تفسير سورة يوسف ايه58 الى ايه 79 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة يوسف ايه58 الى ايه 79 الشيخ سيد قطب
من الاية 58 الى الاية 61
وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
كذلك لم يبرز السياق الملك ولا أحدا من رجاله بعد ذلك في السورة كلها . كأن الأمر كله قد صار ليوسف . الذي اضطلع بالعبء في الأزمة الخانقة الرهيبة . وأبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث , وسلط عليه كل الأضواء . وهذه حقيقة واقعية استخدمها السياق استخداما فنيا كاملا في الأداء .
أما فعل الجدب فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف , يجيئون من البدو من أرض كنعان البعيدة يبحثون عن الطعام في مصر . ومن ذلك ندرك اتساع دائرة المجاعة , كما ندرك كيف وقفت مصر - بتدبير يوسف - منها , وكيف صارت محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة كلها . وفي الوقت ذاته تمضي قصة يوسف في مجراها الأكبر بين يوسف وإخوته وهي سمة فنية تحقق هدفا دينيا في السياق:
(وجاء إخوة يوسف , فدخلوا عليه , فعرفهم وهم له منكرون . ولما جهزهم بجهازهم قال:ائتوني بأخ لكم من أبيكم . ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ? فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون . قالوا:سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون . وقال لفتيانه:اجعلوا بضاعتهم في رحالهم , لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون). .
لقد اجتاح الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها . فاتجه إخوة يوسف - فيمن يتجهون - إلى مصر . وقد تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان . وها نحن أولاء نشهدهم يدخلون على يوسف , وهم لا يعلمون . إنه يعرفهم فهم هم لم يتغيروا كثيرا . أما يوسف فإن خيالهم لا يتصور قط أنه هو ذاك! وأين الغلام العبراني الصغير الذي ألقوه في الجب منذ عشرين عاما أو تزيد من عزيز مصر شبه المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته وخدمه وحشمه وهيله وهيلمانه ?
ولم يكشف لهم يوسف عن نفسه . فلا بد من دروس يتلقونها:
(فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون). .
ولكنا ندرك من السياق أنه أنزلهم منزلا طيبا , ثم أخذ في إعداد الدرس الأول:
(ولما جهزهم بجهازهم قال:ائتوني بأخ لكم من أبيكم). .
فنفهم من هذا أنه تركهم يأنسون إليه , واستدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل , وأن لهم أخا صغيرا من أبيهم لم يحضر معهم لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه . فلما جهزهم بحاجات الرحلة قال لهم:
إنه يريد أن يرى أخاهم هذا .
(قال:ائتوني بأخ لكم من أبيكم). .
وقد رأيتم أنني أوفي الكيل للمشترين . فسأوفيكم نصيبكم حين يجيء معكم ; ورأيتم أنني أكرم النزلاء فلا خوف عليه بل سيلقى مني الإكرام المعهود:
(ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ?). .
ولما كانوا يعلمون كيف يضن أبوهم بأخيهم الأصغر - وبخاصة بعد ذهاب يوسف - فقد أظهروا أن الأمر ليس ميسورا , وإنما في طريقه عقبات من ممانعة أبيهم , وأنهم سيحاولون إقناعه , مع توكيد عزمهم - على الرغم من هذه العقبات - على إحضاره معهم حين يعودون:
من الاية 62 الى الاية 64
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
(قالوا:سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون). .
ولفظ(نراود)يصور الجهد الذي يعلمون أنهم باذلوه . .
أما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح والعلف . وقد تكون خليطا من نقد ومن غلات صحراوية أخرى من غلات الشجر الصحراوي , ومن الجلود والشعر وسواها مما كان يستخدم في التبادل في الأسواق . . أمر غلمانه بدسها في رحالهم - والرحل متاع المسافر - لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها بضاعتهم التي جاءوا بها:
(وقال لفتيانه:اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون). .
الدرس الثالث:63 - 68 أخوة يوسف يقنعون أباهم بأخذهم لأخيهم معهم
وندع يوسف في مصر . لنشهد يعقوب وبنيه في أرض كنعان . دون كلمة واحدة عن الطريق وما فيه:
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا:يا أبانا منع منا الكيل , فأرسل معنا أخانا نكتل , وإنا له لحافظون . قال:هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ? فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم , قالوا:يا أبانا ما نبغى . هذه بضاعتنا ردت إلينا , ونمير أهلنا , ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير . ذلك كيل يسير . قال:لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله:لتأتنني به - إلا أن يحاط بكم - فلما آتوه موثقهم قال:الله على ما نقول وكيل . .
ويبدو أنهم في دخلتهم على أبيهم , وقبل أن يفكوا متاعهم , عاجلوه بأن الكيل قد تقرر منعه عنهم ما لم يأتوا عزيز مصر بأخيهم الصغير معهم . فهم يطلبون إليه أن يرسل معهم أخاهم الصغير ليكتالوا له ولهم . وهم يعدون بحفظه:
(فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا:يا أبانا منع منا الكيل , فأرسل معنا أخانا نكتل , وإنا له لحافظون). .
ولا بد أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب . فهو ذاته وعدهم له في يوسف ! فإذا هو يجهر بما أثاره الوعد من شجونه:
(قال:هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل !). .
فخلوني من وعودكم وخلوني من حفظكم , فإذا أنا طلبت الحفظ لولدي والرحمة بي . .
(فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين)!
وبعد الاستقرار من المشوار , والراحة من السفر فتحوا أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها , ولم يجدوا في رحالهم غلالا !
إن يوسف لم يعطهم قمحا , إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم . فلما عادوا قالوا:يا أبانا منع منا الكيل , وفتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم . وكان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم , وكان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه .
على أية حال لقد اتخذوا من رد بضاعتهم إليهم دليلا على أنهم غير باغين فيما يطلبون من استصحاب أخيهم ولا ظالمين:
قالوا:يا أبانا ما نبغى . هذه بضاعتنا ردت إلينا . .
من الاية 65 الى الاية 67
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
ثم أخذوا يحرجونه بالتلويح له بمصلحة أهلهم الحيوية في الحصول على الطعام:
(ونمير أهلنا). .
والميرة الزاد , ويؤكدون له عزمهم على حفظ أخيهم . .
(ونحفظ أخانا). .
ويرغبونه بزيادة الكيل لأخيهم:
(ونزداد كيل بعير). .
وهو ميسور لهم حين يرافقهم:
(ذلك كيل يسير). .
ويبدو من قولهم: (ونزداد كيل بعير)أن يوسف - عليه السلام - كان يعطي كل واحد وسق بعير - وهو قدر معروف - ولم يكن يبيع كل مشتر ما يريد . وكان ذلك من الحكمة في سنوات الجدب , كي يظل هناك قوت للجميع:
واستسلم الرجل على كره ; ولكنه جعل لتسليم ابنه الباقي شرطا:
(قال:لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله:لتأتنني به إلا أن يحاط بكم). .
أي لتقسمن لي بالله قسما يربطكم , أن تردوا علي ولدي , إلا إذا غلبتم على أمركم غلبا لا حيلة لكم فيه , ولا تجدي مدافعتكم عنه:
(إلا أن يحاط بكم). .
وهو كناية عن أخذ المسالك كلها عليهم . فأقسموا:
(فلما آتوه موثقهم قال:الله على ما نقول وكيل). .
زيادة في التوكيد والتذكير .
وبعد هذا الموثق جعل الرجل يوصيهم بما خطر له في رحلتهم القادمة ومعهم الصغير العزيز:
(وقال:يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة . وما أغني عنكم من الله من شيء . إن الحكم إلا لله , عليه توكلت , وعليه فليتوكل المتوكلون). .
ونقف هنا أمام قول يعقوب - عليه السلام -:
(إن الحكم إلا لله). .
وواضح من سياق القول أنه يعني هنا حكم الله القدري القهري الذي لا مفر منه ولا فكاك . وقضاءه الإلهي الذي يجري به قدره فلا يملك الناس فيه لأنفسهم شيئا .
وهذا هو الإيمان بالقدر خيره وشره .
وحكم الله القدري يمضي في الناس على غير إرادة منهم ولا اختيار . . وإلى جانبه حكم الله الذي ينفذه الناس عن رضى منهم واختيار . وهو الحكم الشرعي المتمثل في الأوامر والنواهي . . وهذا كذلك لا يكون إلا الله . شأنه شأن حكمه القدري , باختلاف واحد:هو أن الناس ينفذونه مختارين أو لا ينفذونه . فيترتب
من الاية 68 الى الاية 69
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69)
على هذا أو ذاك نتائجه وعواقبه في حياتهم في الدنيا وفي جزائهم في الآخرة . ولكن الناس لا يكونون مسلمين حتى يختاروا حكم الله هذا وينفذوه فعلا راضين . .
وسار الركب , ونفذوا وصية أبيهم:
(ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم , ما كان يغني عنهم من الله من شيء - إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها - وإنه لذو علم لما علمناه , ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
فيم كانت هذه الوصية ? لم قال لهم أبوهم:لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ?
تضرب الروايات والتفاسير في هذا وتبدى وتعيد , بلا ضرورة , بل ضد ما يقتضيه السياق القرآني الحكيم . فلو كان السياق يحب أن يكشف عن السبب لقال . ولكنه قال فقط - إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها - فينبغي أن يقف المفسرون عند ماأراده السياق , احتفاظا بالجو الذي أراده . والجو يوحي بأنه كان يخشى شيئا عليهم , ويرى في دخولهم من أبواب متفرقة اتقاء لهذا الشيء مع تسليمه بأنه لا يغني عنهم من الله من شيء . فالحكم كله إليه , والاعتماد كله عليه . إنما هو خاطر شعر به , وحاجة في نفسه قضاها بالوصية , وهو على علم بأن إرادة الله نافذة . فقد علمه الله هذا فتعلم .
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
ثم ليكن هذا الشيء الذي كان يخشاه هو العين الحاسدة , أو هي غيرة الملك من كثرتهم وفتوتهم . أو هو تتبع قطاع الطريق لهم . أو كائنا ما كان فهو لا يزيد شيئا في الموضوع . سوى أن يجد الرواة والمفسرون بابا للخروج عن الجو القرآني المؤثر إلى قال وقيل , مما يذهب بالجو القرآني كله في كثرة الأحايين !
فلنطو نحن الوصية والرحلة كما طواها السياق , لنلتقي بإخوة يوسف في المشهد التالي بعد الوصول:
الدرس الرابع:69 - 79 يوسف يأخذ أخاه بتهمة السرقة
(ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه . قال:إني أنا أخوك , فلا تبتئس بما كانوا يعملون). .
ونجد السياق هنا يعجل بضم يوسف لأخيه في المأوى , وإطلاعه على أنه أخوه ; ودعوته لأن يترك من خاطره ذكرى ما فعله إخوته به من قبل , وهي ذكرى لا بد كان يبتئس لها الصغير كلما علمها من البيت الذي كان يعيش فيه . فما كان يمكن أن تكون مكتومة عنه في وسطه في أرض كنعان .
يعجل السياق بهذا , بينما الطبيعي والمفهوم أن هذا لم يحدث فور دخولهم على يوسف . ولكن بعد أن اختلى يوسف بأخيه . ولكن هذا ولا شك كان أول خاطر ساور يوسف عند دخولهم عليه , وعند رؤيته لأخيه , بعد الفراق الطويل .
ومن ثم جعله السياق أول عمل لأنه كان أول خاطر . وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العجيب ! ويطوي السياق كذلك فترة الضيافة , وما دار فيها بين يوسف وإخوته , ليعرض مشهد الرحيل الأخير . فنطلع على تدبير يوسف ليحتفظ بأخيه , ريثما يتلقى إخوته درسا أو دروسا ضرورية لهم , وضرورية للناس في كل زمان ومكان:
(فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ; ثم أذن مؤذن:أيتها العير إنكم لسارقون . قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون ? قالوا:نفقد صواع الملك , ولمن جاء به حمل بعير , وأنا به زعيم . قالوا:تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض , وما كنا سارقين . قالوا:فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ? قالوا:
يوسف
من الاية 70 الى الاية 75
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه , كذلك نجزي الظالمين . فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه - كذلك كدنا ليوسف , ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك , إلا أن يشاء الله , نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم - قالوا:إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم . قال:أنتم شر مكانا . والله أعلم بما تصفون . قالوا:يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا , فخذ أحدنا مكانه , إنا نراك من المحسنين . قال:معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده . إنا إذن لظالمون). .
وهو مشهد مثير , حافل بالحركات والانفعالات والمفاجآت , كأشد ما تكون المشاهد حيوية وحركة وانفعالا , غير أن هذا صورة من الواقع يعرضها التعبير القرآني هذا العرض الحي الأخاذ .
فمن وراء الستار يدس يوسف كأس الملك - وهي عادة من الذهب - وقيل:إنها كانت تستخدم للشراب , ويستخدم قعرها الداخل المجوف من الناحية الأخرى في كيل القمح , لندرته وعزته في تلك المجاعة . يدسها في الرحل المخصص لأخيه , تنفيذا لتدبير خاص ألهمه الله له وسنعلمه بعد قليل .
ثم ينادي مناد بصوت مرتفع , في صيغة إعلان عام , وهم منصرفون:
(أيتها العير إنكم لسارقون). .
ويرتاع إخوة يوسف لهذا النداء الذي يتهمهم بالسرقة - وهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - فيعودون أدراجهم يتبينون الأمر المريب:
(قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون ?).
قال الغلمان الذين يتولون تجهيز الرحال , أو الحراس ومنهم هذا الذي أذاع بالإعلان:
(قالوا:نفقد صواع الملك). .
وأعلن المؤذن أن هناك مكافأة لمن يحضره متطوعا . وهي مكافأة ثمينة في هذه الظروف:
(ولمن جاء به حمل بعير)من القمح العزيز (وأنا به زعيم). . أي كفيل .
ولكن القوم مستيقنون من براءتهم , فهم لم يسرقوا , وما جاءوا ليسرقوا وليجترحوا هذا الفساد الذي يخلخل الثقة والعلاقات في المجتمعات , فهم يقسمون واثقين:
(قالوا:تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض). .
فقدو علمتم من حالنا ومظهرنا ونسبنا أننا لا نجترح هذا . .
(وما كنا سارقين). . أصلا فما يقع منا مثل هذا الفعل الشنيع .
قال الغلمان أو الحراس:
(فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ?). .
وهنا ينكشف طرف التدبير الذي ألهمه الله يوسف . فقد كان المتبع في دين يعقوب:أن يؤخذ السارق رهينة أو أسيرا أو رقيقا في مقابل ما يسرق . ولما كان أخوة يوسف موقنين بالبراءة , فقد ارتضوا تحكيم شريعتهم فيمن يظهر أنه سارق . ذلك ليتم تدبير الله ليوسف وأخيه:
(قالوا:جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه . كذلك نجزي الظالمين). .
وهذه هي شريعتنا نحكمها في السارق . والسارق من الظالمين .
من الاية 76 الى الاية 78
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف . فأمر بالتفتيش . وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل رحل أخيه . كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش:
(فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه)!
ويدعنا السياق نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم , الحالفين , المتحدين . . فلا يذكر شيئا عن هذا , بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل رسم المشهد بانفعالاته . . بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة , ريثما يفيق النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه:
(كذلك كدنا ليوسف). .
أي كذلك دبرنا له هذا التدبير الدقيق .
(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك). .
فلو حكم شريعة الملك ما تمكن من أخذ أخيه , إنما كان يعاقب السارق على سرقته , دون أن يستولي على أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم . وهذا هو تدبير الله الدي ألهم يوسف أسبابه . وهو كيد الله له . والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء . وإن كان الشر قد غلب عليه . وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته لإحراجهم أمام أبيه . وهو سوء - ولو مؤقتا - لأبيه . فلهذا اختار تسميته كيدا على إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره . وهو من دقائق التعبير .
(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك). . (إلا أن يشاء الله). .
فيدبر مثل هذا التدبير الذي رأيناه .
ويتضمن التعقيب الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة:
(نرفع درجات من نشاء). .
وإلى ما ناله من علم , مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى:
(وفوق كل ذي علم عليم). .
وهو احتراس لطيف دقيق .
ولا بد أن نقف أمام التعبير القرآني الدقيق العميق:
(كذلك كدنا ليوسف . . ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك . . .). .
إن هذا النص يحدد مدلول كلمة "الدين" - في هذا الموضع - تحديدا دقيقا . . إنه يعني:نظام الملك وشرعه . . فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته . إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه . وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم ; فطبقها يوسف عليهم عندما وجد صواع الملك في رحل أخيه . . وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها "الدين" . .
هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا . سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهلين !
إنهم يقصرون مدلول "الدين" على الاعتقاد والشعائر . . ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ; ويؤدي الشعائر المكتوبة . . . داخلا في "دين الله" مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في
الأرض . . بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول "دين الملك" بانه نظام الملك وشريعته . وكذلك "دين الله" فهو نظامه وشريعته . .
إن مدلول "دين الله" قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر . . ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين .
لقد كان يعني دائما:الدينونة لله وحده ; بالتزام ما شرعه , ورفض ما يشرعه غيره . وإفراده - سبحانه - بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء ; وتقرير ربوبيته وحده للناس:أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره . وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين "الله" ومن هم في "دين الملك" أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده , وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه . أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر , ويدينون لغير الله في النظام والشرائع !
وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة , ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما .
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة "دين الله" وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي "الدين" . وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين !
وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين !
إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها . فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها ? وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها ?
إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة , أو يخفف عنهم العذاب فيها ; ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها . . ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله , والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل . وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض !
إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم . . إنه ليس دين الله قطعا . فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة . فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في "دين الله" . ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في "دين الملك" . ولا جدال في هذا .
والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين . لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية . والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن يكون معتقدا به . إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة . . وهذه بديهية . .
وخير لنا من أن ندافع عن الناس - وهم في غير دين الله - ونتلمس لهم المعاذير , ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده ! . .
خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول "دين الله" ليدخلوا فيه . . أو يرفضوه . .
هذا خير لنا وللناس أيضا . . خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين , الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة . . وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه - وأنهم في دين الملكلا في دين الله - قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام , ومن دين الملك إلى دين الله !
كذلك فعل الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان . .
ثم نعود إلى إخوة يوسف بعد هذا التعقيب القصير . نعود إليهم وقد حرك الحرج الذي يلاقونه كوامن حقدهم على أخي يوسف , وعلى يوسف من قبله , فإذا هم يتنصلون من نقيصة السرقة , وينفونها عنهم , ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب:
(قالوا:إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)!
إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . . وتنطلق الروايات والتفاسير تبحث عن مصداق قولهم هذا في تعلات وحكايات وأساطير . كأنهم لم يكذبوا قبل ذلك على أبيهم في يوسف ; وكأنهم لا يمكن أن يكذبوا على عزيز مصر دفعا للتهمة التي تحرجهم , وتبرؤا من يوسف وأخيه السارق , وإرواء لحقدهم القديم على يوسف وأخيه !
لقد قذفوا بها يوسف وأخاه !
(فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم). .
أسر هذه الفعلة وحفظها في نفسه , ولم يبد تأثره منها . وهو يعلم براءته وبراءة أخيه . إنما قال لهم:
(أنتم شر مكانا). .
يعني أنكم بهذا القذف شر مكانا عند الله من المقذوف - وهي حقيقة لا شتمة .
(والله أعلم بما تصفون). . وبحقيقة ما تقولون . وأراد بذلك قطع الجدل في الاتهام الذي أطلقوه , ولا دخل له بالموضوع ! . .
وعندئذ عادوا إلى الموقف المحرج الذي وقعوا فيه . عادوا إلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم: (لتأتنني به إلا أن يحاط بكم). . فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى , الشيخ الكبير , ويعرضون أن يأخذ بداله واحد منهم إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه ; ويستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين:
(قالوا:يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا , فخذ أحدنا مكانه , إنا نراك من المحسنين):
ولكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درسا . وكان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم ولوالده وللجميع ! ليكون وقعها أعمق وأشد أثرا في النفوس:
(قال:معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده . إنا إذن لظالمون). .
ولم يقل معاذ الله أن نأخذ بريئا بجريرة سارق . لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق . فعبر أدق تعبير يحكيه السياق هنا باللغة العربية بدقة :
من الاية 79 الى الاية 79
قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـا إِذاً لَّظَالِمُونَ (79)
(معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده)وهي الحقيقة الواقعة دون زيادة في اللفظ تحقق الاتهام أو تنفيه . .
إنا إذن لظالمون . .
وما نريد أن نكون ظالمين . .
وكانت هي الكلمة الأخيرة في الموقف . وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء , فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج , أمام أبيهم حين يرجعون .
الوحدة الخامسة:80 - 101 العائلة كلها في مصر
وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
كذلك لم يبرز السياق الملك ولا أحدا من رجاله بعد ذلك في السورة كلها . كأن الأمر كله قد صار ليوسف . الذي اضطلع بالعبء في الأزمة الخانقة الرهيبة . وأبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث , وسلط عليه كل الأضواء . وهذه حقيقة واقعية استخدمها السياق استخداما فنيا كاملا في الأداء .
أما فعل الجدب فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف , يجيئون من البدو من أرض كنعان البعيدة يبحثون عن الطعام في مصر . ومن ذلك ندرك اتساع دائرة المجاعة , كما ندرك كيف وقفت مصر - بتدبير يوسف - منها , وكيف صارت محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة كلها . وفي الوقت ذاته تمضي قصة يوسف في مجراها الأكبر بين يوسف وإخوته وهي سمة فنية تحقق هدفا دينيا في السياق:
(وجاء إخوة يوسف , فدخلوا عليه , فعرفهم وهم له منكرون . ولما جهزهم بجهازهم قال:ائتوني بأخ لكم من أبيكم . ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ? فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون . قالوا:سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون . وقال لفتيانه:اجعلوا بضاعتهم في رحالهم , لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون). .
لقد اجتاح الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها . فاتجه إخوة يوسف - فيمن يتجهون - إلى مصر . وقد تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان . وها نحن أولاء نشهدهم يدخلون على يوسف , وهم لا يعلمون . إنه يعرفهم فهم هم لم يتغيروا كثيرا . أما يوسف فإن خيالهم لا يتصور قط أنه هو ذاك! وأين الغلام العبراني الصغير الذي ألقوه في الجب منذ عشرين عاما أو تزيد من عزيز مصر شبه المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته وخدمه وحشمه وهيله وهيلمانه ?
ولم يكشف لهم يوسف عن نفسه . فلا بد من دروس يتلقونها:
(فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون). .
ولكنا ندرك من السياق أنه أنزلهم منزلا طيبا , ثم أخذ في إعداد الدرس الأول:
(ولما جهزهم بجهازهم قال:ائتوني بأخ لكم من أبيكم). .
فنفهم من هذا أنه تركهم يأنسون إليه , واستدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل , وأن لهم أخا صغيرا من أبيهم لم يحضر معهم لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه . فلما جهزهم بحاجات الرحلة قال لهم:
إنه يريد أن يرى أخاهم هذا .
(قال:ائتوني بأخ لكم من أبيكم). .
وقد رأيتم أنني أوفي الكيل للمشترين . فسأوفيكم نصيبكم حين يجيء معكم ; ورأيتم أنني أكرم النزلاء فلا خوف عليه بل سيلقى مني الإكرام المعهود:
(ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ?). .
ولما كانوا يعلمون كيف يضن أبوهم بأخيهم الأصغر - وبخاصة بعد ذهاب يوسف - فقد أظهروا أن الأمر ليس ميسورا , وإنما في طريقه عقبات من ممانعة أبيهم , وأنهم سيحاولون إقناعه , مع توكيد عزمهم - على الرغم من هذه العقبات - على إحضاره معهم حين يعودون:
من الاية 62 الى الاية 64
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
(قالوا:سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون). .
ولفظ(نراود)يصور الجهد الذي يعلمون أنهم باذلوه . .
أما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح والعلف . وقد تكون خليطا من نقد ومن غلات صحراوية أخرى من غلات الشجر الصحراوي , ومن الجلود والشعر وسواها مما كان يستخدم في التبادل في الأسواق . . أمر غلمانه بدسها في رحالهم - والرحل متاع المسافر - لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها بضاعتهم التي جاءوا بها:
(وقال لفتيانه:اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون). .
الدرس الثالث:63 - 68 أخوة يوسف يقنعون أباهم بأخذهم لأخيهم معهم
وندع يوسف في مصر . لنشهد يعقوب وبنيه في أرض كنعان . دون كلمة واحدة عن الطريق وما فيه:
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا:يا أبانا منع منا الكيل , فأرسل معنا أخانا نكتل , وإنا له لحافظون . قال:هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ? فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم , قالوا:يا أبانا ما نبغى . هذه بضاعتنا ردت إلينا , ونمير أهلنا , ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير . ذلك كيل يسير . قال:لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله:لتأتنني به - إلا أن يحاط بكم - فلما آتوه موثقهم قال:الله على ما نقول وكيل . .
ويبدو أنهم في دخلتهم على أبيهم , وقبل أن يفكوا متاعهم , عاجلوه بأن الكيل قد تقرر منعه عنهم ما لم يأتوا عزيز مصر بأخيهم الصغير معهم . فهم يطلبون إليه أن يرسل معهم أخاهم الصغير ليكتالوا له ولهم . وهم يعدون بحفظه:
(فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا:يا أبانا منع منا الكيل , فأرسل معنا أخانا نكتل , وإنا له لحافظون). .
ولا بد أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب . فهو ذاته وعدهم له في يوسف ! فإذا هو يجهر بما أثاره الوعد من شجونه:
(قال:هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل !). .
فخلوني من وعودكم وخلوني من حفظكم , فإذا أنا طلبت الحفظ لولدي والرحمة بي . .
(فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين)!
وبعد الاستقرار من المشوار , والراحة من السفر فتحوا أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها , ولم يجدوا في رحالهم غلالا !
إن يوسف لم يعطهم قمحا , إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم . فلما عادوا قالوا:يا أبانا منع منا الكيل , وفتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم . وكان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم , وكان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه .
على أية حال لقد اتخذوا من رد بضاعتهم إليهم دليلا على أنهم غير باغين فيما يطلبون من استصحاب أخيهم ولا ظالمين:
قالوا:يا أبانا ما نبغى . هذه بضاعتنا ردت إلينا . .
من الاية 65 الى الاية 67
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
ثم أخذوا يحرجونه بالتلويح له بمصلحة أهلهم الحيوية في الحصول على الطعام:
(ونمير أهلنا). .
والميرة الزاد , ويؤكدون له عزمهم على حفظ أخيهم . .
(ونحفظ أخانا). .
ويرغبونه بزيادة الكيل لأخيهم:
(ونزداد كيل بعير). .
وهو ميسور لهم حين يرافقهم:
(ذلك كيل يسير). .
ويبدو من قولهم: (ونزداد كيل بعير)أن يوسف - عليه السلام - كان يعطي كل واحد وسق بعير - وهو قدر معروف - ولم يكن يبيع كل مشتر ما يريد . وكان ذلك من الحكمة في سنوات الجدب , كي يظل هناك قوت للجميع:
واستسلم الرجل على كره ; ولكنه جعل لتسليم ابنه الباقي شرطا:
(قال:لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله:لتأتنني به إلا أن يحاط بكم). .
أي لتقسمن لي بالله قسما يربطكم , أن تردوا علي ولدي , إلا إذا غلبتم على أمركم غلبا لا حيلة لكم فيه , ولا تجدي مدافعتكم عنه:
(إلا أن يحاط بكم). .
وهو كناية عن أخذ المسالك كلها عليهم . فأقسموا:
(فلما آتوه موثقهم قال:الله على ما نقول وكيل). .
زيادة في التوكيد والتذكير .
وبعد هذا الموثق جعل الرجل يوصيهم بما خطر له في رحلتهم القادمة ومعهم الصغير العزيز:
(وقال:يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة . وما أغني عنكم من الله من شيء . إن الحكم إلا لله , عليه توكلت , وعليه فليتوكل المتوكلون). .
ونقف هنا أمام قول يعقوب - عليه السلام -:
(إن الحكم إلا لله). .
وواضح من سياق القول أنه يعني هنا حكم الله القدري القهري الذي لا مفر منه ولا فكاك . وقضاءه الإلهي الذي يجري به قدره فلا يملك الناس فيه لأنفسهم شيئا .
وهذا هو الإيمان بالقدر خيره وشره .
وحكم الله القدري يمضي في الناس على غير إرادة منهم ولا اختيار . . وإلى جانبه حكم الله الذي ينفذه الناس عن رضى منهم واختيار . وهو الحكم الشرعي المتمثل في الأوامر والنواهي . . وهذا كذلك لا يكون إلا الله . شأنه شأن حكمه القدري , باختلاف واحد:هو أن الناس ينفذونه مختارين أو لا ينفذونه . فيترتب
من الاية 68 الى الاية 69
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69)
على هذا أو ذاك نتائجه وعواقبه في حياتهم في الدنيا وفي جزائهم في الآخرة . ولكن الناس لا يكونون مسلمين حتى يختاروا حكم الله هذا وينفذوه فعلا راضين . .
وسار الركب , ونفذوا وصية أبيهم:
(ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم , ما كان يغني عنهم من الله من شيء - إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها - وإنه لذو علم لما علمناه , ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
فيم كانت هذه الوصية ? لم قال لهم أبوهم:لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ?
تضرب الروايات والتفاسير في هذا وتبدى وتعيد , بلا ضرورة , بل ضد ما يقتضيه السياق القرآني الحكيم . فلو كان السياق يحب أن يكشف عن السبب لقال . ولكنه قال فقط - إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها - فينبغي أن يقف المفسرون عند ماأراده السياق , احتفاظا بالجو الذي أراده . والجو يوحي بأنه كان يخشى شيئا عليهم , ويرى في دخولهم من أبواب متفرقة اتقاء لهذا الشيء مع تسليمه بأنه لا يغني عنهم من الله من شيء . فالحكم كله إليه , والاعتماد كله عليه . إنما هو خاطر شعر به , وحاجة في نفسه قضاها بالوصية , وهو على علم بأن إرادة الله نافذة . فقد علمه الله هذا فتعلم .
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون). .
ثم ليكن هذا الشيء الذي كان يخشاه هو العين الحاسدة , أو هي غيرة الملك من كثرتهم وفتوتهم . أو هو تتبع قطاع الطريق لهم . أو كائنا ما كان فهو لا يزيد شيئا في الموضوع . سوى أن يجد الرواة والمفسرون بابا للخروج عن الجو القرآني المؤثر إلى قال وقيل , مما يذهب بالجو القرآني كله في كثرة الأحايين !
فلنطو نحن الوصية والرحلة كما طواها السياق , لنلتقي بإخوة يوسف في المشهد التالي بعد الوصول:
الدرس الرابع:69 - 79 يوسف يأخذ أخاه بتهمة السرقة
(ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه . قال:إني أنا أخوك , فلا تبتئس بما كانوا يعملون). .
ونجد السياق هنا يعجل بضم يوسف لأخيه في المأوى , وإطلاعه على أنه أخوه ; ودعوته لأن يترك من خاطره ذكرى ما فعله إخوته به من قبل , وهي ذكرى لا بد كان يبتئس لها الصغير كلما علمها من البيت الذي كان يعيش فيه . فما كان يمكن أن تكون مكتومة عنه في وسطه في أرض كنعان .
يعجل السياق بهذا , بينما الطبيعي والمفهوم أن هذا لم يحدث فور دخولهم على يوسف . ولكن بعد أن اختلى يوسف بأخيه . ولكن هذا ولا شك كان أول خاطر ساور يوسف عند دخولهم عليه , وعند رؤيته لأخيه , بعد الفراق الطويل .
ومن ثم جعله السياق أول عمل لأنه كان أول خاطر . وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العجيب ! ويطوي السياق كذلك فترة الضيافة , وما دار فيها بين يوسف وإخوته , ليعرض مشهد الرحيل الأخير . فنطلع على تدبير يوسف ليحتفظ بأخيه , ريثما يتلقى إخوته درسا أو دروسا ضرورية لهم , وضرورية للناس في كل زمان ومكان:
(فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ; ثم أذن مؤذن:أيتها العير إنكم لسارقون . قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون ? قالوا:نفقد صواع الملك , ولمن جاء به حمل بعير , وأنا به زعيم . قالوا:تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض , وما كنا سارقين . قالوا:فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ? قالوا:
يوسف
من الاية 70 الى الاية 75
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه , كذلك نجزي الظالمين . فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه - كذلك كدنا ليوسف , ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك , إلا أن يشاء الله , نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم - قالوا:إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم . قال:أنتم شر مكانا . والله أعلم بما تصفون . قالوا:يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا , فخذ أحدنا مكانه , إنا نراك من المحسنين . قال:معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده . إنا إذن لظالمون). .
وهو مشهد مثير , حافل بالحركات والانفعالات والمفاجآت , كأشد ما تكون المشاهد حيوية وحركة وانفعالا , غير أن هذا صورة من الواقع يعرضها التعبير القرآني هذا العرض الحي الأخاذ .
فمن وراء الستار يدس يوسف كأس الملك - وهي عادة من الذهب - وقيل:إنها كانت تستخدم للشراب , ويستخدم قعرها الداخل المجوف من الناحية الأخرى في كيل القمح , لندرته وعزته في تلك المجاعة . يدسها في الرحل المخصص لأخيه , تنفيذا لتدبير خاص ألهمه الله له وسنعلمه بعد قليل .
ثم ينادي مناد بصوت مرتفع , في صيغة إعلان عام , وهم منصرفون:
(أيتها العير إنكم لسارقون). .
ويرتاع إخوة يوسف لهذا النداء الذي يتهمهم بالسرقة - وهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - فيعودون أدراجهم يتبينون الأمر المريب:
(قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون ?).
قال الغلمان الذين يتولون تجهيز الرحال , أو الحراس ومنهم هذا الذي أذاع بالإعلان:
(قالوا:نفقد صواع الملك). .
وأعلن المؤذن أن هناك مكافأة لمن يحضره متطوعا . وهي مكافأة ثمينة في هذه الظروف:
(ولمن جاء به حمل بعير)من القمح العزيز (وأنا به زعيم). . أي كفيل .
ولكن القوم مستيقنون من براءتهم , فهم لم يسرقوا , وما جاءوا ليسرقوا وليجترحوا هذا الفساد الذي يخلخل الثقة والعلاقات في المجتمعات , فهم يقسمون واثقين:
(قالوا:تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض). .
فقدو علمتم من حالنا ومظهرنا ونسبنا أننا لا نجترح هذا . .
(وما كنا سارقين). . أصلا فما يقع منا مثل هذا الفعل الشنيع .
قال الغلمان أو الحراس:
(فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ?). .
وهنا ينكشف طرف التدبير الذي ألهمه الله يوسف . فقد كان المتبع في دين يعقوب:أن يؤخذ السارق رهينة أو أسيرا أو رقيقا في مقابل ما يسرق . ولما كان أخوة يوسف موقنين بالبراءة , فقد ارتضوا تحكيم شريعتهم فيمن يظهر أنه سارق . ذلك ليتم تدبير الله ليوسف وأخيه:
(قالوا:جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه . كذلك نجزي الظالمين). .
وهذه هي شريعتنا نحكمها في السارق . والسارق من الظالمين .
من الاية 76 الى الاية 78
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف . فأمر بالتفتيش . وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل رحل أخيه . كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش:
(فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه)!
ويدعنا السياق نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم , الحالفين , المتحدين . . فلا يذكر شيئا عن هذا , بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل رسم المشهد بانفعالاته . . بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة , ريثما يفيق النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه:
(كذلك كدنا ليوسف). .
أي كذلك دبرنا له هذا التدبير الدقيق .
(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك). .
فلو حكم شريعة الملك ما تمكن من أخذ أخيه , إنما كان يعاقب السارق على سرقته , دون أن يستولي على أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم . وهذا هو تدبير الله الدي ألهم يوسف أسبابه . وهو كيد الله له . والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء . وإن كان الشر قد غلب عليه . وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته لإحراجهم أمام أبيه . وهو سوء - ولو مؤقتا - لأبيه . فلهذا اختار تسميته كيدا على إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره . وهو من دقائق التعبير .
(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك). . (إلا أن يشاء الله). .
فيدبر مثل هذا التدبير الذي رأيناه .
ويتضمن التعقيب الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة:
(نرفع درجات من نشاء). .
وإلى ما ناله من علم , مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى:
(وفوق كل ذي علم عليم). .
وهو احتراس لطيف دقيق .
ولا بد أن نقف أمام التعبير القرآني الدقيق العميق:
(كذلك كدنا ليوسف . . ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك . . .). .
إن هذا النص يحدد مدلول كلمة "الدين" - في هذا الموضع - تحديدا دقيقا . . إنه يعني:نظام الملك وشرعه . . فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته . إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه . وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم ; فطبقها يوسف عليهم عندما وجد صواع الملك في رحل أخيه . . وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها "الدين" . .
هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا . سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهلين !
إنهم يقصرون مدلول "الدين" على الاعتقاد والشعائر . . ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ; ويؤدي الشعائر المكتوبة . . . داخلا في "دين الله" مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في
الأرض . . بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول "دين الملك" بانه نظام الملك وشريعته . وكذلك "دين الله" فهو نظامه وشريعته . .
إن مدلول "دين الله" قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر . . ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين .
لقد كان يعني دائما:الدينونة لله وحده ; بالتزام ما شرعه , ورفض ما يشرعه غيره . وإفراده - سبحانه - بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء ; وتقرير ربوبيته وحده للناس:أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره . وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين "الله" ومن هم في "دين الملك" أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده , وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه . أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر , ويدينون لغير الله في النظام والشرائع !
وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة , ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما .
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة "دين الله" وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي "الدين" . وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين !
وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين !
إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها . فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها ? وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها ?
إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة , أو يخفف عنهم العذاب فيها ; ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها . . ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله , والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل . وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض !
إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم . . إنه ليس دين الله قطعا . فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة . فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في "دين الله" . ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في "دين الملك" . ولا جدال في هذا .
والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين . لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية . والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن يكون معتقدا به . إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة . . وهذه بديهية . .
وخير لنا من أن ندافع عن الناس - وهم في غير دين الله - ونتلمس لهم المعاذير , ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده ! . .
خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول "دين الله" ليدخلوا فيه . . أو يرفضوه . .
هذا خير لنا وللناس أيضا . . خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين , الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة . . وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه - وأنهم في دين الملكلا في دين الله - قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام , ومن دين الملك إلى دين الله !
كذلك فعل الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان . .
ثم نعود إلى إخوة يوسف بعد هذا التعقيب القصير . نعود إليهم وقد حرك الحرج الذي يلاقونه كوامن حقدهم على أخي يوسف , وعلى يوسف من قبله , فإذا هم يتنصلون من نقيصة السرقة , وينفونها عنهم , ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب:
(قالوا:إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)!
إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . . وتنطلق الروايات والتفاسير تبحث عن مصداق قولهم هذا في تعلات وحكايات وأساطير . كأنهم لم يكذبوا قبل ذلك على أبيهم في يوسف ; وكأنهم لا يمكن أن يكذبوا على عزيز مصر دفعا للتهمة التي تحرجهم , وتبرؤا من يوسف وأخيه السارق , وإرواء لحقدهم القديم على يوسف وأخيه !
لقد قذفوا بها يوسف وأخاه !
(فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم). .
أسر هذه الفعلة وحفظها في نفسه , ولم يبد تأثره منها . وهو يعلم براءته وبراءة أخيه . إنما قال لهم:
(أنتم شر مكانا). .
يعني أنكم بهذا القذف شر مكانا عند الله من المقذوف - وهي حقيقة لا شتمة .
(والله أعلم بما تصفون). . وبحقيقة ما تقولون . وأراد بذلك قطع الجدل في الاتهام الذي أطلقوه , ولا دخل له بالموضوع ! . .
وعندئذ عادوا إلى الموقف المحرج الذي وقعوا فيه . عادوا إلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم: (لتأتنني به إلا أن يحاط بكم). . فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى , الشيخ الكبير , ويعرضون أن يأخذ بداله واحد منهم إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه ; ويستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين:
(قالوا:يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا , فخذ أحدنا مكانه , إنا نراك من المحسنين):
ولكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درسا . وكان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم ولوالده وللجميع ! ليكون وقعها أعمق وأشد أثرا في النفوس:
(قال:معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده . إنا إذن لظالمون). .
ولم يقل معاذ الله أن نأخذ بريئا بجريرة سارق . لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق . فعبر أدق تعبير يحكيه السياق هنا باللغة العربية بدقة :
من الاية 79 الى الاية 79
قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـا إِذاً لَّظَالِمُونَ (79)
(معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده)وهي الحقيقة الواقعة دون زيادة في اللفظ تحقق الاتهام أو تنفيه . .
إنا إذن لظالمون . .
وما نريد أن نكون ظالمين . .
وكانت هي الكلمة الأخيرة في الموقف . وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء , فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج , أمام أبيهم حين يرجعون .
الوحدة الخامسة:80 - 101 العائلة كلها في مصر
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الانعام ايه58==65 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يوسف ايه 80 الى ايه 100 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يوسف ايه 4 الى ايه 12 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يوسف ايه 35 الى ايه 47 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يوسف ايه48 الى ايه 57 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يوسف ايه 80 الى ايه 100 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يوسف ايه 4 الى ايه 12 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يوسف ايه 35 الى ايه 47 الشيخ سيد قطب
» تفسير سورة يوسف ايه48 الى ايه 57 الشيخ سيد قطب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى