دعوة للتأمل
صفحة 1 من اصل 1
دعوة للتأمل
بسم الله الرحمن الرحيم
دعوة للتأمل
(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
الحمد لله، أصبحت له الوجوه ذليلة عَانِيَة، وحذرته النُّفوس مجدّة ومتوانية، ذمَّ الدنيا إذا هي حقيرة فانية، وشوَّق لجنة قطوفها دانية، وخوَّف صرعى الهوى أن يُسقوا من عين آنية، أحمده على تقويم شانيه، وأستعينه وأستعيذه من شر كل شان وشانية، وأحصِّن بتحقيق التوحيد إيمانيه، أحمده وهو العليم العالم بالسِّر والعلانية، فالسر عنده علانية.
فهو العليم أحاط علمًا بالذي *** في الكون من سر ومن إعلان
وهو العليم بما يوسوس عبده *** في نفسه من غير نطق لسان
بل يستوي في علمه الداني *** مع القاصي وذو الإصرار والإعلان
فهو العليم بما يكون غدًا وما *** قد كان والمعلوم في ذا الآن
وبكل شي لم يكن لو كان كيف *** يكون موجودًا لذي الأعيان
فهو السميع يرى ويسمع كل ما *** في الكون من سرٍ ومن إعلان
فلكل صوت منه سمع حاضر *** فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا *** يخفى عليه بعيدها والدَّاني
ويري دبيب النمل في غسق الدُّجى *** ويرى كذاك تقلُّب الأجفان
لهو البصير يرى دبيب النملة *** السوداء تحت الصَّخر والصَّوَّان
ويرى مجاري القوت في أعضائها *** ويرى نِيَاطَ عروقها بعيان
ويرى خيانات العيون بِلَحْظِها *** إي والذي برأ الورى وبَرَانِي
فهو الحميد فكل حمدٍ واقع *** أو كان مفروضًا على الأزمان
هو أهله سبحانه وبحمده *** كل المحامد وصف ذي الإحسان
فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوارحي ولساني
ولك المحامد ربنا حمًدا كما *** يرضيك لا يفنى على الأزمان
ملء السماوات العلا والأرض *** والموجود بعد ومنتهى الإمكان
مما تشاء وراء ذلك كله *** حمدًا بغير نهاية بزمان
وعلى رسولك أفضل الصلوات *** والتسليم منك وأكمل الرضوان
صلى الإله على النبي محمد *** ما ناح قُمْرِيٌ على الأغصان
وعلى جميع بناته ونسائه *** وعلى جميع الصَّحب والإخوان
وعلى صحابته جميعًا والأُلَى *** تبعوهم من بعد بالإحسان
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ)
أما بعد، أحبتي في الله، إنها دعوة، دعوة إلى التأمل، دعوة موجَّهة إلى القلوب الذاكرة، العابدة، الخاشعة، دعوة إلى من يتفكرون، ويسمعون، ويعقلون، ويؤمنون، ويفقهون، إلى أولي الألباب، إلى أولي الأبصار، إلى أولي الأحلام والنُّهَى، إلى من يتأملون، ويتدبرون فينتفعون، فلا عند حدود النظر المشهود للعيان يقفون، بل إلى قدرة القادر في خلقه ينظرون، ولسان حالهم ومقالهم: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإليه تُرْجَعُونَ) ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم وكذلك يفعلون. وهي كذلك دعوة إلى الغافلين، السَّاهين، اللاهين، المعْرِضين، إلى من لهم عيون بها لا يبصرون، وآذان بها لا يسمعون، وقلوب بها لا يفقهون. إلى من هم كالأنعام يأكلون ويشربون ويتمتعون ولم يحققوا معنى إلاّ ليعبدون. إلى من هاجموا التوحيد ولم يفهموه، وهاجموا الإسلام ولم يعرفوه، ونقدوا القرآن ولم يقرؤوه. إلى من يمرُّون على آيات الله وهم عنها معرضون، إليهم هذه الدعوة؛ علَّهم يستيقظون، ويفقهون، ويعقلون، فيقدرون الله حقَّ قدره، لا إله إلا هو فأنى يؤفكون. (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) إنها باختصار دعوة إلى العلم بالله علمًا يقود إلى خشيته ومحبته، فمن كان به أعلم كان له أخشى (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وهي أيضًا دعوى لتعبد الله بمقتضى ذلك العلم، في تمام خضوع وذل ومحبة من طريقين اثنين؛ الأول: التدبر في آيات الله الشرعية المتلوة في كتابه العزيز، والثاني: النظر في مخلوقات الله، وآياته الكونية المشهودة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) هي دعوة إلى التأمل في بديع صنع الله، وخلق الله، وبيان ما في هذا الكون من إبداع ينطق بعظمة الخالق جل وعلا، ووحدانيته في ربوبيَّته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته، كيف والكون كتاب مفتوح، يُقرأ بكل لغة، ويُدرك بكل وسيلة، يطالعه ساكن الخيمة، وساكن الكوخ، وساكن العمارة والقصر، كل يطالعه فيجد فيه زادًا من الحق إن أراد التطلع إلى الحق، إنه كتاب قائم مفتوح في كل زمان ومكان، تبصرة وذكرى لكل عبدٍ خضع وأناب، يأخذك كتاب الله إن تأمَّلته في جولات وجولات، ترتاد آفاق السماء، وتجول في جنبات الأرض والأحياء، يقف بك عند زهرات الحقول، ويصعد بك إلى مدارات الكواكب والنجوم، يفتح بصرك وبصيرتك إلى غاية إحكام وإتقان لا له مثيل، قد وضع كل شيء في موضع مناسب، وخُلِق بمقدار مناسب، يُرِيك عظمة الله، وقدرة الله، وتقديره في المخلوقات، ثم يكشف لك أسرار الخلق والتكوين، ويهديك إلى الحكمة من الخلق والتصوير، ثم يقرع الفؤاد بقوله: (أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) إن نظرت إليه بعين البصيرة طالعك بوحدانية الله في الربوبية مستدلا بها على وحدانيته في العبادة والألوهية، ذلَّت لعزة وجهه الثَّقلان. وفي نهاية الآيات، يقرع القلوب، ويطرق الآذان، ويصكُّ المشاعر والأحاسيس بذلك التعقيب الإلهي العظيم، لعلهم يذكَّرون، لعلهم يتفكرون، لعلهم يتَّقون، لعلهم يرجعون، كل هذا، وهناك من هم عنه معرضون، أم تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون. إنه حديث طويل، يطالعك في طوال السور وقصارها، لكنه مع ذلك شائق جميل، تسكن له النفس، ويتلذَّذ به السمع، وتتحرك له الأحاسيس والمشاعر، تستجيب له الفِطَر السليمة المستقيمة، ومع ذا ينبِّه الغافل، ويدمغ المجادل المكابر؛ إذ هو حق، والحق يسطع ويقطع.
والحق شمس والعيون نواظر *** لا يختفي إلا على العميان
والشرع والقرآن أكبر عُدَّة *** فهما لقطع لجاجهم سيفان
فتعالَ معي أخي لجولة أرجو ألا يستطيلها مَلُول، وألا يستكثرها مشغول، نرتاد فيها هذا الكون بسماواته وأرضه وأحيائه، متأملين، متدبِّرين (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحَزن إذا شئت سهلا.
تأمل في الوجود بعين فكر *** ترى الدنيا الدنيئة كالخيال
ومن فيها جميعًا سوف يفنى *** ويبقى وجه ربك ذو الجلال
تأمَّل واطعن برمح الحق كل معاندٍ *** واركب جواد العزم في الجولان
واجعل كتاب الله درعًا سابغًا *** والشرع سيفك وابْدُ في الميدان
السماء بغير عمدٍ ترونها من رفعها؟ بالكواكب من زيَّنها؟ الجبال من نصبها؟ الأرض من سطحها وذلَّلها وقال: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) الطبيب من أرداه، وقد كان يرجى بإذن ربه شفاه؟. المريض وقد يُئِس منه، من عافاه؟ الصحيح من بالمنايا رماه؟ البصير في الحفرة من أهواه؟ والأعمى في الزِّحام من يقود خُطَاه؟ الجنين في ظلماتٍ ثلاثٍ من يرعاه؟ الوليد من أبكاه؟ الثعبان من أحياه، والسُّم يملأ فاه؟! الشَّهد من حلاَّه؟ اللبن من بين فرث ودم من صفَّاه؟ الهواء تحسُّه الأيدي ولا تراه من أخفاه؟ النَّبت في الصحراء من أرْبَاه؟ البدر من أتمَّه وأسراه؟ النخل من شقَّ نواه؟ الجبل من أرساه؟ الصخر من فجَّر منه المياه؟ النهر من أجراه؟ البحر من أطغاه؟ الليل من حاك دُجَاه؟ الصُّبح من أسفره وصاغ ضحاه؟ النوم من جعله وفاة؟ واليقظة منه بعثًا وحياة؟!! العقل من منحه وأعطاه؟ النحل من هداه؟ الطير في جو السماء من أمسكه ورعاه؟ في أوكاره من غذَّاه ونمَّاه؟ الجبار من يقصمه؟ المظلوم من ينصره؟ المضطَّر من يجيبه؟ الملهوف من يغيثه؟ الضال من يهديه؟ الحيران من يرشده؟ العاري من يكسوه؟ الجائع من يشبعه؟ الكسير من يجبره؟ الفقير من يغنيه؟. أنت، أنت مَنْ خلقك؟ من صوَّرك؟ من شق سمعك وبصرك؟ من سوَّاك فعَدَلَك؟ من رزقك؟ من أطعمك؟ من آواك ونصرك؟ من جعل ملايين الكائنات ترتادُ وأنت لا تشعر فَمَك؟ ولو اختفت لاختلفت وظائف فمك. من هداك؟ إنه الله الذي أحسن كل شيء خلقه. لا إله إلا هو. أنت من آياته، والكون من آياته، والآفاق من آياته، تشهد بوحدانيته. إن تأملت ذلك عرفت حقًا كونه موحدًا خالقًا؟ وكونك عبدًا مخلوقًا، الكون كتاب مسطور ينطق تسبيحًا وتوحيدًا، وذراته تهتف تمجيدًا: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)
لله في الآفاق آيات لعل *** أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا *** حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك
قل للطبيب تخطَّفته يد الردى *** من يا طبيب بطبِّه أرْدَاك؟
قل للمريض نجا وعُوفيَ بعدما *** عجزت فنون الطب من عافاك؟
قل للصحيح يموت لا من علة *** من بالمنايا يا صحيح دهاك؟
قل للبصير وكان يحذر حفرة *** فهَوَى بها من ذا الذي أهواك؟
بل سائل الأعمى خَطَا بين الزحام *** بلا اصطدام من يقود خطاك؟
قل للجنين يعيش معزولا بلا *** راعٍ ومرعى ما الذي يرعاك؟
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء *** لدى الولادة ما الذي أبكاك؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّهُ *** فاسأله من ذا بالسموم حَشَاكَ؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان *** أو تحيى وهذا السمُّ يملأ فَاكَ؟
واسأل بطون النَّحل كيف تقاطرت *** شهدًا وقل للشهد من حلاَّك؟
بل سائل اللبن المُصَفَّى كان *** بين دم وفرث ما الذي صفَّاك؟
وإذا رأيت الحي يخرج من *** حَنَايا ميتٍ فاسأله من أحياك؟
قل للهواء تحثُّه الأيدي ويخفى *** عن عيون الناس من أخفاك؟
قل للنبات يجفُّ بعد تعهُّدٍ *** ورعاية من بالجفاف رَمَاك؟
وإذا رأيت النَّبت في الصحراء *** يربو وحده فاسأله من أَرْبَاكَ؟
وإذا رأيت البدر يسري ناشرًا *** أنواره فاسأله من أسْرَاك؟
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي *** أبعد كل شيء ما الذي أدناك؟
قل للمرير من الثمار من الذي *** بالمرِّ من دون الثمار غذاك؟
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى *** فاسأله من يا نخل شقَّ نواك؟
وإذا رأيت النار شبَّ لهيبها *** فاسأل لهيب النار من أوراك؟
وإذا ترى الجبل الأشَمَّ مناطحًا *** قِمَمَ السَّحاب فسَلْه من أرساك؟
وإذا ترى صخرًا تفجر بالمياه *** فسله من بالماء شقَّ صَفَاك؟
وإذا رأيت النهر بالعذب الزُّلال *** جرى فسَلْه من الذي أجراك؟
وإذا رأيت البحر بالملح الأُجاج *** طغى فسَلْه من الذي أطغاك؟
وإذا رأيت الليل يغشى داجيًا *** فاسأله من يا ليل حاك دُجاك؟
وإذا رأيت الصُّبح يسفر ضاحيًا *** فاسأله من يا صبح صاغ ضُحَاك؟
ستجيب ما في الكون من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
ربي لك الحمد العظيم لذاتك *** حمدًا وليس لواحد إلاَّك
يا مدرك الأبصار والأبصار *** لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكًا
إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين عُلاك
يا منبت الأزهار عاطرة الشَّذَى يا مجري الأنهار عاذبة الندى ما خاب يومًا من دعا ورَجَاك يا أيها الإنسان مهلا ما الذي بالله جل جلاله أغراك؟
أحبتي في الله، الله نصب لخلقه دلالات، وأوضح لهم آيات بيِّنات في الأنفس والأرضين والسماوات (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)
وتحسب أنك جِرْم صغير *** وفيك انطوى عالم أكبر
تأمل –أخي- مدى معرفة الناس بالجنين قبل حوالي ثلاثين عامًا، لقد كان كائنًا حيًا لا يُعْلَم عنه إلا حركاته التي يصدرها داخل بطن أمه، ومع تطور وسائل الملاحظة والمشاهدة، ووصولها إلى بطن الجسم الإنساني -وكل ذلك بإذن الله – كالتصوير والتسجيل الضوئي والصوتي، علم أن للجنين نفسية لا ينفصل فيها عن أمه تمامًا، فتراه في حالات انكماش واكتئاب مرة، وحالات انشراح وانبساط أخرى، بل يبدي الانزعاج لبعض مخالفات أمه؛ كالتدخين مثلًا، عافانا الله وإياكم والمسلمين عمومًا.
يطلب طبيب مجرب من أم حامل في شهرها السادس كانت تعتاد التدخين أن تمتنع عنه لمدة أربع وعشرين ساعة، وهو يتابع الجنين بأجهزة التصوير الضوئي، فإذا به ساكن هادئ، وبينما هو كذلك، إذ قدم لها الطبيب لفافة؛ لفافة سيجارة –عافانا الله وإياكم- وما أن وضعتها بين أصابعها، وتمَّ إشعالها إلا وأشار المقياس إلى اضطراب الجنين تبعًا لاضطراب قلب أمه. فسبحان من جعله في وسط ظلمات ثلاث، يتأذى مما تتأذى منه أمه تبعًا، وإن لم تشعر أمه بذلك. أمكنهم أن يروه مضطربًا حينما تقع أمه في أزمة انفعال حادة؛ كغضب وخجل، أو في تأثر جسدي كوقوع على الأرض، أو اصطدام بشيء تبعًا لتأثر أمه بذلك. ثم أمكن الأطباء أن يروه هادئًا عندما تنصت أمه لسماع ما تستريح إليه من قرآن وأناشيد وغيرها. وحينما تسمع صوت أبيه، فتنصت له، رأوه كالمنصت له تبعًا لأمه. أما بعد الولادة، في أسبوعه الأول وجدوه أنه يأنس ويتبسم لصوت أبيه دون سائر الأصوات، إنها أمور مذهلة ، بل آيات بيِّنة بالغة، دالَّة على عظمة الله -سبحانه وتعالى- وعلى أحقِّيَّته بالتَّفرُّد في العبادة لا شريك له. أيضًا رأوا أنه حين ترغب الأم في الحمل، ثم تحمل، تجدها ترسل إليه -بإذن الله- موجاتٍ من العواطف المكثَّفة، وتغمره بفيض زاخر من الرضا والحنان، فيبادلها الشعور مبتهجًا، وكأنه يشكرها على حسن لقائها ورعايتها. ويعبر عن امتنانه لها بحركات لطيفة ساحرة، لا حد لعذوبتها على قلب أمه، فسبحان الله، وتبارك الله أحسن الخالقين! وحين لا ترغب الأم في الحمل، ثم تحمل مكرهة، تقطع الصِّلة العاطفية مع الجنين، فتراه يحيا منكمشًا، ثم يبدأ يتَّجه نحو المشاكسة، ويعبر عن ذلك بركلات من قدميْه تعبر عن احتجاجه واستنكاره، ولربما يصبح إسقاطا فيما بعد، وإن لم يسقط فإنه يبدو مهيأ للعناد، والرفض، والعدوان بعد ولادته، ويظهر ذلك في أول أيام ولادته.
يذكر صاحب سنريهم آياتنا أن امرأة حملت مكرهة، وحاولت إسقاط الجنين، ولم تستطع؛ إذ قد ثبته الله، فجعله في قرار مكين؛ فأنَّى لأحدٍ أن يسقطه؟. ولدت بعد ذلك، وكان المولود أنثى، ولما وُلدت رفضت أن تتناول ثدي أمها، وأصرَّت أيامًا على هذا، ولكنها مع ذلك قبلت أن ترضع من مرضعة أخرى غير أمها، عندها أغمضت عيناها، وأعيدت إلى أمها معصوبة العينين، فرفضت ثديها مرة أخري وهي لم تره، فأجرى الطبيب حوارًا مع أمها، تبين أن الأم لم تكن راغبة في الحمل، فحملت على كُرْه، وحاولت الاعتداء عليه بإسقاطه، فانعكس ذلك على الجنين بعد ولادته، فسبحان الله رب العالمين! إنها أحاسيس ومشاعر وأفعال أمه، تنعكس عليه فحسب، وإلا فهو لا يعلم شيئًا بنص قول الله -جل وعلا-: (وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لا تعلمون شيئًا مما أخذ عليكم من الميثاق، ولا تعلمون شيئًا مما قضى به عليكم من السعادة والشقاوة، ولا تعلمون مصالحكم ومنافعكم؛ فهم يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعلمون، وبعد خروجهم يرزقهم الله السَّمع؛ فالأصوات يدركون، ويرزقهم البصر؛ فالمرئيات يعرفون ويحسون، ويرزقهم الأفئدة؛ فبها يميِّزون، وتحصل هذه الحواس بأمر الله تدريجيًا، كلما كبر زِيدَ في سمعه وبصره حتى يبلغ أشده ليتمكن بها من عبادة ربه وطاعة مولاه –سبحانه وبحمده-. طالعت أمهات هذه الحقائق فكن يَبُحثْن عمَّا يريح أحاسيسهنَّ ومشاعرهنَّ أثناء الحمل لينعكس على أبنائهن، ينشدن ويسمعن آيات من كتاب الله، ولذا جاء في نفس الكتاب الماضي: أن سيدة حاملة في <دمشق> كانت تكثر من قراءة القرآن وسماعه قائمة وعاملة ومضطجعة، والنتيجة أنه عندما وُلِد الجنين تمكن –بفضل الله- أن يختم القرآن؛ حفظًا وتلاوة في الخامسة من عمره، فتبارك الله أحسن الخالقين! موجز القول: أن الجنين الذي يحيا في رباط مع أمه، سعيد من العواطف المُفْعَمة بالرضا والسكينة، يستجيب -بإذن ربه- بعد ولادته، معترفًا بإحسان أمه إليه في سلوك سَويٍّ ونفسية هادئة غالبًا، لسان حاله: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) فيا أيها العبد العاصي، ألك قَدْر إن فارقت صراط الله ودربه؟ (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَه) تحتَجُّ على مولاك وقد هداك، وتحيد عن الطريق وقد دلَّك وأرشدك؟ بئس العبد عبد سها ولهى ونسيَ المبدأ والمنتهى. بئس العبد عبد طغى وعَتَا ونسي الجبار الأعلى. السماء تستأذن ربها أن تَحْصدَه، والأرض أن تخسف به، والبحر أن يغرقه، من أنت؟ وما تكون الأرض وما عليها؟ ثق أنك سقطت من عين الله، ولو كان لك قدرٌ عند الله لعصمك من المعاصي.
يا أيها الماء المهين من الذي سوَّاك *** ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاك
ومن الذي غذَّاك من نَعْمَائِه *** ومن الكروب جميعها نجَّاك؟
ومن الذي شقَّ العيون فأبصرت *** ومن الذي بالعقل قد حلاَّك؟
ومن الذي تعصي ويغفر دائمًا *** ومن الذي تنسى ولا ينساك
(أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) النوم، ما النوم ؟ هل تأملته يومًا من الأيام؟ أنت تعرفه وتمارسه كل يوم، بل إن نصف عمرك أو أقل يذهب فيه، ضرورة لا غنى عنها، بل إن حياتك مؤلفة من قسمين اثنين لا ثالث لهما، من يقظة تبتغي فيها فضل الله، وِفْقَ شرع الله، ونوم تبتغي فيه الراحة لتعاود العمل في طاعة الله، الليل لِبَاس، والنهار مَعَاش (وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) النوم آية، بل إنه وفاة وموت؛ بنص قول الله: (اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) والله -جل وعلا- لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه،" حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" كما في صحيح [مسلم].
حي وقيوم فلا ينام *** وجلَّ أن يشبه الأنام
لا تأخذه سنه ولا نوم، لا إله إلاّ هو. هل تأملت ما يجري لإنسان حين ينام وينسلخ من وعيه فيرفع عنه القلم كيف يتسرب إليه النوم، ثم يستولي عليه؟ كيف يأتيه، أو كيف يأتي هو إلى النوم؟ إن أدنى درجات النوم -كما تعلمون- نعاس يصحبه تثاؤب، ثم تزنيق وتغفيق، سمع بلا فهم، ثم في درجة أخرى يأتي الوَسَن؛ وهو أول النوم، ثم في درجة ثالثة يأتي التهويم مع الغِرَار والإغفاء، ثم السِّنَة، ثم السهاد، ثم الكرى، ثم السُّبات، ثم الرُّقاد، ثم الغطيط المتميز بالشَّخير والنَّخِير؛ وهو أعلى وأثقل درجات النَّوم. في النوم تتعطل وظائف الحس إجمالا، يتوقف البصر –أولا- بإغماض الجفون حتى لو لم تغمض العينان، كما هي عند بعض الناس، فتبقى الجفون مفتوحة، لكن الرؤية مفقودة، كذلك الموت، والنوم وفاة. الحاسة التي تبقى تعمل خلال النوم هي السمع، وقد حدَّد العلماء والباحثون استمرار السمع خلال النوم بمقدار الثلثين على تفاوت بين الناس في السمع. فما أجمل الإعجاز في كتاب الله يوم يقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) فجمع بين النوم والسمع في سياق واحد، كما قال في سورة الكهف أيضًا: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) وتحقيقًا لاستقرار النوم وعدم اضطرابه عندهم أوقف الله- تعالى- السَّمع عنهم. (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) أما الدِّماغ أثناء النوم فلا ينام بالمعني المفهوم، لكنه يتغير فبعد أن كان يبث على موجات عالية يصبح على موجات أقل ترددًا، ولذا رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ؛ لأن العقل مناط التكليف كما هو معلوم . هل تأملت نائميْن متجاوريْن، ودار بِخَلَدِك أنَّ أحدهما ربما ينعم بالرؤى الصالحة بودِّه ألا يستيقظ الدهر كله مما يجد من لذة، والآخر يجاوره في شقاء يُعذَّب بالأحلام الشيطانية المزعجة، بودِّه لو لم يَنَم، ثم ساءلت نفسك، هل يعلم هذا عن مجاوره، أو ذاك عن هذا؟ أو أنت تعلم ما يدور بذهنهما. ألم يَدُر بخلدك وأنت تستعرض هذا في ذهنك أن تنتقل من هذه الصورة مباشرة إلى المقابر، فتتخيل الموتى صنوفًا بجانب بعضهم، هذا يُنعَّم، وذاك يُعذَّب (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ)
يا رب إنك ذو عفوٍ ومغفرة *** فنجِّنا من عذاب القبر والنَّكَدِ
واجعل إلى جنة الفردوس موئلنا *** مع النبيين والأبرار في الخُلْد
هل تأمَّلت قيام النائم من فراشه، وتجوله في الدار، ثم عودته إلى الفراش، وهو ما يزال في نومه؟! يذكر صاحب كتاب النوم والأرق: أن شخصًا نهض من فراشه نائمًا، وخرج من النافذة، ومشى على كورنيش العمارة من الخارج، وتجمع الناس في الشارع يحبسون أنفاسهم خشية وقوعه، وظل يمشى على الكورنيش مغمض العينين حتى دار حول العمارة، ثم عاد إلى النافذة ودخل منها ليعود إلى سريره، فيواصل نومه، ولما استيقظ لم يذكر شيئًا مما حدث له. لقد كان يتحرك وهو نائم بل يمشى على ارتفاعات شاهقة مُغمَض العينين لو كان في صحوة ما استطاع ذلك ثم يعود إلى فراشه. من الذي قاد خطاه؟! إن في هذا لدلالة قاطعة على وحدانية الله الواحد القهار؛ فإنما نفوس العباد بيده في الحياة والموت والنوم والانتباه هو الإله المتصرف فيهم جميعًا؛ فلا يسوغ لهم أن يتجهوا إلى غيره بأي حال من أحوالهم (أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ) (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) آيات باهرات لا حدَّ لها ولا عدّ، كلها حق وصدق، تستحق الذكر والشكر باللسان والجنان والأركان، وقليل من العباد الشكور.
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة *** أعلى من الشكر عند الله في الثمن
إذًا منحتكها ربي مهذبة *** شكرًا على صنع ما أوليت من حسن
اللهم لك الحمد أولا وآخر، وظاهرًا وباطنًا. إنها آيات في الأنفس تنطق بحكمة الخالق وعظمته، هل استعظمتم هذا؟ هل استكبرتم هذا؟ إن هناك مَا هو أعظم وأكبر(لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) تأمل السماء ثم ارجع البصر إليها أخرى، انظر فيها وفي كواكبها، دورانها، وطلوعها، وغروبها، واختلاف ألوانها وكثرتها، وشمسها وقمرها، باختلاف مشارقها ومغاربها، حركتها من غير فتور ولا تغير في سيرها، تجري في منازل قد رتِّبت لها بحساب مُقدَّر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها فاطرها. تأمل تجد أنه ما من كوكب إلا ولله من خَلْقِه حِكْمَة، في مقداره، في شكله، في لونه، في موضعه في السماء، في قربه من وسطها وبُعْدِه، في قربه من الكواكب التي تليه وبعده، على صفحة سماوات ترونها أُمْسِكت مع عِظَمِها وَعِظَم ما فيها، فثبتت بلا علائق من فوقها، ولا عُمُدٍ من تحتها. (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) والإنسان العاقل أمام بديع صنع الله في سماواته يتوقف طويلا أمام أصغر جسم، وأعظم جسم، يرى فيها فتثبت له أدلة الإيمان، بعظمة الخالق في ملكوته، فما يملك إلا أن تخشع جوارحه، وتخضع، وتذل، وتستجيب، فتَقْدُر الله حقَّ قَدْرِه، وتفرده بالعبادة وحده لا شريك له.
فسبحان الله لا يَقْدُر الخَلْقَ قَدْرِه *** ومن هو فوق العرش فردٌ موحَّد
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) نظر أحد علماء الفلك الكفار إلى السماء من خلال منظار بَنَاه بنفسه، فرأى ما أذهله في هذا الكون، فقال: إن الإنسانية لن تنتهي من سَبْر أغوار الكون، ولن تعرف من الكون إلا مقدار ما نعرفه من نقطة ماء في محيط عظيم. فهل آمن مع ذلك وصدَّق؟ لا، وصدق الله (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) وقال آخر أيضًا: إن وضع الأجرام السماوية ليس مجرد مصادفة وعشوائية، بل هي موضوعة في الفضاء بدقَّة وإتقان؛ إذ أن القمر لو اقترب من الأرض بمقدار ربع المسافة التي تفصلنا عنه لأغرق مدّ البحر الأرض كلها، وما علاقة القمر بالبحر؟! الله يعلمها الذي قال وصدق: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ولا يزال علماء الفلك يكتشفون من خلال تجاربهم ومراصدهم ومناظيرهم كل يوم ما يشْدَهُ ويدهش العقول في هذا الكون الفسيح، حتى قال مكتشف الجاذبية معبرًا عن اكتشافه وضآلة ما اكتشفه بجانب ذلك الخلق العظيم، يقول: لست أدري كيف أبدو في نظر العالم، ولكني في نظر نفسي، وأنا أبحث في هذا الكون أبدو كما لو كنت غلامًا يلعب على شاطئ البحر، ويلهو بين حين وآخر بالعثور على حَجَر أملس، أو محارة بالغة الجمال، في الوقت الذي يمتد فيه محيط الحقيقة أمامي دون أن يسبر أحد غوره، نعم (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا) لقد رأى البروج الصغيرة وهي تتألف من عشرة ملايين نجم قد عُرِف منها ما عُرِف، ورأى العملاقة وقد وصل عدد نجومها المعروفة لنا إلى عشرة آلاف مليار نجم يرتبط بعضها ببعض في غاية دقة وإحكام.
الله أحكم خلق ذلك كله *** صنعًا وأتقن أيما إتقان
نعم، لقد رأى مجموعة النظام الشمسي، وقد تألَّفت من مائة مليار نجم، قد عُرِف وعرف منها الشمس، وتبدو هذه المجموعة كقرص قطره تسعون ألف سنة ضوئية، وسمكه خمسة آلاف سنة ضوئية، ومع هذا البعد الشاسع فإن ضوء الشمس يصلنا في لحظات، وكذلك نور القمر. بل قد رأى هناك مجموعات تكبرها بعشرات المرات، أحصى منها مائة مليار مجموعة تجري، كلها في نظام دقيق بسرعة هائلة، كل في مساره الخاص دون اصطدام، كل يجري لأجل (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا) هذا الذي رآه، وما لم يره أكثر، فقد قال الله -عز وجل-: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ)
ويقول أحد كبار علماء الفلك – وهو يهودي –: أريد أن أعرف كيف خلق الله الكون، أريد أن أعرف أفكاره. الله بارع حاذق ليس بشرِّير، الله لا يلعب بالنرد مع الكون، تعالى الله، وجلَّ الله (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنكِرُونَ) كيف لو اطَّلع على ما جاء في القرآن، لربما كان من المؤمنين حقًا. نعم، الله لا يلعب مع الكون، عز وجل، وتبارك وتعالى وتقدس هو القائل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أحبتي في الله؛ ما الأرض بالنسبة للكون إلا كحبة رمل في صحراء الربع الخالي تسير في مسار حول الشمس دون أن يصطدم بها ملايين النجوم، والكواكب المنتشرة في الكون. أما إننا لو علمنا ذلك يقينًا لاعترانا رهبة وخشوع يقود إلى امتثال لأمر الله في غاية حب وذل، وعندها نزكو ونفلح، يوم يفلح مَن نفسَه زكَّاها. إن السماء وتناثر الكواكب فيها أجمل مشهد تقع عليه العين، ولا تمل طول النظر إليه أبدًا، ولهذا أخي المسلم فإني أدعوك إلى أن تطلع على شيء من علم الفلك، ثم اخلُ بنفسك بضع دقائق في ليل صفا أَدِيمه، وغاب قمره، ثم تأمل عالم النجوم ، واعلم أن ما تراه ما هو إلا جزء يسير من مائة مليار مجموعة قد عرفت، وكثير منها لم يعرف، كل منها في مسارها يسير، لا يختلط بغيره. وأنت تتأمل انقل تفكيرك إلى ما بثَّه الله في السماوات من ملائكة لا يحصيهم إلا هو، فما من موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم لله؛ راكع أو ساجد، يطوف منهم بالبيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألفًا لا يعودون إليه إلى قيام الساعة. "أطَّت السماء وحقَّ لها أن تئط" كما جاء في الصحيح. ثم انقل نفسك أخرى وتجاوز تفكيرك إلى بصيرة يسير قلبك بها إلى عرش الرحمن، وقد علمت بالنقل سعته وعظمته ورفعته، عندها تعلم أن السماوات بملائكتها، ونجومها، ومجرَّاتها، ومجموعاتها، والأرضين بجبالها، وبحارها، وما بينهما بالنسبة للعرش كحلقة مُلْقاة بأرض فلاة. فلا إله إلا الله! وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير
الملائكة حفت من حول العرش، يسبحون، ويحمدون، ويقدسون، ويكبرون، والأمر يتنزل من الله بتدبير الممالك التي لا يعلمها إلا الله. يتنزل الأمر بإحياء قوم، وإماتة آخرين، وإعزاز قومٍ، وإذلال قوم، وإنشاء مُلْك، وسلب ملك، وتحويل نِعَم، وقضاء حاجات، من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضُر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، وردّ آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، وإغاثة ملهوف، وإعانة عاجز، وانتقام من ظالم، وكف عدوان من معتدٍ. مراسيم تدور بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ أقطار العالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تُغلطه كثرة المسائل والحوائج على تباينها واتحاد وقتها، لا يتبرم من إلحاح الملحِّين، لا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو! ذلكم الله ربكم، فتبارك الله رب العالمين. عندها حق للقلب والجوارح أن تسجد مطرقة لهيبته، عانية لعزَّته، سجدة لا يرفع الرأس منها إلى يوم المزيد، يلْهَج صاحبها مرددًا (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارَ) هل تأملت اختلاف الألسنة واللغات وتباينها من عربية وعجمية؛ كرومية وفارسية وتركية، وغيرها من اللغات، لا لغة تشبه لغة، ولا صوت يشبه صوتًا إِنَّ في ذلك لآَية ثم هل تأملت اختلاف الألوان من بيض وسود، وحمر وصفر وخضر، لا لون يشبه لونًا، حتى صار كل واحدٍ متميزًا بينكم لا يلتبس هذا بذاك. بل في كل فرد ما يميزه عن غيره، مع أن الجميع أولاد رجل واحد، وامرأة واحدة؛ آدم وحواء –عليهما السلام-. إن في هذا من بديع قدرة الله ما يستحق أن يفرد معه بالعبودية، وما يعقله إلا العَالِمُون، ولا يفهمه إلا المتفكرون. (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ) تأمل تعاقب الليل والنهار بصورة معتدلة، وتفاوت الليل عن النهار، وكلا عن مثله، فلا ليل يشبه ليلا، ولا نهار يشبه نهارًا مذ خلق الله الخلق وحتى قيام الساعة، إن ذلك من أعجب وأبدع آيات الله الدالة على ربوبيته وألوهيته وحكمته (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْل وَالنَّهَار) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) إن تعاقب الليل والنهار نعمة عظيمة؛ إذ هي تنظم وجود الأحياء على الأرض، من نمو النبات، وتفتُّحُ الأزهار، ونضج الثِّمار، وهجرة الطيور والأسماك والحشرات، ومن شاء فليتصور ليلا بلا نهار، أو نهارًا بلا ليل، كيف تكون الحياة؟ (قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ) أما إنها لو سكنت حركة الشمس لغرق نصف الأرض في ليل سرمدي، وغرق نصفها الآخر في نهار سرمدي، وتعطلت مع ذلك مصالح ومنافع، ومن عاش في المناطق القطبية بعض الوقت عرف نعمة تعاقب الليل والنهار؛ إذ يبقى النهار لمدة ستة أشهر، والليل كذلك. (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يقول رائد الفضاء السوفيتي الملحد عندما أصبح حول الأرض، ونظر من كُوَّة مركبته فرأى بديع خلق الله في السماوات والأرض، فقال: ماذا أرى؟! أنا في حلم أم سُحِرَت عيناي، ثم يقول: في الفضاء يحل الليل بصورة مفاجئة، وبسرعة تقطع الأنفاس، وتعمي العيون بلا تدرج كما هو الحال على الأرض، وليل الفضاء الخارجي من أشد الأشياء السوداء التي رأيتها في حياتي، يقول: ثم تظهر الشمس فجأة، وتلمع كأنها ضوء صاعقة مبدّدة خلال ثوانٍ في وسط الليل الحالك، فلا تدرج في الفضاء، بل ثوان وأنت في ليل مظلم في أَحْلَك الظلمات، وثوان أخرى وأنت في نهار ساطع النور وهاج يبدد الظلمات. فيا لها من نعمة، نعمة الشروق والغروب، والليل والنهار، التي أقسم الله –عز وجل- بها في عدة آيات فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) وقال: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) ولك أن تتأمل أخرى، في قائل هذه الكلمات الشيوعي الملحد؛ فالبرَّغم من بديع ما رأى خلال دورانه حول الأرض إلاّ أنه لم يَرِد على لسانه سوى الإعجاب بما صنعه الإنسان، والذُّهول أمام عظمة الكون، ثم السكوت المطلق عن خالق الكون ومبدعه، واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له، فسبحان الله! (ومَن يُّضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) تأمل كيف جعل الله الليل سكنًا ولباسًا؟ يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي إلى بيوتها الحيوانات، وإلى أوكارها الطير والحشرات، تستجمُّ فيه النفوس، ومن كَدِّ السعي والنَّصَب فيه تستريح، حتى إذا أخذت النفوس راحتها وَسُبَاتها وتطلَّعت إلى معاشها جاء فالق الإصباح –سبحانه- بالنهار يقدُمه بشير الصباح، فيهزم الظُلْمَة ويمزِّقها كل مُمَزَّق، ويكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون. فينتشر الحيوان، وتخرج الطير من أوْكارِها لتطلب معاشها ومصالحها. فيا له من معادٍ ونشأة دالة على قدرة الله على المعاد الأكبر. (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) ويا سبحان الله كيف يُعْمِي عن هذه الآيات البينة من شاء من خلقه فلا يهتدي بها، ولا يبصرها؛ كمن هو واقف في الماء إلى حَلْقِه وهو يستغيث من شدة العطش وينكر وجود الماء. يهدي الله من يشاء، ويضل من يشاء، يحكم لا معقِّب لحكمه، لا إله إلا هو، له الحكم وإليه ترجعون. ثم تأمل هذه الأرض بينما هي هادئة ساكنة وادعة؛ مهاد وفراش، قرار وذلول، خاشعة، إذا بها تهتز، تتحرك، تثور، تتفجر، تدمّر، تبتلع، تتصدع، زلازل، خَسْف، براكين، تجدها آية من آيات الله، وكم لله من آية يخوف الله بها عباده لعلَّهم يرجعون!، وهي مع ذلك جزاء لمن حقَّ عليه القول. وهي –أيضًا- تذكير بأهوال الفزع الأكبر، يوم يُبعثون ويُحشرون، وعندها لا ينفع مال ولا بنون. يذكر صاحب علوم الأرض القرآنية أنه قبل حوالي خمسة قرون ضرب زلزال شمال الصين عشر ثوان فقط، هلك بسببه أربعمائة ألف وثلاثون ألف ألف شخص، وقبل ثلاثة قرون ضرب زلزال مدينة <لشبونة> في <البرتغال> لعدة ثوان، هلك فيه ستمائة ألف، وشعر الناس برعب وهَلَع وجزع إثر ارتجاج الأرض تحت أقدامهم على مساحة ملايين الأميال، فنعوذ بالله أن نُغْتَال من تحتنا.
وانفجرت جزيرة <كاراكات> في المحيط الهندي قبل قرن، فسُمِع الانفجار إلى مسافة خمسة آلاف كيلو متر، وسجلته آلات الرصد في العالم، وتحولت معه في ثوان جزيرة حجمها عشرون كيلو مترًا مربعًا إلى قطع نثرها الانفجار على مساحة مليون كيلو متر مربع، وارتفعت أعمدة الدخان والرَّماد إلى خمسة وثلاثين كيلو متر في الفضاء، وأظلمت السماء على مساحة مئات الكيلو مترات حاجبة نور الشمس لمدة سنتين، وارتفعت أمواج البحر إلى علوّ ثلاثين مترًا، فأغرقت ستة وثلاثين ألف نسمة من سكان <جاوا> و <سمطرا> (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو) (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)
(قتل الإنسان ما أكفره) يسمع ويرى آيات الله من زلازل وبراكين وأعاصير وأوبئة تحصد الآلاف في ثوانٍ فلا يتأمل ولا يتدبر ولا يرعوي ولا يقدر الله حق قدره بل يعيد ذلك أحياناً إلى الطبيعة في بلادة وبلاهة لا مثيل لها (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) لا يملك المسلم إزاء هذه البلاهة والبلادة إلا أن يقول بقول الله (ولا يظلم ربك أحدا)( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكذبون ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) فإلى أولي الألباب(أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير) تأمل الهواء تجده آية من آيات الله الباهرة وقد حبسه الله بين السماء والأرض يدرك ولا يرى ، جعله الله ملكاً للجميع ولو أمكن الإنسان التسلط عليه لباعه واشتراه وتقاتل مع غيره عليه كما فعل في أكثر الأشياء التي سخرها المولى له وجعلها أمانة بين يديه ، والله بحكمته جعل الهواء يجري بين السماء والأرض ، الطير فيه محلقة سابحة كما تسبح حيوانات البحر في مائه ، ويضطرب عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر عند هيجانها يحركه الله بأمره فيجعله رياحاً رخاءً وبشرى بين يدي رحمته فبين مبشرات ولواقح وذاريات ومرسلات ويحركه فيجعله عذابا عاصفاً قاصفاً في البحر وعقيماً صرصراً في البر (وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون) تتوزع على سطح الأرض تحت نظام محكم فتلقح الأزهار والسحاب فتبارك من جعلها سائقة للسحاب تذروه إلى حيث الله شاء فهل تأملت يوماً من الأيام سحاباً مظلماً قد اجتمع في جوٍ صافٍ لا كدر فيه وهو لينٌ رخو حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض حتى إذا أذن له خالقه أرسل الريح تلقحه وتسوقه فينزل قطرة قطرة ، لا تختلط قطرة بأخرى ، ولا تدرك قطرة صاحبتها فتمتزج بها ، بل كل واحدة في طريق مرسوم لها حتى تصيب الأرض التي عينت لها لا تتعداها إلى غيرها ، لا قطرة إلا وينزل نحوها ملك إلى الآكام والقيعان ، هل تأملت ذلك؟ أحسب أنك تقول نعم ومعها لا إله إلا الله ، أإله مع الله؟ تعالى الله عما يشركون ، تأمل معي البحر بأمواجه وأحيائه تجده آية من آيات الله وعجائب مصنوعاته وكم لله من آية ثم أضف إلى علمك أن الماء في الأرض يملأ ثلاثة أرباع سطح الأرض فما الأرض بجبالها ومدنها وسهولها وأوديتها بالنسبة إلى الماء إلا كجزيرة صغيرة في بحر عظيم يعلوها الماء من كل جانب وطبعها العلو ولولا إمساك الرب ، سبحانه وبحمده له بقدرته ومشيئته لطفح على الأرض فأغرقها ودمرها وجعل عاليها سافلها ، فتبارك الله لا إله إلا هو رب العالمين ، ثم تأمل معي أخرى عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها ومضارها وألوانها تجد عجباً وقدرة قادر جل وعلا ، في البحار حيوانات كالجبال لا يقوم لها شيء ، وفيه من الحيوانات ما يرى من ظهورها فيظن من عظمها أنها جزيرة فينزل عليها الركاب ويشعلوا نارهم فتحس بالنار إذا أوقدت فتتحرك فَيُعْلَم أنه حيوان كما ذكر [ابن القيم] ذلك في مفتاح دار السعادة ثم قال بعد ذلك ابن القيم: وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله بل فيه أجناس لا يعهد لها نظير أصلا ، مع ما فيه أيضاً من اللآلئ والجواهر و المرجان فسبحان الخالق الرحيم الرحمن ، ثم انظر إلى السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخر عبابه ، بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها ، وإنما قائدها وسائقها الريح الذي سخره الله لإجرائها ، فإذا حبست عنها الريح ظلت راكدة على وجه الماء ، فذاك قول الله ( ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) نعم ، سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، لا بأمر غيره سبحانه وبحمده ، سخرها بأمره تجري ليست وفق رغبات النفوس الأمارة بالسوء ، ولا رغبات الجشعين من الأفراد والهيئات التي استعملت أساطيلها منذ أقدم العصور إلى يومك هذا لقهر الإنسان ونهب خيراته واحتقار آدميته ، فلك الحمد ربنا ، ولك الأمر من قبل ومن بعد ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، صنع الإنجليز باخرة عظيمة ، كانت كما يقولون فخر صناعاتهم ، ثم انطلقت في رحلة ترفيهية حاملة على متنها علية القوم ونخبة المجتمع كما يصفون أنفسهم ، وقد بلغ الفخر والاعتزاز ببناة السفينة درجة كبيرة من الصلف والغرور فسموها الباخرة التي لا تقهر ، بل سمع أحد أفراد طاقمها يتشدق فخراً أمام بعض كبار ركابها بما ترجمته : حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب ، جل الله وتعالى وتقدس لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ،يحيي ويميت ، فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي وفي خضم كبرياء صناعها وركابها تصطدم بجبل جليدي عائم فيفتح فيها فجوة بطول تسعين متراً ، وبعد ساعتين وربع تستقر الباخرة التي لا تقهر ـ كما زعموا ـ في قعر المحيط ومعها ألف وخمسمائة وأربع ركاب وحمولة بلغت ستة وأربعين ألف طن ، (فكلاً أخذنا بذنبه ، فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا) (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ، تأمل معي أخرى كيف مد الله البحار ، وخلطها ، وجعل مع ذلك بينه حاجزاً ومكاناً محفوظاً ، فلا تبغي محتويات بحرٍ على بحر ، ولا خصائص بحرٍ على آخر عندما يلتقيان ، (إن في ذلك لآياتٍ لأولي النهى) في <إيران> أنهار عندما تلتقي بمياه البحر ترجع مياهها عائدة إلى مجاريها التي جاءت منها ، ونهر<الأمازون> يجعل مياه المحيط الأطلسي عذبة لمئات الكيلو مترات من مصبه فيه فلا يختلط بمياه المحيط الأطلسي ، وتلتقي مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض فتبقى مياه البحر الأبيض أسفل لثقلها ولكثرة ملحها وتعلو مياه المحيط لخفتها ، وكل بمقدرة ، وكذلك لا تختلط مياه البحر الأسود بمياه البحر الأبيض عندما تلتقي بل تشكل مجريين متلاصقين فوق بعضهما البعض ، فمياه الأسود تجري في الأعلى نحو مياه البحر الأبيض لأنها أخف ، ومياه البحر الأبيض تجري في الأسفل لأنها أثقل فتجري نحو البحر الأسود ، فتبارك الذي (مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجورا لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون ) ، عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله ، كشف علماء البحار من النصف الثاني من القرن العشرين أن في البحار أمواجاً عاتية دهماء مظلمة حالكة ، إذا أخرج المرء يده لم يكد يراها فعلى عمق ستين متراً عن سطح البحر يصبح كل شيء مظلماً في البحار ، بمعنى أننا لا نستطيع رؤية الأشياء في أعماق
دعوة للتأمل
(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
الحمد لله، أصبحت له الوجوه ذليلة عَانِيَة، وحذرته النُّفوس مجدّة ومتوانية، ذمَّ الدنيا إذا هي حقيرة فانية، وشوَّق لجنة قطوفها دانية، وخوَّف صرعى الهوى أن يُسقوا من عين آنية، أحمده على تقويم شانيه، وأستعينه وأستعيذه من شر كل شان وشانية، وأحصِّن بتحقيق التوحيد إيمانيه، أحمده وهو العليم العالم بالسِّر والعلانية، فالسر عنده علانية.
فهو العليم أحاط علمًا بالذي *** في الكون من سر ومن إعلان
وهو العليم بما يوسوس عبده *** في نفسه من غير نطق لسان
بل يستوي في علمه الداني *** مع القاصي وذو الإصرار والإعلان
فهو العليم بما يكون غدًا وما *** قد كان والمعلوم في ذا الآن
وبكل شي لم يكن لو كان كيف *** يكون موجودًا لذي الأعيان
فهو السميع يرى ويسمع كل ما *** في الكون من سرٍ ومن إعلان
فلكل صوت منه سمع حاضر *** فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا *** يخفى عليه بعيدها والدَّاني
ويري دبيب النمل في غسق الدُّجى *** ويرى كذاك تقلُّب الأجفان
لهو البصير يرى دبيب النملة *** السوداء تحت الصَّخر والصَّوَّان
ويرى مجاري القوت في أعضائها *** ويرى نِيَاطَ عروقها بعيان
ويرى خيانات العيون بِلَحْظِها *** إي والذي برأ الورى وبَرَانِي
فهو الحميد فكل حمدٍ واقع *** أو كان مفروضًا على الأزمان
هو أهله سبحانه وبحمده *** كل المحامد وصف ذي الإحسان
فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوارحي ولساني
ولك المحامد ربنا حمًدا كما *** يرضيك لا يفنى على الأزمان
ملء السماوات العلا والأرض *** والموجود بعد ومنتهى الإمكان
مما تشاء وراء ذلك كله *** حمدًا بغير نهاية بزمان
وعلى رسولك أفضل الصلوات *** والتسليم منك وأكمل الرضوان
صلى الإله على النبي محمد *** ما ناح قُمْرِيٌ على الأغصان
وعلى جميع بناته ونسائه *** وعلى جميع الصَّحب والإخوان
وعلى صحابته جميعًا والأُلَى *** تبعوهم من بعد بالإحسان
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ)
أما بعد، أحبتي في الله، إنها دعوة، دعوة إلى التأمل، دعوة موجَّهة إلى القلوب الذاكرة، العابدة، الخاشعة، دعوة إلى من يتفكرون، ويسمعون، ويعقلون، ويؤمنون، ويفقهون، إلى أولي الألباب، إلى أولي الأبصار، إلى أولي الأحلام والنُّهَى، إلى من يتأملون، ويتدبرون فينتفعون، فلا عند حدود النظر المشهود للعيان يقفون، بل إلى قدرة القادر في خلقه ينظرون، ولسان حالهم ومقالهم: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإليه تُرْجَعُونَ) ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم وكذلك يفعلون. وهي كذلك دعوة إلى الغافلين، السَّاهين، اللاهين، المعْرِضين، إلى من لهم عيون بها لا يبصرون، وآذان بها لا يسمعون، وقلوب بها لا يفقهون. إلى من هم كالأنعام يأكلون ويشربون ويتمتعون ولم يحققوا معنى إلاّ ليعبدون. إلى من هاجموا التوحيد ولم يفهموه، وهاجموا الإسلام ولم يعرفوه، ونقدوا القرآن ولم يقرؤوه. إلى من يمرُّون على آيات الله وهم عنها معرضون، إليهم هذه الدعوة؛ علَّهم يستيقظون، ويفقهون، ويعقلون، فيقدرون الله حقَّ قدره، لا إله إلا هو فأنى يؤفكون. (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) إنها باختصار دعوة إلى العلم بالله علمًا يقود إلى خشيته ومحبته، فمن كان به أعلم كان له أخشى (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وهي أيضًا دعوى لتعبد الله بمقتضى ذلك العلم، في تمام خضوع وذل ومحبة من طريقين اثنين؛ الأول: التدبر في آيات الله الشرعية المتلوة في كتابه العزيز، والثاني: النظر في مخلوقات الله، وآياته الكونية المشهودة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) هي دعوة إلى التأمل في بديع صنع الله، وخلق الله، وبيان ما في هذا الكون من إبداع ينطق بعظمة الخالق جل وعلا، ووحدانيته في ربوبيَّته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته، كيف والكون كتاب مفتوح، يُقرأ بكل لغة، ويُدرك بكل وسيلة، يطالعه ساكن الخيمة، وساكن الكوخ، وساكن العمارة والقصر، كل يطالعه فيجد فيه زادًا من الحق إن أراد التطلع إلى الحق، إنه كتاب قائم مفتوح في كل زمان ومكان، تبصرة وذكرى لكل عبدٍ خضع وأناب، يأخذك كتاب الله إن تأمَّلته في جولات وجولات، ترتاد آفاق السماء، وتجول في جنبات الأرض والأحياء، يقف بك عند زهرات الحقول، ويصعد بك إلى مدارات الكواكب والنجوم، يفتح بصرك وبصيرتك إلى غاية إحكام وإتقان لا له مثيل، قد وضع كل شيء في موضع مناسب، وخُلِق بمقدار مناسب، يُرِيك عظمة الله، وقدرة الله، وتقديره في المخلوقات، ثم يكشف لك أسرار الخلق والتكوين، ويهديك إلى الحكمة من الخلق والتصوير، ثم يقرع الفؤاد بقوله: (أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) إن نظرت إليه بعين البصيرة طالعك بوحدانية الله في الربوبية مستدلا بها على وحدانيته في العبادة والألوهية، ذلَّت لعزة وجهه الثَّقلان. وفي نهاية الآيات، يقرع القلوب، ويطرق الآذان، ويصكُّ المشاعر والأحاسيس بذلك التعقيب الإلهي العظيم، لعلهم يذكَّرون، لعلهم يتفكرون، لعلهم يتَّقون، لعلهم يرجعون، كل هذا، وهناك من هم عنه معرضون، أم تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون. إنه حديث طويل، يطالعك في طوال السور وقصارها، لكنه مع ذلك شائق جميل، تسكن له النفس، ويتلذَّذ به السمع، وتتحرك له الأحاسيس والمشاعر، تستجيب له الفِطَر السليمة المستقيمة، ومع ذا ينبِّه الغافل، ويدمغ المجادل المكابر؛ إذ هو حق، والحق يسطع ويقطع.
والحق شمس والعيون نواظر *** لا يختفي إلا على العميان
والشرع والقرآن أكبر عُدَّة *** فهما لقطع لجاجهم سيفان
فتعالَ معي أخي لجولة أرجو ألا يستطيلها مَلُول، وألا يستكثرها مشغول، نرتاد فيها هذا الكون بسماواته وأرضه وأحيائه، متأملين، متدبِّرين (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحَزن إذا شئت سهلا.
تأمل في الوجود بعين فكر *** ترى الدنيا الدنيئة كالخيال
ومن فيها جميعًا سوف يفنى *** ويبقى وجه ربك ذو الجلال
تأمَّل واطعن برمح الحق كل معاندٍ *** واركب جواد العزم في الجولان
واجعل كتاب الله درعًا سابغًا *** والشرع سيفك وابْدُ في الميدان
السماء بغير عمدٍ ترونها من رفعها؟ بالكواكب من زيَّنها؟ الجبال من نصبها؟ الأرض من سطحها وذلَّلها وقال: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) الطبيب من أرداه، وقد كان يرجى بإذن ربه شفاه؟. المريض وقد يُئِس منه، من عافاه؟ الصحيح من بالمنايا رماه؟ البصير في الحفرة من أهواه؟ والأعمى في الزِّحام من يقود خُطَاه؟ الجنين في ظلماتٍ ثلاثٍ من يرعاه؟ الوليد من أبكاه؟ الثعبان من أحياه، والسُّم يملأ فاه؟! الشَّهد من حلاَّه؟ اللبن من بين فرث ودم من صفَّاه؟ الهواء تحسُّه الأيدي ولا تراه من أخفاه؟ النَّبت في الصحراء من أرْبَاه؟ البدر من أتمَّه وأسراه؟ النخل من شقَّ نواه؟ الجبل من أرساه؟ الصخر من فجَّر منه المياه؟ النهر من أجراه؟ البحر من أطغاه؟ الليل من حاك دُجَاه؟ الصُّبح من أسفره وصاغ ضحاه؟ النوم من جعله وفاة؟ واليقظة منه بعثًا وحياة؟!! العقل من منحه وأعطاه؟ النحل من هداه؟ الطير في جو السماء من أمسكه ورعاه؟ في أوكاره من غذَّاه ونمَّاه؟ الجبار من يقصمه؟ المظلوم من ينصره؟ المضطَّر من يجيبه؟ الملهوف من يغيثه؟ الضال من يهديه؟ الحيران من يرشده؟ العاري من يكسوه؟ الجائع من يشبعه؟ الكسير من يجبره؟ الفقير من يغنيه؟. أنت، أنت مَنْ خلقك؟ من صوَّرك؟ من شق سمعك وبصرك؟ من سوَّاك فعَدَلَك؟ من رزقك؟ من أطعمك؟ من آواك ونصرك؟ من جعل ملايين الكائنات ترتادُ وأنت لا تشعر فَمَك؟ ولو اختفت لاختلفت وظائف فمك. من هداك؟ إنه الله الذي أحسن كل شيء خلقه. لا إله إلا هو. أنت من آياته، والكون من آياته، والآفاق من آياته، تشهد بوحدانيته. إن تأملت ذلك عرفت حقًا كونه موحدًا خالقًا؟ وكونك عبدًا مخلوقًا، الكون كتاب مسطور ينطق تسبيحًا وتوحيدًا، وذراته تهتف تمجيدًا: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)
لله في الآفاق آيات لعل *** أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا *** حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك
قل للطبيب تخطَّفته يد الردى *** من يا طبيب بطبِّه أرْدَاك؟
قل للمريض نجا وعُوفيَ بعدما *** عجزت فنون الطب من عافاك؟
قل للصحيح يموت لا من علة *** من بالمنايا يا صحيح دهاك؟
قل للبصير وكان يحذر حفرة *** فهَوَى بها من ذا الذي أهواك؟
بل سائل الأعمى خَطَا بين الزحام *** بلا اصطدام من يقود خطاك؟
قل للجنين يعيش معزولا بلا *** راعٍ ومرعى ما الذي يرعاك؟
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء *** لدى الولادة ما الذي أبكاك؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّهُ *** فاسأله من ذا بالسموم حَشَاكَ؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان *** أو تحيى وهذا السمُّ يملأ فَاكَ؟
واسأل بطون النَّحل كيف تقاطرت *** شهدًا وقل للشهد من حلاَّك؟
بل سائل اللبن المُصَفَّى كان *** بين دم وفرث ما الذي صفَّاك؟
وإذا رأيت الحي يخرج من *** حَنَايا ميتٍ فاسأله من أحياك؟
قل للهواء تحثُّه الأيدي ويخفى *** عن عيون الناس من أخفاك؟
قل للنبات يجفُّ بعد تعهُّدٍ *** ورعاية من بالجفاف رَمَاك؟
وإذا رأيت النَّبت في الصحراء *** يربو وحده فاسأله من أَرْبَاكَ؟
وإذا رأيت البدر يسري ناشرًا *** أنواره فاسأله من أسْرَاك؟
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي *** أبعد كل شيء ما الذي أدناك؟
قل للمرير من الثمار من الذي *** بالمرِّ من دون الثمار غذاك؟
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى *** فاسأله من يا نخل شقَّ نواك؟
وإذا رأيت النار شبَّ لهيبها *** فاسأل لهيب النار من أوراك؟
وإذا ترى الجبل الأشَمَّ مناطحًا *** قِمَمَ السَّحاب فسَلْه من أرساك؟
وإذا ترى صخرًا تفجر بالمياه *** فسله من بالماء شقَّ صَفَاك؟
وإذا رأيت النهر بالعذب الزُّلال *** جرى فسَلْه من الذي أجراك؟
وإذا رأيت البحر بالملح الأُجاج *** طغى فسَلْه من الذي أطغاك؟
وإذا رأيت الليل يغشى داجيًا *** فاسأله من يا ليل حاك دُجاك؟
وإذا رأيت الصُّبح يسفر ضاحيًا *** فاسأله من يا صبح صاغ ضُحَاك؟
ستجيب ما في الكون من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
ربي لك الحمد العظيم لذاتك *** حمدًا وليس لواحد إلاَّك
يا مدرك الأبصار والأبصار *** لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكًا
إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين عُلاك
يا منبت الأزهار عاطرة الشَّذَى يا مجري الأنهار عاذبة الندى ما خاب يومًا من دعا ورَجَاك يا أيها الإنسان مهلا ما الذي بالله جل جلاله أغراك؟
أحبتي في الله، الله نصب لخلقه دلالات، وأوضح لهم آيات بيِّنات في الأنفس والأرضين والسماوات (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)
وتحسب أنك جِرْم صغير *** وفيك انطوى عالم أكبر
تأمل –أخي- مدى معرفة الناس بالجنين قبل حوالي ثلاثين عامًا، لقد كان كائنًا حيًا لا يُعْلَم عنه إلا حركاته التي يصدرها داخل بطن أمه، ومع تطور وسائل الملاحظة والمشاهدة، ووصولها إلى بطن الجسم الإنساني -وكل ذلك بإذن الله – كالتصوير والتسجيل الضوئي والصوتي، علم أن للجنين نفسية لا ينفصل فيها عن أمه تمامًا، فتراه في حالات انكماش واكتئاب مرة، وحالات انشراح وانبساط أخرى، بل يبدي الانزعاج لبعض مخالفات أمه؛ كالتدخين مثلًا، عافانا الله وإياكم والمسلمين عمومًا.
يطلب طبيب مجرب من أم حامل في شهرها السادس كانت تعتاد التدخين أن تمتنع عنه لمدة أربع وعشرين ساعة، وهو يتابع الجنين بأجهزة التصوير الضوئي، فإذا به ساكن هادئ، وبينما هو كذلك، إذ قدم لها الطبيب لفافة؛ لفافة سيجارة –عافانا الله وإياكم- وما أن وضعتها بين أصابعها، وتمَّ إشعالها إلا وأشار المقياس إلى اضطراب الجنين تبعًا لاضطراب قلب أمه. فسبحان من جعله في وسط ظلمات ثلاث، يتأذى مما تتأذى منه أمه تبعًا، وإن لم تشعر أمه بذلك. أمكنهم أن يروه مضطربًا حينما تقع أمه في أزمة انفعال حادة؛ كغضب وخجل، أو في تأثر جسدي كوقوع على الأرض، أو اصطدام بشيء تبعًا لتأثر أمه بذلك. ثم أمكن الأطباء أن يروه هادئًا عندما تنصت أمه لسماع ما تستريح إليه من قرآن وأناشيد وغيرها. وحينما تسمع صوت أبيه، فتنصت له، رأوه كالمنصت له تبعًا لأمه. أما بعد الولادة، في أسبوعه الأول وجدوه أنه يأنس ويتبسم لصوت أبيه دون سائر الأصوات، إنها أمور مذهلة ، بل آيات بيِّنة بالغة، دالَّة على عظمة الله -سبحانه وتعالى- وعلى أحقِّيَّته بالتَّفرُّد في العبادة لا شريك له. أيضًا رأوا أنه حين ترغب الأم في الحمل، ثم تحمل، تجدها ترسل إليه -بإذن الله- موجاتٍ من العواطف المكثَّفة، وتغمره بفيض زاخر من الرضا والحنان، فيبادلها الشعور مبتهجًا، وكأنه يشكرها على حسن لقائها ورعايتها. ويعبر عن امتنانه لها بحركات لطيفة ساحرة، لا حد لعذوبتها على قلب أمه، فسبحان الله، وتبارك الله أحسن الخالقين! وحين لا ترغب الأم في الحمل، ثم تحمل مكرهة، تقطع الصِّلة العاطفية مع الجنين، فتراه يحيا منكمشًا، ثم يبدأ يتَّجه نحو المشاكسة، ويعبر عن ذلك بركلات من قدميْه تعبر عن احتجاجه واستنكاره، ولربما يصبح إسقاطا فيما بعد، وإن لم يسقط فإنه يبدو مهيأ للعناد، والرفض، والعدوان بعد ولادته، ويظهر ذلك في أول أيام ولادته.
يذكر صاحب سنريهم آياتنا أن امرأة حملت مكرهة، وحاولت إسقاط الجنين، ولم تستطع؛ إذ قد ثبته الله، فجعله في قرار مكين؛ فأنَّى لأحدٍ أن يسقطه؟. ولدت بعد ذلك، وكان المولود أنثى، ولما وُلدت رفضت أن تتناول ثدي أمها، وأصرَّت أيامًا على هذا، ولكنها مع ذلك قبلت أن ترضع من مرضعة أخرى غير أمها، عندها أغمضت عيناها، وأعيدت إلى أمها معصوبة العينين، فرفضت ثديها مرة أخري وهي لم تره، فأجرى الطبيب حوارًا مع أمها، تبين أن الأم لم تكن راغبة في الحمل، فحملت على كُرْه، وحاولت الاعتداء عليه بإسقاطه، فانعكس ذلك على الجنين بعد ولادته، فسبحان الله رب العالمين! إنها أحاسيس ومشاعر وأفعال أمه، تنعكس عليه فحسب، وإلا فهو لا يعلم شيئًا بنص قول الله -جل وعلا-: (وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لا تعلمون شيئًا مما أخذ عليكم من الميثاق، ولا تعلمون شيئًا مما قضى به عليكم من السعادة والشقاوة، ولا تعلمون مصالحكم ومنافعكم؛ فهم يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعلمون، وبعد خروجهم يرزقهم الله السَّمع؛ فالأصوات يدركون، ويرزقهم البصر؛ فالمرئيات يعرفون ويحسون، ويرزقهم الأفئدة؛ فبها يميِّزون، وتحصل هذه الحواس بأمر الله تدريجيًا، كلما كبر زِيدَ في سمعه وبصره حتى يبلغ أشده ليتمكن بها من عبادة ربه وطاعة مولاه –سبحانه وبحمده-. طالعت أمهات هذه الحقائق فكن يَبُحثْن عمَّا يريح أحاسيسهنَّ ومشاعرهنَّ أثناء الحمل لينعكس على أبنائهن، ينشدن ويسمعن آيات من كتاب الله، ولذا جاء في نفس الكتاب الماضي: أن سيدة حاملة في <دمشق> كانت تكثر من قراءة القرآن وسماعه قائمة وعاملة ومضطجعة، والنتيجة أنه عندما وُلِد الجنين تمكن –بفضل الله- أن يختم القرآن؛ حفظًا وتلاوة في الخامسة من عمره، فتبارك الله أحسن الخالقين! موجز القول: أن الجنين الذي يحيا في رباط مع أمه، سعيد من العواطف المُفْعَمة بالرضا والسكينة، يستجيب -بإذن ربه- بعد ولادته، معترفًا بإحسان أمه إليه في سلوك سَويٍّ ونفسية هادئة غالبًا، لسان حاله: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) فيا أيها العبد العاصي، ألك قَدْر إن فارقت صراط الله ودربه؟ (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَه) تحتَجُّ على مولاك وقد هداك، وتحيد عن الطريق وقد دلَّك وأرشدك؟ بئس العبد عبد سها ولهى ونسيَ المبدأ والمنتهى. بئس العبد عبد طغى وعَتَا ونسي الجبار الأعلى. السماء تستأذن ربها أن تَحْصدَه، والأرض أن تخسف به، والبحر أن يغرقه، من أنت؟ وما تكون الأرض وما عليها؟ ثق أنك سقطت من عين الله، ولو كان لك قدرٌ عند الله لعصمك من المعاصي.
يا أيها الماء المهين من الذي سوَّاك *** ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاك
ومن الذي غذَّاك من نَعْمَائِه *** ومن الكروب جميعها نجَّاك؟
ومن الذي شقَّ العيون فأبصرت *** ومن الذي بالعقل قد حلاَّك؟
ومن الذي تعصي ويغفر دائمًا *** ومن الذي تنسى ولا ينساك
(أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) النوم، ما النوم ؟ هل تأملته يومًا من الأيام؟ أنت تعرفه وتمارسه كل يوم، بل إن نصف عمرك أو أقل يذهب فيه، ضرورة لا غنى عنها، بل إن حياتك مؤلفة من قسمين اثنين لا ثالث لهما، من يقظة تبتغي فيها فضل الله، وِفْقَ شرع الله، ونوم تبتغي فيه الراحة لتعاود العمل في طاعة الله، الليل لِبَاس، والنهار مَعَاش (وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) النوم آية، بل إنه وفاة وموت؛ بنص قول الله: (اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) والله -جل وعلا- لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه،" حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" كما في صحيح [مسلم].
حي وقيوم فلا ينام *** وجلَّ أن يشبه الأنام
لا تأخذه سنه ولا نوم، لا إله إلاّ هو. هل تأملت ما يجري لإنسان حين ينام وينسلخ من وعيه فيرفع عنه القلم كيف يتسرب إليه النوم، ثم يستولي عليه؟ كيف يأتيه، أو كيف يأتي هو إلى النوم؟ إن أدنى درجات النوم -كما تعلمون- نعاس يصحبه تثاؤب، ثم تزنيق وتغفيق، سمع بلا فهم، ثم في درجة أخرى يأتي الوَسَن؛ وهو أول النوم، ثم في درجة ثالثة يأتي التهويم مع الغِرَار والإغفاء، ثم السِّنَة، ثم السهاد، ثم الكرى، ثم السُّبات، ثم الرُّقاد، ثم الغطيط المتميز بالشَّخير والنَّخِير؛ وهو أعلى وأثقل درجات النَّوم. في النوم تتعطل وظائف الحس إجمالا، يتوقف البصر –أولا- بإغماض الجفون حتى لو لم تغمض العينان، كما هي عند بعض الناس، فتبقى الجفون مفتوحة، لكن الرؤية مفقودة، كذلك الموت، والنوم وفاة. الحاسة التي تبقى تعمل خلال النوم هي السمع، وقد حدَّد العلماء والباحثون استمرار السمع خلال النوم بمقدار الثلثين على تفاوت بين الناس في السمع. فما أجمل الإعجاز في كتاب الله يوم يقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) فجمع بين النوم والسمع في سياق واحد، كما قال في سورة الكهف أيضًا: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) وتحقيقًا لاستقرار النوم وعدم اضطرابه عندهم أوقف الله- تعالى- السَّمع عنهم. (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) أما الدِّماغ أثناء النوم فلا ينام بالمعني المفهوم، لكنه يتغير فبعد أن كان يبث على موجات عالية يصبح على موجات أقل ترددًا، ولذا رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ؛ لأن العقل مناط التكليف كما هو معلوم . هل تأملت نائميْن متجاوريْن، ودار بِخَلَدِك أنَّ أحدهما ربما ينعم بالرؤى الصالحة بودِّه ألا يستيقظ الدهر كله مما يجد من لذة، والآخر يجاوره في شقاء يُعذَّب بالأحلام الشيطانية المزعجة، بودِّه لو لم يَنَم، ثم ساءلت نفسك، هل يعلم هذا عن مجاوره، أو ذاك عن هذا؟ أو أنت تعلم ما يدور بذهنهما. ألم يَدُر بخلدك وأنت تستعرض هذا في ذهنك أن تنتقل من هذه الصورة مباشرة إلى المقابر، فتتخيل الموتى صنوفًا بجانب بعضهم، هذا يُنعَّم، وذاك يُعذَّب (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ)
يا رب إنك ذو عفوٍ ومغفرة *** فنجِّنا من عذاب القبر والنَّكَدِ
واجعل إلى جنة الفردوس موئلنا *** مع النبيين والأبرار في الخُلْد
هل تأمَّلت قيام النائم من فراشه، وتجوله في الدار، ثم عودته إلى الفراش، وهو ما يزال في نومه؟! يذكر صاحب كتاب النوم والأرق: أن شخصًا نهض من فراشه نائمًا، وخرج من النافذة، ومشى على كورنيش العمارة من الخارج، وتجمع الناس في الشارع يحبسون أنفاسهم خشية وقوعه، وظل يمشى على الكورنيش مغمض العينين حتى دار حول العمارة، ثم عاد إلى النافذة ودخل منها ليعود إلى سريره، فيواصل نومه، ولما استيقظ لم يذكر شيئًا مما حدث له. لقد كان يتحرك وهو نائم بل يمشى على ارتفاعات شاهقة مُغمَض العينين لو كان في صحوة ما استطاع ذلك ثم يعود إلى فراشه. من الذي قاد خطاه؟! إن في هذا لدلالة قاطعة على وحدانية الله الواحد القهار؛ فإنما نفوس العباد بيده في الحياة والموت والنوم والانتباه هو الإله المتصرف فيهم جميعًا؛ فلا يسوغ لهم أن يتجهوا إلى غيره بأي حال من أحوالهم (أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ) (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) آيات باهرات لا حدَّ لها ولا عدّ، كلها حق وصدق، تستحق الذكر والشكر باللسان والجنان والأركان، وقليل من العباد الشكور.
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة *** أعلى من الشكر عند الله في الثمن
إذًا منحتكها ربي مهذبة *** شكرًا على صنع ما أوليت من حسن
اللهم لك الحمد أولا وآخر، وظاهرًا وباطنًا. إنها آيات في الأنفس تنطق بحكمة الخالق وعظمته، هل استعظمتم هذا؟ هل استكبرتم هذا؟ إن هناك مَا هو أعظم وأكبر(لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) تأمل السماء ثم ارجع البصر إليها أخرى، انظر فيها وفي كواكبها، دورانها، وطلوعها، وغروبها، واختلاف ألوانها وكثرتها، وشمسها وقمرها، باختلاف مشارقها ومغاربها، حركتها من غير فتور ولا تغير في سيرها، تجري في منازل قد رتِّبت لها بحساب مُقدَّر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها فاطرها. تأمل تجد أنه ما من كوكب إلا ولله من خَلْقِه حِكْمَة، في مقداره، في شكله، في لونه، في موضعه في السماء، في قربه من وسطها وبُعْدِه، في قربه من الكواكب التي تليه وبعده، على صفحة سماوات ترونها أُمْسِكت مع عِظَمِها وَعِظَم ما فيها، فثبتت بلا علائق من فوقها، ولا عُمُدٍ من تحتها. (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) والإنسان العاقل أمام بديع صنع الله في سماواته يتوقف طويلا أمام أصغر جسم، وأعظم جسم، يرى فيها فتثبت له أدلة الإيمان، بعظمة الخالق في ملكوته، فما يملك إلا أن تخشع جوارحه، وتخضع، وتذل، وتستجيب، فتَقْدُر الله حقَّ قَدْرِه، وتفرده بالعبادة وحده لا شريك له.
فسبحان الله لا يَقْدُر الخَلْقَ قَدْرِه *** ومن هو فوق العرش فردٌ موحَّد
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) نظر أحد علماء الفلك الكفار إلى السماء من خلال منظار بَنَاه بنفسه، فرأى ما أذهله في هذا الكون، فقال: إن الإنسانية لن تنتهي من سَبْر أغوار الكون، ولن تعرف من الكون إلا مقدار ما نعرفه من نقطة ماء في محيط عظيم. فهل آمن مع ذلك وصدَّق؟ لا، وصدق الله (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) وقال آخر أيضًا: إن وضع الأجرام السماوية ليس مجرد مصادفة وعشوائية، بل هي موضوعة في الفضاء بدقَّة وإتقان؛ إذ أن القمر لو اقترب من الأرض بمقدار ربع المسافة التي تفصلنا عنه لأغرق مدّ البحر الأرض كلها، وما علاقة القمر بالبحر؟! الله يعلمها الذي قال وصدق: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ولا يزال علماء الفلك يكتشفون من خلال تجاربهم ومراصدهم ومناظيرهم كل يوم ما يشْدَهُ ويدهش العقول في هذا الكون الفسيح، حتى قال مكتشف الجاذبية معبرًا عن اكتشافه وضآلة ما اكتشفه بجانب ذلك الخلق العظيم، يقول: لست أدري كيف أبدو في نظر العالم، ولكني في نظر نفسي، وأنا أبحث في هذا الكون أبدو كما لو كنت غلامًا يلعب على شاطئ البحر، ويلهو بين حين وآخر بالعثور على حَجَر أملس، أو محارة بالغة الجمال، في الوقت الذي يمتد فيه محيط الحقيقة أمامي دون أن يسبر أحد غوره، نعم (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا) لقد رأى البروج الصغيرة وهي تتألف من عشرة ملايين نجم قد عُرِف منها ما عُرِف، ورأى العملاقة وقد وصل عدد نجومها المعروفة لنا إلى عشرة آلاف مليار نجم يرتبط بعضها ببعض في غاية دقة وإحكام.
الله أحكم خلق ذلك كله *** صنعًا وأتقن أيما إتقان
نعم، لقد رأى مجموعة النظام الشمسي، وقد تألَّفت من مائة مليار نجم، قد عُرِف وعرف منها الشمس، وتبدو هذه المجموعة كقرص قطره تسعون ألف سنة ضوئية، وسمكه خمسة آلاف سنة ضوئية، ومع هذا البعد الشاسع فإن ضوء الشمس يصلنا في لحظات، وكذلك نور القمر. بل قد رأى هناك مجموعات تكبرها بعشرات المرات، أحصى منها مائة مليار مجموعة تجري، كلها في نظام دقيق بسرعة هائلة، كل في مساره الخاص دون اصطدام، كل يجري لأجل (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا) هذا الذي رآه، وما لم يره أكثر، فقد قال الله -عز وجل-: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ)
ويقول أحد كبار علماء الفلك – وهو يهودي –: أريد أن أعرف كيف خلق الله الكون، أريد أن أعرف أفكاره. الله بارع حاذق ليس بشرِّير، الله لا يلعب بالنرد مع الكون، تعالى الله، وجلَّ الله (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنكِرُونَ) كيف لو اطَّلع على ما جاء في القرآن، لربما كان من المؤمنين حقًا. نعم، الله لا يلعب مع الكون، عز وجل، وتبارك وتعالى وتقدس هو القائل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أحبتي في الله؛ ما الأرض بالنسبة للكون إلا كحبة رمل في صحراء الربع الخالي تسير في مسار حول الشمس دون أن يصطدم بها ملايين النجوم، والكواكب المنتشرة في الكون. أما إننا لو علمنا ذلك يقينًا لاعترانا رهبة وخشوع يقود إلى امتثال لأمر الله في غاية حب وذل، وعندها نزكو ونفلح، يوم يفلح مَن نفسَه زكَّاها. إن السماء وتناثر الكواكب فيها أجمل مشهد تقع عليه العين، ولا تمل طول النظر إليه أبدًا، ولهذا أخي المسلم فإني أدعوك إلى أن تطلع على شيء من علم الفلك، ثم اخلُ بنفسك بضع دقائق في ليل صفا أَدِيمه، وغاب قمره، ثم تأمل عالم النجوم ، واعلم أن ما تراه ما هو إلا جزء يسير من مائة مليار مجموعة قد عرفت، وكثير منها لم يعرف، كل منها في مسارها يسير، لا يختلط بغيره. وأنت تتأمل انقل تفكيرك إلى ما بثَّه الله في السماوات من ملائكة لا يحصيهم إلا هو، فما من موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم لله؛ راكع أو ساجد، يطوف منهم بالبيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألفًا لا يعودون إليه إلى قيام الساعة. "أطَّت السماء وحقَّ لها أن تئط" كما جاء في الصحيح. ثم انقل نفسك أخرى وتجاوز تفكيرك إلى بصيرة يسير قلبك بها إلى عرش الرحمن، وقد علمت بالنقل سعته وعظمته ورفعته، عندها تعلم أن السماوات بملائكتها، ونجومها، ومجرَّاتها، ومجموعاتها، والأرضين بجبالها، وبحارها، وما بينهما بالنسبة للعرش كحلقة مُلْقاة بأرض فلاة. فلا إله إلا الله! وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير
الملائكة حفت من حول العرش، يسبحون، ويحمدون، ويقدسون، ويكبرون، والأمر يتنزل من الله بتدبير الممالك التي لا يعلمها إلا الله. يتنزل الأمر بإحياء قوم، وإماتة آخرين، وإعزاز قومٍ، وإذلال قوم، وإنشاء مُلْك، وسلب ملك، وتحويل نِعَم، وقضاء حاجات، من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضُر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، وردّ آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، وإغاثة ملهوف، وإعانة عاجز، وانتقام من ظالم، وكف عدوان من معتدٍ. مراسيم تدور بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ أقطار العالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تُغلطه كثرة المسائل والحوائج على تباينها واتحاد وقتها، لا يتبرم من إلحاح الملحِّين، لا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو! ذلكم الله ربكم، فتبارك الله رب العالمين. عندها حق للقلب والجوارح أن تسجد مطرقة لهيبته، عانية لعزَّته، سجدة لا يرفع الرأس منها إلى يوم المزيد، يلْهَج صاحبها مرددًا (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارَ) هل تأملت اختلاف الألسنة واللغات وتباينها من عربية وعجمية؛ كرومية وفارسية وتركية، وغيرها من اللغات، لا لغة تشبه لغة، ولا صوت يشبه صوتًا إِنَّ في ذلك لآَية ثم هل تأملت اختلاف الألوان من بيض وسود، وحمر وصفر وخضر، لا لون يشبه لونًا، حتى صار كل واحدٍ متميزًا بينكم لا يلتبس هذا بذاك. بل في كل فرد ما يميزه عن غيره، مع أن الجميع أولاد رجل واحد، وامرأة واحدة؛ آدم وحواء –عليهما السلام-. إن في هذا من بديع قدرة الله ما يستحق أن يفرد معه بالعبودية، وما يعقله إلا العَالِمُون، ولا يفهمه إلا المتفكرون. (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ) تأمل تعاقب الليل والنهار بصورة معتدلة، وتفاوت الليل عن النهار، وكلا عن مثله، فلا ليل يشبه ليلا، ولا نهار يشبه نهارًا مذ خلق الله الخلق وحتى قيام الساعة، إن ذلك من أعجب وأبدع آيات الله الدالة على ربوبيته وألوهيته وحكمته (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْل وَالنَّهَار) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) إن تعاقب الليل والنهار نعمة عظيمة؛ إذ هي تنظم وجود الأحياء على الأرض، من نمو النبات، وتفتُّحُ الأزهار، ونضج الثِّمار، وهجرة الطيور والأسماك والحشرات، ومن شاء فليتصور ليلا بلا نهار، أو نهارًا بلا ليل، كيف تكون الحياة؟ (قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ) أما إنها لو سكنت حركة الشمس لغرق نصف الأرض في ليل سرمدي، وغرق نصفها الآخر في نهار سرمدي، وتعطلت مع ذلك مصالح ومنافع، ومن عاش في المناطق القطبية بعض الوقت عرف نعمة تعاقب الليل والنهار؛ إذ يبقى النهار لمدة ستة أشهر، والليل كذلك. (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يقول رائد الفضاء السوفيتي الملحد عندما أصبح حول الأرض، ونظر من كُوَّة مركبته فرأى بديع خلق الله في السماوات والأرض، فقال: ماذا أرى؟! أنا في حلم أم سُحِرَت عيناي، ثم يقول: في الفضاء يحل الليل بصورة مفاجئة، وبسرعة تقطع الأنفاس، وتعمي العيون بلا تدرج كما هو الحال على الأرض، وليل الفضاء الخارجي من أشد الأشياء السوداء التي رأيتها في حياتي، يقول: ثم تظهر الشمس فجأة، وتلمع كأنها ضوء صاعقة مبدّدة خلال ثوانٍ في وسط الليل الحالك، فلا تدرج في الفضاء، بل ثوان وأنت في ليل مظلم في أَحْلَك الظلمات، وثوان أخرى وأنت في نهار ساطع النور وهاج يبدد الظلمات. فيا لها من نعمة، نعمة الشروق والغروب، والليل والنهار، التي أقسم الله –عز وجل- بها في عدة آيات فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) وقال: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) ولك أن تتأمل أخرى، في قائل هذه الكلمات الشيوعي الملحد؛ فالبرَّغم من بديع ما رأى خلال دورانه حول الأرض إلاّ أنه لم يَرِد على لسانه سوى الإعجاب بما صنعه الإنسان، والذُّهول أمام عظمة الكون، ثم السكوت المطلق عن خالق الكون ومبدعه، واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له، فسبحان الله! (ومَن يُّضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) تأمل كيف جعل الله الليل سكنًا ولباسًا؟ يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي إلى بيوتها الحيوانات، وإلى أوكارها الطير والحشرات، تستجمُّ فيه النفوس، ومن كَدِّ السعي والنَّصَب فيه تستريح، حتى إذا أخذت النفوس راحتها وَسُبَاتها وتطلَّعت إلى معاشها جاء فالق الإصباح –سبحانه- بالنهار يقدُمه بشير الصباح، فيهزم الظُلْمَة ويمزِّقها كل مُمَزَّق، ويكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون. فينتشر الحيوان، وتخرج الطير من أوْكارِها لتطلب معاشها ومصالحها. فيا له من معادٍ ونشأة دالة على قدرة الله على المعاد الأكبر. (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) ويا سبحان الله كيف يُعْمِي عن هذه الآيات البينة من شاء من خلقه فلا يهتدي بها، ولا يبصرها؛ كمن هو واقف في الماء إلى حَلْقِه وهو يستغيث من شدة العطش وينكر وجود الماء. يهدي الله من يشاء، ويضل من يشاء، يحكم لا معقِّب لحكمه، لا إله إلا هو، له الحكم وإليه ترجعون. ثم تأمل هذه الأرض بينما هي هادئة ساكنة وادعة؛ مهاد وفراش، قرار وذلول، خاشعة، إذا بها تهتز، تتحرك، تثور، تتفجر، تدمّر، تبتلع، تتصدع، زلازل، خَسْف، براكين، تجدها آية من آيات الله، وكم لله من آية يخوف الله بها عباده لعلَّهم يرجعون!، وهي مع ذلك جزاء لمن حقَّ عليه القول. وهي –أيضًا- تذكير بأهوال الفزع الأكبر، يوم يُبعثون ويُحشرون، وعندها لا ينفع مال ولا بنون. يذكر صاحب علوم الأرض القرآنية أنه قبل حوالي خمسة قرون ضرب زلزال شمال الصين عشر ثوان فقط، هلك بسببه أربعمائة ألف وثلاثون ألف ألف شخص، وقبل ثلاثة قرون ضرب زلزال مدينة <لشبونة> في <البرتغال> لعدة ثوان، هلك فيه ستمائة ألف، وشعر الناس برعب وهَلَع وجزع إثر ارتجاج الأرض تحت أقدامهم على مساحة ملايين الأميال، فنعوذ بالله أن نُغْتَال من تحتنا.
وانفجرت جزيرة <كاراكات> في المحيط الهندي قبل قرن، فسُمِع الانفجار إلى مسافة خمسة آلاف كيلو متر، وسجلته آلات الرصد في العالم، وتحولت معه في ثوان جزيرة حجمها عشرون كيلو مترًا مربعًا إلى قطع نثرها الانفجار على مساحة مليون كيلو متر مربع، وارتفعت أعمدة الدخان والرَّماد إلى خمسة وثلاثين كيلو متر في الفضاء، وأظلمت السماء على مساحة مئات الكيلو مترات حاجبة نور الشمس لمدة سنتين، وارتفعت أمواج البحر إلى علوّ ثلاثين مترًا، فأغرقت ستة وثلاثين ألف نسمة من سكان <جاوا> و <سمطرا> (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو) (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)
(قتل الإنسان ما أكفره) يسمع ويرى آيات الله من زلازل وبراكين وأعاصير وأوبئة تحصد الآلاف في ثوانٍ فلا يتأمل ولا يتدبر ولا يرعوي ولا يقدر الله حق قدره بل يعيد ذلك أحياناً إلى الطبيعة في بلادة وبلاهة لا مثيل لها (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) لا يملك المسلم إزاء هذه البلاهة والبلادة إلا أن يقول بقول الله (ولا يظلم ربك أحدا)( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكذبون ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) فإلى أولي الألباب(أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير) تأمل الهواء تجده آية من آيات الله الباهرة وقد حبسه الله بين السماء والأرض يدرك ولا يرى ، جعله الله ملكاً للجميع ولو أمكن الإنسان التسلط عليه لباعه واشتراه وتقاتل مع غيره عليه كما فعل في أكثر الأشياء التي سخرها المولى له وجعلها أمانة بين يديه ، والله بحكمته جعل الهواء يجري بين السماء والأرض ، الطير فيه محلقة سابحة كما تسبح حيوانات البحر في مائه ، ويضطرب عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر عند هيجانها يحركه الله بأمره فيجعله رياحاً رخاءً وبشرى بين يدي رحمته فبين مبشرات ولواقح وذاريات ومرسلات ويحركه فيجعله عذابا عاصفاً قاصفاً في البحر وعقيماً صرصراً في البر (وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون) تتوزع على سطح الأرض تحت نظام محكم فتلقح الأزهار والسحاب فتبارك من جعلها سائقة للسحاب تذروه إلى حيث الله شاء فهل تأملت يوماً من الأيام سحاباً مظلماً قد اجتمع في جوٍ صافٍ لا كدر فيه وهو لينٌ رخو حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض حتى إذا أذن له خالقه أرسل الريح تلقحه وتسوقه فينزل قطرة قطرة ، لا تختلط قطرة بأخرى ، ولا تدرك قطرة صاحبتها فتمتزج بها ، بل كل واحدة في طريق مرسوم لها حتى تصيب الأرض التي عينت لها لا تتعداها إلى غيرها ، لا قطرة إلا وينزل نحوها ملك إلى الآكام والقيعان ، هل تأملت ذلك؟ أحسب أنك تقول نعم ومعها لا إله إلا الله ، أإله مع الله؟ تعالى الله عما يشركون ، تأمل معي البحر بأمواجه وأحيائه تجده آية من آيات الله وعجائب مصنوعاته وكم لله من آية ثم أضف إلى علمك أن الماء في الأرض يملأ ثلاثة أرباع سطح الأرض فما الأرض بجبالها ومدنها وسهولها وأوديتها بالنسبة إلى الماء إلا كجزيرة صغيرة في بحر عظيم يعلوها الماء من كل جانب وطبعها العلو ولولا إمساك الرب ، سبحانه وبحمده له بقدرته ومشيئته لطفح على الأرض فأغرقها ودمرها وجعل عاليها سافلها ، فتبارك الله لا إله إلا هو رب العالمين ، ثم تأمل معي أخرى عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها ومضارها وألوانها تجد عجباً وقدرة قادر جل وعلا ، في البحار حيوانات كالجبال لا يقوم لها شيء ، وفيه من الحيوانات ما يرى من ظهورها فيظن من عظمها أنها جزيرة فينزل عليها الركاب ويشعلوا نارهم فتحس بالنار إذا أوقدت فتتحرك فَيُعْلَم أنه حيوان كما ذكر [ابن القيم] ذلك في مفتاح دار السعادة ثم قال بعد ذلك ابن القيم: وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله بل فيه أجناس لا يعهد لها نظير أصلا ، مع ما فيه أيضاً من اللآلئ والجواهر و المرجان فسبحان الخالق الرحيم الرحمن ، ثم انظر إلى السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخر عبابه ، بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها ، وإنما قائدها وسائقها الريح الذي سخره الله لإجرائها ، فإذا حبست عنها الريح ظلت راكدة على وجه الماء ، فذاك قول الله ( ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) نعم ، سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، لا بأمر غيره سبحانه وبحمده ، سخرها بأمره تجري ليست وفق رغبات النفوس الأمارة بالسوء ، ولا رغبات الجشعين من الأفراد والهيئات التي استعملت أساطيلها منذ أقدم العصور إلى يومك هذا لقهر الإنسان ونهب خيراته واحتقار آدميته ، فلك الحمد ربنا ، ولك الأمر من قبل ومن بعد ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، صنع الإنجليز باخرة عظيمة ، كانت كما يقولون فخر صناعاتهم ، ثم انطلقت في رحلة ترفيهية حاملة على متنها علية القوم ونخبة المجتمع كما يصفون أنفسهم ، وقد بلغ الفخر والاعتزاز ببناة السفينة درجة كبيرة من الصلف والغرور فسموها الباخرة التي لا تقهر ، بل سمع أحد أفراد طاقمها يتشدق فخراً أمام بعض كبار ركابها بما ترجمته : حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب ، جل الله وتعالى وتقدس لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ،يحيي ويميت ، فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي وفي خضم كبرياء صناعها وركابها تصطدم بجبل جليدي عائم فيفتح فيها فجوة بطول تسعين متراً ، وبعد ساعتين وربع تستقر الباخرة التي لا تقهر ـ كما زعموا ـ في قعر المحيط ومعها ألف وخمسمائة وأربع ركاب وحمولة بلغت ستة وأربعين ألف طن ، (فكلاً أخذنا بذنبه ، فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا) (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ، تأمل معي أخرى كيف مد الله البحار ، وخلطها ، وجعل مع ذلك بينه حاجزاً ومكاناً محفوظاً ، فلا تبغي محتويات بحرٍ على بحر ، ولا خصائص بحرٍ على آخر عندما يلتقيان ، (إن في ذلك لآياتٍ لأولي النهى) في <إيران> أنهار عندما تلتقي بمياه البحر ترجع مياهها عائدة إلى مجاريها التي جاءت منها ، ونهر<الأمازون> يجعل مياه المحيط الأطلسي عذبة لمئات الكيلو مترات من مصبه فيه فلا يختلط بمياه المحيط الأطلسي ، وتلتقي مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض فتبقى مياه البحر الأبيض أسفل لثقلها ولكثرة ملحها وتعلو مياه المحيط لخفتها ، وكل بمقدرة ، وكذلك لا تختلط مياه البحر الأسود بمياه البحر الأبيض عندما تلتقي بل تشكل مجريين متلاصقين فوق بعضهما البعض ، فمياه الأسود تجري في الأعلى نحو مياه البحر الأبيض لأنها أخف ، ومياه البحر الأبيض تجري في الأسفل لأنها أثقل فتجري نحو البحر الأسود ، فتبارك الذي (مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجورا لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون ) ، عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله ، كشف علماء البحار من النصف الثاني من القرن العشرين أن في البحار أمواجاً عاتية دهماء مظلمة حالكة ، إذا أخرج المرء يده لم يكد يراها فعلى عمق ستين متراً عن سطح البحر يصبح كل شيء مظلماً في البحار ، بمعنى أننا لا نستطيع رؤية الأشياء في أعماق
مواضيع مماثلة
» دعوة للتأمل
» دعوة للتأمل
» دعوة للتأمل .. سبحانه ربي خالق الاكوان
» كن سعيدا دعوة للفرح 2
» كن سعيدا دعوة للفرح 1 عائض القرنى
» دعوة للتأمل
» دعوة للتأمل .. سبحانه ربي خالق الاكوان
» كن سعيدا دعوة للفرح 2
» كن سعيدا دعوة للفرح 1 عائض القرنى
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى