تفسير سورة الحجر ايه 15الى اي 31 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الحجر ايه 15الى اي 31 الشيخ سيد قطب
من الاية 14 الى الاية 15
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15)
وهذا النموذج ليس محليا ولا وقتيا , ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين . . إنه نموذج للإنسان حين تفسد فطرته , وتستغلق بصيرته , وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي , وينقطع عن الوجود الحي من حوله , وعن إيقاعاته وإيحاءاته .
هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها "المذاهب العلمية ! " وهي أبعد ما تكون عن العلم ; بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة . .
إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله ; ويجادلون في وجوده - سبحانه - وينكرون هذا الوجود . . ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله , والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته , بلا خالق , وبلا مدبر , وبلا موجه . . يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية و "أخلاقية ! " كذلك . ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس , والتي لا تنفصل عنه بحال . . "علمية " . . هي وحدها "العلمية " !
وعدم الشعور بوجود الله سبحانه , مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية , هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلات النكدة . كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحا عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة:
(ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون . لقالوا:إنما سكرت أبصارنا , بل نحن قوم مسحورون !). .
فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء . وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطابا هامسا وجاهرا , باطنا وظاهرا , بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار .
إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته ; وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره ; كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه . . وهي موافقات لا تحصى . . إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري , كما ترفضه الفطرة من أعماقها . وكلما توغل "العلم" في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته ; رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده ; واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه . . هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته . قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجيء إلا أخيرا !
إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته , ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده . كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الكون الخالي من الحياة . وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا . . كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا:
يقول عالم الأحياء والنبات "رسل تشارلز إرنست" الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا:"لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ; فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين , أو من الفيروس , أو من تجمع بعض الجزيئات البروتينية الكبيرة . وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية , قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة , يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورةالتي شاهدناها في الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة , فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك , فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله , الذي خلق الأشياء ودبرها .
"إنني اعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإنني أومن بوجود الله إيمانا راسخا"
وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة . إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة . والمنطق السائد في بحثه هو منطق "العلم الحديث" - بكل خصائصه - لا منطق الإلهام الفطري , ولا منطق الحس الديني . ومع ذلك فقد انتهى إلى الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري , كما يقررها الحس الديني . ذلك أن الحقيقة متى كان لها وجود , اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها ; أما الذين لا يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا !
والذين يجادلون في الله - مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل , وعن منطق الكون . . أولئك كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا . . إنهم العمي الذين يقول الله تعالى فيهم: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى).
وإذا كانت هذه حقيقتهم ; فإن ما ينشئونه من مذاهب "علمية ! " اجتماعية وسياسية واقتصادية ; وما ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة الإنسانية والتاريخ الإنساني ; يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط , صادر عن أعمى , معطل الحواس الأخرى , محجوبا عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعا - على الأقل فيما يتعلق بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها . وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئا ; فضلا على أن يكيف نظرته , ويقيم منهج حياته , على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلا !
إن هذه قضية إيمانية اعتقادية , وليست قضية رأي وفكر ! إن الذي يقيم تفكيره , ويقيم مذهبه في الحياة , ويقيم نظام حياته كذلك , على أساس أن هذا الكون المادي هو منشى ء ذاته , ومنشى ء الإنسان أيضا . . إنما يخطيء في قاعدة الفكر والمذهب والنظام ; فكل التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير ; ولا يمكن أن تلتحم في جزئية واحدة مع حياة مسلم , يقيم اعتقاده وتصوره , ويجب أن يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره .
ومن ثم يصبح القول بأن ما يسمى "الاشتراكية العلمية " منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة أو هراء ! ويصبح الأخذ بما يسمى "الاشتراكية العلمية " - وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج تفكيرها وبناء أنظمتها - عدولا جذريا عن الإسلام:اعتقادا وتصورا ثم منهجا ونظاما . . حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك "الاشتراكية العلمية " واحترام العقيدة في الله بتاتا . ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والإسلام . . وهذه هي الحقيقة التي لا محيص عنها . .
إن الناس في أي أرض وفي أي زمان ; إما أن يتخذوا الإسلام دينا , وإما أن يتخذوا المادية دينا . فإذااتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا "الاشتراكية العلمية " المنبثقة من "الفلسفة المادية " , والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه , نظاما . . وعلى الناس أن تختار . . إما الإسلام , وإما المادية , منذ الابتداء !
إن الإسلام ليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمير . إنما هو نظام قائم على عقيدة . . كما أن "الاشتراكية العلمية " - بهذا الاصطلاح - ليست قائمة على هواء , إنما هي منبثقة انبثاقا طبيعيا من "المذهب المادي" الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق المدبر أصلا , ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي . . ومن ثم ذلك التناقض الجذري بين الإسلام وما يسمى "الاشتراكية العلمية " بكل تطبيقاتها !
ولا بد من الاختيار بينهما . . ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار !!!
الوحدة الثانية:16 - 25 الموضوع:آيات كونية دالة على الوحدانية
من مشهد المكابرة . وكان ميدانه السماء . إلى معرض الآيات الكونية مبدوءا بمشهد السماء . فمشهد الأرض . فمشهد الرياح اللواقح بالماء . فمشهد الحياة والموت . فمشهد البعث والحشر . . كل أولئك آيات يكابر فيها من لو فتح عليهم باب من السماء فظلوا فيه يعرجون , لقالوا:إنما سكرت أبصارنا , بل نحن قوم مسحورون . فلنعرضها مشهدا مشهدا كما هي في السياق:
(ولقد جعلنا في السماء بروجا . وزيناها للناظرين . وحفظناها من كل شيطان رجيم . إلا من استرق السمع , فأتبعه شهاب مبين). .
إنه الخط الأول في اللوحة العريضة . . لوحة الكون العجيبة , التي تنطق بآيات القدرة المبدعة , وتشهد بالإعجاز أكثر مما يشهد نزول الملائكة ; وتكشف عن دقة التنظيم والتقدير , كما تكشف عن عظمة القدرة على هذا الخلق الكبير .
والبروج قد تكون هي النجوم والكواكب بضخامتها . وقد تكون هي منازل النجوم والكواكب التي
من الاية 16 الى الاية 19
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19)
تنتقل فيها في مدارها . وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة , وشاهدة بالدقة , وشاهدة بالإبداع الجميل:
(وزيناها للناظرين). .
وهي لفتة هنا إلى جمال الكون - وبخاصة تلك السماء - تشي بأن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون . فليست الضخامة وحدها , وليست الدقة وحدها , إنما هو الجمال الذي ينتظم المظاهر جميعا , وينشأ من تناسقها جميعا .
وإن نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة , وقد انتثرت فيها الكواكب والنجوم , توصوص بنورها ثم يبدو كأنما تخبو , ريثما تنتقل العين لتلبي دعوة من نجم بعيد . . ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم , والكون من حوله مهوم , كأنما يمسك أنفاسه لا يوقظ الحالم السعيد ! .
إن نظرة واحدة شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني , وعمق هذا الجمال في تكوينه ; ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة:
(وزيناها للناظرين). .
ومع الزينة الحفظ والطهارة:
(وحفظناها من كل شيطان رجيم). .
لا ينالها ولا يدنسها ; ولا ينفث فيها من شره ورجسه وغوايته . فالشيطان موكل بهذه الأرض وحدها , وبالغاوين من أبناء آدم فيها . أما السماء - وهي رمز للسمو والارتفاع - فهو مطرود عنها مطارد لا ينالها ولا يدنسها . إلا محاولة منه ترد كلما حاولها:
(إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين). .
وما الشيطان ? وكيف يحاول استراق السمع ? وأي شيء يسترق ? . . كل هذا غيب من غيب الله , لا سبيل لنا إليه إلا من خلال النصوص . ولا جدوى في الخوض فيه , لأنه لا يزيد شيئا في العقيدة ; ولا يثمر إلا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه , وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة . ثم لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة .
فلنعلم أن لا سبيل في السماء لشيطان , وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ , وأن ما ترمز إليه من سمو وعلي مصون لا يناله دنس ولا رجس , ولا يخطر فيه شيطان , وإلا طورد فطرد وحيل بينه وبين ما يريد .
ولا ننسى جمال الحركة في المشهد في رسم البرج الثابت , والشيطان الصاعد , والشهاب المنقض , فهي من بدائع التصوير في هذا الكتاب الجميل .
والخط الثاني في اللوحة العريضة الهائلة هو خط الأرض الممدودة أمام النظر , المبسوطة للخطو والسير ; وما فيها من رواس , وما فيها من نبت وأرزاق للناس ولغيرهم من الأحياء:
(والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي , وأنبتنا فيها من كل شيء موزون . وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين). .
إن ظل الضخامة واضح في السياق . فالإشارة في السماء إلى البروج الضخمة - تبدو ضخامتها حتى في جرس كلمة(بروج)وحتى الشهاب المتحرك وصف من قبل بأنه(مبين). . والإشارة في الأرض إلى الرواسي - ويتجسم ثقلها في التعبير بقوله: (وألقينا فيها رواسي). وإلى النبات موصوفا بأنه(موزون)وهي كلمة
من الاية 20 الى الاية 20
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
ذات ثقل , وإن كان معناها أن كل نبت في هذه الأرض في خلقه دقة وإحكام وتقدير . . ويشترك في ظل التضخيم جمع(معايش)وتنكيرها , وكذلك (ومن لستم له برازقين)من كل ما في الأرض من أحياء على وجه الإجمال والإبهام . فكلها تخلع ظل الضخامة الذي يجلل المشهد المرسوم .
والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس . فهذه الأرض الممدودة للنظر والخطو ; وهذه الرواسي الملقاة على الأرض , تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون ; ومنه إلى المعايش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض . وهي الأرزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها . وهي كثيرة شتى , يجملها السياق هنا ويبهمها لتلقي ظل الضخامة كما أسلفنا . جعلنا لكم فيها معايش , وجعلنا لكم كذلك (من لستم له برازقين). فهم يعيشون على أرزاق الله التي جعلها لهم في الأرض . وما أنتم إلا أمة من هذه الأمم التي لا تحصى . أمة لا ترزق سواها إنما الله يرزقها ويرزق سواها , ثم يتفضل عليها فيجعل لمنفعتها ومتاعها وخدمتها أمما أخرى تعيش من رزق الله , ولا تكلفها شيئا .
هذه الأرزاق - ككل شيء - مقدرة في علم الله , تابعة لأمره ومشيئته , يصرفها حيث يشاء وكما يريد , في الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها , وأجراها في الناس والأرزاق:
(وإن من شيء إلا عندنا خزائنه , وما ننزله إلا بقدر معلوم). .
فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئا , إنما خزائن كل شيء - مصادره وموارده - عند الله . في علاه . ينزله على الخلق في عوالمهم (بقدر معلوم)فليس من شيء ينزل جزافا , وليس من شيء يتم اعتباطا .
ومدلول هذا النص المحكموإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)يتجلى بوضوح أكثر كلما تقدم الإنسان في المعرفة , وكلما اهتدى إلى أسرار تركيب هذا الكون وتكوينه . ومدلول(خزائنه)يتجلى في صورة أقرب بعدما كشف الإنسان طبيعة العناصر التي يتألف منها الكون المادي ; وطبيعة تركيبها وتحليلها - إلى حد ما - وعرف مثلا أن خزائن الماء الأساسية هي ذرات الايدروجين والأكسوجين ! وأن من خزائن الرزق المتمثل في النبات الأخضر كله ذلك الآزوت الذي في الهواء ! وذلك الكربون وذلك الأكسجين المركب في ثاني أكسيد الكربون ! وتلك الأشعة التي ترسل بها الشمس أيضا ! ومثل هذا كثير يوضح دلالة خزائن الله التي توصل الإنسان إلى معرفة شيء منها . . وهو شيء على كثرته قليل قليل . . .
ومما يرسله الله بقدر معلوم الرياح والماء:
(وأرسلنا الرياح لواقح , فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه . وما أنتم له بخازنين). .
أرسلنا الرياح لواقح بالماء , كما تلقح الناقة بالنتاج ; فأنزلنا من السماء ماء مما حملت الرياح , فأسقيناكموه فعشتم به:
(وما أنتم له بخازنين). .
من الاية 21 الى الاية 25
وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
فما من خزائنكم جاء , إنما جاء من خزائن الله ونزل منها بقدر معلوم .
والرياح تنطلق وفق نواميس كونية , وتحمل الماء وفقا لهذه النواميس ; وتسقط الماء كذلك بحسبها . ولكن من الذي قدر هذا كله من الأساس ? لقد قدره الخالق , ووضع الناموس الكلي الذي تنشأ عنه كل الظواهر:
(وإن من شيء إلا عندنا خزائنه , وما ننزله إلا بقدر معلوم).
ونلحظ في التعبير أنه يرد كل حركة إلى الله حتى شرب الماء . .(فأسقيناكموه). . والمقصود أننا جعلنا خلقتكم تطلب الماء , وجعلنا الماء صالحا لحاجتكم , وقدرنا هذا وذاك . وأجريناه وحققناه بقدر الله . والتعبير يجيء على هذا النحو لتنسيق الجو كله , ورجع الأمر كله إلى الله حتى في حركة تناول الماء للشراب . لأن الجو جو تعليق كل شيء في هذا الكون بإرادة الله المباشرة وقدره المتعلق بكل حركة وحادث . . سنة الله هنا في حركات الأفلاك كسنته في حركات الأنفس . . تضمن المقطع الأول سنته في المكذبين , وتضمن المقطع الثاني سنته في السماوات والأرضين , وفي الرياح والماء والاستقاء . وكله من سنة الله التي يجري بها قدر الله . وهذه وتلك موصولتان بالحق الكبير الذي خلق الله به السماوات والأرض والناس والأشياء سواء .
ثم يتم السياق رجع كل شيء إلى الله , فيرد إليه الحياة والموت , والأحياء والأموات , والبعث والنشور .
(وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون . ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين . وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم). .
وهنا يلتقي المقطع الثاني بالمقطع الأول . فهناك قال:
(وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم , ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون). .
وهنا يقرر أن الحياة والموت بيد الله , وأن الله هو الوارث بعد الحياة . وأنه هو يعلم من كتب عليهم أن يستقدموا فيتوفوا , ومن كتب عليهم أن يؤجلوا فيستأخروا في الوفاة . وأنه هو الذي يحشرهم في النهاية , وإليه المصير:
(إنه حكيم عليم). .
يقدر لكل أمة أجلها بحكمته , ويعلم متى تموت , ومتى تحشر , وما بين ذلك من أمور . .
ونلاحظ في هذا المقطع وفي الذي قبله تناسقا في حركة المشهد . في تنزيل الذكر . وتنزيل الملائكة . وتنزيل الرجوم للشياطين . وتنزيل الماء من السماء . . ثم في المجال الذي يحيط بالأحداث والمعاني , وهو مجال الكون الكبير:السماء والبروج والشهب , والأرض والرواسي والنبات , والرياح والمطر . . فلما ضرب مثلا للمكابرة جعل موضوعه العروج من الأرض إلى السماء خلال باب منها مفتوح في ذات المجال المعروض . . وذلك من بدائع التصوير في هذا الكتاب العجيب .
الوحدة الثالثة:26 - 48 الموضوع:قصة آدم وإبليس وأحداثها في الجنة
مقارنة بين قصة آدم في سورتي البقرة والحجر
هنا نجيء إلى قصة البشرية الكبرى:قصة الفطرة الأولى . قصة الهدى والضلال وعواملها الأصيلة . قصة آدم . مم خلق ? وماذا صاحب خلقه وتلاه ?
ولقد مرت بنا هذه القصة في الظلال معروضة مرتين من قبل . في سورة البقرة , وفي سورة الأعراف . ولكن مساقها في كل مرة كان لأداء غرض خاص , في معرض خاص , في جو خاص . ومن ثم اختلفت الحلقات التي تعرض منها في كل موضع , واختلفت طريقة الأداء , واختلفت الظلال , واختلف الإيقاع . مع المشاركة في بعض المقدمات والتعقيبات بقدر الاشتراك في الأهداف .
تشابهت مقدمات القصة في السور الثلاث ; في الإشارة إلى التمكين للإنسان في الأرض وإلى استخلافه فيها:
ففي سورة البقرة سبقها في السياقهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا , ثم استوى إلى السماء , فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم). .
وفي سورة الأعراف سبقهاولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون). .
وهنا سبقهاوالأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون , وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين). .
ولكن السياق الذي وردت فيه القصة في كل سورة كان مختلف الوجهة والغرض . .
في البقرة كانت نقطة التركيز في السياق هي استخلاف آدم في الأرض التي خلق الله للناس ما فيها جميعا:
من الاية 26 الى الاية 27
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). . ومن ثم عرض من القصة أسرار هذا الاستخلاف الذي عجبت له الملائكة لما خفي عليهم سرهوعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال:أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا:سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم . قال:يا آدم أنبئهم بأسمائهم , فلما أنبأهم بأسمائهم قال:ألم أقل لكم:إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ?). . ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره . وسكنى آدم وزوجه الجنة . وإزلال الشيطان لهما عنها وإخراجهما منها . ثم الهبوط إلى الأرض للخلافة فيها , بعد تزويدهما بهذه التجربة القاسية , واستغفارهما وتوبة الله عليهما . . . وعقب على القصة بدعوة بني إسرائيل لذكر نعمة الله عليهم والوفاء بعهده معهم , فكان هذا متصلا باستخلاف أبيهم الأكبر في الأرض , وعهده معه , والتجربة القاسية لأبي البشر . .
وفي الأعراف كانت نقطة التركيز في السياق هي الرحلة الطويلة من الجنة وإليها ; وإبراز عداوة إبليس للإنسان منذ بدء الرحلة إلى نهايتها . حتى يعود الناس مرة أخرى إلى ساحة العرض الأولي . ففريق منهم يعودون إلى الجنة التي أخرج الشيطان أبويهم منها لأنهم عادوه وخالفوه . وفريق ينتكس إلى النار لأنه اتبع خطوات الشيطان العدو اللدود . . ومن ثم عرض السياق حكاية سجود الملائكة وإباء ابليس واستكباره . وطلبه من الله أن ينظره إلى يوم البعث , ليغوي أبناء آدم الذي من أجله طرد . ثم إسكان آدم وزوجه الجنة يأكلان من ثمرها كله إلا شجرة واحدة , هي رمز المحظور الذي تبتلى به الإرادة والطاعة . ثم وسوسة الشيطان لهما بتوسع وتفصيل , وأكلهما من الشجرة وظهور سوآتهما لهما , وعتاب الله لآدم وزوجه , وإهباطهم إلى الأرض جميعا للعمل في أرض المعركة الكبرىقال:اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين , قال:فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون). . ثم تابع السياق الرحلة كلها حتى يعود الجميع كرة أخرى . وعرضهم في الساحة الكبرى مع التفصيل والحوار . ثم انتهى فريق إلى الجنة وفريق إلى النارونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله . قالوا:إن الله حرمهما على الكافرين). . وأسدل الستار . .
فأما هنا في هذه السورة فإن نقطة التركيز في السياق هي سر التكوين في آدم , وسر الهدى والضلال , وعواملهما الأصيلة في كيان الإنسان . . ومن ثم نص ابتداء على خلق الله آدم من صلصال من حمأ مسنون , ونفخه فيه من روحه المشرق الكريم ; وخلق الشيطان من قبل من نار السموم . ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس استنكافا من السجود لبشر من صلصال من حمأ مسنون . وطرده ولعنته . وطلبه الإنظار إلى يوم البعث وإجابته . وزاد أن إبليس قرر على نفسه أن ليس له سلطان على عباد الله المخلصين . إنما سلطانه على من يدينون له ولا يدينون لله . وانتهى بمصير هؤلاء وهؤلاء في غير حوار ولا عرض ولا تفصيل . تبعا لنقطة التركيز في السياق , وقد استوفيت ببيان عنصري الإنسان , وبيان مجال سلطة الشيطان . .
فلنمض إلى مشاهد القصة في هذا المجال:
(ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون . والجان خلقناه من قبل من نار السموم). .
وفي هذا الافتتاح يقرر اختلاف الطبيعتين بين الصلصال - وهو الطين اليابس الذي يصلصل عند نقره , المتخذ من الطين الرطب الآسن - والنار الموسومة بأنها شعواء سامة . . نار السموم . . وفيما بعد سنعلم أن طبيعة الإنسان قد دخل فيها عنصر جديد هو النفخة من روح الله , أما طبيعة الشيطان فبقيت من نار السموم .
من الاية 28 الى الاية 29
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)
(وإذ قال ربك للملائكة:إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون , فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين , فسجد الملائكة كلهم أجمعون , إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين . قال:يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين ? قال:لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون . قال:فأخرج منها فإنك رجيم , وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين). .
وإذ قال ربك للملائكة . . متى قال ? , وأين قال ? وكيف قال ? كل أولئك قد أجبنا عنه في سورة البقرة في الجزء الأول من هذه الظلال . إنه لا سبيل إلى الإجابة , لأنه ليس لدينا نص يجيب . وليس لنا من سبيل إلى ذلك الغيب إلا بنص , وكل ما عدا ذلك ضرب في التيه بلا دليل .
فأما خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والنفخ فيه من روح الله فكيف كان ? فهو كذلك ما لا ندري كيفيته , ولا سبيل إلى تحديد هذه الكيفية بحال من الأحوال .
وقد يقال بالإحالة إلى نصوص القرآن الأخرى في هذه القضية , وبخاصة قوله:ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . وقوله:ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من ماء مهين . أن أصل الإنسان وأصل الحياة كلها من طين هذه الأرض ; ومن عناصره الرئيسية التي تتمثل بذاتها في تركيب الإنسان الجسدي وتركيب الأحياء أجمعين . وأن هنالك أطوارا بين الطين والإنسان تشير إليها كلمة "سلالة " . وإلى هنا وتنتهي دلالة النصوص , فكل زيادة تحمل عليها ضرب من التمحل ليس القرآن في حاجة إليه . وللبحث العلمي أن يمضي في طريقه بوسائله الميسرة له , , فيصل إلى ما يصل إليه من فروض ونظريات , يحقق منها ما يجد إلى تحقيقه سبيلا مضمونة , ويبدل منها ما لا يثبت على البحث والتمحيص . غير متعارض في أية نتيجة يحققها مع الحقيقة الأولية التي تضمنها القرآن ; وهي ابتداء خلق هذه السلالة من عناصر الطين ودخول الماء في تركيبها على وجه اليقين .
فأما كيف ارتقى هذا الطين من طبيعته العنصرية المعروفة إلى أفق الحياة العضوية أولا , وإلى أفق الحياة الإنسانية أخيرا ? فهنا السر الذي يعجز عن تعليله البشر أجمعون . وما يزال سر الحياة في الخلية الأولى خافيا لا يزعم أحد أنه اهتدى إليه . فأما سر الحياة الإنسانية العليا بما فيها من مدارك وإشراقات وطاقات متميزة على الخلائق الحيوانية جميعا , تفوقا حاسما فاصلا منذ بدء ظهور الإنسان . فأما هذا السر فما تزال النظريات تخبط حوله ولا تملك الآن أن تنكر تفرد الإنسان بخصائصه منذ نشأته كما أنها لا تملك أن تثبت الصلة المباشرة بينه وبين أي كائن قبله , مما يزعم بعضها أن الإنسان "تطور" عنه . كما أنها لا تملك نفي الاحتمال الآخر:وهو نشأة الأجناس منفصلة منذ البدء - وإن كان بعضها أرقى من بعض - ثم نشأة هذا الإنسان متفردا منذ البدء أيضا . والقرآن الكريم يفسر لنا ذلك التفرد , هذا التفسير المجمل الواضح البسيط:
"فإذا سويته ونفخت فيه من روحي . . . "
فهي روح الله تنقل هذا التكوين العضوي الوضيع إلى ذلك الأفق الإنساني الكريم , منذ بدء التكوين , وتجعله ذلك الخلق المتفرد الذي توكل إليه الخلافة في الأرض بحكم تفرد خصائصه منذ بدء التكوين .
كيف ? . .
ومتى كان في نطاق هذا المخلوق الإنساني أن يدرك كيف يفعل الخالق العظيم ?
وهنا نصل إلى الأرض الصلبة التي نستوي عليها مطمئنين . .
لقد كان خلق الشيطان - من قبل - من نار السموم . فهو سابق إذن للإنسان في الخلق . هذا ما نعلمه . أما كيف هو وكيف كان خلقه . فذلك شأن آخر . ليس لنا أن نخوض فيه . إنما ندرك من صفاته بعض صفات نار السموم . ندرك من صفاته التأثير في عناصر الطين بحكم أنه من النار . والأذى والمسارعة فيه بحكم أنها نار السموم . ثم تنكشف لنا من ثنايا القصة صفة الغرور والاستكبار . وهي ليست بعيدة في التصور عن طبيعة النار !
ولقد كان خلق الإنسان من عناصر هذا الطين اللزج المتحول إلى صلصال ; ثم من النفخة العلوية التي فرقت بينه وبين سائر الأحياء ; ومنحته خصائصه الإنسانية , التي أفردته منذ نشأته عن كل الكائنات الحية ; فسلك طريقا غير طريقها منذ الابتداء . بينما بقيت هي في مستواها الحيواني لا تتعداه !
هذه النفخة التي تصله بالملأ الأعلى ; وتجعله أهلا للاتصال بالله , وللتلقي عنه ; ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس , إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول . والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان , ووراء طاقة العضلات والحواس , إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير محدودة في بعض الأحيان .
ذلك كله مع ثقلة الطين في طبعه , ومع خضوعه لضرورات الطين وحاجاته:من طعام وشراب ولباس وشهوات ونزوات . ومن ضعف وقصور وما ينشئه الضعف والقصور من تصورات ونزعات وحركات . . هذا مع أن هذا الكائن "مركب" منذ البدء من هذين الأفقين اللذين لا ينفصلان فيه . طبيعته طبيعة "المركب" لا طبيعة "المخلوط" أو الممزوج ! . . "ولا بد من ملاحظة هذه الحقيقة ودقة تصورها كلما تحدثنا عن تركيب الإنسان من الطين ومن النفخة العلوية التي جعلت منه هذا المخلوق الفريد التكوين . . إنه لا انفصال بين هذين الأفقين في تكوينه , ولا تصرف لأحدهما بدون الآخر في حالة واحدة من حالاته . إنه لا يكون طينا خالصا في لحظة , ولا يكون روحا خالصا في لحظة ; ولا يتصرف تصرفا واحدا إلا بحكم تركيبه الذي لا يقع فيه الانفصال !
والتوازن بين خصائص العناصر الطينية فيه والعناصر العلوية هو الأفق الأعلى الذي يطلب إليه أن يبلغه , وهو الكمال البشري المقدر له . فليس مطلوبا منه أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون ملكا أو ليكون حيوانا . وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان . والارتفاع الذي يخل بالتوازن المطلق نقص بالقياس إلى هذا المخلوق وخصائصه الأصيلة , والحكمة التي من أجلها خلق على هذا النحو الخاص .
والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة . . كلاهما يخرج على سواء فطرته ; ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له . وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل . وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير .
من أجل هذا أنكر الرسول [ ص ] على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء , ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر , ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام . أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة - رضي الله عنها - وقال:" فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك ; وأقام له عليها نظاما بشريا لا تدمر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر . إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات , لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف ; ولا اعتداء من إحداها على الأخرى . فكل اعتداء يقابله تعطيل . وكل طغيان يقابله تدمير .
من الاية 30 الى الاية 31
فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
والإنسان حفيظ على خصائص فطرته ومسؤول عنها أمام الله . والنظام الذي يقيمه الإسلام للناس حفيظ على هذه الخصائص التي لم يهبها الله جزافا للإنسان .
والذي يريد قتل النوازع الفطرية الحيوانية في الإنسان يدمر كيانه المتفرد . ومثله الذي يريد قتل النوازع الفطرية الخاصة بالإنسان دون الحيوان من الاعتقاد في الله والإيمان بالغيب الذي هو من خصائص الإنسان . . والذي يسلب الناس عقائدهم يدمر كينونتهم البشرية , كالذي يسلب الناس طعامهم وشرابهم ومطالبهم الحيوية سواء . . كلاهما عدو "للإنسان" يجب أن يطارده كما يطارد الشيطان !
إن الإنسان حيوان وزيادة . . فله مثل مطالب الحيوان , وله ما يقابل هذه الزيادة . وليست هذه المطالب دون هذه هي "المطالب الأساسية " كما يزعم أعداء الإنسان من أصحاب المذاهب المادية "العلمية " .
هذه بعض الخواطر التي تطلقها في النفس حقيقة تكوين الإنسان , كما يقررها القرآن . نمر بها سراعا , حتى لا نوقف تدفق النص القرآني في عرض مشاهد القصة الكبرى , راجين أن نعود إليها ببعض التعقيبات في نهايتها:
لقد قال الله للملائكة:"إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . . "
وقد كان ما قاله الله . فقوله - تعالى - إرادة . وتوجه الإرادة ينشيء الخلق المراد . ولا نملك أن نسأل كيف تلبست نفخة الله الأزلي الباقي بالصلصال المخلوق الفاني . فالجدل على هذا النحو عبث عقلي . بل عبث بالعقل ذاته , وخروج به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم . وكل ما ثار من الجدل حول هذا الموضوع وكل ما يثور إن هو إلا جهل بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده , وإقحام له في غير ميدانه , ليقيس عمل الخالق إلى مدركات الإنسان , وهو سفه في إنفاق الطاقة العقلية , وخطأ في المنهج من الأساس . إنه يقول:كيف يتلبس الخالد بالفاني , وكيف يتلبس الأزلي بالحادث ? ثم ينكر أو يثبت ويعلل ! بينما العقل الإنساني ليس مدعوا أصلا للفصل في الموضوع . لأن الله يقول:إن هذا قد كان . ولا يقول:كيف كان . فالأمر إذن ثابت ولا يملك العقل البشري أن ينفيه . وكذلك هو لا يملك أن يثبته بتفسير من عنده - غير التسليم بالنص - لأنه لا يملك وسائل الحكم . فهو حادث . والحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في ذاته , ولا على الأزلي في خلقه للحادث . وتسليم العقل ابتداء بهذه البديهية أو القضية - وهي أن الحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في أي صورة من صوره . يكفي ليكف العقل عن إنفاق طاقته سفها في غير مجاله المأمون .
فلننظر بعد ذلك ماذا كان:
(فسجد الملائكة كلهم أجمعون). .
كما هي طبيعة هذا الخلق - الملائكة - الطاعة المطلقة بلا جدل أو تعويق .
(إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين). .
وإبليس خلق آخر غير الملائكة . فهو من نار وهم من نور . وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . وهو أبى وعصى . فليس هو من الملائكة بيقين . أما الاستثناء هنا فليس على وجهه . إنما هو كما تقول:حضر بنو فلان إلا أحمد . وليس منهم . إنما هو معهم في كل مكان أو ملابسة . وأما أن الأمر المذكور للملائكةوإذ
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15)
وهذا النموذج ليس محليا ولا وقتيا , ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين . . إنه نموذج للإنسان حين تفسد فطرته , وتستغلق بصيرته , وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي , وينقطع عن الوجود الحي من حوله , وعن إيقاعاته وإيحاءاته .
هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها "المذاهب العلمية ! " وهي أبعد ما تكون عن العلم ; بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة . .
إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله ; ويجادلون في وجوده - سبحانه - وينكرون هذا الوجود . . ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله , والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته , بلا خالق , وبلا مدبر , وبلا موجه . . يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية و "أخلاقية ! " كذلك . ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس , والتي لا تنفصل عنه بحال . . "علمية " . . هي وحدها "العلمية " !
وعدم الشعور بوجود الله سبحانه , مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية , هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلات النكدة . كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحا عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة:
(ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون . لقالوا:إنما سكرت أبصارنا , بل نحن قوم مسحورون !). .
فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء . وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطابا هامسا وجاهرا , باطنا وظاهرا , بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار .
إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته ; وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره ; كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه . . وهي موافقات لا تحصى . . إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري , كما ترفضه الفطرة من أعماقها . وكلما توغل "العلم" في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته ; رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده ; واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه . . هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته . قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجيء إلا أخيرا !
إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته , ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده . كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الكون الخالي من الحياة . وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا . . كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا:
يقول عالم الأحياء والنبات "رسل تشارلز إرنست" الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا:"لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ; فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين , أو من الفيروس , أو من تجمع بعض الجزيئات البروتينية الكبيرة . وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية , قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة , يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورةالتي شاهدناها في الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة , فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك , فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله , الذي خلق الأشياء ودبرها .
"إنني اعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإنني أومن بوجود الله إيمانا راسخا"
وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة . إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة . والمنطق السائد في بحثه هو منطق "العلم الحديث" - بكل خصائصه - لا منطق الإلهام الفطري , ولا منطق الحس الديني . ومع ذلك فقد انتهى إلى الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري , كما يقررها الحس الديني . ذلك أن الحقيقة متى كان لها وجود , اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها ; أما الذين لا يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا !
والذين يجادلون في الله - مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل , وعن منطق الكون . . أولئك كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا . . إنهم العمي الذين يقول الله تعالى فيهم: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى).
وإذا كانت هذه حقيقتهم ; فإن ما ينشئونه من مذاهب "علمية ! " اجتماعية وسياسية واقتصادية ; وما ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة الإنسانية والتاريخ الإنساني ; يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط , صادر عن أعمى , معطل الحواس الأخرى , محجوبا عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعا - على الأقل فيما يتعلق بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها . وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئا ; فضلا على أن يكيف نظرته , ويقيم منهج حياته , على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلا !
إن هذه قضية إيمانية اعتقادية , وليست قضية رأي وفكر ! إن الذي يقيم تفكيره , ويقيم مذهبه في الحياة , ويقيم نظام حياته كذلك , على أساس أن هذا الكون المادي هو منشى ء ذاته , ومنشى ء الإنسان أيضا . . إنما يخطيء في قاعدة الفكر والمذهب والنظام ; فكل التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير ; ولا يمكن أن تلتحم في جزئية واحدة مع حياة مسلم , يقيم اعتقاده وتصوره , ويجب أن يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره .
ومن ثم يصبح القول بأن ما يسمى "الاشتراكية العلمية " منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة أو هراء ! ويصبح الأخذ بما يسمى "الاشتراكية العلمية " - وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج تفكيرها وبناء أنظمتها - عدولا جذريا عن الإسلام:اعتقادا وتصورا ثم منهجا ونظاما . . حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك "الاشتراكية العلمية " واحترام العقيدة في الله بتاتا . ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والإسلام . . وهذه هي الحقيقة التي لا محيص عنها . .
إن الناس في أي أرض وفي أي زمان ; إما أن يتخذوا الإسلام دينا , وإما أن يتخذوا المادية دينا . فإذااتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا "الاشتراكية العلمية " المنبثقة من "الفلسفة المادية " , والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه , نظاما . . وعلى الناس أن تختار . . إما الإسلام , وإما المادية , منذ الابتداء !
إن الإسلام ليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمير . إنما هو نظام قائم على عقيدة . . كما أن "الاشتراكية العلمية " - بهذا الاصطلاح - ليست قائمة على هواء , إنما هي منبثقة انبثاقا طبيعيا من "المذهب المادي" الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق المدبر أصلا , ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي . . ومن ثم ذلك التناقض الجذري بين الإسلام وما يسمى "الاشتراكية العلمية " بكل تطبيقاتها !
ولا بد من الاختيار بينهما . . ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار !!!
الوحدة الثانية:16 - 25 الموضوع:آيات كونية دالة على الوحدانية
من مشهد المكابرة . وكان ميدانه السماء . إلى معرض الآيات الكونية مبدوءا بمشهد السماء . فمشهد الأرض . فمشهد الرياح اللواقح بالماء . فمشهد الحياة والموت . فمشهد البعث والحشر . . كل أولئك آيات يكابر فيها من لو فتح عليهم باب من السماء فظلوا فيه يعرجون , لقالوا:إنما سكرت أبصارنا , بل نحن قوم مسحورون . فلنعرضها مشهدا مشهدا كما هي في السياق:
(ولقد جعلنا في السماء بروجا . وزيناها للناظرين . وحفظناها من كل شيطان رجيم . إلا من استرق السمع , فأتبعه شهاب مبين). .
إنه الخط الأول في اللوحة العريضة . . لوحة الكون العجيبة , التي تنطق بآيات القدرة المبدعة , وتشهد بالإعجاز أكثر مما يشهد نزول الملائكة ; وتكشف عن دقة التنظيم والتقدير , كما تكشف عن عظمة القدرة على هذا الخلق الكبير .
والبروج قد تكون هي النجوم والكواكب بضخامتها . وقد تكون هي منازل النجوم والكواكب التي
من الاية 16 الى الاية 19
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19)
تنتقل فيها في مدارها . وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة , وشاهدة بالدقة , وشاهدة بالإبداع الجميل:
(وزيناها للناظرين). .
وهي لفتة هنا إلى جمال الكون - وبخاصة تلك السماء - تشي بأن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون . فليست الضخامة وحدها , وليست الدقة وحدها , إنما هو الجمال الذي ينتظم المظاهر جميعا , وينشأ من تناسقها جميعا .
وإن نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة , وقد انتثرت فيها الكواكب والنجوم , توصوص بنورها ثم يبدو كأنما تخبو , ريثما تنتقل العين لتلبي دعوة من نجم بعيد . . ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم , والكون من حوله مهوم , كأنما يمسك أنفاسه لا يوقظ الحالم السعيد ! .
إن نظرة واحدة شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني , وعمق هذا الجمال في تكوينه ; ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة:
(وزيناها للناظرين). .
ومع الزينة الحفظ والطهارة:
(وحفظناها من كل شيطان رجيم). .
لا ينالها ولا يدنسها ; ولا ينفث فيها من شره ورجسه وغوايته . فالشيطان موكل بهذه الأرض وحدها , وبالغاوين من أبناء آدم فيها . أما السماء - وهي رمز للسمو والارتفاع - فهو مطرود عنها مطارد لا ينالها ولا يدنسها . إلا محاولة منه ترد كلما حاولها:
(إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين). .
وما الشيطان ? وكيف يحاول استراق السمع ? وأي شيء يسترق ? . . كل هذا غيب من غيب الله , لا سبيل لنا إليه إلا من خلال النصوص . ولا جدوى في الخوض فيه , لأنه لا يزيد شيئا في العقيدة ; ولا يثمر إلا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه , وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة . ثم لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة .
فلنعلم أن لا سبيل في السماء لشيطان , وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ , وأن ما ترمز إليه من سمو وعلي مصون لا يناله دنس ولا رجس , ولا يخطر فيه شيطان , وإلا طورد فطرد وحيل بينه وبين ما يريد .
ولا ننسى جمال الحركة في المشهد في رسم البرج الثابت , والشيطان الصاعد , والشهاب المنقض , فهي من بدائع التصوير في هذا الكتاب الجميل .
والخط الثاني في اللوحة العريضة الهائلة هو خط الأرض الممدودة أمام النظر , المبسوطة للخطو والسير ; وما فيها من رواس , وما فيها من نبت وأرزاق للناس ولغيرهم من الأحياء:
(والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي , وأنبتنا فيها من كل شيء موزون . وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين). .
إن ظل الضخامة واضح في السياق . فالإشارة في السماء إلى البروج الضخمة - تبدو ضخامتها حتى في جرس كلمة(بروج)وحتى الشهاب المتحرك وصف من قبل بأنه(مبين). . والإشارة في الأرض إلى الرواسي - ويتجسم ثقلها في التعبير بقوله: (وألقينا فيها رواسي). وإلى النبات موصوفا بأنه(موزون)وهي كلمة
من الاية 20 الى الاية 20
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
ذات ثقل , وإن كان معناها أن كل نبت في هذه الأرض في خلقه دقة وإحكام وتقدير . . ويشترك في ظل التضخيم جمع(معايش)وتنكيرها , وكذلك (ومن لستم له برازقين)من كل ما في الأرض من أحياء على وجه الإجمال والإبهام . فكلها تخلع ظل الضخامة الذي يجلل المشهد المرسوم .
والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس . فهذه الأرض الممدودة للنظر والخطو ; وهذه الرواسي الملقاة على الأرض , تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون ; ومنه إلى المعايش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض . وهي الأرزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها . وهي كثيرة شتى , يجملها السياق هنا ويبهمها لتلقي ظل الضخامة كما أسلفنا . جعلنا لكم فيها معايش , وجعلنا لكم كذلك (من لستم له برازقين). فهم يعيشون على أرزاق الله التي جعلها لهم في الأرض . وما أنتم إلا أمة من هذه الأمم التي لا تحصى . أمة لا ترزق سواها إنما الله يرزقها ويرزق سواها , ثم يتفضل عليها فيجعل لمنفعتها ومتاعها وخدمتها أمما أخرى تعيش من رزق الله , ولا تكلفها شيئا .
هذه الأرزاق - ككل شيء - مقدرة في علم الله , تابعة لأمره ومشيئته , يصرفها حيث يشاء وكما يريد , في الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها , وأجراها في الناس والأرزاق:
(وإن من شيء إلا عندنا خزائنه , وما ننزله إلا بقدر معلوم). .
فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئا , إنما خزائن كل شيء - مصادره وموارده - عند الله . في علاه . ينزله على الخلق في عوالمهم (بقدر معلوم)فليس من شيء ينزل جزافا , وليس من شيء يتم اعتباطا .
ومدلول هذا النص المحكموإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)يتجلى بوضوح أكثر كلما تقدم الإنسان في المعرفة , وكلما اهتدى إلى أسرار تركيب هذا الكون وتكوينه . ومدلول(خزائنه)يتجلى في صورة أقرب بعدما كشف الإنسان طبيعة العناصر التي يتألف منها الكون المادي ; وطبيعة تركيبها وتحليلها - إلى حد ما - وعرف مثلا أن خزائن الماء الأساسية هي ذرات الايدروجين والأكسوجين ! وأن من خزائن الرزق المتمثل في النبات الأخضر كله ذلك الآزوت الذي في الهواء ! وذلك الكربون وذلك الأكسجين المركب في ثاني أكسيد الكربون ! وتلك الأشعة التي ترسل بها الشمس أيضا ! ومثل هذا كثير يوضح دلالة خزائن الله التي توصل الإنسان إلى معرفة شيء منها . . وهو شيء على كثرته قليل قليل . . .
ومما يرسله الله بقدر معلوم الرياح والماء:
(وأرسلنا الرياح لواقح , فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه . وما أنتم له بخازنين). .
أرسلنا الرياح لواقح بالماء , كما تلقح الناقة بالنتاج ; فأنزلنا من السماء ماء مما حملت الرياح , فأسقيناكموه فعشتم به:
(وما أنتم له بخازنين). .
من الاية 21 الى الاية 25
وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
فما من خزائنكم جاء , إنما جاء من خزائن الله ونزل منها بقدر معلوم .
والرياح تنطلق وفق نواميس كونية , وتحمل الماء وفقا لهذه النواميس ; وتسقط الماء كذلك بحسبها . ولكن من الذي قدر هذا كله من الأساس ? لقد قدره الخالق , ووضع الناموس الكلي الذي تنشأ عنه كل الظواهر:
(وإن من شيء إلا عندنا خزائنه , وما ننزله إلا بقدر معلوم).
ونلحظ في التعبير أنه يرد كل حركة إلى الله حتى شرب الماء . .(فأسقيناكموه). . والمقصود أننا جعلنا خلقتكم تطلب الماء , وجعلنا الماء صالحا لحاجتكم , وقدرنا هذا وذاك . وأجريناه وحققناه بقدر الله . والتعبير يجيء على هذا النحو لتنسيق الجو كله , ورجع الأمر كله إلى الله حتى في حركة تناول الماء للشراب . لأن الجو جو تعليق كل شيء في هذا الكون بإرادة الله المباشرة وقدره المتعلق بكل حركة وحادث . . سنة الله هنا في حركات الأفلاك كسنته في حركات الأنفس . . تضمن المقطع الأول سنته في المكذبين , وتضمن المقطع الثاني سنته في السماوات والأرضين , وفي الرياح والماء والاستقاء . وكله من سنة الله التي يجري بها قدر الله . وهذه وتلك موصولتان بالحق الكبير الذي خلق الله به السماوات والأرض والناس والأشياء سواء .
ثم يتم السياق رجع كل شيء إلى الله , فيرد إليه الحياة والموت , والأحياء والأموات , والبعث والنشور .
(وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون . ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين . وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم). .
وهنا يلتقي المقطع الثاني بالمقطع الأول . فهناك قال:
(وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم , ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون). .
وهنا يقرر أن الحياة والموت بيد الله , وأن الله هو الوارث بعد الحياة . وأنه هو يعلم من كتب عليهم أن يستقدموا فيتوفوا , ومن كتب عليهم أن يؤجلوا فيستأخروا في الوفاة . وأنه هو الذي يحشرهم في النهاية , وإليه المصير:
(إنه حكيم عليم). .
يقدر لكل أمة أجلها بحكمته , ويعلم متى تموت , ومتى تحشر , وما بين ذلك من أمور . .
ونلاحظ في هذا المقطع وفي الذي قبله تناسقا في حركة المشهد . في تنزيل الذكر . وتنزيل الملائكة . وتنزيل الرجوم للشياطين . وتنزيل الماء من السماء . . ثم في المجال الذي يحيط بالأحداث والمعاني , وهو مجال الكون الكبير:السماء والبروج والشهب , والأرض والرواسي والنبات , والرياح والمطر . . فلما ضرب مثلا للمكابرة جعل موضوعه العروج من الأرض إلى السماء خلال باب منها مفتوح في ذات المجال المعروض . . وذلك من بدائع التصوير في هذا الكتاب العجيب .
الوحدة الثالثة:26 - 48 الموضوع:قصة آدم وإبليس وأحداثها في الجنة
مقارنة بين قصة آدم في سورتي البقرة والحجر
هنا نجيء إلى قصة البشرية الكبرى:قصة الفطرة الأولى . قصة الهدى والضلال وعواملها الأصيلة . قصة آدم . مم خلق ? وماذا صاحب خلقه وتلاه ?
ولقد مرت بنا هذه القصة في الظلال معروضة مرتين من قبل . في سورة البقرة , وفي سورة الأعراف . ولكن مساقها في كل مرة كان لأداء غرض خاص , في معرض خاص , في جو خاص . ومن ثم اختلفت الحلقات التي تعرض منها في كل موضع , واختلفت طريقة الأداء , واختلفت الظلال , واختلف الإيقاع . مع المشاركة في بعض المقدمات والتعقيبات بقدر الاشتراك في الأهداف .
تشابهت مقدمات القصة في السور الثلاث ; في الإشارة إلى التمكين للإنسان في الأرض وإلى استخلافه فيها:
ففي سورة البقرة سبقها في السياقهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا , ثم استوى إلى السماء , فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم). .
وفي سورة الأعراف سبقهاولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون). .
وهنا سبقهاوالأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون , وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين). .
ولكن السياق الذي وردت فيه القصة في كل سورة كان مختلف الوجهة والغرض . .
في البقرة كانت نقطة التركيز في السياق هي استخلاف آدم في الأرض التي خلق الله للناس ما فيها جميعا:
من الاية 26 الى الاية 27
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27)
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). . ومن ثم عرض من القصة أسرار هذا الاستخلاف الذي عجبت له الملائكة لما خفي عليهم سرهوعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال:أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا:سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم . قال:يا آدم أنبئهم بأسمائهم , فلما أنبأهم بأسمائهم قال:ألم أقل لكم:إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ?). . ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره . وسكنى آدم وزوجه الجنة . وإزلال الشيطان لهما عنها وإخراجهما منها . ثم الهبوط إلى الأرض للخلافة فيها , بعد تزويدهما بهذه التجربة القاسية , واستغفارهما وتوبة الله عليهما . . . وعقب على القصة بدعوة بني إسرائيل لذكر نعمة الله عليهم والوفاء بعهده معهم , فكان هذا متصلا باستخلاف أبيهم الأكبر في الأرض , وعهده معه , والتجربة القاسية لأبي البشر . .
وفي الأعراف كانت نقطة التركيز في السياق هي الرحلة الطويلة من الجنة وإليها ; وإبراز عداوة إبليس للإنسان منذ بدء الرحلة إلى نهايتها . حتى يعود الناس مرة أخرى إلى ساحة العرض الأولي . ففريق منهم يعودون إلى الجنة التي أخرج الشيطان أبويهم منها لأنهم عادوه وخالفوه . وفريق ينتكس إلى النار لأنه اتبع خطوات الشيطان العدو اللدود . . ومن ثم عرض السياق حكاية سجود الملائكة وإباء ابليس واستكباره . وطلبه من الله أن ينظره إلى يوم البعث , ليغوي أبناء آدم الذي من أجله طرد . ثم إسكان آدم وزوجه الجنة يأكلان من ثمرها كله إلا شجرة واحدة , هي رمز المحظور الذي تبتلى به الإرادة والطاعة . ثم وسوسة الشيطان لهما بتوسع وتفصيل , وأكلهما من الشجرة وظهور سوآتهما لهما , وعتاب الله لآدم وزوجه , وإهباطهم إلى الأرض جميعا للعمل في أرض المعركة الكبرىقال:اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين , قال:فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون). . ثم تابع السياق الرحلة كلها حتى يعود الجميع كرة أخرى . وعرضهم في الساحة الكبرى مع التفصيل والحوار . ثم انتهى فريق إلى الجنة وفريق إلى النارونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله . قالوا:إن الله حرمهما على الكافرين). . وأسدل الستار . .
فأما هنا في هذه السورة فإن نقطة التركيز في السياق هي سر التكوين في آدم , وسر الهدى والضلال , وعواملهما الأصيلة في كيان الإنسان . . ومن ثم نص ابتداء على خلق الله آدم من صلصال من حمأ مسنون , ونفخه فيه من روحه المشرق الكريم ; وخلق الشيطان من قبل من نار السموم . ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس استنكافا من السجود لبشر من صلصال من حمأ مسنون . وطرده ولعنته . وطلبه الإنظار إلى يوم البعث وإجابته . وزاد أن إبليس قرر على نفسه أن ليس له سلطان على عباد الله المخلصين . إنما سلطانه على من يدينون له ولا يدينون لله . وانتهى بمصير هؤلاء وهؤلاء في غير حوار ولا عرض ولا تفصيل . تبعا لنقطة التركيز في السياق , وقد استوفيت ببيان عنصري الإنسان , وبيان مجال سلطة الشيطان . .
فلنمض إلى مشاهد القصة في هذا المجال:
(ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون . والجان خلقناه من قبل من نار السموم). .
وفي هذا الافتتاح يقرر اختلاف الطبيعتين بين الصلصال - وهو الطين اليابس الذي يصلصل عند نقره , المتخذ من الطين الرطب الآسن - والنار الموسومة بأنها شعواء سامة . . نار السموم . . وفيما بعد سنعلم أن طبيعة الإنسان قد دخل فيها عنصر جديد هو النفخة من روح الله , أما طبيعة الشيطان فبقيت من نار السموم .
من الاية 28 الى الاية 29
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29)
(وإذ قال ربك للملائكة:إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون , فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين , فسجد الملائكة كلهم أجمعون , إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين . قال:يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين ? قال:لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون . قال:فأخرج منها فإنك رجيم , وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين). .
وإذ قال ربك للملائكة . . متى قال ? , وأين قال ? وكيف قال ? كل أولئك قد أجبنا عنه في سورة البقرة في الجزء الأول من هذه الظلال . إنه لا سبيل إلى الإجابة , لأنه ليس لدينا نص يجيب . وليس لنا من سبيل إلى ذلك الغيب إلا بنص , وكل ما عدا ذلك ضرب في التيه بلا دليل .
فأما خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والنفخ فيه من روح الله فكيف كان ? فهو كذلك ما لا ندري كيفيته , ولا سبيل إلى تحديد هذه الكيفية بحال من الأحوال .
وقد يقال بالإحالة إلى نصوص القرآن الأخرى في هذه القضية , وبخاصة قوله:ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . وقوله:ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من ماء مهين . أن أصل الإنسان وأصل الحياة كلها من طين هذه الأرض ; ومن عناصره الرئيسية التي تتمثل بذاتها في تركيب الإنسان الجسدي وتركيب الأحياء أجمعين . وأن هنالك أطوارا بين الطين والإنسان تشير إليها كلمة "سلالة " . وإلى هنا وتنتهي دلالة النصوص , فكل زيادة تحمل عليها ضرب من التمحل ليس القرآن في حاجة إليه . وللبحث العلمي أن يمضي في طريقه بوسائله الميسرة له , , فيصل إلى ما يصل إليه من فروض ونظريات , يحقق منها ما يجد إلى تحقيقه سبيلا مضمونة , ويبدل منها ما لا يثبت على البحث والتمحيص . غير متعارض في أية نتيجة يحققها مع الحقيقة الأولية التي تضمنها القرآن ; وهي ابتداء خلق هذه السلالة من عناصر الطين ودخول الماء في تركيبها على وجه اليقين .
فأما كيف ارتقى هذا الطين من طبيعته العنصرية المعروفة إلى أفق الحياة العضوية أولا , وإلى أفق الحياة الإنسانية أخيرا ? فهنا السر الذي يعجز عن تعليله البشر أجمعون . وما يزال سر الحياة في الخلية الأولى خافيا لا يزعم أحد أنه اهتدى إليه . فأما سر الحياة الإنسانية العليا بما فيها من مدارك وإشراقات وطاقات متميزة على الخلائق الحيوانية جميعا , تفوقا حاسما فاصلا منذ بدء ظهور الإنسان . فأما هذا السر فما تزال النظريات تخبط حوله ولا تملك الآن أن تنكر تفرد الإنسان بخصائصه منذ نشأته كما أنها لا تملك أن تثبت الصلة المباشرة بينه وبين أي كائن قبله , مما يزعم بعضها أن الإنسان "تطور" عنه . كما أنها لا تملك نفي الاحتمال الآخر:وهو نشأة الأجناس منفصلة منذ البدء - وإن كان بعضها أرقى من بعض - ثم نشأة هذا الإنسان متفردا منذ البدء أيضا . والقرآن الكريم يفسر لنا ذلك التفرد , هذا التفسير المجمل الواضح البسيط:
"فإذا سويته ونفخت فيه من روحي . . . "
فهي روح الله تنقل هذا التكوين العضوي الوضيع إلى ذلك الأفق الإنساني الكريم , منذ بدء التكوين , وتجعله ذلك الخلق المتفرد الذي توكل إليه الخلافة في الأرض بحكم تفرد خصائصه منذ بدء التكوين .
كيف ? . .
ومتى كان في نطاق هذا المخلوق الإنساني أن يدرك كيف يفعل الخالق العظيم ?
وهنا نصل إلى الأرض الصلبة التي نستوي عليها مطمئنين . .
لقد كان خلق الشيطان - من قبل - من نار السموم . فهو سابق إذن للإنسان في الخلق . هذا ما نعلمه . أما كيف هو وكيف كان خلقه . فذلك شأن آخر . ليس لنا أن نخوض فيه . إنما ندرك من صفاته بعض صفات نار السموم . ندرك من صفاته التأثير في عناصر الطين بحكم أنه من النار . والأذى والمسارعة فيه بحكم أنها نار السموم . ثم تنكشف لنا من ثنايا القصة صفة الغرور والاستكبار . وهي ليست بعيدة في التصور عن طبيعة النار !
ولقد كان خلق الإنسان من عناصر هذا الطين اللزج المتحول إلى صلصال ; ثم من النفخة العلوية التي فرقت بينه وبين سائر الأحياء ; ومنحته خصائصه الإنسانية , التي أفردته منذ نشأته عن كل الكائنات الحية ; فسلك طريقا غير طريقها منذ الابتداء . بينما بقيت هي في مستواها الحيواني لا تتعداه !
هذه النفخة التي تصله بالملأ الأعلى ; وتجعله أهلا للاتصال بالله , وللتلقي عنه ; ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس , إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول . والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان , ووراء طاقة العضلات والحواس , إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير محدودة في بعض الأحيان .
ذلك كله مع ثقلة الطين في طبعه , ومع خضوعه لضرورات الطين وحاجاته:من طعام وشراب ولباس وشهوات ونزوات . ومن ضعف وقصور وما ينشئه الضعف والقصور من تصورات ونزعات وحركات . . هذا مع أن هذا الكائن "مركب" منذ البدء من هذين الأفقين اللذين لا ينفصلان فيه . طبيعته طبيعة "المركب" لا طبيعة "المخلوط" أو الممزوج ! . . "ولا بد من ملاحظة هذه الحقيقة ودقة تصورها كلما تحدثنا عن تركيب الإنسان من الطين ومن النفخة العلوية التي جعلت منه هذا المخلوق الفريد التكوين . . إنه لا انفصال بين هذين الأفقين في تكوينه , ولا تصرف لأحدهما بدون الآخر في حالة واحدة من حالاته . إنه لا يكون طينا خالصا في لحظة , ولا يكون روحا خالصا في لحظة ; ولا يتصرف تصرفا واحدا إلا بحكم تركيبه الذي لا يقع فيه الانفصال !
والتوازن بين خصائص العناصر الطينية فيه والعناصر العلوية هو الأفق الأعلى الذي يطلب إليه أن يبلغه , وهو الكمال البشري المقدر له . فليس مطلوبا منه أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون ملكا أو ليكون حيوانا . وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان . والارتفاع الذي يخل بالتوازن المطلق نقص بالقياس إلى هذا المخلوق وخصائصه الأصيلة , والحكمة التي من أجلها خلق على هذا النحو الخاص .
والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة . . كلاهما يخرج على سواء فطرته ; ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له . وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل . وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير .
من أجل هذا أنكر الرسول [ ص ] على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء , ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر , ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام . أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة - رضي الله عنها - وقال:" فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك ; وأقام له عليها نظاما بشريا لا تدمر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر . إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات , لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف ; ولا اعتداء من إحداها على الأخرى . فكل اعتداء يقابله تعطيل . وكل طغيان يقابله تدمير .
من الاية 30 الى الاية 31
فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
والإنسان حفيظ على خصائص فطرته ومسؤول عنها أمام الله . والنظام الذي يقيمه الإسلام للناس حفيظ على هذه الخصائص التي لم يهبها الله جزافا للإنسان .
والذي يريد قتل النوازع الفطرية الحيوانية في الإنسان يدمر كيانه المتفرد . ومثله الذي يريد قتل النوازع الفطرية الخاصة بالإنسان دون الحيوان من الاعتقاد في الله والإيمان بالغيب الذي هو من خصائص الإنسان . . والذي يسلب الناس عقائدهم يدمر كينونتهم البشرية , كالذي يسلب الناس طعامهم وشرابهم ومطالبهم الحيوية سواء . . كلاهما عدو "للإنسان" يجب أن يطارده كما يطارد الشيطان !
إن الإنسان حيوان وزيادة . . فله مثل مطالب الحيوان , وله ما يقابل هذه الزيادة . وليست هذه المطالب دون هذه هي "المطالب الأساسية " كما يزعم أعداء الإنسان من أصحاب المذاهب المادية "العلمية " .
هذه بعض الخواطر التي تطلقها في النفس حقيقة تكوين الإنسان , كما يقررها القرآن . نمر بها سراعا , حتى لا نوقف تدفق النص القرآني في عرض مشاهد القصة الكبرى , راجين أن نعود إليها ببعض التعقيبات في نهايتها:
لقد قال الله للملائكة:"إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . . "
وقد كان ما قاله الله . فقوله - تعالى - إرادة . وتوجه الإرادة ينشيء الخلق المراد . ولا نملك أن نسأل كيف تلبست نفخة الله الأزلي الباقي بالصلصال المخلوق الفاني . فالجدل على هذا النحو عبث عقلي . بل عبث بالعقل ذاته , وخروج به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم . وكل ما ثار من الجدل حول هذا الموضوع وكل ما يثور إن هو إلا جهل بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده , وإقحام له في غير ميدانه , ليقيس عمل الخالق إلى مدركات الإنسان , وهو سفه في إنفاق الطاقة العقلية , وخطأ في المنهج من الأساس . إنه يقول:كيف يتلبس الخالد بالفاني , وكيف يتلبس الأزلي بالحادث ? ثم ينكر أو يثبت ويعلل ! بينما العقل الإنساني ليس مدعوا أصلا للفصل في الموضوع . لأن الله يقول:إن هذا قد كان . ولا يقول:كيف كان . فالأمر إذن ثابت ولا يملك العقل البشري أن ينفيه . وكذلك هو لا يملك أن يثبته بتفسير من عنده - غير التسليم بالنص - لأنه لا يملك وسائل الحكم . فهو حادث . والحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في ذاته , ولا على الأزلي في خلقه للحادث . وتسليم العقل ابتداء بهذه البديهية أو القضية - وهي أن الحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في أي صورة من صوره . يكفي ليكف العقل عن إنفاق طاقته سفها في غير مجاله المأمون .
فلننظر بعد ذلك ماذا كان:
(فسجد الملائكة كلهم أجمعون). .
كما هي طبيعة هذا الخلق - الملائكة - الطاعة المطلقة بلا جدل أو تعويق .
(إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين). .
وإبليس خلق آخر غير الملائكة . فهو من نار وهم من نور . وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . وهو أبى وعصى . فليس هو من الملائكة بيقين . أما الاستثناء هنا فليس على وجهه . إنما هو كما تقول:حضر بنو فلان إلا أحمد . وليس منهم . إنما هو معهم في كل مكان أو ملابسة . وأما أن الأمر المذكور للملائكةوإذ
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الحجر ايه رقم1 الى 13 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه32 الى ايه 77 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه78 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه رقم 1\\\\\\16
» تفسير سورة الحجر ايه 16\\\32
» تفسير سورة الحجر ايه32 الى ايه 77 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه78 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة الحجر ايه رقم 1\\\\\\16
» تفسير سورة الحجر ايه 16\\\32
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى