منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة يوسف ايه48 الى ايه 57 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة يوسف ايه48 الى ايه 57 الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة يوسف ايه48 الى ايه 57 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الإثنين مايو 14, 2012 2:56 am

من الاية 48 الى الاية 50

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)

فجردوه من سنابله , واحتفظوا بالبقية للسنوات الأخرى المجدبة المرموز لها بالبقرات العجاف .

(ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد). .

لا زرع فيهن .

(يأكلن ما قدمتم لهن). .

وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها !

(إلا قليلا مما تحصنون). .

أي إلا قليلا مما تحفظونه وتصونونه من التهامها !

(ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون). .

أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة , التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب . تنقضي ويعقبها عام رخاء , يغاث الناس فيه بالزرع والماء , وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرا , وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتا . .

وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك ; فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف . فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس , بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخي رغيد .

الدرس الرابع:50 - 53 يوسف يخرج من السجن بريئا

وهنا كذلك ينتقل السياق إلى المشهد التالي . تاركا فجوة بين المشهدين يكمل التصور ما تم فيها من حركة . ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك . ويحذف السياق ما نقله الساقي من تأويل الرؤيا , وما تحدث به عن يوسف الذي أولها . وعن سجنه وأسبابه والحال التي هو فيها . . كل أولئك يحذفه السياق من المشهد , لنسمع نتيجته من رغبة الملك في رؤية يوسف , وأمره أن يأتوه به:

(وقال الملك:ائتوني به). .

ومرة ثالثة في المشهد يحذف السياق جزئيات تفصيلية في تنفيذ الأمر . ولكنا نجد يوسف يرد على رسول الملك الذي لا نعرف:إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة . أو رسولا تنفيذيا مكلفا بمثل هذا الشأن . نجد يوسف السجين الذي طال عليه السجن لا يستعجل الخروج حتى تحقق قضيته , ويتبين الحق واضحا في موقفه , وتعلن براءته - على الأشهاد - من الوشايات والدسائس والغمز في الظلام . . لقد رباه ربه وأدبه . ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة . فلم يعد معجلا ولا عجولا !

"إن أثر التربية الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقفين:الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى:اذكرني عند ربك , والموقف الذي يقول له فيه:ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن , والفارق بين الموقفين بعيد . .

(قال:ارجع إلى ربك فاسأله:ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ? إن ربي بكيدهن عليم).

لقد رد يوسف أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره , وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن . . بهذا القيد . . تذكيرا بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها . . وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة , دون أن يتدخل هو في مناقشتها . . كل أولئك لأنه واثق من نفسه , واثق من براءته , مطمئن إلى أن الحق لا يخفى طويلا , ولا يخذل طويلا .
من الاية 51 الى الاية 51

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)

ولقد حكى القرآن عن يوسف استعمال كلمة(رب)بمدلولها الكامل , بالقياس إليه وبالقياس إلى رسول الملك إليه . فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه . والله رب يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه . .

ورجع الرسول فأخبر الملك وأحضر الملك النسوة يستجوبهن - والسياق يحذف هذا لنعلمه مما يليه -:

(قال:ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ?). .

والخطب:الأمر الجلل والمصاب . فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن , وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال , ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه . فهو يواجههن مقررا الاتهام , ومشيرا إلى أمر لهن جلل أو شأن لهن خطير:

(ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ?).

ومن هذا نعلم شيئا مما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير ; ما قالته النسوة ليوسف وما لمحن به وأشرن إليه , من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة . ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ . فالجاهلية دائما هي الجاهلية . إنه حيثما كان الترف , وكانت القصور والحاشية , كان التخلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدي ثياب الأرستقراطية !

وفي مثل هذه المواجهة بالاتهام في حضرة الملك , يبدو أنه لم يكن هنالك مجال للإنكار:

(قلن:حاش لله ! ما علمنا عليه من سوء)!

وهي الحقيقة التي يصعب إنكارها . ولو من مثل هؤلاء النسوة . فقد كان أمر يوسف إذن من النصاعة والوضوح بحيث لا يقوم فيه جدال .

وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف , التي يئست منه , ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به . . تتقدم لتقول كل شيء في صراحة:

(قالت امرأة العزيز:الآن حصحص الحق . أنا راودته عن نفسه . وإنه لمن الصادقين). .

الآن حصحص الحق وظهر ظهورا واضحا لا يحتمل الخفاء:

(أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين). .

وزادت ما يكشف عن أن قلبها لم يخل من إيثاره ورجاء تقديره والتفاته بعد كل هذا الأمد ; وما يشي كذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمن:

(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب , وأن الله لا يهدي كيد الخائنين). .

وهذا الاعتراف وما بعده يصوره السياق هنا بألفاظ موحية , تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر . كما يشي الستار الرقيق بما وراءه في ترفع وتجمل في التعبير:

(أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين). .

شهادة كاملة بنظافته وبراءته وصدقه . لا تبالي المرأة ما وراءها مما يلم بها هي ويلحق بأردانها . . فهل هو الحق وحده الذي يدفعها لهذا الإقرار الصريح في حضرة الملك والملأ ?

يشي السياق بحافز آخر , هو حرصها على أن يحترمها الرجل المؤمن الذي لم يعبأ بفتنتها الجسدية . أن يحترمها تقديرا لإيمانها ولصدقها وأمانتها في حقه عند غيبته:
من الاية 52 الى الاية 52

ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)

(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب). .

ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها:

(وأن الله لا يهدي كيد الخائنين). .

وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة:

وما أبريء نفسي , إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي , إن ربي غفور رحيم . .

إنها امراة أحبت . امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها , فهي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه , أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه !

وهكذا يتجلى العنصر الإنساني في القصة , التي لم تسق لمجرد الفن , إنما سيقت للعبرة والعظة . وسيقت لتعالج قضية العقيدة والدعوة . ويرسم التعبير الفني فيها خفقات المشاعر وانتفاضات الوجدان رسما رشيقا رفيقا شفيفا . في واقعة كاملة تتناسق فيها جميع المؤثرات وجميع الواقعيات في مثل هذه النفوس , في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة كذلك .

وإلى هنا تنتهي محنة السجن ومحنة الاتهام , وتسير الحياة بيوسف رخاء , الاختبار فيه بالنعمة لا بالشدة .

وإلى هنا نقف في هذا الجزء من الظلال , وتتابع القصة سيرها في الجزء التالي إن شاء الله .
من الاية 53 الى الاية 53

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)

انتهى الجزء الثاني عشر و يليه الجزء الثالث عشر مبدوءاً بقوله تعالى: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي . . .

بسم الله الرحمن الرحيم

بقية سورة يوسف و سورتا الرعد و ابراهيم

الجزء الثالث عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الجزء الثالث عشر

يتألف هذا الجزء من بقية سورة يوسف المكية , ومن سورتي الرعد وإبراهيم المكيتين أيضا . فهو جزء كامل من القرآن المكي ; بكل خصائص القرآن المكي .

فأما سورتا الرعد وإبراهيم فسنعرف بهما - إن شاء الله - في موضعهما . وأما بقية سورة يوسف , فنرجو أن يراجع قبل قراءتها في هذا الجزء ما سبق من التعريف بالسورة في الجزء الماضي .

التعريف بباقي سورة يوسف

إننا نستقبل في هذا الجزء بقية قصة يوسف , والتعقيبات المباشرة عليها ; ثم التعقيبات الأخيرة في السورة . . وكذلك نستقبل فيه مرحلة جديدة من مراحل حياة الشخصية الأساسية في القصة - شخصية يوسف عليه السلام - ومع امتداد هذه الشخصية واستقامتها على المقومات الأساسية لها - تلك التي مر ذكرها في التعريف بشخصيات القصة في التقديم للسورة , فإننا نجد في هذه المرحلة الجديدة ملامح جديدة تبرز - هي امتداد طبيعي واقعي لنشأة الشخصية وللمرحلة السابقة من حياتها ولكنها مع ذلك ذات طابع مميز . .

نجد شخصية يوسف - عليه السلام - وقد استقامت مع نشأتها والأحداث التي مرت بها , والابتلاءات التي اجتازتها , في ظل التربية الربانية للعبد الصالح , الذي يعد ليمكن له في الأرض , وليقوم بالدعوة إلى دين الله وهو ممكن له في الأرض , وهو قابض على مقاليد الأمور في مركز التموين في الشرق الأوسط !

وأول ملامح هذه المرحلة هذا الاعتزاز بالله , والاطمئنان إليه , والثقة به , والتجرد له , والتعري من كل قيم الأرض , والتحرر من كل أوهاقها , واستصغار شأن القوى المتحكمة فيها , وهوان تلك القيم وهذه القوى في النفس الموصولة الأسباب بالله - سبحانه وتعالى !

تبدو هذه الظاهرة الواضحة في موقف يوسف , ورسول الملك يجيء إليه في سجنه يبلغه رغبة الملك في أن يراه . . فلا يخف يوسف - عليه السلام - لطلب الملك ; ولا يتلهف على مغادرة سجنه الظالم المظلم إلى رحاب الملك الذي يرغب في لقائه ; ولا تستخفه الفرحة بالخروج من هذا الضيق .

ولا تتجلى هذه الظاهرة - وما وراءها من التغيرات العميقة في الموازين والقيم والمشاعر في نفس يوسفالصديق , إلا حين نعود القهقرى بضع سنين , لنجد يوسف يوصي ساقي الملك - وهو يظن أنه ناج - أن يذكره عند ربه . . إن الإيمان هو الإيمان , ولكن هذه هي الطمأنينة . الطمأنينة التي تنسكب في القلب وهو يلابس قدر الله في جريانه . . وهو يرى كيف يتحقق هذا القدر أمام عينيه فعلا . . الطمأنينة التي كان يطلبها جده إبراهيم عليه السلام , وهو يقول لربه: (رب أرني كيف تحيي الموتى)فيسأله ربه - وربه يعلم:- (أولم تؤمن ?)فيقول - وربه يعلم حقيقة ما يشعر وما يقول -: (بلى ! ولكن ليطمئن قلبي). .

إنها هي هي الطمأنينة التي تسكبها التربية الربانية في قلوب الصفوة المختارة , بالابتلاء والمعاناة , والرؤية والمشاهدة , والمعرفة والتذوق . . ثم الثقة والسكينة . .

وهذه هي الظاهرة الواضحة في كل مواقف يوسف من بعد , حتى يكون الموقف الأخير في نجائه مع ربه , منخلعا من كل شيء تهفو له النفوس في هذه الأرضSadرب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث . فاطر السماوات والأرض , أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين).

أما التعقيبات التي ترد في نهاية القصة , والتعقيبات العامة في السورة , فقد تحدثنا عنها إجمالا عند تقديم السورة في الجزء الثاني عشر . وسوف نواجهها بالتفصيل في مواضعها من السياق إن شاء الله . . إنما أردنا فقط أن نبرز تلك الظاهرة الجديدة في الشخصية الرئيسية في القصة . ذلك أنها الظاهرة الأساسية التي تتكامل بها صورة الشخصية ; كما أنها هي الظاهرة الأساسية التي يحتفل بها سياق القصة وسياق السورة من الناحية الحركية التربوية للمنهج القرآني . .

والآن سنواجه النصوص تفصيلا:

الوحدة الرابعة:54 - 79 الموضوع:يوسف في منصب عزيز مصر مقدمة الوحدة نمضي في هذا الدرس مع قصة يوسف , في حلقة جديدة من حلقاتها - الحلقة الرابعة - وقد وقفنا في نهاية الجزء الثاني عشر عند نهاية الحلقة الثالثة . وقد أخرج من السجن , واستدعاه الملك ليكون له شأن معه , هو الذي سنعرفه في هذه الحلقة الجديدة .

هذا الدرس يبدأ بآخر فقرة في المشهد السابق . مشهد الملك يستجوب النسوة اللاتي قطعن أيديهن - كما رغب إليه يوسف أن يفعل - تمحيصا لتلك المكايد التي أدخلته السجن , وإعلانا لبراءته على الملأ , قبل أن يبدأ مرحلة جديدة في حياته ; وهو يبدؤها واثقا مطمئنا , في نفسه سكينة وفي قلبه طمأنينة وقد أحس أنها ستكون مرحلة ظهور في حياة الدولة , وفي حياة الدعوة كذلك . فيحسن أن يبدأها وكل ما حوله واضح , ولا شيء من غبار الماضي يلاحقه وهو بريء .

ومع أنه قد تجمل فلم يذكر عن امرأة العزيز شيئا , ولم يشر إليها على وجه التخصيص , إنما رغب إلى الملك أن يفحص أمرعن النسوة اللاتي قطعن أيديهن , فإن امرأة العزيز تقدمت لتعلن الحقيقة كاملة:

الآن حصحص الحق . أنا راودته عن نفسه , وإنه لمن الصادقين . ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب , وأن الله لايهدي كيد الخائنين . وما أبرى ء نفسي ; إن النفس لأمارة بالسوء , إلا ما رحم ربي , إن ربي غفور رحيم . .

وفي هذه الفقرة الأخيرة تبدو المرأة مؤمنة متحرجة , تبريء نفسها من خيانة يوسف في غيبته ; ولكنها تتحفظ فلا تدعي البراءة المطللقة , لأن النفس أمارة بالسوء - إلا ما رحم ربي - ثم تعلن ما يدل على إيمانها بالله - ولعل ذلك كان اتباعا ليوسف - (إن ربي غفور رحيم). .

وبذلك يسدل الستار على ماضي الآلام في حياة يوسف الصديق . وتبدأ مرحلة الرخاء والعز والتمكين . .

الدرس الأول:54 - 57 يوسف في منصب عزيز مصر

(وقال الملك:ائتوني به أستخلصه لنفسي . . فلما كلمه قال:إنك اليوم لدينا مكين أمين . قال:اجعلني على خزائن الأرض , إني حفيظ عليم . . وكذلك مكنا ليوسف في الأرض , يتبوأ منها حيث يشاء , نصيب برحمتنا من نشاء , ولا نضيع أجر المحسنين . ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون). .

لقد تبينت للملك براءة يوسف , وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا , وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة كذلك تبينت له كرامته وإباؤه , وهو لا يتهافت على الخروج من السجن , ولا يتهافت على لقاء الملك . وأي ملك ? ملك مصر ! ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في سمعته , المسجون ظلما , يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه ; ويطلب الكرامة لشخصه ولدينه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك . .
من الاية 54 الى الاية 54

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54)

كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال:

(ائتوني به أستخلصه لنفسي). .

فهو لا يأتي به من السجن ليطلق سراحه ; ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى ; ولا ليسمعه كلمة "الرضاء الملكي السامي ! " فيطير بها فرحا . . كلا ! إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه , ويجعله بمكان المستشار والنجي والصديق . .

فيا ليت رجالا يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام - وهم أبرياء مطلقو السراح - فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم ; ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء , وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء . . يا ليت رجالا من هؤلاء يقرأون هذا القرآن , ويقرأون قصة يوسف , ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح - حتى المادي - أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء !

وقال الملك:ائتوني به استخلصه لنفسي . .

ويحذف السياق جزئية تنفيذ الأمر لنجد يوسف مع الملك . .

(فلما كلمه قال:إنك اليوم لدينا مكين أمين). .

فلما كلمه تحقق له صدق ما توسمه . فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وفي أمان . فليس هو الفتى العبراني الموسوم بالعبودية . إنما هو مكين . وليس هو المتهم المهدد بالسجن . إنما هو أمين . وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه . فماذا قال يوسف ?

إنه لم يسجد شكرا كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت . ولم يقل له:عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين , كما يقول المتملقون للطواغيت ! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أول بها رؤيا الملك , خيرا مما ينهض بها أحد في البلاد ; وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحا من الموت وبلادا من الخراب , ومجتمعا من الفتنة - فتنة الجوع - فكان قويا في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته , قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه:

(قال:اجعلني على خزائن الأرض . إني حفيظ عليم). .

والأزمة القادمة وسنوالرخاء التي تسبقها في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة الأمور بالدقة وضبط الزراعة والمحاصيل وصيانتها . وفي حاجة إلى الخبرة وحسن التصرف والعلم بكافة فروعه الضرورية لتلك المهمة في سنوات الخصب وفي سني الجدب على السواء . ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها , وأن وراءها خيرا كبيرا لشعب مصر وللشعوب المجاورة:

(إني حفيظ عليم). .

ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض . . إنما كان حصيفا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة ; وليكون مسؤولا عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات , لا زرع فيها ولا ضرع . فليس هذا غنما يطلبه يوسف لنفسه . فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة . إنما هي تبعة يهرب منها الرجال , لأنها قد تكلفهم رؤوسهم , والجوع كافر , وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون .
من الاية 55 الى الاية 57

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57)

استطراد لتعليل طلبه الحكم

وهنا تعرض شبهة . . أليس في قول يوسف - عليه السلام -: (اجعلني على خزائن الأرض , إني حفيظ عليم). . أمران محظوران في النظام الإسلامي:

أولهما:طلب التولية , وهو محظور بنص قول الرسول [ ص ]:" إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله [ أو حرص عليه ] " . . [ متفق عليه ] .

وثانيهما:تزكية النفس , وهي محظورة بقوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم)?

ولا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد إنما تقررت في النظام الإسلامي الذي تقرر على عهد محمد رسول الله [ ص ] وأنها لم تكن مقررة على أيام يوسف - عليه السلام - والمسائل التنظيمية في هذا الدين ليست موحدة كأصول العقيدة , الثابتة في كل رسالة وعلى يد كل رسول . .

لا نريد أن نجيب بهذا , وإن كان له وجه , لأننا نرى أن الأمر في هذه المسألة أبعد أعماقا , وأوسع آفاقا من أن يرتكن إلى هذا الوجه ; وأنه إنما يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بد من إدراكها , لإدراك منهج الاستدلال من الأصول والنصوص , ولإعطاء أصول الفقه وأحكامه تلك الطبيعة الحركية الأصيلة في كيانها , والتي خمدت وجمدت في عقول الفقهاء وفي عقلية الفقه كلها في قرون الخمود والركود !

إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ , كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ ! . . لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم , ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية . كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم ; إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي . .

وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتا الدلالة ; كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي ; وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية .

والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة , دون إدراك لهاتين الحقيقتين ; ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام , ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها ; وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها وتحكمها وتعيش فيها . . الذين يفعلون ذلك ; ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ ; وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ . . هؤلاء ليسوا "فقهاء" ! وليس لهم "فقه" بطبيعة الفقه ! وبطبيعة هذا الدين أصلا !

إن "فقه الحركة " يختلف إختلافا أساسيا عن "فقه الأوراق" مع استمداده أصلا وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها "فقه الأوراق" !

إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره "الواقع" الذي نزلت فيه النصوص , وصيغت فيه الأحكام . ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركبا لا تنفصل عناصره . فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته , واختل تركيبه !

ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته , يعيش في فراغ , لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها . . إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ !

ونأخذ مثالا لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب ,وهو المأخوذ من قوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم)ومن قول رسول الله [ ص ] " إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله " . .

لقد نشأ هذا الحكم - كما نزلت تلك النصوص - في مجتمع مسلم ; ليطبق في هذا المجتمع ; وليعيش في هذا الوسط ; وليلبي حاجة ذلك المجتمع . وفق نشأته التاريخية , ووفق تركيبه العضوي , ووفق واقعه الذاتي . فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي . . وقد نشأ في وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ مثالي . وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشىءآثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي . . إسلامي في نشأته , وفي تركيبه العضوي , وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة . . وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقومات كلها يعتبر "فراغا" بالقياس إلى ذلك الحكم , لا يملك أن يعيش فيه , ولا يصلح له , ولا يصلحه كذلك !

. . ومثل هذا الحكم كل أحكام النظام الإسلامي . وإن كنا في هذا المقام لا نفصل إلا هذا الحكم بمناسبة ذلك السياق القرآني . .

ونريد أن نفهم لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم , ولا يرشحون أنفسهم للوظائف , ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشوري أو للإمامة أو للإمارة . .

إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم . كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحدا بالتزاحم عليه - اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى - ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم . وهؤلاء يجب أن يمنعوها !

ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم , وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضا . .

إن الحركة هي العنصر المكون لذلك المجتمع . فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية . .

أولا:تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله - على عهد النبوات - أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله - على مدار الزمان بعد ذلك - فيستجيب للدعوة ناس ; يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة . فمنهم من يفتن ويرتد , ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيدا ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق . .

هؤلاء يفتح الله عليهم , ويجعل منهم ستارا لقدره , ويمكن لهم في الأرض تحقيقا لوعده بنصر من ينصره , والتمكين في الأرض له , ليقيم مملكة الله في الأرض - أي لينفذ حكم الله في الأرض - ليس له من هذا النصر والتمكين شيء ; إنما هو نصر لدين الله , وتمكين لربوبية الله في العباد .

وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة ; ولا عند حدود جنس معين ; ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة أو مقوم واحد من تلك المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة ! إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا "الإنسان" . . كل الإنسان:في "الأرض" . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله ; وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أيا كانت هذه الطواغيت .

وفي أثناء الحركة بهذا الدين - وقد لاحظنا أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة من الأرض , ولا تقف عند حدود أرض أو جنس أو قوم - تتميز أقدار الناس , وتتحدد مقاماتهم في المجتمع , ويقوم هذا التحديد وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية , الجميع يتعارفون عليها , من البلاء في الجهاد , والتقوى والصلاح والعبادة والأخلاق والقدرة والكفاءة . . وكلها قيم يحكم عليها الواقع , وتبرزها الحركة , ويعرفها المجتمع ويعرف المتسمين بها . . ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم , ولا أن يطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية . .

وفي المجتمع المسلم الذي نشأ هذه النشأة , وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة بتلك القيم الإيمانية - كما حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين ثم الأنصار , وأهل بدر , وأهل بيعة الرضوان , ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل - ثم ظل يتميز الناس فيه بحسن البلاء في الإسلام . . في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم بعضا , ولا ينكر الناس فضائل المتميزين - مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحيانا فغلبتهم الأطماع - وعندئذ تنتفي الحاجة - من جانب آخر - إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية . .

ولقد يخيل للناس الآن أن هذه خاصية متفردة للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية ! ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إلا بمثل هذه النشأة . . لن يوجد اليوم أو غدا , إلا أن تقوم دعوة لإدخال الناس في هذا الدين من جديد , وإخراجهم من الجاهلية التي صاروا إليها . . وهذه نقطة البدء . . ثم تعقبها الفتنة والابتلاء - كما حدث أول مرة - فأما ناس فيفتنون ويرتدون ! وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا الله عليه فيقضون نحبهم ويموتون شهداء . وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على الإسلام , ويكرهون أن يعودوا إلى الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقى في النار ; حتى يحكم الله بينهم وبين قومهم بالحق , ويمكن لهم في الأرض - كما مكن للمسلمين أول مرة - فيقوم في أرض من أرض الله نظام إسلامي . . ويومئذ تكون الحركة من نقطة البدء إلى قيام النظام الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية , وفق الموازين والقيم الإيمانية . . ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم وتزكيتها , لأن مجتمعهم الذي جاهد كله معهم يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم !

ولقد يقال بعد هذا:ولكن هذا يكون في المرحلة الأولى . فإذا استقر المجتمع بعد ذلك ? وهذا سؤال من لا يعرف طبيعة هذا الدين ! إن هذا الدين يتحرك دائما ولا يكف عن الحركة . . يتحرك لتحرير "الإنسان" . كل الإنسان . . في "الأرض" . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله ; وليرفعه عن العبودية للطواغيت ; بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم أو أي مقوم من المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة !

وإذن فستظل الحركة - التي هي طبيعة هذا الدين الأصيلة - تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات والمواهب ; ولا تقف أبدا ليركد هذا المجتمع ويأسن - إلا أن ينحرف عن الإسلام - وسيظل الحكم الفقهي - الخاص بتحريم تزكية النفس وطلب العمل على أساس هذه التزكية - قائما وعاملا في محيطه الملائم . . ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه .

ثم يقال:ولكن المجتمع حين يتسع لا يعرف الناس بعضهم بعضا ; ويصبح الأكفاء الموهوبون في حاجة إلى الإعلان عن أنفسهم وتزكيتها وطلب العمل على أساس هذه التزكية !

وهذا القول كذلك وهم ناشيء من التأثر بواقع المجتمعات الجاهلية الحاضرة . . إن المجتمع المسلم يكونأهل كل محلة فيه متعارفين متواصلين متكافلين - كما هي طبيعة التربية والتكوين والتوجيه , والالتزام في المجتمع المسلم - ومن ثم يكون أهل كل محلة عارفين بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم ; موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين وقيم إيمانية ; فلا يعز عليهم أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلاء والتقوى والكفاية . . سواء لمجلس الشورى أو للشؤون المحلية . أما الإمارات العامة فيختار لها الإمام - الذي اختارته الأمة بعد ترشيح أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - له . . يختار لها من بين مجموعة الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة . والحركة دائبة كما قلنا في المجتمع المسلم , والجهاد ماض إلى يوم القيامة .

إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته - أو يكتبون - يدخلون في متاهة ! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ ! يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم , بتركيبه العضوي الحاضر ! وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر - بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية - فراغا لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام . . إن تركيبه العضوي مناقض تماما للتركيب العضوي للمجتمع المسلم . فالمجتمع المسلم - كما قلنا - يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في عالم الواقع , ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام . مع تحمل ضغوط الجاهلية وما توجهه من قتنة وإيذاء وحرب على هذه الحركة , والصبر على الابتلاء وحسن البلاء من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف . أما المجتمع الجاهلي الحاضر فهو مجتمع راكد , قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام , ولا بالقيم الإيمانية . . وهو - من ثم - يعد بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغا لا يعيش فيه هذا النظام ولا تقوم فيه هذه الأحكام !

هؤلاء الكاتبون الباحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام وتشكيلاته وأحكامه الفقهية يحيرهم - أول ما يحيرهم - طريقة اختيار أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية ! كيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها والناس لا يعرف بعضهم بعضا ولا يزنون كذلك بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة ! كذلك تحيرهم طريقة اختيار الإمام ? أيكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد ? وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد - متابعة لعدم تزكيتهم لأنفسهم أو ترشيحها - فكيف يعودون هم فيختارون الإمام ? ألا يؤثر هذا في ميزانهم ? ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام ? ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم ? ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصا يضمن ولاءهم له , ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره ? . . .

وأسئلة أخرى كثيرة لا يجدون لها جوابا في هذه المتاهة !

أنا أعرف نقطة البدء في هذه المتاهة . . إنها هي افتراض أن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه مجتمع مسلم ; وأن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية سيجاء بها لتطبق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العضوي الحاضر , وبقيمه وأخلاقه الحاضرة !

هذه نقطة البدء في المتاهة . . ومتى بدأ منها الباحث فإنه يبدأ في فراغ , ويوغل في هذا الفراغ , حتى يبعد في التيه , وحتى يأخذه الدوار! !

إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم , ومن ثم لن يطبق فيه النظام الإسلامي ولن تطبق فيه الأحكام الفقهية الخاصة بهذا النظام . . لن تطبق لاستحالة هذا التطبيق الناشئة من أن قواعد النظامالإسلامي وأحكامه الفقهية لا يمكن أن تتحرك في فراغ ; لأنها بطبيعتها لم تنشأ في فراغ , ولم تتحرك في فراغ كذلك !

إن المجتمع الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي . . ينشأ من أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت - في وجه الجاهلية - لإنشائه ; وتحددت أقدارها وتميزت مقاماتها في ثنايا تلك الحركة .

إنه مجتمع جديد . . ومجتمع وليد . . ومجتمع متحرك دائما في طريقه لتحرير "الإنسان" , . . كل الإنسان . . في" الأرض " . . كل الأرض . . من العبودية لغير الله , ولرفع هذا الإنسان عن ذلة العبودية للطواغيت . . أيا كانت هذه الطواغيت . .

ومثل قضية التزكية وطلب الإمارة , واختيار الإمام , واختيار أهل الشورى . . . وما إليها . . . قضايا كثيرة تثار , ويطرقها الباحثون في الإسلام . . في الفراغ . . في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه . . بتركيبه العضوي المختلف تماما عن التركيب العضوي للمجتمع المسلم . . وبقيمه وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته المختلفة تماما عن قيم المجتمع المسلم وموازينه واعتباراته و أخلاقه ومشاعره وتصوراته . .

أعمال البنوك وأساسها الربوي . . شركات التأمين وقاعدتها الربوية . . تحديد النسل وما أدري ماذا ?! إلى آخر هذه "المشكلات" التي يشغل "الباحثون" بها أنفسهم أو يجيبون فيها عن استفتاءات توجه إليهم . . إنهم جميعا - مع الأسف - يبدأون من نقطة البدء في المتاهة ! يبدأون من افتراض أن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه سيجاء بها لتطبق على هذه المجتمعات الجاهلية الحاضرة بتركيبها العضوي الحاضر ; فتنتقل هذه المجتمعات إذن - متى طبقت عليها أحكام الإسلام - إلى الإسلام !

وهي تصورات مضحكة لولا أنها محزنة !

إن الفقه الإسلامي بكل أحكامه ليس هو الذي أنشأ المجتمع المسلم . إنما المجتمع المسلم بحركته - في مواجهة الجاهلية ابتداء - ثم بحركته في مواجهة حاجة الحياة الحقيقية ثانيا , هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي مستمدا من أصول الشريعة الكلية . . والعكس لا يمكن أن يكون أصلا !

إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ , ولا يعيش في فراغ كذلك . . لا ينشأ في الأدمغة والأوراق ; إنما ينشأ في واقع الحياة . وليست أية حياة . إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد . . ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع المسلم أولا بتركيبه العضوي الطبيعي ; فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق . . وعندئذ تختلف الأمور جدا . .

وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص - بعد نشأته في مواجهة الجاهلية وتحركه في مواجهة الحياة - إلى البنوك وشركات التأمين وتحديد النسل . . . الخ وقد لا يحتاج ! ذلك أننا لا نملك سلفا أن نقدر أصل حاجته , ولا حجمها , ولا شكلها , حتى نشرع لها سلفا ! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها . . ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها . ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها ولا بتلبيتها كذلك !

إن المحنة الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل , الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه ! ولكن الأمر غير ذلك تماما . . إن دين الله هو الأصل الذي يجب على البشريةأن تطابق نفسها عليه ; وأن تحور من واقعها الجاهلي وتغير حتى تتم هذه المطابقة . . ولكن هذا التحور وهذا التغير لا يتمان عادة إلا عن طريق واحد . . هو التحرك - في وجه الجاهلية - لتحقيق ألوهية الله في الأرض وربوبيته وحده للعباد , وتحرير الناس من العبودية للطاغوت , بتحكيم شريعة الله وحدها في حياتهم . . وهذه الحركة لا بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء . فيفتن من يفتن ويرتد من يرتد , ويصدق الله من يصدقه فيقضي نحبه ويستشهد , ويصبر من يصبر ويمضي في حركته حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق , وحتى يمكن الله له في الأرض , وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي , وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه , وتميزوا بقيمه . . وعندئذ تكون لحياتهم مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها وفي طرق تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية ومطالبها وطرق تلبيتها . . وعلى ضوء واقع المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام ; وينشأ فقه إسلامي حي متحرك - لا في فراغ - ولكن في وسط واقعي محدد المطالب والحاجات والمشكلات . .

ومن ذا الذي يدرينا اليوم مثلا أن يكون الناس في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة وتنفق في مصارفها , ويقوم فيه التراحم والتكافل بين أهل كل محلة , ثم بين كل أفراد الأمة , وتقوم حياة الناس فيه على غير السرف والترف والمخيلة والتكاثر . . إلى آخر مقومات الحياة الإسلامية . . من يدرينا أن مجتمعا كهذا سيكون في حاجة إلى شركات تأمين أصلا ?! وعنده كل تلك التأمينات والضمانات مع تلك الملابسات والقيم والتصورات ?! وإذا احتاج إلى نوع من التأمين فمن يدرينا أنه سيكون هو هذا النوع المعروف في المجتمع الجاهلي , المنبثق من حاجات هذا المجتمع الجاهلي وملابساته وقيمه وتصوراته ?!

وكذلك من يدرينا أن المجتمع المسلم المتحرك المجاهد سيكون في حاجة إلى تحديد النسل مثلا ? . . وهكذا . . وإذا كنا لا نملك افتراض أصل حاجات المجتمع حين يكون مسلما ولا حجم هذه الحاجات أو شكلها , بسبب اختلاف تركيبه العضوي عن تركيب المجتمع الجاهلي , واختلاف تصوراته ومشاعره وقيمه وموازينه . . فما هذا الضنى في محاولة تحوير وتطوير وتغيير الأحكام المدونة لكي تطابق حاجات هي في ضمير الغيب , شأنها شأن وجود المجتمع المسلم ذاته !

إن نقطة البدء في المتاهة - كما قلنا - هي افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات الإسلامية ; وأنه سيجاء بأحكام الفقه الإسلامي من الأوراق لتطبق عليها , وهي بهذا التركيب العضوي ذاته , وبالتصورات والمشاعر والقيم والموازين ذاتها .

كما أن أصل المحنة هو الشعور بأن واقع هذه المجتمعات الجاهلية وتركيبها الحاضر هو الأصل الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه . وأن يحور ويطور ويغير في أحكامه ليلاحق حاجات هذه المجتمعات ومشكلاتها . . حاجاتها ومشكلاتها المنبثقة أصلا من مخالفتها للإسلام ومن خروج حياتها جملة من إطاره !

ونحسب أنه قد آن للإسلام أن يستعلي في نفوس دعاته , فلا يجعلوه مجرد خادم للأوضاع الجاهلية , والمجتمعات الجاهلية , والحاجات الجاهلية . وأن يقولوا للناس - وللذين يستفتونهم بوجه خاص - تعالوا أنتم أولا إلى الإسلام , وأعلنوا خضوعكم سلفا لأحكامه . . أو بعبارة أخرى . . تعالوا أنتم أولا فادخلوا في دين الله , وأعلنوا عبوديتكم لله وحده , واشهدوا أن لا إله إلا الله بمدلولها الذي لا يقوم الإيمان والإسلام إلا به . وهو إفراد الله بألوهيته في الأرض كإفراده بالألوهية في السماء ; وتقرير ربوبيته - أي حاكميته وسلطانه - وحده في حياة الناس بجملتها . وتنحية ربوبية العباد للعباد , بتنحية حاكمية العباد للعباد , وتشريع العباد للعباد .

وحين يستجيب الناس - أو الجماعة منهم - لهذا القول , فإن المجتمع المسلم يكون قد بدأ أولى خطواته في الوجود . وهذا المجتمع يكون حينئذ هو الوسط الواقعي الحي الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي الحي وينمو , لمواجهة حاجات ذلك المجتمع المستسلم لشريعة الله فعلا . .

فأما قبل قيام هذا المجتمع فالعمل في حقل الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس , باستنبات البذور في الهواء , ولن ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ , كما أنه لن تنبت البذور في الهواء !

إن العمل في الحقل "الفكري" للفقه الإسلامي عمل مريح ! لأنه لاخطر فيه ! ولكنه ليس عملا للإسلام ; ولا هو من منهج هذا الدين ولا من طبيعته ! وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة ! أما الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه عملا للإسلام في هذه الفترة فأحسب - والله أعلم - أنه مضيعة للعمر وللأجر أيضا !

إن دين الله يأبى أن يكون مجرد مطية ذلول , ومجرد خادم مطيع , لتلبية هذا المجتمع الجاهلي الآبق منه , المتنكر له , الشارد عنه . . الذي يسخر منه الحين بعد الحين باستفتائه في مشكلاته وحاجاته ; وهو غير خاضع لشريعته وسلطانه . .

إن فقه هذا الدين وأحكامه لا تنشأ في فراغ , ولا تعمل في فراغ . . وإن المجتمع المسلم الخاضع لسلطان الله ابتداء هو الذي صنع هذا الفقه وليس الفقه هو الذي صنع ذلك المجتمع . . ولن تنعكس الآية أبدا .

إن خطوات النشأة الإسلامية ومراحلها هي دائما واحدة ; والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لن يكون يوما ما سهلا ولا يسيرا . ولن يبدأ أبدا من صياغة الأحكام الفقهية في الفراغ , لتكون معدة جاهزة يوم يقوم المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي . ولن يكون وجود هذه الأحكام المفصلة على "الجاهز" والناشئة في الفراغ هي نقطة البدء في التحول من الجاهلية إلى الإسلام . وليس الذي ينقص هذه المجتمعات الجاهلية لكي تتحول إلى الإسلام هو الأحكام الفقهية "الجاهزة " ! وليست الصعوبة في ذلك التحول ناشئة عن قصور أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة . . إلى آخر ما يخادع به بعضهم , وينخدع به بعضهم الآخر !

كلا ! إن الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية لله ; فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في الأرض لله وحده . وتخرج بذلك من الإسلام خروجا كاملا . يعد الحكم عليه من المعلوم من الدين بالضرورة . . ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد أولئك الطواغيت من دون الله - أي تدين لها وتخضع وتتبع - فتجعلها بذلك أربابا متفرقة معبودة مطاعة . وتخرج هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك . . فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام . .

وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاما في الأرض ; وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة المادية .

وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية - إذن - بوسائل مكافئة . إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى ; وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها ; ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية . ثم يحكم الله بين من يسلمون لله وبين قومهم بالحق . . وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه , التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي , وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددةفي هذا المجتمع الوليد , وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها , وهي أمور كلها في ضمير الغيب - كما أسلفنا - ولا يمكن التكهن بها سلفا , ولا يمكن الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين !

إن هذا لا يعني - بحال - أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلا من الوجهة الشرعية . ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له , والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه - بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به - ليس قائما الآن فعلا . ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقا بقيام ذلك المجتمع . . ويبقى الالتزام بها قائما في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي ; ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا الدين في وجه الجاهلية وطواغيتها المتألهة وجماهيرها الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في الربوبية . .

إن إدراك طبيعة النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير , كلما قامت الجاهلية وقامت في وجهها محاولة إسلامية . . هو نقطة البدء في العمل الحقيقي البناء لإعادة هذا الدين إلى الوجود الفعلي , بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة الله في خلال القرنين الأخيرين ; وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام ; وإن بقيت المآذن والمساجد , والأدعية والشعائر ; تخدر مشاعر الباقين علي الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين ; وتوهمهم أنه لا يزال بخير ; وهو يمحى من الوجود محوا !

إن المجتمع المسلم وجد قبل أن توجد الشعائر , وقبل أن توجد المساجد . . وجد من يوم أن قيل للناس:اعبدوا الله ما لكم من إله غيره , فعبدوه . ولم تكن عبادتهم له ممثلة في الشعائر , فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت . إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة له وحده - من ناحية المبدأ فلم تكن بعد قد نزلت شرائع ! - وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة لله وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع ; وحين واجهوا الحاجات الحقيقية لحياتهم هم استنبطت بقية أحكام الفقه , إلى جانب ما ورد بنصه في الكتاب والسنة . .

وهذا هو الطريق وحده ; وليس هنالك طريق آخر . .

وليت هنالك طريقا سهلا عن طريق تحول الجماهير بجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة باللسان , وببيان أحكام الإسلام ! ولكن هذه إنما هي "الأماني" ! فالجماهير لا تتحول أبدا من الجاهلية وعبادة الطواغيت , إلى الإسلام وعبادة الله وحده إلا عن ذلك الطريق الطويل البطيء الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة . . والذي يبدؤه فرد , ثم تتبعه طليعة , ثم تتحرك هذه الطليعة في وجه الجاهلية لتعاني ما تعاني حتى يحكم الله بينها وبين قومها بالحق ويمكن لها في الأرض . . ثم . . يدخل الناس في دين الله أفواجا . . ودين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي لا يرضى من الناس دينا غيره: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه). .

ولعل هذا البيان
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى