منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة التوبه119 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة التوبه119 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة التوبه119 الى اخر السوره الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الأحد مايو 06, 2012 10:28 pm

من الاية 119 الى الاية 119

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

قال كعب رضي اللّه عنه:فلما سلمت على رسول اللّه [ ص ] قال وهو يبرق وجهه من السرور:" أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قلت:أمن عندك يا رسول اللّه أم من عند اللّه ? قال:" لا بل من عند اللّه " وكان رسول اللّه - [ ص ] - إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر , وكنا نعرف ذلك منه . فلما جلست بين يديه قلت:يا رسول اللّه , إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله [ ص ] , قال:" أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فقلت:إني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت يا رسول اللّه إنما أنجاني اللّه بالصدق , وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت . فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه اللّه من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - أحسن مما أبلاني اللّه تعالى , واللّه ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - إلى يومي هذا كذباً , وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي . وأنزل اللّه: لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار - إلى قوله - وكونوا مع الصادقين .

قال كعب:فواللّه ما أنعم اللّه علي من نعمة قط بعد أن هداني اللّه للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول اللّه - [ ص ] - يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه . فإن اللّه قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد , فقال (سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس - إلى قوله - الفاسقين).

هذه هي قصة الثلاثة الذين خلفوا - كما رواها أحدهم كعب بن مالك - وفي كل فقرة منها عبرة , وفيها كلها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي , ومتانة بنائها , وصفاء عناصرها , ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة , ولتكاليف الدعوة , ولقيمة الأوامر , ولضرورة الطاعة .

فهذا كعب بن مالك - وزميلاه - يتخلفون عن ركب رسول اللّه - [ ص ] - في ساعة العسرة . يدركهم الضعف البشري الذي يحبب إليهم الظل والراحة , فيؤثرونهما على الحر والشدة والسفر الطويل والكد الناصب . ولكن كعباً ما يلبث بعد خروج رسول اللّه - [ ص ] - أن يحس ما فعل , يشعره به كل ما حوله:" فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللّه - [ ص ] - يحزنني أنني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق , أو رجلاً ممن عذر اللّه " - يعني بمن عذر اللّه الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون .

فالعسرة لم تقعد بالمسلمين عن تلبية دعوة رسول اللّه - [ ص ] - الى الغزوة البعيدة الشقة . لم يقعد إلا المطعون فيهم المظنون بهم النفاق , وإلا العاجزون الذين عذرهم اللّه . أما القاعدة الصلبة للجماعة المسلمة فكانت أقوى روحاً من العسرة , وأصلب عوداً من الشدة . .

هذه واحدة . والثانية هي التقوى . التقوى التي تلجئ المخطئ إلى الصدق والإقرار . والأمر بعد ذلك للّه:" فقلت:يا رسول اللّه , واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر . لقد أعطيت جدلاً . ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن اللّه أن يسخطك علي . ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى من اللّه . واللّه ما كان لي عذر . واللّه ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك " .

فاللّه حاضر في ضمير المؤمن المخطئ . ومع حرصه البالغ على رضى رسول اللّه - [ ص ] -وهذا الرضى يومئذ يعز ويذل ويرفع ويخفض ويترك المسلم مرموقاً بالأنظار أو مهملاً لا ينظر إليه إنسان - مع هذا فإن مراقبة اللّه أقوى وتقوى اللّه أعمق ; والرجاء في اللّه أوثق .

" ونهى رسول اللّه - [ ص ] - الناس عن كلامنا . أيها الثلاثة . من بين من تخلف عنه , فاجتنبنا الناس - أو قال:تغيروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف . فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما ; وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم . فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين , وأطوف بالأسواق , فلا يكلمني أحد . وآتي رسول اللّه - [ ص ] - فأسلم عليه في مجلسه بعد الصلاة , وأقول في نفسي:هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ? ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر , فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي , فإذا التفت نحوه أعرض عني . حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه فواللّه ما رد علي السلام . فقلت له:يا أبا قتادة أنشدك اللّه تعالى . هل تعلم أني أحب اللّه ورسوله ? قال:فسكت . قال:فعدت فنشدته فسكت , فعدت فنشدته . قال:" اللّه ورسوله أعلم " . ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار " . .

هكذا كان الضبط , وهكذا كانت الطاعة في الجماعة المسلمة - على الرغم من كل ما وقع من خلخلة بعد الفتح ومن بلبلة في ساعة العسرة - . . نهى رسول اللّه [ ص ] عن كلامنا أيها الثلاثة . فلا مخلوق يفتح فمه بكلمة , ولا مخلوق يلقى كعباً بأنس , ولا مخلوق يأخذ منه أو يعطي . حتى ابن عمه وأحب الناس إليه , وقد تسور عليه داره , لا يرد عليه السلام , ولا يجيبه عن سؤال . فإذا أجاب بعد الإلحاح لم يطمئن لهفته ولم يسكن قلقه , إنما قال:" اللّه ورسوله أعلم " .

وكعب في لهفته - وقد تنكرت له الأرض فلم تعد الأرض التي كان يعرف - يتلمس حركة من بين شفتي الرسول - [ ص ] - ويخالسه النظر لعله يعلم أن رسول اللّه قد ألقى إليه بنظرة يحيا على الأمل فيها , ويطمئن إلى أنه لم يقطع من تلك الشجرة , ولم يكتب له الذبول والجفاف !

وبينما هو طريد شريد , لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة - ولو على سبيل الصدقة - يجيئه من قبل ملك غسان كتاب يمنيه بالعزة والكرامة والمجد والجاه . . ولكنه بحركة واحدة يعرض عن هذا كله , وما يزيد على أن يلقي بالكتاب إلى النار , ويعد هذا بقية من البلاء , ويصبر على الابتلاء .

وتمتد المقاطعة فتعزل عنه زوجه . لتدعه فريدا طريدا من الأنس كله , مخلفاً بين الأرض والسماء . فيخجل أن يراجع رسول اللّه - [ ص ] - في امرأته , لأنه لا يدري كيف يكون الجواب .

هذه صفحة . والصفحة الأخرى هي صفحة البشرى . بشرى القبول . بشرى العودة إلى الصف . بشرى التوبة من الذنب . بشرى البعث والعودة إلى الحياة . . "فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللّه منا . قد ضاقت علي نفسي , وضاقت علي الأرض بما رحبت , سمعت صارخاً أوفى َ على جبل سلع يقول بأعلى صوته:يا كعب بن مالك أبشر . فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج . فآذن رسول اللّه - [ ص ] - بتوبة اللّه علينا حين صلى الفجر , فذهب الناس يبشروننا وذهب قِبلَ صاحبيّ مبشرون , وركض إلي رجل فرساً , وسعى ساع من أسلم قِبلي وأوفى على الجبل , فكان الصوت أسرع من الفرس . فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته . واللّه ما أملك غيرهما يومئذ , فاستعرت ثوبين فلبستهما , فانطلقت أؤم رسول اللّه - [ ص ] - يتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئونني بالتوبة ,ويقولون:ليهنك توبة اللّه عليك . حتى دخلت المسجد فإذا رسول اللّه - [ ص ] - جالس في المسجد وحوله الناس , فقام إلي طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني , واللّه ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره . قال:فكان كعب لا ينساها لطلحة " . .

هكذا كانت الأحداث تقدر وتقوّم في هذه الجماعة . وهكذا كانت توبة مقبولة تستقبل وتعظم ; كانت بشرى يركض بها الفارس إلى صاحبها , ويهتف بها راكب الجبل ليكون أسرع بشارة . وكانت التهنئة بها والاحتفاء بصاحبها جميلاً لا ينساه الطريد الذي رد إلى الجماعة واتصلت بها وشائجه , فهو في يوم كما قال عنه رسول اللّه - [ ص ] -:" أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قالها - [ ص ] - وهو يبرق وجهه من السرور , كما قال كعب , فهذا القلب الكبير الكريم الرحيم قد فاض به السرور أن تقبل اللّه توبة ثلاثة من أصحابه وردهم مكرمين إلى جماعته .

تلك هي قصة الثلاثة الذين خلفوا ثم تاب اللّه عليهم , وهذه هي بعض لمحات من دلالتها الواضحة على حياة الجماعة الإسلامية , وعلى القيم التي كانت تعيش بها .

والقصة كما رواها أحد أصحابها , تقرب إلى نفوسنا معنى الآية:

(حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت , وضاقت عليهم أنفسهم , وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه . .). .

(ضاقت عليهم الأرض بما رحبت). . فما الأرض ? إن هي إلا بأهلها . إن هي إلا بالقيم السائدة فيها . إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها . فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني , الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين , وتتقاصر أطرافها , وتنكمش رقعتها , فهم منها في حرج وضيق .

(وضاقت عليهم أنفسهم). .

فكأنما هي وعاء لهم تضيق بهم ولا تسعهم , وتضغطهم فيتكرب أنفاسهم .

(وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه). .

وليس هناك ملجأ من اللّه لأحد , وهو آخذ بأقطار الأرض والسماوات . ولكن ذكر هذه الحقيقة هنا في هذا الجو المكروب يخلع على المشهد ظلاً من الكربة واليأس والضيق , لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى اللّه مفرج الكروب . .

ثم يجيء الفرج . . (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن اللّه هو التواب الرحيم).

تاب عليهم من هذا الذنب الخاص , ليتوبوا توبة عامة عن كل ما مضى , ولينيبوا إلى اللّه إنابة كاملة في كل ما سيأتي . ومصداق هذا في قول كعب:قلت:يا رسول اللّه , إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله . قال:" أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " قال فقلت:فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت:يا رسول اللّه إنما نجاني اللّه بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت . قال:فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه اللّه من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - أحسن مما أبلاني اللّه تعالى . واللّه ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول اللّه - [ ص ] - إلى يومي هذا , وإني لأرجو أن يحفظني اللّه عز وجل فيما بقي .

ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا - في ظلال القرآن - مع هذه القصة الموحية ومع التعبير القرآني الفريد فيها . فحسبنا هنا ما وفق اللّه إليه فيها .

الدرس الرابع:119 دعوة إلى الصدق والترغيب في الجهاد

وفي ظل قصة التوبة على الذين ترددوا والذين تخلفوا ; وفي ظل عنصر الصدق البادي في قصة الثلاثة الذين خلفوا ; يجيء الهتاف للذين آمنوا جميعاً أن يتقوا اللّه ويكونوا مع الصادقين في إيمانهم من أهل السابقة ; ويجيء التنديد بتخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب , مع الوعد بالجزاء السخي للمجاهدين:

يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين . ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه , ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه , ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه , ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار , ولا ينالون من عدو نيلاً , إلا كتب لهم به عمل صالح , إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة , ولا يقطعون وادياً , إلا كتب لهم , ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون . .

إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة , فهم أهلها الأقربون . وهم بها ولها . وهم الذين آووا رسول اللّه - [ ص ] - وبايعوه ; وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله . وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت ; وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة . . فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه , وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه . . وحين يخرج رسول اللّه - [ ص ] - في الحر أوالبرد . في الشدة أو الرخاء . في اليسر أو العسر . ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها , فإنه لا يحق لأهل المدينة , أصحاب الدعوة , ومن حولهم من الأعراب , وهم قريبون من شخص رسول اللّه - [ ص ] - ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا , أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول اللّه [ ص ] .

من أجل هذه الاعتبارات يهتف بهم أن يتقوا اللّه وأن يكونوا مع الصادقين , الذين لم يتخلفوا , ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف , ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع . . وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان:

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين).

ثم يمضي السياق بعد هذا الهتاف مستنكراً مبدأ التخلف عن رسول اللّه:

(ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله , ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه).

وفي التعبير تأنيب خفي . فما يؤنب أحد يصاحب رسول اللّه - [ ص ] بأوجع من أن يقال عنه:إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول اللّه , وهو معه , وهو صاحبه !

وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل . فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله في سبيل هذه الدعوة ; وهو يزعم أنه صاحب دعوة ; وأنه يتأسى فيها برسول الله [ ص ] !
من الاية 120 الى الاية 122

مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

إنه الواجب الذي يوجبه الحياء من رسول اللّه - فضلاً على الأمر الصادر من اللّه ومع هذا فالجزاء عليه ما أسخاه !

ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه , ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار , ولا ينالون من عدو نيلاً , إلا كتب لهم به عمل صالح , إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة , ولا يقطعون وادياً , إلا كتب لهم , ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون . .

إنه على الظمأ جزاء , وعلى النصب جزاء , وعلى الجوع جزاء . وعلى كل موطئ قدم يغيظ الكفار جزاء . وعلى كل نيل من العدو جزاء . يكتب به للمجاهد عمل صالح , ويحسب به من المحسنين الذين لا يضيع لهم اللّه أجراً .

وإنه على النفقة الصغيرة والكبيرة أجر . وعلى الخطوات لقطع الوادي أجر . . أجر كأحسن ما يعمل المجاهد في الحياة .

ألا واللّه , إن اللّه ليجزل لنا العطاء . وإنها واللّه للسماحة في الأجر والسخاء . وإنه لما يخجل أن يكون ذلك كله على أقل مما احتمله رسول اللّه - [ ص ] - من الشدة واللأواء . في سبيل هذه الدعوة التي نحن فيها خلفاء , وعليها بعده أمناء !

الدرس الخامس:122 النفقة في الخروج للجهاد

ويبدو أن تنزل القرآن في هذه السورة بالنكير على المتخلفين ; والتنديد بالتخلف وبخاصة من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ; قد جعل الناس يتزاحمون في المدينة ليكونوا رهن إشارة رسول اللّه - [ ص ] - وبخاصة من القبائل المحيطة بالمدينة . مما اقتضى بيان حدود النفير العام - في الوقت المناسب للبيان من الناحية الواقعية - فقد اتسعت رقعة الأرض الإسلامية حتى كادت الجزيرة كلها تدين للإسلام , وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد , وقد بلغ من عددهم - بعد تخلف المتخلفين في تبوك - نحواً من ثلاثين ألفاً , الأمر الذي لم يتهيأ من قبل في غزوة من غزوات المسلمين . وقد آن أن تتوزع الجهود في الجهاد وفي عمارة الأرض وفي التجارة وفي غيرها من شؤون الحياة التي تقوم بها أمة ناشئة ; وهي تختلف عن مطالب القبيلة الساذجة , وعن حاجات المجتمع القبلي الأولية . . ونزلت الآية التالية تبين هذه الحدود في جلاء:

(وما كان المؤمنون لينفروا كافة , فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة , ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون). .

ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية , وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم . . والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية:أن المؤمنين لا ينفرون كافة . ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة - على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون - لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة ; وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم , بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة . .

والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه - وله أصل من تأويل ابن عباس - رضي اللّه عنهما - ومن تفسير الحسن البصري , واختيار ابن جرير , وقول لابن كثير - أن هذا الدين منهج حركي , لا يفقهه إلا من يتحرك به ; فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه ; بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه ; وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به . أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا ,لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا ; ولا فقهوا فقههم ; ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول اللّه - [ ص ] - والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه .

ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن , من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة , هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين ! ولكن هذا وهم , لا يتفق مع طبيعة هذا الدين . . إن الحركة هي قوام هذا الدين ; ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به , ويجاهدون لتقريره في واقع الناس , وتغليبه على الجاهلية , بالحركة العملية .

والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه ; مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة ! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ; ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق !

إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة . ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة . والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية "يجددون" بها الفقه الإسلامي أو "يطورونه" - كما يقول المستشرقون من الصليبيين ! - وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد , وردهم إلى العبودية للّه وحده , بتحكيم شريعة اللّه وحدها وطرد شرائع الطواغيت . . هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين ; ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين !

إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية . . فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه . وليس العكس هو الصحيح . . وجدت الدينونة للّه وحده , ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه للّه وحده . . والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها ; والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه . . ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة - إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة - وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة للّه وحده , واستيحاء شريعته وحدها , تحقيقاً لهذه الدينونة , جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته . . وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية , وبدأ نمو الفقه الإسلامي . . الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه , والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه . ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة , بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة ! . . من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين , يجيء فقههم للدين من تحركهم به , ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي , يعيش بهذا الدين , ويجاهد في سبيله , ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة .

فأما اليوم . . "فماذا" . . ? أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته للّه وحده ; والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد ; والذي قرر أن تكون شريعة اللّه شريعته ; والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد ?

لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود ! ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه , إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو "تجديده" أو "تطويره ! " في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش . ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة للّه وحده ; وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا للّه , وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة . .

إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو "تجديده" أوتطويره في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته . كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد , يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة , ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة ! . . إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق ; وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع .

إن الدينونة للّه وحده أنشأت المجتمع المسلم ; والمجتمع المسلم أنشأ "الفقه الإسلامي" . . ولا بد من هذا الترتيب . . لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشى ء من الدينونة لله وحده , مصمم على تنفيذ شريعته وحدها . ثم بعد ذلك - لا قبله - ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ , وليس "جاهزا" معدا من قبل ! ذلك أن كل حكم فقهي هو - بطبيعته - تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة , ذات حجم معين , وشكل معين , وملابسات معينة . وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة , داخل الإطار الإسلامي لا بعيدا عنه , وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها ; ومن ثم "يفصل" لها حكم مباشر على "قدها" . . فأما تلك الأحكام "الجاهزة " في بطون الكتب ; فقد "فصلت" من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة الله فعلا . ولم تكن وقتها "جاهزة " باردة ! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية ; وعلينا اليوم أن "نفصل" مثلها للحالات الجديدة . . ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير اللّه في شرائعه ; وألا يفصل حكما شرعيا إلا من شريعة الله دون سواها .

وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر , اللائق بجدية هذا الدين . وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر ; ويمكن من التفقه في الدين حقا . . وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين ; وإلا هروبا من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار "تجديد الفقه الإسلامي" أو "تطويره" ! . . هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير ; وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين !

الدرس السادس:123 الخطة الجهادية في قتال الأقرب فالأقرب

بعد ذلك ترد آية تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك . وهما الخطة والمدى اللذان سار عليهما رسول الله [ ص ] وخلفاؤه من بعده بصفة عامة , فلم تشذ عنها إلا حالات كانت لها مقتضيات واقعة:

(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار , وليجدوا فيكم غلظة , واعلموا أن الله مع المتقين). .

فأما خطة الحركة الجهادية التي تشير إليها الآية في قوله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار). .

فقد سارت عليها الفتوح الإسلامية , تواجه من يلون "دار الإسلام" ويجاورونها , مرحلة فمرحلة . فلما أسلمت الجزيرة العربية - أو كادت ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف قوة يخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة - كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم . ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس , فلم يتركوا وراءهم جيوبا ; ووحدت الرقعة الإسلامية , ووصلت حدودها , فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء , متماسكة الأطراف ; . . ثم لم يأتها الوهن فيما بعد إلا من تمزقها , وإقامة الحدود المصطنعة فيما بينها على أساس ملك البيوت , أو على أساس القوميات ! وهي خطة عمل أعداء هذا الدين على التمكين لها جهد طاقتهم وما يزالون يعملون . وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام "أمة واحدة " في "دار الإسلام" المتصلة الحدود - وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان - ستظل ضعيفة مهيضة إلا أن تثوب إلى دينها , وإلى رايته الواحدة ; وإلا أن تتبع خطى رسول الله [ ص ]
من الاية 123 الى الاية 125

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125)

وتدرك أسرار القيادة الربانية التي كفلت لها النصر والعز والتمكين .

ونقف مرة أخرى أمام قوله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة , واعلموا أن الله مع المتقين). .

فنجد أمرا بقتال الذين يلون المسلمين من الكفار . لا يذكر فيه أن يكونوا معتدين على المسلمين ولا على ديارهم . . وندرك أن هذا هو الأمر الأخير , الذي يجعل "الانطلاق" بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد , وليس هو مجرد "الدفاع" كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة المسلمة في المدينة .

ويريد بعض الذين يتحدثون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام , وعن أحكام الجهاد في الإسلام , وبعض الذين يتعرضون لتفسير آيات الجهاد في القرآن . . أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيدا من النصوص المرحلية السابقة ; فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء ! والنص القرآني بذاته مطلق , وهو النص الأخير ! وقد عودنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام , أن يكون دقيقا في كل موضع ; وألا يحيل في موضع على موضع ; بل يتخير اللفظ المحدد ; ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص . إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص .

ولقد سبق لنا في تقديم السورة في الجزء العاشر , وفي تقديم آيات القتال مع المشركين والقتال مع أهل الكتاب , أن فصلنا القول في دلالة النصوص والأحكام المرحلية والنصوص والأحكام النهائية على طبيعة المنهج الحركي للإسلام فحسبنا ما ذكرناه هناك .

إلا أن الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام , وعن أحكام الجهاد في الإسلام , والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذه الأحكام , يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام ! وأن يكون الله - سبحانه - قد أمر الذين آمنوا أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار , وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار , كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار ! . . يتعاظمهم ويهولهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا , فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة ; ويجدون هذه القيود في النصوص المرحلية السابقة !

إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو . .

إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله" . . جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله . . جهاد لتحرير "الإنسان" من العبودية لغير الله , ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد . . (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). . وأنه ليس جهادا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله . إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد ! وليس جهادا لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم , إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد ! وليس جهادا لإقامة مملكة لعبد , إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض . . ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في "الأرض" كلها , لتحرير "الإنسان" كله . بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها . . فكلها "أرض" يسكنها "الإنسان" وكلها فيها طواغيت تعبد العباد للعباد !

وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج , وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم . . إنها في هذا الوضع لا تستساغ ! وهي فعلا لا تستساغ ! . . لولا أن الأمر ليس كذلك . وليس لهشبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش ! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية . فليس لواحد منها أن يقول:إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء ! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية ; ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعا من ذلة العبودية للعباد ; ويرفع البشر جميعا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك !

ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوما صليبيا منظما لئيما ماكرا خبيثا يقول لهم:إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف , وأن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية ; وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد !

والمسألة على هذا الوضع لا تكون مستساغة . . لولا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق . . إن الإسلام يقوم على قاعدة: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي). . ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيف مجاهدا ; ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)? . . إنه لأمر آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد . . بل لأمر مناقض تماما للإكراه على العقيدة . . إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد ! . . لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد ; يواجه دائما طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد . ويواجه دائما أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد ; تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور ; وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية ; كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم , أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل . . وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله . . ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة , ويدمر هذه القوى التي تحميها . . ثم ماذا ? . . ثم يترك الناس - بعد ذلك - أحرارا حقا في اختيار العقيدة التي يريدونها . إن شاءوا دخلوا في الإسلام , فكان لهم ما للمسلمين من حقوق , وعليهم ما عليهم من واجبات , وكانوا إخوانا في الدين للسابقين في الإسلام ! وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية , إعلانا عن استسلامهم لانطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة ; ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يستسلموا بعد , وتكفل العاجز منهم والضعيف والمريض كالمسلمين سواء بسواء .

إن الإسلام لم يكره فردا على تغيير عقيدته ; كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوبا بأسرها - كشعب الأندلس قديما وشعب زنجبار حديثا - لتكرههم على التنصر . وأحيانا لا تقبل منهم حتى التنصر , فتبيدهم لمجرد أنهم مسلمون . . وأحيانا لمجرد أنهم يدينون بمذهب نصراني مخالف لمذهب الكنيسة الرسمية . . وقد ذهب مثلا اثنا عشر ألفا من نصارى مصر ضحايا بصور بشعة إذ أحرقوا أحياء على نار المشاعل لمجرد مخالفتهم لجزئية اعتقادية عن كنيسة روما تتعلق بإنبثاق الروح القدس من الآب فقط , أو من الآب والابن معا ! أو يتعلق بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية , أو طبيعة لاهوتية ناسوتية . . . إلى آخر هذه الجزيئات الإعتقادية الجانبية !

وأخيرا فإن صورة الإنطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيا في هذا الزمان وتتعاظمهم ; لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الإنطلاق فيهولهم الأمر . . وهو يهول فعلا ! . . فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين , وهم شعوب مغلوبة على أمرها ; أو قليلة الحيلة عموما ! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعا بالقتال , حتى لا تكون فتنة ويكونالدين كله لله ?! إنه لأمر لا يتصور عقلا . . ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلا !

ولكن فات هؤلاء جميعا أن يروا متى كان هذا الأمر ? وفي أي ظرف ? لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله ; دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين , ونظمت على أساسه . وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق , فنصرها الله يوما بعد يوم , وغزوة بعد غزوة , ومرحلة بعد مرحلة . . وأن الزمان قد إستدار اليوم كهيئته يوم بعث الله محمدا [ ص ] ليدعو الناس - في جاهليتهم - إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فجاهد والقلة التي معه حتى قامت الدولة المسلمة في المدينة . وأن الأمر بالقتال مر بمراحل وأحكام مترقية حتى انتهى إلى تلك الصورة الأخيرة . . وأن بين الناس اليوم وهذه الصورة أن يبدأوا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول . . ثم يصلوا - يوم أن يصلوا - إلى هذه الصورة الأخيرة بإذن الله . . ويومئذ لن يكونوا هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والمناهج والأهواء ; والذي تتقاسمه الرايات القومية والجنسية والعنصرية . ولكنهم سيكونون العصبة المسلمة الواحدة التي ترفع راية:لا إله إلا الله . ولا ترفع معها راية أخرى ولا شعارا , ولا تتخذ لها مذهبا ولا منهجا من صنع العبيد في الأرض ; إنما تنطلق بإسم الله وعلى بركة الله . .

إن الناس لا يستطيعون أن يفقهوا أحكام هذا الدين , وهم في مثل ما هم فيه من الهزال ! إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض ومكافحة ألوهية الطواغيت !

إن فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذ عن القاعدين , الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة ! إن فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق . وحفظ ما في متون الكتب . والتعامل مع النصوص في غير حركة , لا يؤهل لفقه هذا الدين , ولم يكن مؤهلا له في يوم من الأيام !

وأخيرا فإن الظروف التي نزل فيها قول الله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة , واعلموا أن الله مع المتقين). .

تشير إلى أن أول المقصودين به كانوا هم الروم . . وهم أهل كتاب . . ولكن لقد سبق في السورة تقرير كفرهم الاعتقادي والعملي , بما في عقيدتهم من انحراف , وبما في واقعهم من تحكيم شرائع العبيد . .

وهذه لفتة لا بد من الوقوف عندها لفقه منهج هذا الدين في الحركة تجاه أهل الكتاب , المنحرفين عن كتابهم , المحتكمين إلى شرائع من صنع رجال فيهم ! . . وهي قاعدة تشمل كل أهل كتاب يتحاكمون - راضين - إلى شرائع من صنع الرجال وفيهم شريعة الله وكتابه , في أي زمان وفي أي مكان !

ثم لقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار وليجدوا فيهم غلظة , وعقب على هذا الأمر بقوله:

(إن الله يحب المتقين). .

ولهذا التعقيب دلالته . . فالتقوى هنا . . التقوى التي يحب الله أهلها . . هي التقوى التي تنطلق في الأرض تقاتل من يلون المسلمين من الكفار ; وتقاتلهم في "غلظة " أي بلا هوادة ولا تميع ولا تراجع . . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .

ولكنه ينبغي أن نعرف وأن يعرف الناس جميعا أنها الغلظة على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم - وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين - وليست هي الغلظة المطلقة من كل قيد وأدب !

إنه قتال يسبقه إعلان , وتخيير بين:قبول الإسلام , أو أداء الجزية , أو القتال . . ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد - في حالة الخوف من الخيانة - [ والأحكام النهائية تجعل العهد لأهل الذمة الذين يقبلون مسالمة الإسلام وأداء الجزية ; ولا عهد في غير هذه الحالة إلا أن يكون بالمسلمين ضعف يجعل الحكم المتعين في حالتهم هذه هو الحكم المرحلي الذي كان في حالة تشبه الحالة التي هم فيها ] .

وهذه آداب المعركة كلها , من وصية رسول الله [ ص ]:

عن بريدة - رضي الله عنه - قال:كان رسول الله [ ص ] إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا , ثم قال:" اغزوا باسم الله , في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا . فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال , فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم , ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين , وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم , فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين , ولا يكون لهم من الغنيمة والفيء شيء , إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . وإن هم أبوا فسلهم الجزية . فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم . . . " . . . [ أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ] .

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال:وجدت امراة مقتولة في بعض مغازي رسول الله [ ص ] فنهى رسول الله [ ص ] عن قتل النساء والصبيان . . [ أخرجه الشيخان ] .

وأرسل النبي [ ص ] معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى أهل اليمن معلما فكانت وصيته له:

"إنك تأتي قوما أهل كتاب , فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله , وأني رسول الله . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم , فترد على فقرائهم . فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم . واتق دعوة المظلوم , فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب " .

وأخرج أبو داود - بإسناده - عن رجل من جهينة . أن رسول الله [ ص ] قال:" لعلكم تقاتلون قوما فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم , فيصالحونكم على صلح , فلا تصيبوا منهم فوق ذلك , فإنه لا يصلح لكم " .

وعن العرباض بن سارية قال:" نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر , ومعه من معه من المسلمين . وكان صاحب خيبر رجلا ماردا متكبرا . فأقبل إلى النبي [ ص ] فقال:يا محمد ! لكم أن تذبحوا حمرنا , وتأكلوا ثمرنا , وتضربوا نساءنا ? فغضب رسول الله [ ص ] وقال:يا ابن عوف اركب فرسك , ثم ناد:إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة . فاجتمعوا , ثم صلى بهم , ثم قام فقال:أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن ! ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء , إنها لمثل القرآن أو أكثر . وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن , ولا ضرب نسائهم , ولا أكل ثمارهم , إذا أعطوا الذي عليهم " .

ورفع إليه [ ص ] بعد إحدى المواقع أن صبية قتلوا بين الصفوف , فحزن حزنا شديدا , فقال بعضهم:ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين ; فغضب النبي [ ص ] ; وقال - ما معناه - إن هؤلاء خير منكم , إنهم على الفطرة , أو لستم أبناء المشركين . فإياكم وقتل الأولاد . إياكم وقتل الأولاد .

وهذه التعليمات النبوية هي التي سار عليها الخلفاء بعده:

روى مالك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له , ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما

وقال زيد بن وهب:أتانا كتاب عمر - رضي الله عنه - وفيه:"لا تغلوا , ولا تغدروا , ولا تقتلوا وليدا , واتقوا الله في الفلاحين " .

ومن وصاياه ! " ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا , وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان , وعند شن الغارات " .

وهكذا تتواتر الأخبار بالخط العام الواضح لمستوى المنهج الإسلامي في قتاله لأعدائه , وفي آدابه الرفيعة , وفي الرعاية لكرامة الإنسان . وفي قصر القتال على القوى المادية التي تحول بين الناس وبين أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . وفي اليسر الذي يعامل به حتى أعداءه . أما الغلظة فهي الخشونة في القتال والشدة ; وليست هي الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة , غير المحاربين أصلا ; وليست تمثيلا بالجثث والأشلاء على طريقة المتبربرين الذين يسمون أنفسهم متحضرين في هذا الزمان . وقد تضمن الإسلام ما فيه الكفاية من الأوامر لحماية غير المحاربين , ولاحترام بشرية المحاربين . إنما المقصود هو الخشونة التي لا تميع المعركة ; وهذا الأمر ضروري لقوم أمروا بالرحمة والرأفة في توكيد وتكرار فوجب استثناء حالة الحرب , بقدر ما تقتضي حالة الحرب , دون رغبة في التعذيب والتمثيل والتنكيل .

الدرس السابع:124 - 127 طريقة المنافقين في تلقي آيات الله

وقبيل ختام السورة التي تكلمت طويلا عن المنافقين , تجيء آيات تصور طريقة المنافقين في تلقي آيات الله وفي استقبال تكاليف هذه العقيدة التي يتظاهرون بها كاذبين ; وإلى جانبها صورة الذين آمنوا وتلقيهم لهذا القرآن الكريم:

وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول:أيكم زادته هذه إيمانا ? فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ; وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون . أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين , ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ? وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض:هل يراكم من أحد ? ثم انصرفوا . صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون . .

والسؤال في الآية الأولى:

(أيكم زادته هذه إيمانا ?). .

سؤال مريب , لا يقوله إلا الذي لم يستشعر وقع السورة المنزلة في قلبه . وإلا لتحدث عن آثارها في نفسه , بدل التساؤل عن غيره . وهو في الوقت ذاته يحمل رائحة التهوين من شأن السورة النازلة والتشكيك في أثرها في القلوب !

لذلك يجيء الجواب الحاسم ممن لا راد لما يقول:
من الاية 126 الى الاية 127

أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون (127)

(فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون , وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون).

فأما الذين آمنوا فقد أضيفت إلى دلائل الإيمان عندهم دلالة فزادتهم إيمانا ; وقد خفقت قلوبهم بذكر ربهم خفقة فزادتهم إيمانا ; وقد استشعروا عناية ربهم بهم في إنزال آياته عليهم فزادتهم إيمانا . . وأما الذين في قلوبهم مرض , الذين في قلوبهم رجس من النفاق , فزادتهم رجسا إلى رجسهم , وماتوا وهم كافرون . . وهو نبأ من الله صادق , وقضاء منه سبحانه محقق .

وقبل أن يعرض السياق الصورة الثانية لاستجابتهم يسأل مستنكرا حال هؤلاء المنافقين الذين لا يعظهم الابتلاء , ولا يردهم الامتحان:

(أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ?).

والفتنة كانت تكون بكشف سترهم , أو بنصر المسلمين بدونهم , أو بغيرهما من الصور , وكانت دائمة الوقوع كثير التكرار في عهد الرسول [ ص ] وما يزال المنافقون يفتنون ولا يتوبون !

فأما الصورة الحية أو المشهد المتحرك فترسمه الآية الأخيرة , في شريط متحرك دقيق:

(وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض:هل يراكم من أحد ? ثم انصرفوا . صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون !).

وإننا - حين نتلو الآية - لنستحضر مشهد هؤلاء المنافقين وقد نزلت سورة . فإذا بعضهم ينظر إلى بعض ويغمز غمزة المريب:

(هل يراكم من أحد ?). .

ثم تلوح لهم غرة من المؤمنين وانشغال فإذا هم يتسللون على أطراف الأصابع في حذر:

(ثم انصرفوا). .

تلاحقهم من العين التي لا تغفل ولا تنشغل دعوة قاصمة تناسب فعلتهم المريبة:

(صرف الله قلوبهم !). .

صرفها عن الهدى فإنهم يستحقون أن يظلوا في ضلالهم يعمهون: (بأنهم قوم لا يفقهون). .

عطلوا قلوبهم عن وظيفتها فهم يستحقون !

إنه مشهد كامل حافل بالحركة ترسمه بضع كلمات , فإذا هو شاخص للعيون كأنها تراه !

الدرس الثامن:128 - 129 من صفات الرسول الحانية ولجوءه إلى الله

وتختم السورة بآيتين ورد أنهما مكيتان , وورد أنهما مدنيتان . ونحن نأخذ بهذا الأخير , ونلمح مناسبتهما في مواضع متفرقة في هذا الدرس وفي جو السورة على العموم . آيتين تتحدث إحداهما عن الصلة بين الرسول وقومه , وعن حرصه عليهم ورحمته بهم . ومناسبتها حاضرة في التكاليف التي كلفتها الأمة المؤمنة في مناصرة الرسول ودعوته وقتال أعدائه واحتمال العسرة والضيق . والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى , فهو وليه وناصره وكافيه:
من الاية 128 الى آخر السورة

لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

(لقد جاءكم رسول من أنفسكم , عزيز عليه ما عنتم , حريص عليكم , بالمؤمنين رؤوف رحيم , فإن تولوا فقل حسبي الله , لا إله إلا هو , عليه توكلت , وهو رب العرش العظيم
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى