منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة هود ايه 49 الى 65 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة هود ايه 49 الى 65 الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة هود ايه 49 الى 65 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الجمعة مايو 11, 2012 2:00 am

من الاية 49 الى الاية 49

تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

وكان هود من عاد . فهو أخوهم . واحد منهم , تجمعه - كانت - آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة الواحدة . وتبرز هذه الآصرة هنا في السياق , لأن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الأخ وإخوته , وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذا ومستقبحا ! ثم لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم على أساس افتراق العقيدة . ويبرز بذلك معنى انقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة . لتتفرد هذه الوشيجة وتبرز في علاقات المجتمع الإسلامي , ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي . . فالدعوة به تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والأرض . . . ثم تنتهي بالافتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد . . أمة مسلمة وأمة مشركة . . وبينهما فرقة ومفاصلة . . وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد الله بنصر المؤمنين وإهلاك المشركين . ولا يجيى ء وعد الله بهذا ولا يتحقق إلا بعد أن تتم المفاصلة , وتتم المفارقة , وتتميز الصفوف , وينخلع النبي والمؤمنون معه من قومهم , ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم , ويخلعوا ولاءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة , ويعطوا ولاءهم كله لله ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى الله وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد . . وعندئذ فقط - لا قبله - يتنزل عليهم نصر الله . .

(وإلى عاد أخاهم هودا). .

أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحا إلى قومه في القصة السابقة .

(قال:يا قوم). .

بهذا التودد , والتذكير بالأواصر التي تجمعهم , لعل ذلك يستثير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول . فالرائد لا يكذب أهله , والناصح لا يغش قومه .

(قال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). .

القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا - كما أسلفنا - عن عبادة الله الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة . ولعل أول خطوة في هذا الانحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح ! ثم تطور هذا التعظيم جيلا بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة ; ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات , وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة - في صورة من صور الجاهلية الكثيرة . ذلك أن الانحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق . الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير الله وحده ولا يدين بالعبودية إلا الله وحده . . الانحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمن خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا الله .

على أية حال لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون لله وحده بالعبودية , فإذا هم يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول:

(يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . (إن أنتم إلا مفترون). .

مفترون فيما تعبدونه من دون الله , وفيما تدعونه من شركاء لله .

ويبادر هود ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة , فليس له من ورائها هدف . وما يطلب على النصح والهداية أجرا . إنما أجره على الله الذي خلقه فهو به كفيل:

(يا قوم لا أسألكم عليه أجرا . إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ?).
من الاية 50 الى الاية 51

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (51)

مما يشعر أن قوله: (لا أسألكم عليه أجرا)كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجرا أو كسب مال من وراء الدعوة التي يدعوها . وكان التعقيب: (أفلا تعقلون ?)للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسولا من عند الله يطلب رزقا من البشر , والله الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوت هؤلاء الفقراء !

ثم يوجههم إلى الاستغفار والتوبة . ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم الأنبياء , ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بآلاف السنين:

(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه , يرسل السماء عليكم مدرارا , ويزدكم قوة إلى قوتكم . ولا تتولوا مجرمين). .

استغفروا ربكم مما أنتم فيه , وتوبوا إليه فابدأوا طريقا جديدا يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية . .

(يرسل السماء عليكم مدرارا). .

وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء , ويحتفظون به بالخصب الناشئ من هطول الأمطار في تلك البقاع .

(ويزدكم قوة إلى قوتكم). .

هذه القوة التي عرفتم بها . .

(ولا تتولوا مجرمين). .

مرتكبين لجريمة التولي والتكذيب .

وننظر في هذا الوعد . وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة . وهي أمور تجري فيها سنة الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود , من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال . فما علاقة الاستغفار بها وما علاقة التوبة ?

فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور , بل واقع مشهود , فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة . يزيدانهم صحة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والاطمئنان إلى الله والثقة برحمته في كل آن ; ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحرارا كراما لا يدينون لغير الله على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه . . كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض ; غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول , والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر !

والملحوظ دائما أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة . . أحيانا . . كل ذلك ليدين لها الناس ! فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد ! وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعباد وإلى جهد ينفقه من يدينون لله وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها , بدلا من أن ينفقه عباد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة !

ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم , ولكنها قوة إلى حين . حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله , وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين . إنما استندت إلى
من الاية 52 الى الاية 52

وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ (52)

جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج . وهذه وحدها لا تدوم . لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين .

فأما إرسال المطر . مدرارا . فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني . ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محييا في مكان وزمان , ومدمرا في مكان وزمان ; وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم , وأن يكون الدمار معه لقوم , وأن ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية ; فهو خالق هذه العوامل , وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال . ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء . حيث شاء . بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب .

تلك كانت دعوة هود - ويبدو أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة . ربما لأن الطوفان كان قريبا منهم , وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم , وقد ذكرهم به في سورة أخرى - فأما قومه فظنوا به الظنون . .

(قالوا . يا هود ما جئتنا ببينة , وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك , وما نحن لك بمؤمنين . إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . .).

إلى هذا الحد بلغ الانحراف في نفوسهم , إلى حد أن يظنوا أن هودا يهذي , لأن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه بسوء , فأصيب بالهذيان !

(يا هود ما جئتنا ببينة). . .

والتوحيد لا يحتاج إلى بينة , إنما يحتاج إلى التوجيه والتذكير , وإلى استجاشة منطق الفطرة , واستنباء الضمير .

(وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك). .

أي لمجرد أنك تقول بلا بينة ولا دليل !

وما نحن لك بمؤمنين . .

أي مستجيبين لك ومصدقين . . وما نعلل دعوتك إلا بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء !

وهنا لم يبق لهود إلا التحدي . وإلا التوجه إلى الله وحده والاعتماد عليه . وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين . وإلا المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب:

(قال إني أشهد الله , واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه , فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم , ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها , إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم , ويستخلف ربي قوما غيركم , ولا تضرونه شيئا , إن ربي على كل شيء حفيظ). .

إنها انتفاضة التبرؤ من القوم - وقد كان منهم وكان أخاهم - وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقا . وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة وقد انبتت بينهما وشيجة العقيدة .
من الاية 53 الى الاية 53

قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)

وهو يشهد الله ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم . ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم ; كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم !

وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه . ومع ثقة الإيمان واطمئنانه !

وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا حمقى . يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلا فيهذي ; ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذيانا من أثر المس ! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة , فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم ; ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي . لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم , ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم .

إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد . ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب . .

إنه الإيمان . والثقة . والاطمئنان . . الإيمان بالله , والثقة بوعده , والاطمئنان إلى نصره . . الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة . لأنها ملء يديه , وملء قلبه الذي بين جنبيه , وليست وعدا للمستقبل في ضمير الغيب , إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب .

(قال:إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه).

إني أشهد الله على براءتي مما تشركون من دونه . واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم:أنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله . ثم تجمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء .

تجمعوا أنتم وهي - جميعا - ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل , فما أباليكم جميعا , ولا أخشاكم شيئا:

(إني توكلت على الله ربي وربكم). .

ومهما أنكرتم وكذبتم . فهذه الحقيقة قائمة . حقيقة ربوبية الله لي ولكم . فالله الواحد هو ربي وربكم , لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة . .

(ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها). .

وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض , بما فيها الدواب من الناس . والناصية أعلى الجبهة . فهو القهر والغلبة والهيمنة , في صورة حسية تناسب الموقف , وتناسب غلظة القوم وشدتهم , وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم , وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم . . وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد:

(إن ربي على صراط مستقيم). .

فهي القوة والاستقامة والتصميم .

وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الاستعلاء وسر ذلك التحدي . . إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود - عليه السلام - في نفسه من ربه . . إنه يجد هذه الحقيقة واضحة . . إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها). . وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهرا . فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها ; وهي لا تسلط عليه - إن سلطت - إلا بإذن ربه ? وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه ?
من الاية 54 الى الاية 56

إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)

إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه , لا تدع في قلبه مجالا للشك في عاقبة أمره , ولا مجالا للتردد عن المضي في طريقه .

إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبدا .

وعند هذا الحد من التحدي بقوة الله , وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة , يأخذ هود في الإنذار والوعيد:

(فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم). .

فأديت واجبي لله , ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه:

(ويستخلف ربي قوما غيركم). .

يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم .

(ولا تضرونه شيئا). .

فما لكم به من قوة , وذهابكم لا يترك في كونه فراغا ولا نقصا . .

(إن ربي على كل شيء حفيظ). .

يحفظ دينه وأولياءه وسننه من الأذى والضياع , ويقوم عليكم فلا تفلتون ولا تعجزونه هربا !

وكانت هي الكلمة الفاصلة . وانتهى الجدل والكلام . ليحق الوعيد والإنذار:

(ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا . ونجيناهم من عذاب غليظ).

لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد , وإهلاك قوم هود , نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا , خلصتهم من العذاب العام النازل بالقوم , واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء . وكانت نجاتهم من عذاب غليظ حل بالمكذبين . ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم , يتناسق مع الجو , ومع القوم الغلاظ العتاة .

والآن وقد هلكت عاد . يشار إلى مصرعها إشارة البعد , ويسجل عليها ما اقترفت من ذنب , وتشيع باللعنة والطرد , في تقرير وتكرار وتوكيد:

(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد . وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة . ألا إن عادا كفروا ربهم . ألا بعدا لعاد قوم هود). .

(وتلك عاد). . بهذا البعد . وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق , وكان مصرعهم معروضا على الأنظار . . ولكنهم انتهوا وبعدوا عن الأنظار والأفكار . .

(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله). .

وهم عصوا رسولا واحدا . ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعا ? فمن لم يسلم لرسول بها فقد عصى الرسل جميعا . ولا ننسى أن هذا الجمع في الآيات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها . فهم جحدوا آيات , وهم عصوا رسلا . فما أضخم الذنب وما أشنع الجريمة !

(واتبعوا أمر كل جبار عنيد). .

أمر كل متسلط عليهم , معاند لا يسلم بحق , وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين , ويفكروا بأنفسهم لأنفسهم . ولا يكونوا ذيولا فيهدروا آدميتهم .
من الاية 57 الى الاية 58

فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)

وهكذا يتبين أن القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية الله وحده لهم والدينونة لله وحده من دون العباد . . كانت هي قضية الحاكمية والاتباع . . كانت هي قضية:من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره ? يتجلى هذا في قول الله تعالى:

(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله , واتبعوا أمر كل جبار عنيد). .

فهي المعصية لأمر الرسل والاتباع لأمر الجبارين ! والإسلام هو طاعة أمر الرسل - لأنه أمر الله - ومعصية أمر الجبارين . وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام وبين الكفر والإيمان . . في كل رسالة وعلى يد كل رسول .

وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير الله ; والتمرد على سلطان الأرباب الطغاة ; وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية , واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة . . لقد خلق الله الناس ليكونوا أحرارا لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه , ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم . فهذا مناط تكريمهم . فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة . وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة , وتدعي الإنسانية , وهي تدين لغير الله من عباده . والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين . فهم كثرة والمتجبرون قلة . ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال .

لقد هلكت عاد لأنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد . . هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الآخرة:

(وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة). .

ثم لا يتركهم قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلان عام وتنبيه عال:

(ألا إن عادا كفروا ربهم). .

ثم يدعو عليهم بالطرد والبعد البعيد:

(ألا بعدا لعاد قوم هود). .

بهذا التحديد والإيضاح والتوكيد . كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصدا:

. . (ألا بعدا لعاد قوم هود)!!!

تعقيب على قصة هود

ونقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة , قبل أن ننتقل منها إلى قصة صالح . ذلك أن استعراض خط سير الدعوة الإسلامية على هذا النحو إنما يجيء في القرآن الكريم لرسم معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون . . ليس فقط في ماضيها التاريخي , ولكن في مستقبلها إلى آخر الزمان . وليس فقط للجماعة المسلمة الأولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة . وتحركت به في وجه الجاهلية يومذاك ; ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان . . وهذا ما يجعل هذا القرآن كتاب الدعوة الإسلامية الخالد ; ودليلها في الحركة في كل حين .

ولقد أشرنا إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريبا . ولكنها مرت في
من الاية 59 الى الاية 65

وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61) قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)

مجال تفسير النصوص القرآنية مرورا عابرا لمتابعة السياق . وهي تحتاج إلى وقفات أمامها أطول في حدود الإجمال:

نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة . . دعوة توحيد العبادة والعبودية لله , المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول: (قال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . ولقد كنا دائما نفسر "العبادة " لله وحده بأنها "الدينونة الشاملة " لله وحده . في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة . ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي . . فإن "عبد" معناها:دان وخضع وذلل . وطريق معبد طريق مذلل ممهد . وعبده جعله عبدا أي خاضعا مذللا . . ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية . بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية ! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله ; وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره . . ولقد فسر رسول الله [ ص ] "العبادة " نصا بأنها هي "الاتباع" وليست هي الشعائر التعبدية . وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا:" بلى . إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم " . . إنما أطلقت لفظة "العبادة " على "الشعائر التعبدية " باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون . . صورة لا تستغرق مدلول "العبادة " بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة ! فلما بهت مدلول "الدين" ومدلول "العبادة " في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله , كتقديمها للأصنام والأوثان مثلا ! وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح "مسلما" لا يجوز تكفيره ! وتمتع بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله . . . إلى آخر حقوق المسلم على المسلم !

وهذا وهم باطل , وانحسار وانكماش , بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ "العبادة " التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه - وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة لله في كل شأن ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن . وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة , والذي نص عليه رسول الله [ ص ] نصا وهو يفسر قول الله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله). . وليس بعد تفسير رسول الله [ ص ] لمصطلح من المصطلحات قول لقائل .

هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيرا في هذه الظلال وفي غيرها في كل ما وفقنا الله لكتابته حول هذا الدين وطبيعته ومنهجه الحركي . . فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه ; وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها ; وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). .

إنه لم يكن يعني:يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير الله ! كما يتصور الذين انحسر مدلول "العبادة "(1)يراجع البحث القيم الذي كتبه المسلم العظيم الاستاذ السيد أبوالاعلي المودودي أمير الجماعة الاسلامية بباكستان بعنوان:" المصطلحات الاربعة في القران " . . "الاله . الرب . الدين . العبادةفي مفهوماتهم , وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية ! إنما كان يعني الدينونة لله وحده في منهج الحياة كلها ; ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها . . والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير الله . . فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة الله وحده - أي الدينونة له وحده - إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي:جحودهم بآيات ربهم , وعصيان رسله . واتباع أمر الجبارين من عبيدهSadوتلك عاد جحدوا بآيات ربهم , وعصوا رسله , واتبعوا أمر كل جبار عنيد). كما يقول عنهم أصدق القائلين الله رب العالمين . .

وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل , واتباع الجبارين . . فهو أمر واحد لا أمور متعددة . . ومتى عصى قوم أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بألا يدينوا لغير الله . ودانوا للطواغيت بدلا من الدينونة لله ; فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ; وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك - وقد تبين لنا من قبل أن الإسلام هو الأصل الذي بدأت به حياة البشر على الأرض ; فهو الذي نزل به آدم من الجنة واستخلف في هذه الأرض ; وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الأرض . إنما كان الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية , حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى الإسلام . . وهكذا إلى يومنا هذا . .

والواقع إنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات , وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان ! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد . وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ; وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء .

إن توحيد الألوهية , وتوحيد الربوبية , وتوحيد القوامة , وتوحيد الحاكمية , وتوحيد مصدر الشريعة , وتوحيد منهج الحياة , وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة . . . إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل , وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود ; وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان . . لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه , فالله سبحانه غني عن العالمين . ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة "بالإنسان" إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها . [ وهذا ما نرجو أن نزيده بيانا - إن شاء الله - في نهاية قصص الرسل في ختام السورة ] . .

ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهمSadويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم , ولا تتولوا مجرمين). . وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول الله [ ص ] لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . وذلك في قوله تعالىSadوأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى , ويؤت كل ذي فضل فضله , وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير). .

إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية , وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين . . وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت ; وبخاصة في نفوس الذينيعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ; والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها . .

إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية الله - سبحانه - والحق الذي خلقت به السماوات والأرض , المتجلي في طبيعة هذا الكون و نواميسه الأزلية . . والقرآن الكريم كثيرا ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية الله - سبحانه - والحق الذي قامت به السماوات والأرض ; والحق المتمثل في الدينونة لله وحده . . والحق المتمثل في دينونة الناس لله يوم الحساب بصفة خاصة , والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة . . وذلك في مثل هذه النصوص:

(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين . لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا . . إن كنا فاعلين . . بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق , ولكم الويل مما تصفون , وله من في السماوات والأرض , ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون . يسبحون الليل والنهار لا يفترون . أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ? لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا , فسبحان الله رب العرش عما يصفون . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . أم اتخذوا من دونه آلهة ? قل:هاتوا برهانكم . هذا ذكر من معي وذكر من قبلي , بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون . وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). . . [ الأنبياء 16 - 25 ] .

(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب , ثم من نطفة , ثم من علقة , ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة , لنبين لكم , ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى , ثم نخرجكم طفلا , ثم لتبلغوا أشدكم , ومنكم من يتوفى , ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم - من بعد علم - شيئا , وترى الأرض هامدة , فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت , وأنبتت من كل زوج بهيج . . ذلك بأن الله هو الحق , وأنه يحيي الموتى , وأنه على كل شيء قدير , وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور). . . [ الحج:7 - 5 ]

وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم , وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم . ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . الملك يومئذ , لله يحكم بينهم , فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين . والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا , وإن الله لهو خير الرازقين . ليدخلنهم مدخلا يرضونه , وإن الله لعليم حليم . ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله , إن الله لعفو غفور . ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل , وأن الله سميع بصير . ذلك بأن الله هو الحق , وأن ما يدعون من دونه هو الباطل , وأن الله هو العلي الكبير . ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ? إن الله لطيف خبير . له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد . ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره , ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه , إن الله بالناس لرؤوف رحيم . وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم , إن الإنسان لكفور . لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه , فلا ينازعنك في الأمر , وادع إلى ربك , إنك لعلى هدى مستقيم . . . . . [ الحج:54 - 67 ] .

وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون الله سبحانه هو الحق , وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق , وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق . وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق , وبين الحكم بين الناس في الدنيا والآخرة بالحق . . فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر الله بما يشاء , وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء ; وفق ما يكون من الناس من الخير والشر في دار الابتلاء . ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة , وبين المتاع الحسن وإرسال السماء مدرارا . . . فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات الله سبحانه وفي قضائه وقدره , وفي تدبيره وتصريفه , وفي حسابه وجزائه , في الخير وفي الشر سواء . .

ومن هذا الارتباط يتجلى أن القيم الإيمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس . فكلتاهما تؤثر في هذه الحياة . سواء عن طريق قدر الله الغيبي المتعلق بعالم الأسباب من وراء علم البشر وسعيهم . أو عن طريق الآثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك . وهي الآثار التي ينشئها في حياتهم الإيمان أو عدم الإيمان , من النتائج المحسوسة المدركة .

وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذه الآثار العملية الواقعية حين قلنا مرة:إن سيادة المنهج الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع , وأن يجد كل فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي - فضلا على الأمن والسكينة والاستقرار القلبي بالإيمان - ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعا حسنا في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة . . وحين قلنا مرة:إن الدينونة لله وحده في مجتمع من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة , لتخلع عليها شيئا من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب ! ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس . فضلا على الكرامة والحرية و المساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة لله وحده دون العباد . . وليست هذه إلا نماذج من ثمار الإيمان حين تتحق حقيقته في حياة الناس . . [ وسيرد عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء الله ] .

ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه ; وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل , وفي تحد سافر , وفي استعلاء بالحق الذي معه , وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة:

(قال:إني أشهد الله , واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه , فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم , ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها , إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم , ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا , إن ربي على كل شيء حفيظ). .

إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلا أمام هذا المشهد الباهر . . رجل واحد , لم يؤمن معه إلا قليل , يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم , كما جاء عنهم في قول الله تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى:

(كذبت عاد المرسلين . إذ قال لهم أخوهم هود:ألا تتقون ? إني لكم رسول أمين , فاتقوا الله وأطيعون . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . أتبنون بكل ريع آية تعبثون ? وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين . فاتقوا الله وأطيعون . واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعام وبنين . وجنات وعيون . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قالوا:سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين . إن هذا إلا خلق الأولين . وما نحن بمعذبين)! . . [ الشعراء:123 - 138 ]

فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة ; والذين أبطرتهم النعمة ; والذين يقيمون المصانع يرجون

من ورائها الامتداد والخلود ! . . هؤلاء هم الذين واجههم هود - عليه السلام - هذه المواجهة . في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه ; وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة - وهم قومه - وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال . وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال !

لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة , بعدما بذل لقومه من النصح ما يملك ; وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد . . ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة الله وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على الله . .

لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه , فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب ! وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها ; ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب ?! وان ربه هو الذي استخلفهم في الأرض , وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين ! للابتلاء لا لمطلق العطاء . وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء , ولا يضرونه شيئا , ولا يردون له قضاء . . ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه , وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء ? . .

إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم . . أمام القوة المادية . وقوة الصناعة . وقوة المال . وقوة العلم البشري . وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات . . وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة ; وأن الناس - كل الناس - إن هم إلا دواب من الدواب !

وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة ; فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان . . أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه . وأمة تتخذ من دون الله أربابا , وتحاد الله !

ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه , والتدمير على أعدائه - في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال - ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار التاريخ ! لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا الله وحده . . وكانوا هم حزب الله الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصرا سواه .

الدرس الثاني:60 - 68 لقطات من قصة صالح مع ثمود

وحسبنا هذه الوقفات مع إلهامات قصة هود وعاد . لنتابع بعدها سياق السورة مع قصة صالح وثمود .

وإلى ثمود أخاهم صالحا . قال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها . فاستغفروه ثم توبوا إليه , إن ربي قريب مجيب . .

إنها الكلمة التي لا تتغير:

(يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). .

وإنه كذلك المنهج الذي لا يتبدل:

(فاستغفروه ثم توبوا إليه). .

ثم هو التعريف بحقيقة الألوهية كما يجدها في نفسه الرسول:

(إن ربي قريب مجيب). .

وذكرهم صالح بنشأتهم من الأرض . نشأة جنسهم , ونشأة أفرادهم من غذاء الأرض أو من عناصرها التي تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي . ومع أنهم من هذه الأرض . من عناصرها . فقد استخلفهم الله فيها ليعمروها . استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم .

ثم هم بعد ذلك يشركون معه آلهة أخرى . .

(فاستغفروه ثم توبوا إليه). .

واطمئنوا إلى استجابته وقبوله:

(إن ربي قريب مجيب). .

والإضافة في(ربي)ولفظ(قريب)ولفظ(مجيب)واجتماعها وتجاورها . . ترسم صورة لحقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة , وتخلع على الجو أنسا واتصالا ومودة , تنتقل من قلب النبي الصالح إلى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب !

ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها , ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق , ولا وضاءة هذا الجو الطليق . . وإذا بهم يفاجأون , حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون !

(قالوا:يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ! أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ? وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب). .

لقد كان لنا رجاء فيك . كنت مرجوا فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك , أو لهذا جميعه . ولكن هذا الرجاء قد خاب . .

(أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا). .

إنها للقاصمة ! فكل شيء يا صالح إلا هذا ! وما كنا لنتوقع أن تقولها ! فيا لخيبة الرجاء فيك ! ثم إننا لفي شك مما تدعونا إليه . شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول:

(وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب). .

وهكذا يعجب القوم مما لا عجب فيه ; بل يستنكرون ما هو واجب وحق , ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده . لماذا ? لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير . ولكن لأن آباءهم يعبدون هذه الآلهة !

وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين . وأن يعللوا العقائد بفعل الآباء !

وهكذا يتبين مرة ثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد , ومن أوهاق الوهم والخرافة التي لا تستند إلى دليل وتذكرنا قولة ثمود لصالح:

(قد كنت فينا مرجوا قبل هذا). .

تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد [ ص ] وأمانته . فلما أن دعاهم إلى ربوبية الله وحده تنكروا له كما تنكر قوم صالح , وقالوا:ساحر . وقالوا:مفتر . ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه !

إنها طبيعة واحدة , ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور . .

ويقول صالح كما قال جده نوح:

قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة , فمن ينصرني من الله إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير . .

يا قوم:ماذا ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة , تجعلني على يقين من أن هذا هو الطريق ? وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها . فمن ينصرني من الله إن أنا عصيته فقصرت في إبلاغكم دعوته , احتفاظا برجائكم في ? أفنافعي هذا الرجاء وناصري من الله ? كلا:

(فمن ينصرني من الله إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير). .

ما تزيدونني إلا خسارة على خسارة . . غضب الله وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الآخرة . وهي خسارة بعد خسارة . ولا شيء إلا التخسير ! والتثقيل والتشديد !

(ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية , فذروها تأكل في أرض الله , ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب)

ولا يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي أشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلامة . ولكن في إضافتها لله: (هذه ناقة الله)وفي تخصيصها لهم: (لكم آية)ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة , يعلمون بها أنها آية لهم من الله . ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك الخضم من الأساطير والإسرائيليات التي تفرقت بها أقوال المفسرين حول ناقة صالح فيما مضى وفيما سيجيء !

(هذه ناقة الله لكم آية . فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء). .

وإلا فيعالجكم العذاب . يدل على هذه المعاجلة فاء الترتيب في العبارة . ولفظ قريب:

(فيأخذكم عذاب قريب). .

يأخذكم أخذا . وهي حركة أشد من المس أو الوقوع .

(فعقروها . . فقال:تمتعوا في داركم ثلاثة أيام . ذلك وعد غير مكذوب). .

ودل عقرهم للناقة , أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو . دل على فساد قلوبهم واستهتارهم . والسياق هنا لا يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها , لأنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة تغييرا يذكر . ثم ليتابع السياق عجلة العذاب . فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات:

(فعقروها . فقال:تمتعوا في داركم ثلاثة أيام). .

فهي آخر ما بقى لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة:

(ذلك وعد غير مكذوب). .

فهو وعد صادق لن يحيد . .

وبالفاء التعقبية يعبر كذلك . فالعذاب لم يتأخر:

(فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ , إن ربك هو القوي العزيز , وأخذ الذين ظلموا الصيحة , فأصبحوا في ديارهم جاثمين). .

فلما جاء موعد تحقيق الأمر - وهو الإنذار أو الإهلاك - نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا . . خاصة ومباشرة . . نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم , فقد كانت ميتة ثمود ميتة مخزية , وكان مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على هيئتهم مشهدا مخزيا .

(إن ربك هو القوي العزيز). .

يأخذ العتاة أخذا ولا يعز عليه أمرا , ولا يهون من يتولاه ويرعاه .

ثم يعرض السياق مشهدهم , معجبا منهم , ومن سرعة زوالهم:

(كأن لم يغنوا فيها). .

كأن لم يقيموا ويتمتعوا . . وإنه لمشهد مؤثر , وإنها للمسة مثيرة , والمشهد معروض , وما بين الحياة والموت - بعد أن يكون - إلا لمحة كومضة العين , وإذا الحياة كلها شريط سريع . كأن لم يغنوا فيها . . .

ثم الخاتمة المعهودة في هذه السورة:تسجيل الذنب , وتشييع اللعنة , وانطواء الصفحة من الواقع ومن الذكرى:

(ألا إن ثمود كفروا ربهم . ألا بعدا لثمود !). .

تعقيب على قصة صالح مع ثمود

ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ . . الدعوة فيها هي الدعوة . وحقيقة الإسلام فيها هي حقيقته . . عبادة الله وحده بلا شريك , والدينونة لله وحده بلا منازع . . ومرة أخرى نجد الجاهلية التي تعقب الإسلام , ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد - فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين نجوا في السفينة مع نوح - ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية , حتى جاءهم صالح ليردهم إلى الإسلام من جديد . .

ثم نجد أن القوم يواجهون الآية الخارقة التي طلبوها , لا بالإيمان والتصديق , ولكن بالجحود وعقر الناقة !

ولقد كان مشركو العرب يطلبون من رسول الله [ ص ] خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا . فهاهم أولاء قوم صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا . فما أغنت معهم شيئا ! إن الإيمان لا يحتاج إلى الخوارق . إنه دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول . ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول:!!!

ومرة أخرى نجد حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة . قلوب الرسل الكرام . نجدها في قولة صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم: قال:يا قو
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى