منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة ابراهيم ايه 31 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة ابراهيم ايه 31 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة ابراهيم ايه 31 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الثلاثاء مايو 15, 2012 10:54 pm

من الاية 31 الى الاية 33

قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ (31) اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)


ودعهم وانصرف عنهم إلى (عبادي الذين آمنوا). انصرف عنهم إلى موعظة الذين تجدي فيهم الموعظة . الذين يتقبلون نعمة الله ولا يردونها , ولا يستبدلون بها الكفر . انصرف إليهم تعلمهم كيف يشكرون النعمة بالعبادة والطاعة والبر بعباد الله:

(قل لعبادي الذين آمنوا:يقيموا الصلاة , وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية , من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال). .

قل لعبادي الذين آمنوا:يشكروا ربهم بإقامة الصلاة . فالصلاة أخص مظاهر الشكر لله . وينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الرزق سرا وعلانية . سرا حيث تصان كرامة الآخذين ومروءة المعطين , فلا يكون الإنفاق تفاخرا وتظاهرا ومباهاة . وعلانية حيث تعلن الطاعة بالإنفاق وتؤدى الفريضة , وتكون القدوة الطيبة في المجتمع . وهذا وذلك متروك لحساسية الضمير المؤمن وتقديره للأحوال .

قل لهم:ينفقوا ليربو رصيدهم المدخر من قبل أن يأتي يوم لا تنمو فيه الأموال بتجارة , ولا تنفع كذلك فيه صداقة ; إنما ينفع المدخر من الأعمال:

(من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال). .

الدرس الثاني:32 - 34 من نعم الله على الناس

وهنا يفتح كتاب الكون على مصراعيه فتنطق سطوره الهائلة بنعم الله التي لا تحصى . وتتوالى صفحاته الضخمة الفسيحة بألوان هذه النعم على مد البصر:السماوات والأرض . الشمس والقمر . الليل والنهار . الماء النازل من السماء والثمار النابتة من الأرض . البحر تجري فيه الفلك , والأنهار تجري بالأرزاق . . هذه الصفحات الكونية المعروضة على الأنظار , ولكن البشر في جاهليتهم لا ينظرون ولا يقرأون ولا يتدبرون ولا يشكرون:إن الإنسان لظلوم كفار . يبدل نعمة الله كفرا , ويجعل لله أندادا , وهو الخالق الرازق المسخر الكون كله لهذا الإنسان:

(الله الذي خلق السماوات والأرض , وأنزل من السماء ماء , فأخرج به من الثمرات رزقا لكم , وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره , وسخر لكم الأنهار . وسخر لكم الشمس والقمر دائبين , وسخر لكم الليل والنهار . وآتاكم من كل ما سألتموه , وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها , إن الإنسان لظلوم كفار). .

إنها حملة . إنها سياط تلذع الوجدان . . حملة أدواتها الهائلة السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبحار والأنهار والأمطار والثمار . . وسياط ذات إيقاع , وذات رنين , وذات لذع لهذا الإنسان الظلوم الكفار !

إن من معجزات هذا الكتاب أنه يربط كل مشاهد الكون وكل خلجات النفس إلى عقيدة التوحيد . ويحول كل ومضة في صفحة الكون أو في ضمير الإنسان إلى دليل أو إيحاء . . وهكذا يستحيل الكون بكل ما فيه وبكل من فيه معرضا لآيات الله , تبدع فيه يد القدرة , وتتجلى آثارها في كل مشهد فيه ومنظر , وفي كل صورة فيه وظل . . إنه لا يعرض قضية الألوهية والعبودية في جدل ذهني ولا في لاهوت تجريدي ولا في فلسفة "ميتافيزيقية " ذلك العرض الميت الجاف الذي لا يمس القلب البشري ولا يؤثر فيه ولا يوحي إليه . . إنما هو يعرض هذه القضية في مجال المؤثرات والموحيات الواقعية من مشاهد الكون , ومجالي الخلق , ولمسات الفطرة , وبديهيات الإدراك . في جمال وروعة واتساق .

والمشهد الهائل الحافل المعروض هنا لأيادي الله وآلائه , تسير فيه خطوط الريشة المبدعة وفق اتجاه الآلاء
من الاية 34 الى الاية 34

وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

بالقياس إلى الإنسان:خط السماوات والأرض . يتبعه خط الماء النازل من السماء والثمرات النابتة من الأرض بهذا الماء . فخط البحر تجري فيه الفلك والأنهار تجري بالأرزاق . . ثم تعود الريشة إلى لوحة السماء بخط جديد . خط الشمس والقمر . فخط آخر في لوحة الأرض متصل بالشمس والقمر:خط الليل والنهار . . ثم الخط الشامل الأخير الذي يلون الصفحة كلها ويظللها:

(وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). .

إنه الإعجاز الذي تتناسق فيه كل لمسة وكل خط وكل لون وكل ظل . في مشهد الكون ومعرض الآلاء .

أفكل هذا مسخر للإنسان ? أفكل هذا الكون الهائل مسخر لذلك المخلوق الصغير ? السماوات ينزل منها الماء , والأرض تتلقاه , والثمرات تخرج من بينهما . والبحر تجري فيه الفلك بأمر الله مسخرة . والأنهار تجري بالحياة والأرزاق في مصلحة الإنسان . والشمس والقمر مسخران دائبان لا يفتران . والليل والنهار يتعاقبان . . أفكل أولئك للإنسان ? ثم لا يشكر ولا يذكر ?

(إن الإنسان لظلوم كفار)!

الله الذي خلق السماوات والأرض . .

وبعد ذلك يجعلون لله أندادا , فكيف يكون الظلم في التقدير , والظلم في عبادة خلق من خلقه في السماوات أو في الأرض ?

(وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم). .

والزرع مورد الرزق الأول , ومصدر النعمة الظاهر . والمطر والإنبات كلاهما يتبع السنة التي فطر الله عليها هذا الكون , ويتبع الناموس الذي يسمح بنزول المطر وإنبات الزرع وخروج الثمر , وموافقة هذا كله للإنسان . وإنبات حبة واحدة يحتاج إلى القوة المهيمنة على هذا الكون كله لتسخر أجرامه وظواهره في إنبات هذه الحبة وإمدادها بعوامل الحياة من تربة وماء وأشعة وهواء . . والناس يسمعون كلمة "الرزق" فلا يتبادر إلى أذهانهم إلا صورة الكسب للمال . ولكن مدلول "الرزق" أوسع من ذلك كثيرا , وأعمق من ذلك كثيرا . . إن أقل "رزق" يرزقه الكائن الإنساني في هذا الكون يقتضي تحريك أجرام هذا الكون وفق ناموس يوفر مئات الآلاف من الموافقات المتواكبة المتناسقة التي لولاها لم يكن لهذا الكائن ابتداء وجود ; ولم تكن له بعد وجوده حياة وامتداد . ويكفي ما ذكر في هذه الآيات من تسخير الأجرام والظواهر ليدرك الإنسان كيف هو مكفول محمول بيد الله . .

(وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره). .

بما أودع في العناصر من خصائص تجري الفلك على سطح الماء ; وبما أودع في الإنسان من خصائص يدرك بها ناموس الأشياء ; وكلها مسخرة بأمر الله للإنسان .

(وسخر لكم الأنهار). .

تجري فتجري الحياة , وتفيض فيفيض الخير , وتحمل ما تحمل في جوفها من أسماك وأعشاب وخيرات . . كلها للإنسان ولما يستخدمه الإنسان من طير وحيوان . .

و سخر لكم الشمس والقمر دائبين . . لا يستخدمهما الإنسان مباشرة كما يستخدم الماء والثمار والبحار والفلك والأنهار . . ولكنه ينتفع بآثارهما ,ويستمد منهما مواد الحياة وطاقاتها . فهما مسخران بالناموس الكوني ليصدر عنهما ما يستخدمه هذا الإنسان في حياته ومعاشه بل في تركيب خلاياه وتجديدها .

(وسخر لكم الليل والنهار). .

سخرهما كذلك وفق حاجة الإنسان وتركيبه , وما يناسب نشاطه وراحته . ولو كان نهار دائم أو ليل دائم لفسد جهاز هذا الإنسان ; فضلا على فساد ما حوله كله , وتعذر حياته ونشاطه وإنتاجه .

وليست هذه سوى الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة . ففي كل خط من النقط ما لا يحصى . ومن ثم يضم إليها على وجه الإجمال المناسب للوحة المعروضة وللجو الشامل:

(وآتاكم من كل ما سألتموه). . من مال وذرية وصحة وزينة ومتاع . . . (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). .

فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها فريق من البشر , أو كل البشر . وكلهم محدودون بين حدين من الزمان:بدء ونهاية . وبين حدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان . ونعم الله مطلقة - فوق كثرتها - فلا يحيط بها إدراك إنسان . .

وبعد ذلك كله تجعلون لله أندادا , وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله بل تبدلونها كفرا . . (إن الإنسان لظلوم كفار)!!!

الدرس الثالث:35 - 41 إبراهيم الرسول الشاكر وبناء البيت الحرام

وحين يستيقظ ضمير الإنسان , ويتطلع إلى الكون من حوله , فإذا هو مسخر له , إما مباشرة , وإما بموافقة ناموسه لحياة البشر وحوائجهم ; ويتأمل فيما حوله فإذا هو صديق له برحمة الله , معين بقدرة الله الله , ذلول له بتسخير الله . . حين يستيقظ ضمير الإنسان فيتطلع ويتأمل ويتدبر . لا بد يرتجف ويخشع ويسجد ويشكر , ويتطلع دائما إلى ربه المنعم:حين يكون في الشدة ليبدله منها يسرا , وحين يكون في الرخاء ليحفظ عليه النعماء .

والنموذج الكامل للإنسان الذاكر الشاكر هو أبو الأنبياء . إبراهيم . الذي يظلل سمته هذه السورة , كما تظللها النعمة وما يتعلق بها من شكران أو كفران . . ومن ثم يأتي به السياق في مشهد خاشع , يظلله الشكر , وتشيع فيه الضراعة , ويتجاوب فيه الدعاء , في نغمة رخية متموجة , ذاهبة في السماء .

(وإذ قال إبراهيم:رب اجعل هذا البلد آمنا , واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن أضللن كثيرا من الناس , فمن تبعني فإنه مني ; ومن عصاني فإنك غفور رحيم . ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم , ربنا ليقيموا الصلاة , فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم , وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن , وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء . الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق , إن ربي لسميع الدعاء . رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي , ربنا وتقبل دعاء . ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب). .

إن السياق يصور إبراهيم - عليه السلام - إلى جوار بيت الله الذي بناه في البلد الذي آل إلى قريش , فإذا بها تكفر فيه بالله , مرتكنة إلى البيت الذي بناه بانيه لعبادة الله ! فيصوره في هذا المشهد الضارع الخاشع
من الاية 35 الى الاية 36

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36)

الذاكر الشاكر , ليرد الجاحدين إلى الاعتراف , ويرد الكافرين إلى الشكر , ويرد الغافلين إلى الذكر , ويرد الشاردين من أبنائه إلى سيرة أبيهم لعلهم يقتدون بها ويهتدون .

ويبدأ إبراهيم دعاءه:

(رب اجعل هذا البلد آمنا). .

فنعمة الأمن نعمة ماسة بالإنسان , عظيمة الوقع في حسه , متعلقة بحرصه على نفسه . والسياق يذكرها هنا ليذكر بها سكان ذلك البلد , الذين يستطيلون بالنعمة ولا يشكرونها وقد استجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم فجعل البلد آمنا , ولكنهم هم سلكوا غير طريق إبراهيم , فكفروا النعمة , وجعلوا لله أندادا , وصدوا عن سبيل الله . ولقد كانت دعوة أبيهم التالية لدعوة الأمن:

(واجنبني وبني أن نعبد الأصنام). .

ويبدو في دعوة إبراهيم الثانية تسليم إبراهيم المطلق إلى ربه , والتجاؤه إليه في أخص مشاعر قلبه . فهو يدعوه أن يجنبه عبادة الأصنام هو وبنيه , يستعينه بهذا الدعاء ويستهديه . ثم ليبرز أن هذه نعمة أخرى من نعم الله . وإنها لنعمة أن يخرج القلب من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده . فيخرج من التيه والحيرة والضلال والشرود , إلى المعرفة والطمأنينة والاستقرار والهدوء . ويخرج من الدينونة المذلة لشتى الأرباب , إلى الدينونة الكريمة العزيزة لرب العباد . . إنها لنعمة يدعو إبراهيم ربه ليحفظها عليه , فيجنبه هو وبنيه أن يعبد الأصنام .

يدعو إبراهيم دعوته هذه لما شهده وعلمه من كثرة من ضلوا بهذه الأصنام من الناس في جيله وفي الأجيال التي قبله ; ومن فتنوا بها ومن افتتنوا وهم خلق كثير:

(رب إنهن أضللن كثيرا من الناس). .

ثم يتابع الدعاء . . فأما من تبع طريقي فلم يفتتن بها فهو مني , ينتسب إلى ويلتقي معي في الآصرة الكبرى , آصرة العقيدة:

(فمن تبعني فإنه مني). .

وأما من عصاني منهم فأفوض أمره إليك:

(ومن عصاني فإنك غفور رحيم). .

وفي هذا تبدو سمة إبراهيم العطوف الرحيم الأواه الحليم ; فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله ويحيد عن طريقه , ولا يستعجل لهم العذاب ; بل لا يذكر العذاب , إنما يكلهم إلى غفران الله ورحمته . ويلقي على الجو ظلال المغفرة والرحمة ; وتحت هذا الظل يتوارى ظل المعصية ; فلا يكشف عنه إبراهيم الرحيم الحليم !

ويمضي إبراهيم في دعائه يذكر إسكانه لبعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور للبيت المحرم , ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا القفر الجدب ليقوموا بها:

(ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم). .

لماذا ?

(ربنا ليقيموا الصلاة). .
من الاية 37 الى الاية 43

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (43)


فهذا هو الذي من أجله أسكنهم هناك , وهذا هو الذي من أجله يحتملون الجدب والحرمان .

فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم . .

وفي التعبير رقة ورفرفة , تصور القلوب رفافة مجنحة , وهي تهوي إلى ذلك البيت وأهله في ذلك الوادى الجديب . إنه تعبير ندي يندي الجدب برقة القلوب . .

(وارزقهم من الثمرات). .

عن طريق تلك القلوب التي ترف عليهم من كل فج . . لماذا ? أليأكلوا ويطعموا ويستمتعوا ? نعم ! ولكن لينشأ عن ذلك ما يرجوه إبراهيم الشكور:

(لعلهم يشكرون). .

وهكذا يبرز السياق هدف السكنى بجوار البيت الحرام . . إنه إقامة الصلاة على أصولها كاملة لله . ويبرز هدف الدعاء برفرفة القلوب وهويها إلى أهل البيت ورزقهم من ثمرات الأرض . . إنه شكر الله المنعم الوهاب .

وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة واضحة في موقف قريش جيرة البيت المحرم . . فلا صلاة قائمة لله , ولا شكر بعد استجابة الدعاء , وهوي القلوب والثمرات !

ويعقب إبراهيم على دعاء الله لذريته الساكنة بجوار بيته المحرم لتقيم الصلاة وتشكر الله . . يعقب على الدعاء بتسجيله لعلم الله الذي يطلع على ما في قلوبهم من توجه وشكر ودعاء . فليس القصد هو المظاهرات والأدعية والتصدية والمكاء . . إنما هو توجه القلب إلى الله الذي يعلم السر والجهر ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء:

(ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن:وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء). .

ويذكر إبراهيم نعمة الله عليه من قبل ; فيلهج لسانه بالحمد والشكر شأن العبد الصالح يذكر فيشكر:

(الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق , إن ربي لسميع الدعاء). .

وهبة الذرية على الكبر أوقع في النفس . فالذرية امتداد . وما أجل الإنعام به عند شعور الفرد بقرب النهاية , وحاجته النفسية الفطرية إلى الامتداد . وإن إبراهيم ليحمد الله , ويطمع في رحمته:

(إن ربي لسميع الدعاء).

ويعقب على الشكر بدعاء الله أن يجعله مديما للشكر . الشكر بالعبادة والطاعة فيعلن بهذا تصميمه على العبادة وخوفه أن يعوقه عنها عائق , أو يصرفه عنها صارف , ويستعين الله على إنفاذ عزيمته وقبول دعائه:

(رب اجعلني مقيم الصلاة . ومن ذريتي . ربنا وتقبل دعاء). .

وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة مرة أخرى في موقف جيرة البيت من قريش . وهذا إبراهيم يجعل عون الله له على إقامة الصلاة رجاء يرجوه , ويدعو الله ليوفقه إليه . وهم ينأون عنها ويعرضون , ويكذبون الرسول الذي يذكرهم بما كان إبراهيم يدعو الله أن يعينه عليه هو وبنيه من بعده !

ويختم إبراهيم دعاءه الضارع الخاشع بطلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين جميعا , يوم يقوم الحساب , فلا ينفع إنسانا إلا عمله ; ثم مغفرة الله في تقصيره:

(ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب). .

وينتهي المشهد الطويل:مشهد الدعاء الخاشع الضارع . ومشهد تعداد النعم والشكر عليها . . في إيقاع موسيقيمتموج رخي . . ينتهي بعد أن يخلع على الموقف كله ظلا وديعا لطيفا , تهفو القلوب معه إلى جوار الله , وتذكر القلوب فيه نعم الله . ويرتسم إبراهيم أبو الأنبياء نموذجا للعبد الصالح الذاكر الشاكر , كما ينبغي أن يكون عباد الله , الذين وجه الحديث إليهم قبيل هذا الدعاء . .

ولا يفوتنا أن نلمح تكرار إبراهيم - عليه السلام - في كل فقرة من فقرات دعائه الخاشع المنيب لكلمةSadربنا)أو "رب" . فإن لهجان لسانه بذكر ربوبية الله له ولبنيه من بعده ذات مغزى . . إنه لا يذكر الله - سبحانه - بصفة الألوهية , إنما يذكره بصفة الربوبية . فالألوهية قلما كانت موضع جدال في معظم الجاهليات - وبخاصة في الجاهلية العربية - إنما الذي كان دائما موضع جدل هو قضية الربوبية . قضية الدينونة في واقع الحياة الأرضية . وهي القضية العملية الواقعية المؤثرة في حياة الإنسان . والتي هي مفرق الطريق بين الإسلام والجاهلية وبين التوحيد والشرك في عالم الواقع . . فإما أن يدين الناس لله فيكون ربهم وإما أن يدينوا لغير الله فيكون غيره ربهم . . وهذا هو مفرق الطريق بين التوحيد والشرك وبين الإسلام والجاهلية في واقع الحياة . والقرآن وهو يعرض على مشركي العرب دعاء أبيهم إبراهيم والتركيز فيه على قضية الربوبية كان يلفتهم إلى ما هم فيه من مخالفة واضحة لمدلول هذا الدعاء !

الدرس الرابع:42 - 45 مشهد ذل وخزي الظالمين يوم القيامة

ثم يكمل السياق الشوط مع (الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار). . وهم ما يزالون بعد في ظلمهم لم يأخذهم العذاب . والذين أمر الرسول [ ص ] أن يقول لهم: (تمتعوا فإن مصيركم إلى النار). . وأن ينصرف إلى عباد الله المؤمنين يأمرهم بالصلاة والإنفاق سرا وعلانية (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال). .

يكمل السياق الشوط ليكشف عما أعد للكافرين بنعمة الله ; ومتى يلقون مصيرهم المحتوم ; وذلك في مشاهد متعاقبة من مشاهد القيامة , تزلزل الأقدام والقلوب:

(ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون , إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار , مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم , وأفئدتهم هواء). .

والرسول [ ص ] لا يحسب الله غافلا عما يعمل الظالمون . ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون , ويسمع بوعيد الله , ثم لا يراه واقعا بهم في هذه الحياة الدنيا . فهذه الصيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة , التي لا إمهال بعدها . ولا فكاك منها . أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع , فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة , مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرك . ثم يرسم مشهدا للقوم في زحمة الهول . . مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء , ولا يلتفتون إلى شيء . رافعين رؤوسهم لا عن إرادة ولكنها مشدودة لا يملكون لها حراكا . يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب فلا يطرف ولا يرتد إليهم . وقلوبهم من الفزع خاوية خالية لا تضم شيئا يعونه أو يحفظونه أو يتذكرونه , فهي هواء خواء . .

هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه . حيث يقفون هذا الموقف , ويعانون هذا الرعب . الذي يرتسم من خلال المقاطع الأربعة مذهلا آخذا بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب:

(إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم , لا يرتد إليهم طرفهم , وأفئدتهم هواء). .


من الاية 44 الى الاية 46

وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)


فالسرعة المهرولة المدفوعة , في الهيئة الشاخصة المكرهة المشدودة , مع القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي ومن كل إدراك . . كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه الأبصار . .

هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه , والذي ينتظرهم بعد الإمهال هناك . فأنذر الناس أنه إذا جاء فلا اعتذار يومئذ ولا فكاك . . وهنا يرسم مشهدا آخر لليوم الرعيب المنظور:

وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب , فيقول الذين ظلموا:ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل . أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ?! وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم , وتبين لكم كيف فعلنا بهم , وضربنا لكم الأمثال ? . .

أنذرهم يوم يأتيهم ذلك العذاب المرسوم آنفا , فيتوجه الذين ظلموا يومئذ إلى الله بالرجاء , يقولون:

(ربنا). .

الآن وقد كانوا يكفرون به من قبل ويجعلون له أندادا !

(أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل). .

وهنا ينقلب السياق من الحكاية إلى الخطاب . كأنهم ماثلون شاخصون يطلبون . وكأننا في الآخرة وقد انطوت الدنيا وما كان فيها . فها هو ذا الخطاب يوجه إليهم من الملأ الأعلى بالتبكيت والتأنيب , والتذكير بما فرط منهم في تلك الحياة:

أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ?! . .

فكيف ترون الآن ?! زلتم يا ترى أم لم تزولوا ?! ولقد قلتم قولتكم هذه وآثار الغابرين شاخصة أمامكم مثلا بارزا للظالمين ومصيرهم المحتوم:

(وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال). .

فكان عجيبا أن تروا مساكن الظالمين أمامكم , خالية منهم , وأنتم فيها خلفاء , ثم تقسمون مع ذلك:

(ما لكم من زوال)!

وعند هذا التبكيت ينتهي المشهد , وندرك أين صاروا , وماذا كان بعد الدعاء وخيبة الرجاء .

وإن هذا المثل ليتجدد في الحياة ويقع كل حين . فكم من طغاة يسكنون مساكن الطغاة الذين هلكوا من قبلهم . وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم . ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبرون ; ويسيرون حذوك النعل بالنعل سيرة الهالكين ; فلا تهز وجدانهم تلك الآثار الباقية التي يسكنونها , والتي تتحدث عن تاريخ الهالكين , وتصور مصائرهم للناظرين . ثم يؤخذون إخذة الغابرين , ويلحقون بهم وتخلو منهم الديار بعد حين !

الدرس الخامس:46 - 51 الظالمون بين الكيد والمكر في الدنيا والعذاب والهوان في الآخرة

ثم يلتفت السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك , إلى واقعهم الحاضر , وشدة مكرهم بالرسول والمؤمنين , وتدبيرهم الشر في كل نواحي الحياة . فيلقي في الروع أنهم مأخوذون إلى ذلك المصير , مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير:

(وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم . . وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال). .

إن الله محيط بهم وبمكرهم , وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال , أثقل شيء وأصلب شيء , وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال . فإن مكرهم هذا ليس مجهولا وليس خافيا

من الاية 47 الى الاية 51

فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)

وليس بعيدا عن متناول القدرة . بل إنه لحاضر (عند الله)يفعل به كيفما يشاء .

(فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله . إن الله عزيز ذو انتقام). .

فما لهذا المكر من أثر , وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر وأخذ الماكرين أخذ عزيز مقتدر:

(إن الله عزيز ذو انتقام). .

لا يدع الظالم يفلت , ولا يدع الماكر ينجو . . وكلمة الانتقام هنا تلقي الظل المناسب للظلم والمكر , فالظالم الماكر يستحق الانتقام , وهو بالقياس إلى الله تعالى يعني تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم , تحقيقا لعدل الله في الجزاء .

وسيكون ذلك لا محالة:

(يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات). .

ولا ندري نحن كيف يتم هذا , ولا طبيعة الأرض الجديدة وطبيعة السماوات , ولا مكانها ; ولكن النص يلقي ظلال القدرة القادرة التي تبدل الأرض وتبدل السماوات ; في مقابل ذلك المكر الذي مهما اشتد فهو ضئيل عاجز حسير .

وفجأة نرى ذلك قد تحقق:

(وبرزوا لله الواحد القهار). .

وأحسوا أنهم مكشوفون لا يسترهم ساتر , ولا يقيهم واق . ليسوا في دورهم وليسوا في قبورهم . إنما هم في العراء أمام الواحد القهار . . ولفظة(القهار)هنا تشترك في ظل التهديد بالقوة القاهرة التي لا يقف لها كيد الجبابرة . وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال .

ثم ها نحن أولاء أمام مشهد من مشاهد العذاب العنيف القاسي المذل , يناسب ذلك المكر وذلك الجبروت:

(وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار). .

فمشهد المجرمين:اثنين اثنين مقرونين في الوثاق , يمرون صفا وراء صف . . مشهد مذل دال كذلك على قدرة القهار . ويضاف إلى قرنهم في الوثاق أن سرابيلهم وثيابهم من مادة شديدة القابلية للالتهاب , وهي في ذات الوقت قذرة سوداء . . (من قطران). . ففيها الذل والتحقير , وفيها الإيحاء بشدة الاشتعال بمجرد قربهم من النار !

(وتغشى وجوههم النار). .

فهو مشهد العذاب المذل المتلظي المشتعل جزاء المكر والاستكبار . .

(ليجزي الله كل نفس ما كسبت . إن الله سريع الحساب). .

ولقد كسبوا المكر والظلم فجزاؤهم القهر والذل . إن الله سريع الحساب . فالسرعة في الحساب هنا تناسب المكر والتدبير الذي كانوا يحسبونه يحميهم ويخفيهم , ويعوق انتصار أحد عليهم . فها هو أولاء يجزون ما كسبوا ذلا وألما وسرعة حساب !

الدرس السادس:52 خاتمة في البلاغ والإنذار والتذكير

وفي النهاية تختم السورة بمثل ما بدأت , ولكن في إعلان عام جهير الصوت , عالي الصدى , لتبليغ البشرية كلها في كل مكان:
من الاية 52 الى آخر السورة

هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (52)


(هذا بلاغ للناس , ولينذروا به , وليعلموا أنما هو إله واحد , وليذكر أولو الألباب).

إن الغاية الأساسية من ذلك البلاغ وهذا الإنذار , هي أن يعلم الناس (أنما هو إله واحد). . فهذه هي قاعدة دين الله التي يقوم عليها منهجه في الحياة .

وليس المقصود بطبيعة الحال مجرد العلم , إنما المقصود هو إقامة حياتهم على قاعدة هذا العلم . . المقصود هو الدينونة لله وحده , ما دام أنه لا إله غيره . فالإله هو الذي يستحق أن يكون ربا - أي حاكما وسيدا ومتصرفا ومشرعا وموجها - وقيام الحياة البشرية على هذه القاعدة يجعلها تختلف اختلافا جوهريا عن كل حياة تقوم على قاعدة ربوبية العباد للعباد - أي حاكمية العباد للعباد ودينونة العباد للعباد - وهو اختلاف يتناول الاعتقاد والتصور , ويتناول الشعائر والمناسك ; كما يتناول الأخلاق والسلوك , والقيم والموازين ; وكما يتناول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية , وكل جانب من جوانب الحياة الفردية والجماعية على السواء .

إن الاعتقاد بالألوهية الواحدة قاعدة لمنهج حياة متكامل ; وليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمائر . وحدود العقيدة أبعد كثيرا من مجرد الاعتقاد الساكن . . إن حدود العقيدة تتسع وتترامى حتى تتناول كل جانب من جوانب الحياة . . وقضية الحاكمية بكل فروعها في الإسلام هي قضية عقيدة . كما أن قضية الأخلاق بجملتها هي قضية عقيدة . فمن العقيدة ينبثق منهج الحياة الذي يشتمل الأخلاق والقيم ; كما يشتمل الأوضاع والشرائع سواء بسواء . .

ونحن لا ندرك مرامي هذا القرآن قبل أن ندرك حدود العقيدة في هذا الدين , وقبل أن ندرك مدلولات:"شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" على هذا المستوى الواسع البعيد الآماد . وقبل أن نفهم مدلول:العبادة لله وحده ; ونحدده بأنه الدينونة لله وحده ; لا في لحظات الصلاة , ولكن في كل شأن من شؤون الحياة !

إن عبادة الأصنام التي دعا إبراهيم - عليه السلام - ربه أن يجنبه هو وبنيه إياها , لا تتمثل فقط في تلك الصورة الساذجة التي كان يزاولها العرب في جاهليتهم , أو التي كانت تزاولها شتى الوثنيات في صور شتى , مجسمة في أحجار أو أشجار , أو حيوان أو طير , أو نجم أو نار , أو أرواح أو أشباح . . .

إن هذه الصور الساذجة كلها لا تستغرق كل صور الشرك بالله , ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام من دون الله . والوقوف بمدلول الشرك عند هذه الصور الساذجة يمنعنا من رؤية صور الشرك الأخرى التي لا نهاية لها ; ويمنعنا من الرؤية الصحيحة لحقيقة ما يعتور البشرية من صور الشرك والجاهلية الجديدة !

ولا بد من التعمق في إدراك طبيعة الشرك وعلاقة الأصنام بها ; كما أنه لا بد من التعمق في معنى الأصنام , وتمثل صورها المتجددة مع الجاهليات المستحدثة !

إن الشرك بالله - المخالف لشهادة أن لا إله إلا الله - يتمثل في كل وضع وفي كل حالة لا تكون فيها الدينونة في كل شأن من شؤون الحياة خالصة لله وحده . ويكفي أن يدين العبد لله في جوانب من حياته , بينما هو يدين في جوانب أخرى لغير الله , حتى تتحقق صورة الشرك وحقيقته . . وتقديم الشعائر ليس إلا صورة واحدة من صور الدينونة الكثيرة . . والأمثلة الحاضرة في حياة البشر اليوم تعطينا المثال الواقعي للشرك في أعماق طبيعته . . إن العبد الذي يتوجه لله بالاعتقاد في ألوهيته وحده ; ثم يدين لله في الوضوء والطهارة والصلاة والصوم والحج وسائر الشعائر . بينما هو في الوقت ذاته يدين في حياته الاقتصادية و السياسية والاجتماعيةلشرائع من عند غير الله . ويدين في قيمه وموازينه الاجتماعية لتصورات واصطلاحات من صنع غير الله . ويدين في أخلاقه وتقاليده وعاداته وأزيائه لأرباب من البشر تفرض عليه هذه الأخلاق والتقاليد والعادات والأزياء - مخالفة لشرع الله وأمره - إن هذا العبد يزاول الشرك في أخص حقيقته ; ويخالف عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في أخص حقيقتها . . وهذا ما يغفل عنه الناس اليوم فيزاولونه في ترخص وتميع , وهم لايحسبونه الشرك الذي كان يزاوله المشركون في كل زمان ومكان !

والأصنام . . ليس من الضروري أن تتمثل في تلك الصور الأولية الساذجة . . فالأصنام ليست سوى شعارات للطاغوت , يتخفى وراءها لتعبيد الناس باسمها , وضمان دينونتهم له من خلالها . .

إن الصنم لم يكن ينطق أو يسمع أو يبصر . . إنما كان السادن أو الكاهن أو الحاكم يقوم من ورائها ; يتمتم حولها بالتعاويذ والرقي . . ثم ينطق باسمها بما يريد هو أن ينطق لتعبيد الجماهير وتذليلها !

فإذا رفعت في أي أرض وفي أي وقت شعارات ينطق باسمها الحكام والكهان , ويقررون باسمها ما لم يأذن به الله من الشرائع والقوانين والقيم والموازين والتصرفات والأعمال . . . فهذه هي الأصنام في طبيعتها وحقيقتها ووظيفتها !

إذا رفعت "القومية " شعارا , أو رفع "الوطن" شعارا , أو رفع "الشعب" شعارا , أو رفعت "الطبقة " شعارا . . . ثم أريد الناس على عبادة هذه الشعارات من دون الله ; وعلى التضحية لها بالنفوس والأموال والأخلاق والأعراض . بحيث كلما تعارضت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته وتعليماته مع مطالب تلك الشعارات ومقتضياتها , نحيت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته وتعاليمه , ونفذت إرادة تلك الشعارات - أو بالتعبير الصحيح الدقيق:إرادة الطواغيت الواقفة وراء هذه الشعارات - كانت هذه هي عبادة الأصنام من دون الله . . فالصنم ليس من الضروري أن يتمثل في حجر أو خشبة ; ولقد يكون الصنم مذهبا أو شعارا !

إن الإسلام لم يجيء لمجرد تحطيم الأصنام الحجرية والخشبية ! ولم تبذل فيه تلك الجهود الموصولة , من موكب الرسل الموصول ; ولم تقدم من أجله تلك التضحيات الجسام وتلك العذابات والآلام , لمجرد تحطيم الأصنام من الأحجار والأخشاب !

إنما جاء الإسلام ليقيم مفرق الطريق بين الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ; وبين الدينونة لغيره في كل هيئة وفي كل صورة . . ولا بد من تتبع الهيئات والصور في كل وضع وفي كل وقت لإدراك طبيعة الأنظمة والمناهج القائمة , وتقرير ما إذا كانت توحيدا أم شركا ? دينونة لله وحده أم دينونة لشتى الطواغيت والأرباب والأصنام !

والذين يظنون أنفسهم في "دين الله" لأنهم يقولون بأفواههم "نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" , ويدينون لله فعلا في شؤون الطهارة والشعائر والزواج والطلاق والميراث . . بينما هم يدينون فيما وراء هذا الركن الضيق لغير الله ; ويخضعون لشرائع لم يأذن بها الله - وكثرتها مما يخالف مخالفة صريحة شريعة الله - ثم هم يبذلون أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وأخلاقهم - أرادوا أم لم يريدوا - ليحققوا ما تتطلبه منهم الأصنام الجديدة . فإذا تعارض دين أو خلق أو عرض مع مطالب هذه الأصنام , نبذت أوامر الله فيها ونفذت مطالب هذه الأصنام . . .

الذين يظنون أنفسهم "مسلمين" وفي "دين الله" وهذا حالهم . . عليهم أن يستفيقوا لما هم فيه من الشرك العظيم !!!


إن دين الله ليس بهذا الهزال الذي يتصوره من يزعمون أنفسهم "مسلمين" في مشارق الأرض ومغاربها ! إن دين الله منهج شامل لجزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها . والدينونة لله وحده في كل تفصيل وكل جزئية من جزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها - فضلا على أصولها وكلياتها - هي دين الله , وهي الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه .

وإن الشرك بالله لا يتمثل فحسب في الاعتقاد بألوهية غيره معه ; ولكنه يتمثل ابتداء في تحكيم أرباب غيره معه . .

وإن عبادة الأصنام لا تتمثل في إقامة أحجار وأخشاب ; بقدر ما تتمثل في إقامة شعارات لها كل ما لتلك الأصنام من نفوذ ومقتضيات !

ولينظر الناس في كل بلد لمن المقام الأعلى في حياتهم ? ولمن الدينونة الكاملة ? ولمن الطاعة والاتباع والامتثال ? . . فإن كان هذا كله لله فهم في دين الله . وإن كان لغير الله - معه أو من دونه - فهم في دين الطواغيت والأصنام . . والعياذ بالله . . !

هذا بلاغ للناس , ولينذروا به . وليعلموا أنما هو إله واحد , وليذكر أولو الألباب . .


انتهى الجزء الثالث عشر ويليه الجزء الرابع عشر مبدوءاً بسورة الحجر


بسم الله الرحمن الرحيم

سورتا الحجر والنحل

الجزء الرابع عشر


كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى