تفسير سورة الممتحنه ايه12==الى ايه 6منسورة الصف
صفحة 1 من اصل 1
تفسير سورة الممتحنه ايه12==الى ايه 6منسورة الصف
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(12)
قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال: أخبرني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) إلى قوله: (غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بايعتك"، كلامًا، ولا والله ما مست يده يد امرأة قَطّ في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: "قد بايعتك على ذلك" هذا لفظ البخاري .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن أميمة بنت رُقَيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) الآية، وقال: "فيما استطعتن وأطقتن"، قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة".
هذا إسناد صحيح، وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث سفيان بن عيينة -والنسائي أيضًا من حديث الثوري-ومالك بن أنس كلهم، عن محمد بن المنكدر، به . وقال الترمذي: حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر.
وقد رواه أحمد أيضا من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن أميمة، به. وزاد: "ولم يصافح منا امرأة" . وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، به . ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي، عن محمد بن المنكدر: حدثتني أميمة بنت رقيقة -وكانت أخت خديجة خالة فاطمة، من فيها إلى في، فذكره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني سليط بن أيوب بن الحكم بن سُلَيم، عن أمه سلمى بنت قيس -وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلت معه القبلتين، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار-قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا: ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نـزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف -قال: "ولا تغشُشْن أزواجكن". قالت: فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن: ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما غش أزواجنا؟ قال: فسألته فقال: "تأخذ ماله، فتحابي به غيره" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، حدثني أبي، عن أمه عائشة بنت قُدَامة -يعني: ابن مظعون-قالت: أنا مع أمي رائطة بنت سفيان الخزاعية، والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول: "أبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصينني في معروف". [قالت: فأطرقن. فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم] قُلن: نعم فيما استطعتن". فَكُنّ يقلن وأقول معهن، وأمي تُلقّني: قولي أي بنية، نعم [فيما استطعتُ] . فكنت أقول كما يقلن
وقال البخاري: حدثنا أبو مَعْمَر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: بَايَعْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، قالت: أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها. فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت ورجعت فبايعها.
ورواه مسلم . وفي رواية: "فما وفى منهن امرأة غيرها، وغير أم سليم ابنة ملحان".
وللبخاري عن أم عطية قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح، فما وَفّت منا امرأة غير خمس نسوة: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، وامرأتان -أو: ابنة أبي سَبرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهدُ النساءَ بهذه البيعة يوم العيد، كما قال البخاري:
حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني ابن جُرَيج: أن الحسن بن مسلم أخبره، عن طاوس، عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بَعدُ، فنـزل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فكأني أنظر إليه حين يُجَلَّس الرجالَ بيده، ثم أقبل يَشقّهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) حتى فرغ من الآية كلها. ثم قال حين فرغ: "أنتن على ذلك؟". فقالت امرأة واحدة، ولم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله -لا يدري الحسن من هي-قال: "فتصدقن"، قال: وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفَتَخَ والخواتيم في ثوب بلال .
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا ابن عياش، عن سليمان بن سُليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: "أبايعك على ألا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يَديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى"
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: "تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم -قرأ الآية التي أخذت على النساء (إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ ) فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه، فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه". أخرجاه في الصحيحين .
وقال محمد ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليَزني عن أبي عبد الله عبد الرحمن بن عُسَيلة الصُّنَابجي ، عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نـزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال: "فإن وَفَيتم فلكم الجنة" رواه ابن أبي حاتم.
وقد روي ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال: " قل لهن: إن رسول الله يبايعكن على ألا تشركن بالله شيئًا" -وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة مُنَكرة في النساء-فقالت: "إني إن أتكلم يعرفني، وإن عرفني قتلني". وإنما تنكرت فرقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت النسوة اللاتي مع هند، وأبين أن يتكلمن. فقالت هند وهي مُنَكَّرة: كيف تقبل من النساء شيئًا لم تقبله من الرجال؟ ففطن إليها رسول الله وقال لعمر: "قل لهن: ولا تسرقن". قالت هند: والله إني لأصيب من أبي سفيان الهَنَات، ما أدري أيحلهن لي أم لا؟ قال أبو سفيان: ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي، فهو لك حلال. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فدعاها فأخذت بيده، فعاذت به، فقال: "أنت هند؟". قالت: عفا الله عما سلف. فصرف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ولا يزنين"، فقالت: يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟ قال: "لا والله ما تزني الحرة". فقال: "ولا يقتلن أولادهن" . قالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر، فأنت وهم أبصر. قال: (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) قال (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: منعهن أن ينحن، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه، ويقطعن الشعور، ويدعون بالثبور. والثبور: الويل .
وهذا أثر غريب، وفي بعضه نكارة، والله أعلم؛ فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيفهما، بل أظهر الصفاء والود له، وكذلك كان الأمر من جانبه، عليه السلام، لهما.
وقال مقاتل بن حيان: أنـزلت هذه الآية يوم الفتح، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا، وعمر يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر بقيته كما تقدم وزاد: فلما قال: (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ) قالت هند: ربيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارا. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. رواه بن أبي حاتم.
وقال بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثتني غطبة بنت سليمان، حدثني عمتي، عن جدتها عن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فنظر إلى يدها فقال: "اذهبي فغيري يدك". فذهبت فغيرتها بحناء، ثم جاءت فقال: "أبايعك على ألا تشركي بالله شيئا"، فبايعها وفي يدها سواران من ذهب، فقالت: ما تقول في هذين السوارين؟ فقال: "جمرتان من جمر جهنم" اضغط هنا .
فقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) أي: من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها، (عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ ) أي: أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج مقصرًا في نفقتها، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف، ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان بغير علمه، عملا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شَحِيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليَّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك". أخرجاه في الصحيحين .
وقوله: (وَلا يَزْنِينَ ) كقوله : وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا [الإسراء : 32]. وفي حديث سَمُرة ذكرُ عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوة، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها: (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ) الآية، قالت: فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقري أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا. قالت: فنعم إذًا. فبايعها بالآية .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل، عن حصين، عن عامر -هو الشعبي-قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه، ثم قال: "ولا تقتلن أولادكن". فقالت امرأة: تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم؟ قال: وكان بعد ذلك إذا جاءه النساء يبايعنه، جمعهن فعرض عليهن، فإذا أقررن رجعن.
وقوله (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ) وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
وقوله: (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) قال ابن عباس: يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. وكذا قال مقاتل. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود:
حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا بن وهب، حدثنا عمرو -يعني: ابن الحارث-عن ابن الهاد، عن عبد الله بن يونس، عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نـزلت آية الملاعنة: "أيما امرأة أدخَلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جَنّته، وأيما رجل جَحَد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين" .
وقوله: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) يعني: فيما أمرتهن به من معروف، ونهيتهن عنه من منكر.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي قال: سمعت الزبير، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: إنما هو شرط شَرَطه الله للنساء .
وقال ميمون بن مِهْرَان: لم يجعل الله لنبيه طاعة إلا لمعروف والمعروف: طاعة.
وقال ابن زيد: أمر الله بطاعة رسوله، وهو خِيَرة الله من خلقه في المعروف. وقد قال غيره ابن عباس، وأنس بن مالك، وسالم بن أبي الجَعْد، وأبي صالح، وغير واحد: نهاهن يومئذ عن النوح. وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة في هذه الآية: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن النياحة، ولا تحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرمًا. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبي الله، إن لنا أضيافًا، وإنا نغيب عن نسائنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس أولئك عَنَيتُ، ليس أولئك عَنَيتُ" .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء، أخبرنا ابن أبي زائدة، حدثني مبارك، عن الحسن قال: كان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يَمذي بين فخذيه".
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم عن ابن سيرين، عن أم عطية الأنصارية قالت: كان فيما اشتُرط علينا من المعروف حين بايعنا ألا ننوح، فقالت امرأة من بني فلان: إن بني فلان أسعدوني، فلا حتى أجزيهم فانطلقتْ فأسعَدتْهُمْ ثم جاءت فبايعت، قالت: فما وفى منهن غيرها، وغير أم سليم ابنة مِلْحان أم أنس بن مالك .
وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين، عن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها وقد روي نحوه من وجه آخر أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو نُعَيم، حدثنا عُمَر بن فروخ القَتَّات، حدثني مصعب بن نوح الأنصاري قال: أدركت عجوزًا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فأتيته لأبايعه، فأخذ علينا فيما أخذ ألا تنحن. فقالت عجوز: يا رسول الله إن ناسًا قد كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني، وأنهم قد أصابتهم مصيبة، فأنا أريد أسعدهم. قال: "فانطلقي فكافئيهم". فانطلقت فكافأتهم، ثم إنها أتته فبايعته، وقال: هو المعروف الذي قال الله عز وجل: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا القَعْنَبِي ، حدثنا الحجاج بن صفوان، عن أسيد بن أبي أسيد البراد، عن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا نعصيه في معروف: أن لا نخمش وجوهًا ولا ننشر شعرًا، ولا نشق جيبا، ولا ندعو ويلا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن يزيد مولي الصهباء، عن شهر بن حَوشب، عن أم سلمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: "النوح".
ورواه الترمذي في التفسير، عن عبد بن حُمَيد، عن أبي نُعَيم -وابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع-كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني مولي الصهباء، به وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن سنان القزاز، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب، حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية، عن جدته أم عطية قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقام على الباب وسلم علينا، فرددن -أو: فرددنا-عليه السلام، ثم قال: "أنا رَسُولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكن". قالت: فقلنا: مرحبًا برسول الله وبرسول رسول الله. فقال: "تبايعن على ألا تشركن بالله شيئا، ولا تسرقن ولا تزنين؟" قالت: فقلنا: نعم. قالت: فمد يده من خارج الباب -أو: البيت-ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: "اللهم اشهد". قالت: وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحُيَّض والعواتق، ولا جمعة علينا، ونهانا عن اتباع الجنائز. قال إسماعيل: فسألت جدتي عن قوله: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قالت: النياحة .
وفي الصحيحين من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مُرة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضَرَب الخدود، وشَقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" .
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا هُدْبَة بن خالد، حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا يحيى بن أبي كثير: أن زيدًا حدثه: أن أبا سلام حدثه: أن أبا مالك الأشعري حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قَطران ودرع من جَرَب".
ورواه مسلم في صحيحه منفردًا به، من حديث أبان بن يزيد العطار، به .
وعن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة. رواه أبو داود
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ(13)
ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر "هذه السورة" كما نهى عنها في أولها فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) يعني: اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة، أي: من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل. وقوله: (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) فيه قولان، أحدهما: كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك؛ لأنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه.
قال العوفي، عن ابن عباس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) إلى آخر السورة، يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) قال: الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات.
وقال قتادة: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا. وكذا قال الضحاك. رواهن ابن جرير.
والقول الثاني: معناه: كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير.
قال الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن ابن مسعود: (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) قال: كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه. وهذا قول مجاهد، وعكرمة، ومقاتل، وابن زيد، والكلبي، ومنصور. وهو اختيار ابن جرير.
تفسير سورة الصف
وهي مدنية.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة -وعن عطاء بن يسار، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا: أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة، يعني سورة الصف كلها. هكذا رواه الإمام أحمد
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مَزْيد البيروتي قراءة قال: أخبرني أبي، سمعت الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني عبد الله بن سلام. أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؟ فلم يذهب إليه أحد منا، وهبنا أن نسأله عن ذلك، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم، ونـزلت فيهم هذه السورةسبح) الصف قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها. قال أبو سلمة: وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها، قال يحيى بن أبي كثير وقرأها علينا أبو سلمة كلها. قال الأوزاعي: وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها. قال أبي: وقرأها علينا الأوزاعي كلها.
وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم: أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه. فأنـزل الله: " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * [كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا] قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة. قال ابن كثير: فقرأها علينا الأوزاعي. قال عبد الله: فقرأها علينا ابن كثير.
ثم قال الترمذي: وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي، فروى ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن سلام -أو: عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام
قلت: وهكذا رواه الإمام أحمد، عن يعمر، عن ابن المبارك، به
قال الترمذي: وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي، نحو رواية محمد بن كثير.
قلت: وكذا رواه الوليد بن يزيد، عن الأوزاعي، كما رواه ابن كثير.
قلت: وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو المُنَجَّا عبد الله بن عُمَر بن اللَّتي أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شُعَيب السَّجْزيّ قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حَمَّوَية السرَخسِيّ، أخبرنا عيسى بن عُمَر بن عمران السمرقندي، أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بجميع مسنده أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي... فذكر بإسناده مثله، وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار، ولم يقرأها، لأنه كان أميا، وضاق الوقت عن تلقينها إياه. ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، رحمه الله: أخبرنا القاضي تقي الدين سليمان بن الشيخ أبي عمر، أخبرنا أبو المنجا بن اللَّتي فذكره بإسناده، وتَسلل لي من طريقة، وقرأها علي بكمالها، ولله الحمد والمنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ(4)
تقدم الكلام على قوله: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) غير مرة، بما أغنى عن إعادته.
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟ إنكار على من يَعد عدَةً، أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه غُرم للموعود أم لا. واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كذب، إذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان" وفي الحديث الآخر في الصحيح: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خَصْلَة من نفاق حتى يَدَعها" -فذكر منهن إخلاف الوعد. وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول "شرح البخاري"، ولله الحمد والمنة. ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )
وقد روى الإمام أحمدُ وأبو داود، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم [في بيتنا] وأنا صبي قال: فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله: تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أردت أن تُعطِيه؟". قالت: تمرا. فقال: "أما إنك لو لم تفعلي كُتِبت عليك كِذْبة"
وذهب الإمام مالك، رحمه الله، إلى أنه إذا تعلق بالوعد غُرم على الموعود وجب الوفاء به، كما لو قال لغيره: "تزوج ولك علي كل يوم كذا". فتزوجَ، وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي، وهو مبني على المضايقة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا، وحملوا الآية على أنها نـزلت حين تمنوا فَرضِيَّة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء : 77، 78] . وقال تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الآية [محمد : 20] وهكذا هذه الآية معناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لَوَدِدْنَا أن الله -عز وجل-دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعملَ به. فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمانٌ به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نـزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟. وهذا اختيار ابن جرير .
وقال مقاتل بن حَيّان: قال المؤمنون: لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به. فدلهم الله على أحب الأعمال إليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ) فبين لهم، فابتلوا يوم أحد بذلك، فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين، فأنـزل الله في ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟ وقال: أحبكم إلي من قاتل في سبيلي.
ومنهم من يقول: أنـزلت في شأن القتال، يقول الرجل: "قاتلت"، ولم يقاتل وطعنت" ولم يطعن و "ضربت"، ولم يضرب و "صبرت"، ولم يصبر.
وقال قتادة، والضحاك: نـزلت توبيخًا لقوم كانوا يقولون: "قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا". ولم يكونوا فعلوا ذلك.
وقال ابن يزيد: نـزلت في قوم من المنافقين، كانوا يَعدون المسلمين النصرَ، ولا يَفُون لهم بذلك.
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟، قال: في الجهاد.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) إلى قوله: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) فما بين ذلك: في نفر من الأنصار، فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا في مجلس: لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله، لعملنا بها حتى نموت. فأنـزل الله هذا فيهم. فقال عبد الله بن رواحة: لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت. فقتل شهيدًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مُسْهِر عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي عن أبيه قال: بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل، كلهم قد قرأ القرآن، فقال. أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم. وقال: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات، فأنسيناها، غير أني قد حفظت منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة.
ولهذا قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) فهذا إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله مَن كفر بالله، لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هُشَيْم، قال مُجالد أخبرنا عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال".
ورواه ابن ماجه من حديث مجالد، عن أبي الوَدَّاك جبر بن نوف، به اضغط هنا .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا الأسود -يعني ابن شيبان-حدثني يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال: قال مُطرَف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت: يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديث، فكنت أشتهي لقاءك، فقال : لله أبوك ! فقد لقيت، فهات. فقلت: كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة؟ قال: أجل، فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم. قلت: فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله؟ قال: رجل غزا في سبيل الله، خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنـزل، ثم قرأ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) وذكر الحديث.
هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق، وبهذا اللفظ، واختصره. وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن رِبْعَي بن حِرَاش، عن زيد بن ظَبْيان، عن أبي ذَرّ بأبسط من هذا السياق وأتم وقد أوردناه في موضع آخر، ولله الحمد.
وعن كعب الأحبار أنه قال: يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: "عبدي المتوكل المختار ليس بفَظّ ولا غَليظ ولا صَخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشام، وأمته الحمادون يحمَدُون الله على كلّ حال، وفي كل منـزلة، لهم دَوِيٌّ كدوي النحل في جو السماء بالسحَر، يُوَضّون أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة". ثم قرأ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) رعاة الشمس، يصلون الصلاة حيث أدركتهم، ولو على ظهر دابة" رواه بن أبي حاتم.
وقال سعيد بن جبير في قوله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين. قال: وقوله: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) ملتصق بعضه في بعض، من الصف في القتال.
وقال مقاتل بن حيان: ملتصق بعضه إلى بعض.
وقال ابن عباس: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) مُثَبّت، لا يزول، ملصق بعضه ببعض.
وقال قتادة: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) ألم تر إلى صاحب البنيان، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه؟ فكذلك الله عز وجل [يحب أن] لا يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به. أورد ذلك كله ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عَمرو السكوني، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن يحيى بن جابر الطائي، عن أبي بحرية قال: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض، لقول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) قال: وكان أبو بحرية يقول: إذا رأيتموني التفتُّ في الصف فَجَثُوا في لَحيي
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5)
يقول تعالى مخبرًّا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه: (لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) أي: لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصاب من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر؛ ولهذا قال: "رحمة الله على موسى: لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" اضغط هنا وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يُوَصّلوا إليه أذى، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب : 69]
وقوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام : 110] وقال : وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء : 115] ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) .
قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال: أخبرني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) إلى قوله: (غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بايعتك"، كلامًا، ولا والله ما مست يده يد امرأة قَطّ في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: "قد بايعتك على ذلك" هذا لفظ البخاري .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن أميمة بنت رُقَيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) الآية، وقال: "فيما استطعتن وأطقتن"، قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة".
هذا إسناد صحيح، وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث سفيان بن عيينة -والنسائي أيضًا من حديث الثوري-ومالك بن أنس كلهم، عن محمد بن المنكدر، به . وقال الترمذي: حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر.
وقد رواه أحمد أيضا من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن أميمة، به. وزاد: "ولم يصافح منا امرأة" . وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، به . ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي، عن محمد بن المنكدر: حدثتني أميمة بنت رقيقة -وكانت أخت خديجة خالة فاطمة، من فيها إلى في، فذكره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني سليط بن أيوب بن الحكم بن سُلَيم، عن أمه سلمى بنت قيس -وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلت معه القبلتين، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار-قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا: ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نـزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف -قال: "ولا تغشُشْن أزواجكن". قالت: فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن: ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما غش أزواجنا؟ قال: فسألته فقال: "تأخذ ماله، فتحابي به غيره" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، حدثني أبي، عن أمه عائشة بنت قُدَامة -يعني: ابن مظعون-قالت: أنا مع أمي رائطة بنت سفيان الخزاعية، والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول: "أبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصينني في معروف". [قالت: فأطرقن. فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم] قُلن: نعم فيما استطعتن". فَكُنّ يقلن وأقول معهن، وأمي تُلقّني: قولي أي بنية، نعم [فيما استطعتُ] . فكنت أقول كما يقلن
وقال البخاري: حدثنا أبو مَعْمَر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: بَايَعْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ) ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، قالت: أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها. فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت ورجعت فبايعها.
ورواه مسلم . وفي رواية: "فما وفى منهن امرأة غيرها، وغير أم سليم ابنة ملحان".
وللبخاري عن أم عطية قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح، فما وَفّت منا امرأة غير خمس نسوة: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، وامرأتان -أو: ابنة أبي سَبرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهدُ النساءَ بهذه البيعة يوم العيد، كما قال البخاري:
حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني ابن جُرَيج: أن الحسن بن مسلم أخبره، عن طاوس، عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بَعدُ، فنـزل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فكأني أنظر إليه حين يُجَلَّس الرجالَ بيده، ثم أقبل يَشقّهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) حتى فرغ من الآية كلها. ثم قال حين فرغ: "أنتن على ذلك؟". فقالت امرأة واحدة، ولم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله -لا يدري الحسن من هي-قال: "فتصدقن"، قال: وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفَتَخَ والخواتيم في ثوب بلال .
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا ابن عياش، عن سليمان بن سُليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: "أبايعك على ألا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يَديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى"
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: "تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم -قرأ الآية التي أخذت على النساء (إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ ) فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه، فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه". أخرجاه في الصحيحين .
وقال محمد ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليَزني عن أبي عبد الله عبد الرحمن بن عُسَيلة الصُّنَابجي ، عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نـزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال: "فإن وَفَيتم فلكم الجنة" رواه ابن أبي حاتم.
وقد روي ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال: " قل لهن: إن رسول الله يبايعكن على ألا تشركن بالله شيئًا" -وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة مُنَكرة في النساء-فقالت: "إني إن أتكلم يعرفني، وإن عرفني قتلني". وإنما تنكرت فرقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت النسوة اللاتي مع هند، وأبين أن يتكلمن. فقالت هند وهي مُنَكَّرة: كيف تقبل من النساء شيئًا لم تقبله من الرجال؟ ففطن إليها رسول الله وقال لعمر: "قل لهن: ولا تسرقن". قالت هند: والله إني لأصيب من أبي سفيان الهَنَات، ما أدري أيحلهن لي أم لا؟ قال أبو سفيان: ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي، فهو لك حلال. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فدعاها فأخذت بيده، فعاذت به، فقال: "أنت هند؟". قالت: عفا الله عما سلف. فصرف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ولا يزنين"، فقالت: يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟ قال: "لا والله ما تزني الحرة". فقال: "ولا يقتلن أولادهن" . قالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر، فأنت وهم أبصر. قال: (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) قال (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: منعهن أن ينحن، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه، ويقطعن الشعور، ويدعون بالثبور. والثبور: الويل .
وهذا أثر غريب، وفي بعضه نكارة، والله أعلم؛ فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيفهما، بل أظهر الصفاء والود له، وكذلك كان الأمر من جانبه، عليه السلام، لهما.
وقال مقاتل بن حيان: أنـزلت هذه الآية يوم الفتح، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا، وعمر يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر بقيته كما تقدم وزاد: فلما قال: (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ) قالت هند: ربيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارا. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. رواه بن أبي حاتم.
وقال بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثتني غطبة بنت سليمان، حدثني عمتي، عن جدتها عن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فنظر إلى يدها فقال: "اذهبي فغيري يدك". فذهبت فغيرتها بحناء، ثم جاءت فقال: "أبايعك على ألا تشركي بالله شيئا"، فبايعها وفي يدها سواران من ذهب، فقالت: ما تقول في هذين السوارين؟ فقال: "جمرتان من جمر جهنم" اضغط هنا .
فقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) أي: من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها، (عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ ) أي: أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج مقصرًا في نفقتها، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف، ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان بغير علمه، عملا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شَحِيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليَّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك". أخرجاه في الصحيحين .
وقوله: (وَلا يَزْنِينَ ) كقوله : وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا [الإسراء : 32]. وفي حديث سَمُرة ذكرُ عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوة، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها: (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ) الآية، قالت: فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقري أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا. قالت: فنعم إذًا. فبايعها بالآية .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل، عن حصين، عن عامر -هو الشعبي-قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه، ثم قال: "ولا تقتلن أولادكن". فقالت امرأة: تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم؟ قال: وكان بعد ذلك إذا جاءه النساء يبايعنه، جمعهن فعرض عليهن، فإذا أقررن رجعن.
وقوله (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ) وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
وقوله: (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) قال ابن عباس: يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. وكذا قال مقاتل. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود:
حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا بن وهب، حدثنا عمرو -يعني: ابن الحارث-عن ابن الهاد، عن عبد الله بن يونس، عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نـزلت آية الملاعنة: "أيما امرأة أدخَلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جَنّته، وأيما رجل جَحَد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين" .
وقوله: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) يعني: فيما أمرتهن به من معروف، ونهيتهن عنه من منكر.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي قال: سمعت الزبير، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: إنما هو شرط شَرَطه الله للنساء .
وقال ميمون بن مِهْرَان: لم يجعل الله لنبيه طاعة إلا لمعروف والمعروف: طاعة.
وقال ابن زيد: أمر الله بطاعة رسوله، وهو خِيَرة الله من خلقه في المعروف. وقد قال غيره ابن عباس، وأنس بن مالك، وسالم بن أبي الجَعْد، وأبي صالح، وغير واحد: نهاهن يومئذ عن النوح. وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة في هذه الآية: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن النياحة، ولا تحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرمًا. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبي الله، إن لنا أضيافًا، وإنا نغيب عن نسائنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس أولئك عَنَيتُ، ليس أولئك عَنَيتُ" .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء، أخبرنا ابن أبي زائدة، حدثني مبارك، عن الحسن قال: كان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يَمذي بين فخذيه".
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم عن ابن سيرين، عن أم عطية الأنصارية قالت: كان فيما اشتُرط علينا من المعروف حين بايعنا ألا ننوح، فقالت امرأة من بني فلان: إن بني فلان أسعدوني، فلا حتى أجزيهم فانطلقتْ فأسعَدتْهُمْ ثم جاءت فبايعت، قالت: فما وفى منهن غيرها، وغير أم سليم ابنة مِلْحان أم أنس بن مالك .
وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين، عن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها وقد روي نحوه من وجه آخر أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو نُعَيم، حدثنا عُمَر بن فروخ القَتَّات، حدثني مصعب بن نوح الأنصاري قال: أدركت عجوزًا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فأتيته لأبايعه، فأخذ علينا فيما أخذ ألا تنحن. فقالت عجوز: يا رسول الله إن ناسًا قد كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني، وأنهم قد أصابتهم مصيبة، فأنا أريد أسعدهم. قال: "فانطلقي فكافئيهم". فانطلقت فكافأتهم، ثم إنها أتته فبايعته، وقال: هو المعروف الذي قال الله عز وجل: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا القَعْنَبِي ، حدثنا الحجاج بن صفوان، عن أسيد بن أبي أسيد البراد، عن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا نعصيه في معروف: أن لا نخمش وجوهًا ولا ننشر شعرًا، ولا نشق جيبا، ولا ندعو ويلا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن يزيد مولي الصهباء، عن شهر بن حَوشب، عن أم سلمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قال: "النوح".
ورواه الترمذي في التفسير، عن عبد بن حُمَيد، عن أبي نُعَيم -وابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع-كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني مولي الصهباء، به وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن سنان القزاز، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب، حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية، عن جدته أم عطية قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقام على الباب وسلم علينا، فرددن -أو: فرددنا-عليه السلام، ثم قال: "أنا رَسُولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكن". قالت: فقلنا: مرحبًا برسول الله وبرسول رسول الله. فقال: "تبايعن على ألا تشركن بالله شيئا، ولا تسرقن ولا تزنين؟" قالت: فقلنا: نعم. قالت: فمد يده من خارج الباب -أو: البيت-ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: "اللهم اشهد". قالت: وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحُيَّض والعواتق، ولا جمعة علينا، ونهانا عن اتباع الجنائز. قال إسماعيل: فسألت جدتي عن قوله: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) قالت: النياحة .
وفي الصحيحين من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مُرة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضَرَب الخدود، وشَقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" .
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا هُدْبَة بن خالد، حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا يحيى بن أبي كثير: أن زيدًا حدثه: أن أبا سلام حدثه: أن أبا مالك الأشعري حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قَطران ودرع من جَرَب".
ورواه مسلم في صحيحه منفردًا به، من حديث أبان بن يزيد العطار، به .
وعن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة. رواه أبو داود
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ(13)
ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر "هذه السورة" كما نهى عنها في أولها فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) يعني: اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة، أي: من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل. وقوله: (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) فيه قولان، أحدهما: كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك؛ لأنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه.
قال العوفي، عن ابن عباس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) إلى آخر السورة، يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) قال: الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات.
وقال قتادة: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا. وكذا قال الضحاك. رواهن ابن جرير.
والقول الثاني: معناه: كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير.
قال الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن ابن مسعود: (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) قال: كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه. وهذا قول مجاهد، وعكرمة، ومقاتل، وابن زيد، والكلبي، ومنصور. وهو اختيار ابن جرير.
تفسير سورة الصف
وهي مدنية.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة -وعن عطاء بن يسار، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا: أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة، يعني سورة الصف كلها. هكذا رواه الإمام أحمد
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مَزْيد البيروتي قراءة قال: أخبرني أبي، سمعت الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني عبد الله بن سلام. أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؟ فلم يذهب إليه أحد منا، وهبنا أن نسأله عن ذلك، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم، ونـزلت فيهم هذه السورةسبح) الصف قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها. قال أبو سلمة: وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها، قال يحيى بن أبي كثير وقرأها علينا أبو سلمة كلها. قال الأوزاعي: وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها. قال أبي: وقرأها علينا الأوزاعي كلها.
وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم: أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه. فأنـزل الله: " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * [كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا] قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة. قال ابن كثير: فقرأها علينا الأوزاعي. قال عبد الله: فقرأها علينا ابن كثير.
ثم قال الترمذي: وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي، فروى ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن سلام -أو: عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام
قلت: وهكذا رواه الإمام أحمد، عن يعمر، عن ابن المبارك، به
قال الترمذي: وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي، نحو رواية محمد بن كثير.
قلت: وكذا رواه الوليد بن يزيد، عن الأوزاعي، كما رواه ابن كثير.
قلت: وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو المُنَجَّا عبد الله بن عُمَر بن اللَّتي أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شُعَيب السَّجْزيّ قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حَمَّوَية السرَخسِيّ، أخبرنا عيسى بن عُمَر بن عمران السمرقندي، أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بجميع مسنده أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي... فذكر بإسناده مثله، وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار، ولم يقرأها، لأنه كان أميا، وضاق الوقت عن تلقينها إياه. ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، رحمه الله: أخبرنا القاضي تقي الدين سليمان بن الشيخ أبي عمر، أخبرنا أبو المنجا بن اللَّتي فذكره بإسناده، وتَسلل لي من طريقة، وقرأها علي بكمالها، ولله الحمد والمنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ(3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ(4)
تقدم الكلام على قوله: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) غير مرة، بما أغنى عن إعادته.
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟ إنكار على من يَعد عدَةً، أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه غُرم للموعود أم لا. واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كذب، إذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان" وفي الحديث الآخر في الصحيح: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خَصْلَة من نفاق حتى يَدَعها" -فذكر منهن إخلاف الوعد. وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول "شرح البخاري"، ولله الحمد والمنة. ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )
وقد روى الإمام أحمدُ وأبو داود، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم [في بيتنا] وأنا صبي قال: فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله: تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أردت أن تُعطِيه؟". قالت: تمرا. فقال: "أما إنك لو لم تفعلي كُتِبت عليك كِذْبة"
وذهب الإمام مالك، رحمه الله، إلى أنه إذا تعلق بالوعد غُرم على الموعود وجب الوفاء به، كما لو قال لغيره: "تزوج ولك علي كل يوم كذا". فتزوجَ، وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي، وهو مبني على المضايقة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا، وحملوا الآية على أنها نـزلت حين تمنوا فَرضِيَّة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء : 77، 78] . وقال تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الآية [محمد : 20] وهكذا هذه الآية معناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لَوَدِدْنَا أن الله -عز وجل-دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعملَ به. فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمانٌ به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نـزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟. وهذا اختيار ابن جرير .
وقال مقاتل بن حَيّان: قال المؤمنون: لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به. فدلهم الله على أحب الأعمال إليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ) فبين لهم، فابتلوا يوم أحد بذلك، فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين، فأنـزل الله في ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟ وقال: أحبكم إلي من قاتل في سبيلي.
ومنهم من يقول: أنـزلت في شأن القتال، يقول الرجل: "قاتلت"، ولم يقاتل وطعنت" ولم يطعن و "ضربت"، ولم يضرب و "صبرت"، ولم يصبر.
وقال قتادة، والضحاك: نـزلت توبيخًا لقوم كانوا يقولون: "قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا". ولم يكونوا فعلوا ذلك.
وقال ابن يزيد: نـزلت في قوم من المنافقين، كانوا يَعدون المسلمين النصرَ، ولا يَفُون لهم بذلك.
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ؟، قال: في الجهاد.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) إلى قوله: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) فما بين ذلك: في نفر من الأنصار، فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا في مجلس: لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله، لعملنا بها حتى نموت. فأنـزل الله هذا فيهم. فقال عبد الله بن رواحة: لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت. فقتل شهيدًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مُسْهِر عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي عن أبيه قال: بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل، كلهم قد قرأ القرآن، فقال. أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم. وقال: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات، فأنسيناها، غير أني قد حفظت منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة.
ولهذا قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) فهذا إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله مَن كفر بالله، لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هُشَيْم، قال مُجالد أخبرنا عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال".
ورواه ابن ماجه من حديث مجالد، عن أبي الوَدَّاك جبر بن نوف، به اضغط هنا .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا الأسود -يعني ابن شيبان-حدثني يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال: قال مُطرَف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت: يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديث، فكنت أشتهي لقاءك، فقال : لله أبوك ! فقد لقيت، فهات. فقلت: كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة؟ قال: أجل، فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم. قلت: فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله؟ قال: رجل غزا في سبيل الله، خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنـزل، ثم قرأ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) وذكر الحديث.
هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق، وبهذا اللفظ، واختصره. وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن رِبْعَي بن حِرَاش، عن زيد بن ظَبْيان، عن أبي ذَرّ بأبسط من هذا السياق وأتم وقد أوردناه في موضع آخر، ولله الحمد.
وعن كعب الأحبار أنه قال: يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: "عبدي المتوكل المختار ليس بفَظّ ولا غَليظ ولا صَخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشام، وأمته الحمادون يحمَدُون الله على كلّ حال، وفي كل منـزلة، لهم دَوِيٌّ كدوي النحل في جو السماء بالسحَر، يُوَضّون أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة". ثم قرأ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) رعاة الشمس، يصلون الصلاة حيث أدركتهم، ولو على ظهر دابة" رواه بن أبي حاتم.
وقال سعيد بن جبير في قوله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين. قال: وقوله: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) ملتصق بعضه في بعض، من الصف في القتال.
وقال مقاتل بن حيان: ملتصق بعضه إلى بعض.
وقال ابن عباس: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) مُثَبّت، لا يزول، ملصق بعضه ببعض.
وقال قتادة: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) ألم تر إلى صاحب البنيان، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه؟ فكذلك الله عز وجل [يحب أن] لا يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به. أورد ذلك كله ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عَمرو السكوني، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن يحيى بن جابر الطائي، عن أبي بحرية قال: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض، لقول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) قال: وكان أبو بحرية يقول: إذا رأيتموني التفتُّ في الصف فَجَثُوا في لَحيي
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5)
يقول تعالى مخبرًّا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه: (لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) أي: لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصاب من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر؛ ولهذا قال: "رحمة الله على موسى: لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" اضغط هنا وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يُوَصّلوا إليه أذى، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب : 69]
وقوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام : 110] وقال : وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء : 115] ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) .
مواضيع مماثلة
» تفسير سورة الممتحنه ايه 6==12
» تفسير سورة الممتحنه ايه رقم 1 الى اخر السوره سيد قطب
» تفسير سورة فاطر ايه12====19
» تفسير سورة الحديد ايه12==19
» تفسير سورة المجادله ايه12===22
» تفسير سورة الممتحنه ايه رقم 1 الى اخر السوره سيد قطب
» تفسير سورة فاطر ايه12====19
» تفسير سورة الحديد ايه12==19
» تفسير سورة المجادله ايه12===22
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى