس البشري , ترجح أن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة , كان مصاحبا لخلقه . وأن الترقي "الإنساني" كان ترقيا في بروز هذه الخصائص , ونموها , وتدريبها , واكتسابها الخبرة العالية . ولم يكن ترقيا في "وجود" الإنسان . . من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان . . كما تقول الداروينية .
"ووجود أنواع مترقية من الحيوان تتبع ترتيبا زمنيا - بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والارتقاء - هو مجرد نظرية "ظنية " وليست "يقينية " لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس إلا ظنا ! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها . وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها !
"على أنه - على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور - ليس هناك ما يمنع من وجود "أنواع" من الحيوان , في أزمان متوالية , بعضها أرقى من بعض , بفعل الظروف السائدة في الأرض ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة في حياتها . ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة [ وظهور أنواع أخرى أكثر ملاءمة للظروف السائدة ] . . ولكن هذا لا "يحتم" أن يكون بعضها "متطورا" من بعض . . وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا , لا تستطيع أن تثبت- في يقين مقطوع به - أن هذا النوع تطور تطورا عضويا من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية - وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها - ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعا أرقى من النوع الذي قبله زمنيا . . وهذا يمكن تعليله بما قلنا من أن الظروف السائدة في الأرض كان
من الاية 42 الى الاية 48
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
بما فيها ما يسمونه هناك:"الاشتراكية العلمية " فإن هو إلا إفراز خبيث من إفرازات المادية الحقيرة المحتقرة للإنسان الذي كرمه الله .
والمعركة الخالدة بين الشيطان والإنسان في هذه الأرض ترتكز ابتداء إلى استدراج الشيطان للإنسان بعيدا عن منهج الله ; والتزيين له فيما عداه . استدراجه إلى الخروج من عبادة الله - أي الدينونة له في كل ما شرع من عقيدة وتصور , وشعيرة ونسك , وشريعة ونظام - فأما الذين يدينون له وحده - أي يعبدونه وحده - فليس للشيطان عليهم من سلطان . . (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان). .
ومفرق الطريق بين الاتجاه إلى الجنة التي وعد بها المتقون ; وبين الاتجاه إلى جهنم التي وعد بها الغاوون , هو الدينونة لله وحده - التي يعبر عنها في القرآن دائما بالعبادة - أو اتباع تزيين الشيطان بالخروج على هذه الدينونة .
والشيطان نفسه لم يكن ينكر وجود الله سبحانه , ولا صفاته . . أي إنه لم يكن يلحد في الله من ناحية العقيدة ! إنما الذي فعله هو الخروج على الدينونة لله . . وهذا هو ما أورده جهنم هو ومن اتبعه من الغاوين .
إن الدينونة لله وحده هي مناط الإسلام . فلا قيمة لإسلام يدين أصحابه لغير الله في حكم من الأحكام . وسواء كان هذا الحكم خاصا بالاعتقاد والتصور . أو خاصا بالشعائر والمناسك . أو خاصا بالشرائع والقوانين . أو خاصا بالقيم والموازين . . . فهو سواء . . الدينونة فيه لله هي الإسلام . والدينونة فيه لغير الله هي الجاهلية الذاهبة مع الشيطان .
ولا يمكن تجزئة هذه الدينونة ; واختصاصها بالاعتقاد والشعائر دون النظام والشرائع . فالدينونة لله كل لا يتجزأ . وهي العبادة لله في معناها اللغوي وفي معناها الاصطلاحي على السواء . . وعليها تدور المعركة الخالدة بين الإنسان والشيطان !
وأخيرا نقف أمام اللفتة الصادقة العميقة في قوله تعالى عن المتقين:
(إن المتقين في جنات وعيون . ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين . لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين). .
إن هذا الدين لا يحاول تغيير طبيعة البشر في هذه الأرض ; ولا تحويلهم خلقا آخر . ومن ثم يعترف لهم بأنه كان في صدورهم غل في الدنيا ; وبأن هذا من طبيعة بشريتهم التي لا يذهب بها الإيمان والإسلام من جذورها ; ولكنه يعالجها فقط لتخف حدتها , ويتسامى بها لتنصرف إلى الحب في الله والكره في الله - وهل الإيمان إلا الحب والبغض ? - ولكنهم في الجنة - وقد وصلت بشريتهم إلى منتهى رقيها وأدت كذلك دورها في الحياة الدنيا - ينزع أصل الإحساس بالغل من صدورهم ; ولا تكون إلا الأخوة الصافية الودود . .
إنها درجة أهل الجنة . . فمن وجدها في نفسه غالبة في هذه الأرض , فليستبشر بأنه من أهلها , مادام ذلك وهو مؤمن , فهذا هو الشرط الذي لا تقوم بغيره الأعمال . .
الوحدة الرابعة:49 - 84 الموضوع:لقطات من هلاك الغابرين الكافرين
من الاية 49 الى الاية 53
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِ بْراَهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53)
مقدمة الوحدة
يتضمن هذا الدرس نماذج من رحمة الله وعذابه , ممثلة في قصص إبراهيم وبشارته على الكبر بغلام عليم , ولوط ونجاته وأهله إلا امرأته من القوم الظالمين , وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر وما حل بهم من عذاب أليم .
هذا القصص يساق بعد مقدمة: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم فيجيء بعضه مصداقا لنبأ الرحمة , ويجيء بعضه مصداقا لنبأ العذاب . . كذلك هو يرجع إلى مطالع السورة , فيصدق ما جاء فيها من نذيرذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون . وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون). . فهذه نماذج من القرى المهلكة بعد النذر , حل بها جزاؤها بعد انقضاء الأجل . . وكذلك يصدق هذا القصص ما جاء في مطالع السورة في شأن الملائكة حين يرسلون: (وقالوا:يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون . لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين .ما ننزل الملائكة إلا بالحق , وما كانوا إذن منظرين). .
فتبدو السورة وحدة متناسقة , يظاهر بعضها بعضا . . وذلك مع ما هو معلوم من أن السور لم تكن تنزل جملة إلا نادرا , وأن الآيات الواردة فيها لم تكن تنزل متتالية تواليها في المصحف . ولكن ترتيب هذه الآيات في السور ترتيب توقيفي , فلا بد من حكمة في ترتيبها على هذا النسق . وقد كشفت لنا جوانب من هذه الحكمة حتى الآن في السور التي عرضناها في تماسك بنيان السور , واتحاد الجو والظلال في كل سورة . . والعلم بعد ذلك لله . إنما هو اجتهاد . والله الموفق إلى الصواب .
الدرس الأول:49 - 77 لقطات من قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام
نبى ء عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم . .
يجيء هذا الأمر للرسول [ ص ] بعد ذكر جزاء الغاوين وجزاء المتقين في سياق السورة . والمناسبة بينهما ظاهرة في السياق . ويقدم الله نبأ الغفران والرحمة على نبأ العذاب . جريا على الأصل الذي ارتضت مشيئته . فقد كتب على نفسه الرحمة . وإنما يذكر العذاب وحده أحيانا أو يقدم في النص لحكمة خاصة في السياق تقتضي إفراده بالذكر أو تقديمه .
ثم تجيء قصة إبراهيم مع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط . . وقد وردت هذه الحلقة من قصة إبراهيم وقصة لوط في مواضع متعددة بأشكال متنوعة , تناسب السياق الذي وردت فيه . ووردت قصة لوط وحده في مواضع أخرى .
وقد مرت بنا حلقة من قصة لوط في الأعراف , وحلقة من قصة إبراهيم ولوط في هود . . فأما في الأولى فقد تضمنت استنكار لوط لما يأتيه قومه من الفاحشة , وجواب قومه: (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون). . وإنجاءه هو وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين . وذلك دون ذكر لمجيء الملائكة إليه وائتمار قومه بهم . . وأما في الثانية فقد جاءت قصة الملائكة مع إبراهيم ولوط مع اختلاف في طريقة العرض . فهناك تفصيل في الجزء الخاص بإبراهيم وتبشيره وامرأته قائمة , وجداله مع الملائكة عن لوط وقومه . وهو ما لم يذكر هنا . وكذلك يختلف ترتيب الحوادث في القسم الخاص بلوط في السورتين . . ففي سورة هود لم يكشف عن طبيعة الملائكة إلا بعد أن جاءه قومه يهرعون إليه وهو يرجوهم في ضيفه فلا يقبلون رجاءه , حتى ضاق بهم ذرعا وقال قولته الأسيفة: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد !). وأما هنا فقدم الكشف عن طبيعة الملائكة منذ اللحظة الأولى , وأخر حكاية القوم وائتمارهم بضيف لوط . لأن المقصود هنا ليس هو القصة بترتيبها الذي وقعت به , ولكن تصديق النذير , وأن الملائكة حين ينزلون فإنما ينزلون للعذاب فلا ينظر القوم ولا يمهلون . .
(ونبئهم عن ضيف إبراهيم . إذ دخلوا عليه فقالوا:سلاما . قال:إنا منكم وجلون . قالوا:لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم . قال:أبشرتموني على أن مسني الكبر ? فبم تبشرون ? قالوا:بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين . قال:ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ?).
قالوا:سلاما . قال:إنا منكم وجلون . . ولم يذكر هنا سبب قوله , ولم يذكر أنه جاءهم بعجل حنيذ . . (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة). . كما جاء في سورة هود . ذلك أن المجال هنا هو مجال تصديق الرحمة التي ينبيء الله بها عباده على لسان رسوله , لا مجال تفصيلات قصة إبراهيم . .
(قالوا:لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم). .
من الاية 54 الى الاية 64
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (60) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (62) قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
وهكذا عجلوا له البشرى , وعجل بها السياق دون تفصيل .
كذلك يثبت هنا رد إبراهيم ولا يدخل امرأته وحوارها في هذه الحلقة:
(قال:أبشرتموني على أن مسني الكبر ? فبم تبشرون ?)
فقد استبعد إبراهيم في أول الأمر أن يرزق بولد وقد مسه الكبر [ وزوجته كذلك عجوز عقيم كما جاء في مجال آخر ] فرده الملائكة إلى اليقين:
(. . قالوا:بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين). .
أي من اليائسين . فآب إبراهيم سريعا , ونفى عن نفسه القنوط من رحمة الله:
(قال:ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ?)
وبرزت كلمة "الرحمة " في حكاية قول إبراهيم تنسيقا مع المقدمة في هذا السياق ; وبرزت معها الحقيقة الكلية:أنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . الضالون عن طريق الله , الذين لا يستروحون روحه , ولا يحسون رحمته , ولا يستشعرون رأفته وبره ورعايته . فأما القلب الندي بالإيمان , المتصل بالرحمن , فلا ييأس ولا يقنط مهما أحاطت به الشدائد , ومهما ادلهمت حوله الخطوب , ومهما غام الجو وتلبد , وغاب وجه الأمل في ظلام الحاضر وثقل هذا الواقع الظاهر . . فإن رحمة الله قريب من قلوب المؤمنين المهتدين . وقدرة الله تنشيء الأسباب كما تنشيء النتائج , وتغير الواقع كما تغير الموعود .
وهنا - وقد اطمأن إبراهيم إلى الملائكة , وثابت نفسه واطمأنت للبشرى - راح يستطلع سبب مجيئهم وغايته:
قال:فما خطبكم أيها المرسلون ? قالوا:إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين . إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين , إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين . .
ولا يعرض السياق لجدال إبراهيم عن لوط وقومه هنا كما عرض له في سورة هود . بل يصل إخبار الملائكة له , بالنبأ كله . ذلك أنه يصدق رحمة الله بلوط وأهله , وعذابه لامرأته وقومه . وينتهي بذلك دورهم مع إبراهيم , ويمضون لعملهم مع قوم لوط . .
(فلما جاء آل لوط المرسلون , قال:إنكم قوم منكرون . قالوا:بل جئناك بما كانوا فيه يمترون . وأتيناك بالحق وإنا لصادقون . فأسر بأهلك بقطع من الليل , واتبع أدبارهم , ولا يلتفت منكم أحد , وامضوا حيث تؤمرون . وقضينا إليه ذلك الأمر:أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين). .
وهكذا يعجل السياق إخبارهم للوط بأنهم الملائكة , جاءوه بما كان قومه يمترون فيه من أخذهم بذنوبهم وإهلاكهم جزاء ما يرتكبون , تصديقا لوعد الله , وتوكيدا لوقوع العذاب حين ينزل الملائكة بلا إبطاء .
(قال:إنكم قوم منكرون). .
قالها ضيق النفس بهم , وهو يعرف قومه , ويعرف ماذا سيحاولون بأضيافه هؤلاء , وهو بين قومه غريب , وهم فجرة فاحشون . . إنكم قوم منكرون أن تجيئوا إلى هذه القرية وأهلها مشهورون بما يفعلون مع أمثالكم حين يجيئون !
من الاية 65 الى الاية 70
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66) وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
(قالوا:بل جئناك بما كانوا فيه يمترون , وأتيناك بالحق وإنا لصادقون). .
وهذه التوكيدات كلها تصور لنا جزع لوط وكربه . وهو في حيرة بين واجبه لضيفه وضعفه عن حمايتهم في وجه قومه . فجاءه التوكيد بعد التوكيد , لإدخال الطمأنينة عليه قبل إلقاء التعليمات إليه:
(فأسر بأهلك بقطع من الليل . واتبع أدبارهم , ولا يلتفت منكم أحد , وامضوا حيث تؤمرون). .
والسرى سير الليل , والقطع من الليل جزؤه . وقد كان الأمر للوط أن يسير بقومه في الليل قبل الصبح , وأن يكون هو في مؤخرتهم يتفقدهم ولا يدع أحدا منهم يتخلف أو يتلكأ أو يلتفت إلى الديار على عادة المهاجرين الذين يتنازعهم الشوق إلى ما خلفوا من ديارهم فيتلفتون إليها ويتلكأون . وكان الموعد هو الصبح والصبح قريب:
وقضينا إليك ذلك الأمر:أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين . .
وأطلعناه على ذلك الأمر الخطير:أن آخر هؤلاء القوم - وهو دابرهم - مقطوع في الصباح . وإذا انقطع آخرهم فقد انقطع أولهم ; والتعبير على هذا النحو يصور النهاية الشاملة التي لا تبقي أحدا . فلا بد من الحرص واليقظة كي لا يتخلف أحد ولا يتلفت , فيصيبه ما يصيب أهل المدينة المتخلفين .
قدم السياق هذه الواقعة في القصة لأنها الأنسب لموضوع السورة كله . ثم أكمل ما حدث من قوم لوط قبلها .
لقد تسامعوا بأن في بيت لوط شبانا صباح الوجوه ففرحوا بأن هناك صيدا:
(وجاء أهل المدينة يستبشرون). .
والتعبير على هذا النحو يكشف عن مدى الشناعة والبشاعة الذي وصل إليه القوم في الدنس والفجور في الفاحشة الشاذة المريضة . يكشف عن هذا المدى في مشهد أهل المدينة يجيئون جماعة , يستبشرون بالعثور على شبان يعتدون عليهم جهرة وعلانية . هذه العلانية الفاضحة في طلب هذا المنكر - فوق المنكر ذاته - شيء بشع لا يكاد الخيال يتصور وقوعه لولا أنه وقع . فقد يشذ فرد مريض فيتوارى بشذوذه , ويتخفى بمرضه , ويحاول الحصول على لذته المستقذرة في الخفاء وهو يخجل أن يطلع عليه الناس . وإن الفطرة السليمة لتتخفى بهذه اللذة حين تكون طبيعية . بل حين تكون شرعية . وبعض أنواع الحيوان يتخفى بها كذلك . . بينما أولئك القوم المنحوسون يجاهرون بها , ويتجمهرون لتحصيلها , ويستبشرون جماعات وهم يتلمظون عليها ! إنها حالة من الارتكاس معدومة النظير .
فأما لوط فوقف مكروبا يحاول أن يدفع عن ضيفه وعن شرفه . وقف يستثير النخوة الآدمية فيهم ويستجيش وجدان التقوى لله . وإنه ليعلم أنهم لا يتقون الله , ويعلم أن هذه النفوس المرتكسة المطموسة لم تعد فيها نخوة ولا شعور إنساني يستجاش . ولكنه في كربه وشدته يحاول ما يستطيع:
(قال:إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون , واتقوا الله ولا تخزون). .
وبدلا من أن يثير هذا في نفوسهم رواسب المروءة والحياة , إذا هم يتبجحون فيؤنبون لوطا على استضافة أحد من الرجال . كأنما هو الجاني الذي هيأ لهم أسباب الجريمة ودفعهم إليها وهم لا يملكون له دفاعا !
(قالوا:أو لم ننهك عن العالمين ?). .
ويمضي لوط في محاولته يلوح لهم باتجاه الفطرة السليم إلى الجنس الآخر . إلى الإناث اللواتي جعلهن الله
من الاية 71 الى الاية 77
قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ (77)
لتلبية هذا الدافع العميق في نظام الحياة ; ليكون النسل الذي تمتد به الحياة وجعل تلبية هذا الدافع معهن موضع اللذة السليمة المريحة للجنسين معا - في الحالات الطبيعية - ليكون هذا ضمانا لامتداد الحياة , بدافع من الرغبة الشخصية العميقة . . يمضي لوط في محاولته هذه:
(قال:هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين). .
ولوط النبي لا يعرض بناته على هؤلاء الفجار ليأخذوهن سفاحا . إنما هو يلوح لهم بالطريق الطبيعي الذي ترضاه الفطرة السليمة , لينبه فيهم هذه الفطرة . وهو يعلم أنهم إن ثابوا إليها فلن يطلبوا النساء سفاحا . فهو مجرد هتاف للفطرة السليمة في نفوسهم لعلها تستيقظ على هذا العرض الذي هم عنه معرضون .
وبينما هذا المشهد معروض . القوم في سعارهم المريض يستبشرون ويتلمظون . ولوط يدافعهم ويستثير نخوتهم , ويستجيش وجدانهم , ويحرك دواعي الفطرة السليمة فيهم , وهم في سعارهم مندفعون . .
بينما المشهد البشع معروض على هذا النحو المثير يلتفت السياق خطابا لمن يشهد ذلك المشهد , على طريقة العرب في كلامهم بالقسم:
(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون). .
لتصوير حالتهم الأصيلة الدائمة التي لا يرجى معها أن يفيقوا ولا أن يسمعوا هواتف النخوة والتقوى والفطرة السليمة .
ثم تكون الخاتمة . وتحق عليهم كلمة الله:
ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذن منظرين . .
وإذا نحن أمام مشهد الدمار والخراب والخسف والهلاك المناسب لتلك الطبائع المقلوبة:
(فأخذتهم الصيحة مشرقين , فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل). .
وقد خسف بقرى لوط بظاهرة تشبه ظاهرة الزلازل أو البراكين وتصاحبها أحيانا ظاهرة الخسف وتناثر أحجار ملوثة بالطين وهبوط مدن بكاملها تسيح في الأرض . ويقال:إن بحيرة لوط الحالية وجدت بعد هذا الحادث , بعد انقلاب عمورة وسدوم في باطن الأرض , وهبوط مكانها وامتلائه بالماء . ولكننا لا نعلل ما وقع لهم بأنه كان زلزالا أو بركانا عابرا مما يقع في كل حين . . فالمنهج الإيماني الذي نحرص عليه في هذه الظلال يبعد كل البعد عن هذه المحاولة !
إننا نعلم علم اليقين أن الظواهر الكونية كلها تجري وفق ناموس الله الذي أودعه هذا الكون . ولكن كل ظاهرة وكل حدث في هذا الكون لا يقع بأية حتمية إنما يقع وفق قدر خاص به . بلا تعارض بين ثبات الناموس وجريان المشيئة بقدر خاص لكل حدث . . كذلك نحن نعلم علم اليقين أن الله سبحانه يجري في حالات معينة أقدارا معينة بأحداث معينة لوجهة معينة . وليس من الضروري أن يكون ذلك الذي دمر قرى لوط زلزال أو بركان عادي ; فقد يريد الله أن ينزل بهم ما يشاء , وقتما يشاء , فيكون ما يشاء , وفق ما يشاء . . وهذا هو المنهج الإيماني في تفسير معجزات الرسل أجمعين . .
وقرى لوط تقع في طريق مطروق بين الحجاز والشام يمر عليها الناس . وفيها عظات لمن يتفرس ويتأمل , ويجد العبرة في مصارع الغابرين . وإن كانت الآيات لا تنفع إلا القلوب المؤمنة المتفتحة المستعدة للتلقي والتدبر واليقين:
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الحجر ايه رقم1 الى 13 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه 15الى اي 31 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه78 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة سبا ايه32\\\\40
» تفسير سورة الحجر ايه رقم 1\\\\\\16
» تفسير سورة الحجر ايه 15الى اي 31 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه78 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة سبا ايه32\\\\40
» تفسير سورة الحجر ايه رقم 1\\\\\\16
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى