منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسيرسورة المائده ايه 35==42 الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسيرسورة المائده ايه 35==42 الشيخ سيد قطب Empty تفسيرسورة المائده ايه 35==42 الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الجمعة أبريل 06, 2012 4:44 pm

من الاية 35 الى الاية 37

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37)

الدرس الثالث 35:ترغيب بالتقوى وبيان عاقبة الكفر والمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالقانون وحده . إنما يرفع سيف القانون ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف . فأما اعتماده الأول فعلى تربية القلب , وتقويم الطبع . وهداية الروح - ذلك إلى جانب إقامة المجتمع ال
من الاية 38 الى الاية 40

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

إن أقصى ما يتصوره الخيال على أساس الافتراض:هو أن يكون للذين كفروا كل ما في الأرض جميعا . ولكن السياق يفترض لهم ما هو فوق الخيال في عالم الافتراض . فيفرض أن لهم ما في الأرض جميعا , ومثله معه ; ويصورهم يحاولون الافتداء بهذا وذلك , لينجوا به من عذاب يوم القيامة . ويرسم مشهدهم وهم يحاولون الخروج من النار . ثم عجزهم عن بلوغ الهدف , وبقاءهم في العذاب الأليم المقيم . .

إنه مشهد مجسم ذو مناظر وحركات متواليات . . منظرهم ومعهم ما في الأرض ومثله معه . . ومنظرهم وهم يعرضونه ليفتدوا به . ومنظرهم وهم مخيبو الطلب غير مقبولي الرجاء . . ومنظرهم وهم يدخلون النار . . ومنظرهم وهم يحاولون الخروج منها . . ومنظرهم وهم يرغمون على البقاء . ويسدل الستار , ويتركهم مقيمين هناك !

وفي نهاية هذا الدرس يرد حكم السرقة:

الدرس الرابع:38 - 40 حد السرقة والتوبة

(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا - نكالا من الله - والله عزيز حكيم . فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه , إن الله غفور رحيم . ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض , يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء , والله على كل شيء قدير). .

إن المجتمع المسلم يوفر لأهل دار الإسلام - على اختلاف عقائدهم - ما يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية . . إنه يوفر لهم ضمانات العيش والكفاية . وضمانات التربية والتقويم . وضمانات العدالة في التوزيع . وفي الوقت ذاته يجعل كل ملكية فردية فيه تنبت من حلال ; ويجعل الملكية الفردية وظيفة اجتماعية تنفع المجتمع ولا تؤذيه . . ومن أجل هذا كله يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية . . فمن حقه إذن أن يشدد في عقوبة السرقة , والاعتداء على الملكية الفردية , والاعتداء على أمن الجماعة . . ومع تشديده فهو يدرأ الحد بالشبهة ; ويوفر الضمانات كاملة للمتهم حتى لا يؤخذ بغير الدليل الثابت . .

ولعله من المناسب أن نفصل شيئا في هذا الإجمال . .

إن النظام الإسلامي كل متكامل , فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر في طبيعة النظام وأصوله ومبادئه وضماناته . كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملا ; ويعمل به جملة . أما الاجتزاء بحكم من أحكام الإسلام , أو مبدأ من مبادئه , في ظل نظام ليس كله إسلاميا , فلا جدوى له ; ولا يعد الجزء المقتطع منه تطبيقا للإسلام . لأن الإسلام ليس أجزاء وتفاريق . الإسلام هو هذا النظام المتكامل الذي يشمل تطبيقه كل جوانب الحياة . .

هذا بصفة عامة . أما بالنسبة لموضوع السرقة , فالأمر لا يختلف . .

إن الإسلام يبدأ بتقرير حق كل فرد , في المجتمع المسلم في دار الإسلام , في الحياة . وحقه في كل الوسائل الضرورية لحفظ الحياة . . من حق كل فرد أن يأكل وأن يشرب وأن يلبس وأن يكون له بيت يكنه ويؤويه , ويجد فيه السكن والراحة . . من حق كل فرد على الجماعة - وعلى الدولة النائبة عن الجماعة - أن يحصل على هذه الضروريات . . أولا عن طريق العمل - ما دام قادرا على العمل - وعلى الجماعة - والدولة النائبة عن الجماعة - أن تعلمه كيف يعمل , وأن تيسر له العمل , وأداة العمل . . فإذا تعطل لعدم وجود العمل , أو أداته , أو لعدم قدرته على العمل , جزئيا أو كليا , وقتيا أو دائما . أو إذا كان كسبه من عمله لا يكفي لضرورياته . فله الحق في استكمال هذه الضروريات من عدة وجوه:أولا:من النفقة التي تفرض له شرعاعلى القادرين في أسرته . وثانيا على القادرين من أهل محلته . وثالثا:من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له في الزكاة . فإذا لم تكف الزكاة فرضت الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الإسلام كلها في دار الإسلام , ما يحقق الكفاية للمحرومين في مال الواجدين ; بحيث لا تتجاوز هذه الحدود , ولا تتوسع في غير ضرورة . ولا تجور على الملكية الفردية الناشئة من حلال . .

والإسلام كذلك يتشدد في تحديد وسائل جمع المال ; فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا من حلال . . ومن ثم لا تثير الملكية الفردية في المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون ; ولا تثير أطماعهم في سلب ما في أيدي الآخرين . وبخاصة أن النظام يكفل لهم الكفاية ; ولا يدعهم محرومين . والإسلام يربى ضمائر الناس وأخلاقهم ; فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب عن طريقة ; لا إلى السرقة والكسب عن طريقها . . فإذا لم يوجد العمل , أو لم يكف لتوفير ضرورياتهم , أعطاهم حقهم بالوسائل النظيفة الكريمة . .

وإذن فلماذا يسرق السارق في ظل هذا النظام ? إنه لا يسرق لسد حاجة . إنما يسرق للطمع في الثراء من غير طريق العمل . والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذي يروع الجماعة المسلمة في دار الإسلام . ويحرمها الطمأنينة التي من حقها أن تستمتع بها . ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال .

وإنه لمن حق كل فرد في مثل هذا المجتمع , كسب ماله من حلال , لا من ربا , ولا من غش , ولا من احتكار , ولا من أكل أجور العمال , ثم أخرج زكاته , وقدم ما قد تحتاج إليه الجماعة من بعد الزكاة . . من حق كل فرد في مثل هذا النظام أن يأمن على ماله الخاص , وألا يباح هذا المال للسرقات أو لغير السرقات .

فإذا سرق السارق بعد ذلك كله . . إذا سرق وهو مكفي الحاجة , متبين حرمة الجريمة , غير محتاج لسلب ما في أيدي الآخرين , لأن الآخرين لم يغصبوا أموالهم ولم يجمعوها من حرام . . إذا سرق في مثل هذه الأحوال . فإنه لا يسرق وله عذر . ولا ينبغي لأحد أن يرأف به متى ثبتت عليه الجريمة .

فأما حين توجد شبهة من حاجة أو غيرها , فالمبدأ العام في الإسلام هو درء الحدود بالشبهات . لذلك لم يقطع عمر - رضي الله عنه - في عام الرمادة , حينما عمت المجاعة . ولم يقطع كذلك في حادثة خاصة ; عندما سرق غلمان ابن حاطب بن أبي بلتعة ناقة من رجل من مزينة . فقد أمر بقطعهم ; ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم , درا عنهم الحد ; وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له . .

وهكذا ينبغي أن تفهم حدود الإسلام , في ظل نظامه المتكامل ; الذي يضع الضمانات للجميع لا لطبقة على حساب طبقة . . والذي يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة . والذي لا يعاقب إلا المعتدين بلا مبرر للاعتداء . .

وبعد بيان هذه الحقيقة العامة نستطيع أن نأخذ في الحديث عن حد السرقة . .

السرقة هي أخذ مال الغير والمحرز , خفية . . فلا بد أن يكون المأخوذ مالا مقوما . . والحد المتفق عليه تقريبا بين فقهاء المسلمين للمال الذي يعد أخذه من حرزه خفية سرقة هو ما يعادل ربع دينار . . أي حوالي خمسة وعشرين قرشا بنقدنا الحاضر . . ولا بد أن يكون هذا المال محرزا وأن يأخذه السارق من حرزه , ويخرج به عنه . . فلا قطع مثلا على المؤتمن على مال إذا سرقه . والخادم المأذون له بدخول البيت لا يقطع فيما يسرق لانه ليس محرزا منه . ولا على المستعير إذا جحد العارية . ولا على الثمار في الحقل حتى يؤويها الجرين . ولا على المال خارج البيت أو الصندوق المعد لصيانته . . وهكذا . . ولا بد أن يكون هذا المال المحرز للغير . . فلا قطعحين يسرق الشريك من مال شريكه لأن له فيه شركة فليس خالصا للغير . والذي يسرق من بيت مال المسلمين لا يقطع لأن له نصيبا فيه فليس خالصا للغير كذلك . . والعقوبة في مثل هذه الحالات ليست هي القطع , وإنما هي التعزيز . . [ والتعزيز عقوبة دون الحد , بالجلد أو بالحبس أو بالتوبيخ أو بالموعظة في بعض الحالات التي يناسبها هذا حسب رأي القاضي والظروف المحيطة ] .

والقطع يكون لليد اليمنى إلى الرسغ . فإذا عاد كان القطع في الرجل اليسرى إلى الكعب وهذا هو القدر المتفق عليه في القطع . . ثم تختلف بعد ذلك آراء الفقهاء عند الثالثة والرابعة .

والشبهه تدرأ الحد . . فشبهة الجوع والحاجة تدرأ الحد . وشبهة الشركة في المال تدرأ الحد . ورجوع المعترف في اعترافه - إذا لم يكن هناك شهود - شبهة تدرأ الحد . ونكول الشهود شبهة . . وهكذا . .

ويختلف الفقهاء فيما يعدونه شبهة . فأبو حنيفة مثلا يدرأ الحد في سرقة ما هو مباح الأصل - حتى بعد إحرازه - كسرقة الماء بعد إحرازه , وسرقة الصيد بعد صيده , لأن كليهما مباح الأصل . وإباحة الأصل تورث شبهة في بقائه مباحا بعد إحرازه . والشركة العامة فيه تورث شبهة في بقاء الشركة بعد الإحراز . . بينما مالك والشافعي وأحمد لا يدرأون الحد في مثل هذه الحالة . ويدرأ أبو حنيفة الحد في سرقة كل ما يسارع إليه الفساد , كالطعام الرطب والبقول واللحم والخبز وما أشبه . ويخالفه أبو يوسف ويأخذ برأي الثلاثة .

ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال , فتطلب في كتب الفقة ; وحسبنا هذه الأمثلة للدلالة على سماحة الإسلام وحرصه على ألا يأخذ الناس بالشبهات . . ورسول الله [ ص ] يقول:"ادرأوا الحدود بالشبهات" وعمر ابن الخطاب يقول:" لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات" . .

ولكن لا بد من كلمة في ملاءمة عقوبة القطع في السرقة ; بعد بيان موجبات التشدد في أخذ السارق بالحد , في المجتمع المسلم في دار الإسلام ; بعد توافر أسباب الوقاية وضمانات العدالة . .

وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد كسبه بكسب غيره . فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال , ويريد أن ينميه من طريق الحرام . وهو لا يكتفي بثمرة عمله , فيطمع في ثمرة عمل غيره . وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور , أو ليرتاح من عناء الكد والعمل . أو ليأمن على مستقبله . فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب أو زيادة الثراء . . وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع . لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب , إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أيا كان . ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء . وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور , ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل , والتخوف الشديد على المستقبل .

فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة . فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية , وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة , فلا يعود للجريمة مرة ثانية .

ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية . وإنه لعمري خير أساس قامتفالقسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم"

والله - سبحانه - وهو أرحم الراحمين يقول وهو يشدد عقوبة السرقة:

(فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله . .)

فهي تنكيل من الله رادع . والردع عن ارتكاب الجريمة رحمة بمن تحدثه نفسه بها , لأنه يكفه عنها , ورحمة بالجماعة كلها لأنه يوفر لها الطمأنينة . . ولن يدعي أحد أنه أرحم بالناس من خالق الناس , إلا وفي قلبه عمى , وفي روحه أنطماس ! والواقع يشهد أن عقوبة القطع لم تطبق في خلال نحو قرن من الزمان في صدر الإسلام إلا في آحاد ; لأن المجتمع بنظامه , والعقوبة بشدتها , والضمانات بكفايتها لم تنتج إلا هذه الآحاد .

ثم يفتح الله باب التوبة لمن يريد أن يتوب , على أن يندم ويرجع ويكف ; ثم لا يقف عند هذه الحدود السلبية , بل يعمل عملا صالحا , ويأخذ في خير إيجابي:

(فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح , فإن الله يتوب عليه , إن الله غفور رحيم). .

فالظلم عمل إيجابي شرير مفسد ; ولا يكفي أن يكف الظالم عن ظلمه ويقعد:بل لا بد أن يعوضه بعمل إيجابي خير مصلح . . على أن الأمر في المنهج الرباني أعمق من هذا . . فالنفس الإنسانية لا بد أن تتحرك , فإذا هي كفت عن الشر والفساد ولم تتحرك للخير والصلاح بقي فيها فراغ وخواء قد يرتدان بها إلى الشر والفساد . فأما حين تتحرك إلى الخير والصلاح فإنها تأمن الارتداد إلى الشر والفساد ; بهذه الإيجابية وبهذا الامتلاء . . إن الذي يربي بهذا المنهج هو الله . . الذي خلق والذي يعلم من خلق . .

وعلى ذكر الجريمة والعقوبة , وذكر التوبة والمغفرة , يعقب السياق القرآني بالمبدأ الكلي الذي تقوم عليه شريعة الجزاء في الدنيا والآخرة . فخالق هذا الكون ومالكه هو صاحب المشيئة العليا فيه , وصاحب السلطان الكلي في مصائره . هو الذي يقرر مصائره ومصائر من فيه , كما أنه هو الذي يشرع للناس في حياتهم , ثم يجزيهم على عملهم في دنياهم وآخرتهم .

(ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير).

فهي سلطة واحدة . . سلطة الملك . . يصدر عنها التشريع في الدنيا ويصدر عنها الجزاء في الآخرة , ولا تعدد ولا انقسام ولا انفصام . . ولا يصلح أمر الناس إلا حين تتوحد سلطة التشريع وسلطة الجزاء , في الدنيا والآخرة سواء . . و (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). . (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله). .

الوحدة الرابعة:41 - 50 الموضوع:الحكم والشريعة والتقاضي مقدمة الوحدة الإقرار بألوهية الله وربوبيته يتناول هذا الدرس أخطر قضية من قضايا العقيدة الإسلامية , والمنهج الإسلامي . ونظام الحكم والحياة في الإسلام . . وهي القضية التي عولجت في سورتي آل عمران والنساء من قبل . . ولكنها هنا في هذه السورة تتخذ شكلا محددانها قضية الحكم والشريعه والتقاضي - ومن ورائها قضية الألوهيه والتوحيد والايمان - والقضيه في جوهرها تتلخص في الاجابه على هذا السؤال:

أيكون الحكم والشريعه والتقاضي حسب مواثيق الله وعقوده وشرائعه التي استحفظ عليها اصحاب الديانات السماويه واحده بعد الأخرى ; وكتبها على الرسل , وعلى من يتولون الأمر بعدهم ليسيروا على هداهم ? أم يكون ذلك كُله للأهواء المتقلبه , والمصالح التي لا ترجع الى أصل ثابت من شرع الله , والعرف الذي يصطلح عليه جيل أو أجيال ? وبتعبير آخر:أتكون الألوهيه والربوبيه والقوامة لله في الأرض وفي حياة الناس ? أم تكون كلها أو بعضها لأحد من خلقه يشرع للناس ما لم يأذن به الله ?

الله - سبحانه - يقول:إنه هو الله لا آله إلا هو . وإن شرائعه التي سنها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له , وعاهدهم عليها وعلى القيام بها ; هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض , وهي التي يجب أن يتحاكم إليها الناس , وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام . .

والله - سبحانه - يقول:إنه لا هوادة في هذا الأمر , ولا ترخص في شيء منه , ولا انحراف عن جانب ولو صغير . وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل , أو لما اصطلح عليه قبيل , مما لم يأذن به الله في قليل ولا كثيرا !

والله - سبحانه - يقول:إن المسألة - في هذا كله - مسألة إيمان أو كفر ; أو إسلام أو جاهلية ; وشرع أو هوى . وإنه لا وسط في هذا الأمر ولا هدنة ولا صلح ! فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله - لا يخرمون منه حرفا ولا يبدلون منه شيئا - والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله .

وأنه إما أن يكون الحكام قائمين على شريعة الله كاملة فهم في نطاق الإيمان . وإما أن يكونوا قائمين على شريعة أخرى مما لم يإذن به الله , فهم الكافرون الظالمون الفاسقون . وأن الناس إما أن يقبلوا من الحكام والقضاة حكم الله وقضاءه في أمورهم فهم مؤمنون . . وإلا فما هم بالمؤمنين . . ولا وسط بين هذا الطريق وذاك ; ولا حجة ولا معذرة , ولا احتجاج بمصلحة . فالله رب الناس يعلم ما يصلح للناس ; ويضع شرائعة لتحقيق مصالح الناس الحقيقية . وليس أحسن من حكمه وشريعته حكم أو شريعة . وليس لأحد من عباده أن يقول:إنني أرفض شريعة الله , أو إنني أبصر بمصلحة الخلق من الله . . فإن قالها - بلسانه أو بفعله - فقد خرج من نطاق الإيمان . .

هذه هي القضية الخطيرة الكبيرة التي يعالجها هذا الدرس في نصوص تقريرية صريحة . . ذلك إلى جانب ما يصوره من حال اليهود في المدينة , ومناوراتهم ومؤامراتهم مع المنافقينSadمن الذين قالوا:آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم). وما يوجه به رسول الله [ ص ] لمواجهة هذا الكيد الذي لم تكف عنه يهود , منذ أن قامت للإسلام دولة في المدينة . .

والسياق القرآني في هذا الدرس يقرر أولا:توافي الديانات التي جاءت من عندالله كلها على تحتيم الحكم بما أنزله الله ; وإقامة الحياة كلها على شريعة الله ; وجعل هذا الأمر مفرق الطريق بين الإيمان والكفر ; وبين الإسلام والجاهلية ; وبين الشرع والهوى . . فالتوراة أنزلها الله فيها هدى ونور: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء). . (وعندهم التوارة فيها حكم الله). . (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . . الخ). . والإنجيل آتاه الله عيسى بن مريم (مصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين . وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه). . والقرآنأنزله الله على رسوله (بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه)وقال له: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق). . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون). .(أفحكم الجاهلية يبغون ? ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ?). . وكذلك تتوافى الديانات كلها على هذا الأمر , ويتعين حد الإيمان وشرط الإسلام , سواء للمحكومين أو للحكام . . والمناط هو الحكم بما أنزل الله من الحكام , وقبول هذا الحكم من المحكومين , وعدم ابتغاء غيره من الشرائع والأحكام . .

والمسألة في هذا الوضع خطيرة ; والتشدد فيها على هذا النحو يستند إلى إسباب لا بد خطيرة كذلك . فما هي يا ترى هذه الأسباب ? إننا نحاول أن نتلمسها سواء في هذه النصوص أو في السياق القرآني كله , فنجدها واضحة بارزة . .

إن الاعتبار الأول في هذه القضية هو أنها قضية الإقرار بألوهية الله وربوبيته وقوامته على البشر - بلا شريك - أو رفض هذا الإقرار . . ومن هنا هي قضية كفر أو إيمان , وجاهلية أو إسلام . .

. . . والقرآن كله معرض بيان هذه الحقيقة . .

إن الله هو الخالق . . خلق هذا الكون , وخلق هذا الإنسان . وسخر ما في السماوات والأرض لهذا الإنسان . . وهو - سبحانه - متفرد بالخلق , لا شريك له في كثير منه أو قليل .

وإن الله هو المالك . . بما أنه هو الخالق . . ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما . . فهو - سبحانه - متفرد بالملك . لا شريك له في كثير منه أو قليل .

وإن الله هو الرازق . . فلا يملك أحد أن يرزق نفسه أو غيره شيئا . لا من الكثير ولا من القليل . .

وإن الله هو صاحب السلطان المتصرف في الكون والناس . . بما أنه هو الخالق المالك الرازق . . وبما أنه هو صاحب القدرة التي لا يكون بدونها خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر . وهو - سبحانه - المتفرد بالسلطان في هذا الوجود .

والإيمان هو الإقرار لله - سبحانه - بهذه الخصائص . الألوهية , والملك , والسلطان . . . متفردا بها لا يشاركه فيها أحد . والإسلام هو الاستسلام والطاعة لمقتضيات هذه الخصائص . . هو إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة على الوجود كله - وحياة الناس ضمنا - والاعتراف بسلطانه الممثل في قدره ; والممثل كذلك في شريعته . فمعنى الاستسلام لشريعة الله هو - قبل كل شيء - الاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته وسلطانه . ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة , واتخاذ شريعة غيرها في أية جزئية من جزئيات الحياة , هو - قبل كل شيء - رفض الاعتراف بألوهية الله وربوبيته وقوامته وسلطانه . . ويستوي أن يكون الاستسلام أو الرفض باللسان أو بالفعل دون القول . . وهي من ثم قضية كفر أو إيمان ; وجاهلية أو إسلام . ومن هنا يجيء هذا النص: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). .(الظالمون). .(الفاسقون).

والاعتبار الثاني هو اعتبار الأفضلية الحتمية المقطوع بها لشريعة الله على شرائع الناس . . هذه الأفضلية التي تشير إليها الآية الأخيرة في هذا الدرس: (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ?). .

والاعتراف المطلق بهذه الأفضلية لشريعة الله , في كل طور من أطوار الجماعة , وفي كل حالة من حالاتها . . هو كذلك داخل في قضية الكفر والإيمان . . فما يملك إنسان أن يدعي أن شريعة أحد من البشر , تفضل أو تماثل شريعة الله , في أية حالة أو في أي طور من أطوار الجماعة الإنسانية . . ثم يدعي - بعد ذلك - أنه مؤمنبالله , وأنه من المسلمين . . إنه يدعي أنه أعلم من الله بحال الناس ; وأحكم من الله في تدبير أمرهم . أو يدعي أن أحوالا وحاجات جرت في حياة الناس , وكان الله - سبحانه - غير عالم بها وهو يشرع شريعته ; أو كان عالما بها ولكنه لم يشرع لها ! ولا تستقيم مع هذا الادعاء دعوى الإيمان والإسلام . مهما قالها باللسان !

فأما مظاهر هذه الأفضلية فيصعب إدراكها كلها . فإن حكمة شرائع الله لا تنكشف كلها للناس في جيل من الأجيال . والبعض الذي ينكشف يصعب التوسع في عرضه هنا . . في الظلال . . فنكتفي منه ببعض اللمسات:

إن شريعة الله تمثل منهجا شاملا متكاملا للحياة البشرية ; يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية ; في جميع حالاتها , وفي كل صورها وأشكالها . .

وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني , والحاجات الإنسانية , وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان ; وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية . . ومن ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة ; ولا يقع فيه ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني ; ولا أي تصادم مدمر بين هذا النشاط والنواميس الكونية ; إنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق . . الأمر الذي لا يتوافر أبدا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرا من الأمر ; وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة ; ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني ; ولا يخلو من التصادم المدمر بين بعض ألوان النشاط وبعض . والهزات العنيفة الناشئة عن هذا التصادم .

وهو منهج قائم على العدل المطلق . . أولا . . لأن الله يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق . . وثانيا . . لأنه - سبحانه - رب الجميع ; فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع ; وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف - كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط - الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان , ذي الشهوات والميول , والضعف والهوى - فوق ما به من الجهل والقصور - سواء كان المشرع فردا , أو طبقة , أو أمة , أو جيلا من أجيال البشر . . فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها ; فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد . .

وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله . لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله . صانع الكون وصانع الإنسان . فإذا شرع للإنسان شرع له كعنصر كوني , له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه ; بشرط السير على هداه , وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها . . ومن هنا يقع التناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه ; وتأخذ الشريعة التي تنظم حياته طابعا كونيا , ويتعامل بها لا مع نفسه فحسب , ولا مع بني جنسه فحسب ! ولكن كذلك مع الأحياء والأشياء في هذا الكون العريض , الذي يعيش فيه , ولا يملك أن ينفذ منه , ولا بد له من التعامل معه وفق منهاج سليم قويم .

ثم . . إنه المنهج الوحيد الذي يتحرر فيه الإنسان من العبودية للإنسان . . ففي كل منهج - غير المنهج الإسلامي - يتعبد الناس الناس . ويعبد الناس الناس . وفي المنهج الإسلامي - وحده - يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك . .

إن أخص خصائص الألوهية - كما أسلفنا - هي الحاكمية . . والذي يشرع لمجموعة من الناس يأخذ فيهم مكان الألوهية ويستخدم خصائصها . فهم عبيده لا عبيد الله , وهم في دينه لا في دين الله .

والإسلام حين يجعل الشريعه لله وحده , يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ويعلن تحرير الإنسان . بل يعلن "ميلاد الإنسان" . . فالإنسان لا يولد , ولا يوجد , إلا حيث تتحرر رقبتة من حكم إنسان مثله وإلا حين يتساوى في هذا الشأن مع الناس جميعاً أمام رب الناس . .

إن هذه القضيه التي تعالجها نصوص هذا الدرس هي أخطر وأكبر قضايا العقيده . . إنها قضية الألوهيه والعبوديه . قضية العدل والصلاح . قضية الحريه والمساوا . قضية تحرر الإنسان - بل ميلاد الإنسان - وهي من أجل هذا كله كانت قضية الكفر أو الإيمان , وقضية الجاهلية أو الإسلام . .

والجاهليه ليست فتره تاريخيه ; إنما هي حاله توجد كلما وجدت مقوماتها في وضع أو نظام . . وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر , لا إلى منهج الله وشريعته للحياة . ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد , أو أهواء طبقه , أو أهواء أمه , أو أهواء جيل كامل من الناس . . فكلها . . ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله . . أهواء . .

يشرع فرد لجماعه فإذا هي جاهليه . لأن هواه هو القانون . . أو رأيه هو القانون . . لا فرق إلا في العبارات ! وتشرع طبقه لسائر الطبقات فإذا هي جاهليه . لأن مصالح تلك الطبقه هي القانون - أو رأي الأغلبيه البرلمانيه هو القانون - فلا فرق إلا في العبارات!

ويشرع ممثلوا جميع الطبقات وجميع القطاعات في الأمه لأنفسهم فإذا هي جاهليه . . لأن أهواء الناس الذين لا يتجردون أبداً من الأهواء , ولأن جهل الناس الذين لا يتجردون أبداً من الجهل , هو القانون - أو لأن رأي الشعب هو القانون - فلا فرق إلا في العبارات!

وتشرع مجموعه من الأمم للبشريه فإذا هي جاهليه . لأن أهدافها القوميه هي القانون - أو رأي المجامع الدوليه هو القانون - فلا فرق إلا في العبارات!

ويشرع خالق الأفراد , وخالق الجماعات , وخالق الأمم والأجيال , للجميع , فإذا هي شريعة الله التي لا محاباه فيها لأحد على حساب أحد . لا لفرد ولا لجماعه ولا لدوله , ولا لجيل من الأجيال . لأن الله رب الجميع والكل لديه سواء . ولأن الله يعلم حقيقة الجميع ومصلحة الجميع , فلا يفوته - سبحانه - أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم بدون تفريط ولا إفراط .

ويشرع غير الله للناس . . فإذا هم عبيد من يشرع لهم . كائناًمن كان . فردً أو طبقه أو أمه أو مجموعه من الأمم . .

ويشرع الله للناس . . فإذا هم كلهم أحرار متساوون , لا يحنون جباههم إلا لله , ولا يعبدون إلا الله . ومن هنا خطورة هذه القضيه في حياة بني الإنسان , وفي نظام الكون كله: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن). . فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج في النهايه عن نطاق الإيمان . . بنص القرآن . .

الدرس الأول:40 ذم المنافقين لتحاكمهم إلى غير الله ورسوله

(يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , من الذين قالوا:آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم , ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب , سماعون لقوم آخرين لم يأتوك , يحرفون الكلم من بعد مواضعه ,من الاية 41 الى الاية 42

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)

يقولون:إن أوتيتم هذا فخذوه , وإن لم تؤتوه فاحذروا . ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً . أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم . لهم في الدنيا خزي , ولهم في الآخره عذاب عظيم . سماعون للكذب , أكالون للسحت . فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط . إن الله يحب المقسطين . وكيف يحكمونك - وعندهم التوراه فيها حكم الله - ثم يتولون من بعد ذلك ? وما أولئك بالمؤمنين). .

هذه الآيات تشي بأنها مما نزل في السنوات الأولى للهجرة ; حيث كان اليهود ما يزالون بالمدينه - أي قبل غزوة الأحزاب على الأقل وقبل التنكيل ببني قريظه إن لم يكن قبل ذلك , أيام أن كان هناك بنو النضير وبنو قينقاع , وأولاهما أجليت بعد أحد والثانيه أجليت قبلها - ففي هذه الفترة كان اليهود يقومون بمناوراتهم هذه ; وكان المنافقون يأرزون إليهم كما تأرز الحيه إلى الجحر! وكان هؤلاء وهؤلاء يسارعون في الكفر ; ولو قال المنافقون بأفواههم:آمنا . . وكان فعلهم هذا يحزن الرسول [ ص ] ويؤذيه . .

والله - سبحانه - يعزي رسوله [ ص ] ويواسيه ; ويهون عليه فعال القوم , ويكشف للجماعه المسلمه حقيقة المسارعين في الكفر من هؤلاء وهؤلاء ; ويوجه الرسول [ ص ] إلى المنهج الذي يسلكه معهم حين يأتون إليه متحاكمين ; بعد ما يكشف له عما تآمروا عليه قبل أن يأتوا إليه وما بيتوه: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , من الذين قالوا:آمنا , بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم , ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب , سماعون لقوم آخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون:إن أوتيتم هذا فخذوه , وإن لم تؤتوه فاحذروا . . .)

روي أن هذه الآيات نزلت في قوم من اليهود ارتكبوا جرائم - تختلف الروايات في تحديدها - منها الزنا ومنها السرقه . . وهي من جرائم الحدود في التوراة ; ولكن القوم كانوا قد اصطلحوا على غيرها ; لأنهم لم يريدوا أن يطبقوها على الشرفاء فيهم في مبدأ الأمر . ثم تهاونوا فيها بالقياس إلى الجميع , وأحلوا محلها عقوبات أخرى من عقوبات التعازير [ كما صنع الذين يزعمون أنهم مسلمون في هذا الزمان! ] . . فلما وقعت منهم هذه الجرائم في عهد الرسول [ ص ] تآمروا على أن يستفتوه فيها . . فإذا أفتى لهم بالعقوبات التعزيريه المخففه عملوا بها , وكانت هذه حجه لهم عند الله . . فقد أفتاهم بها رسول ! . . وإن حكم فيها بمثل ما عندهم في التوراة لم يأخذوا بحكمه . . فدسوا بعضهم يستفتيه . . ومن هنا حكاية قولهم:

(إن أوتيتم هذا فخذوه , وإن لم تؤتوه فاحذروا). .

وهكذا بلغ منهم العبث , وبلغ منهم الاستهتار , وبلغ منهم الالتواء أيضاً في التعامل مع الله والتعامل مع رسول الله [ ص ] هذا المبلغ . . وهي صورة تمثل أهل كل كتاب حين يطول عليهم الأمد , فتقسو قلوبهم ; وتبرد فيها حرارة العقيده , وتنطفى ء شعلتها ; ويصبح التفصي من هذه العقيده وشرائعها وتكاليفها هو الهدف الذي يبحث له عن الوسائل ; ويبحث له عن "الفتاوي" لعلها تجد مخرجاً وحيله ; أليس الشأن كذلك اليوم بين الذين يقولون:إنهم مسلمون: (من الذين قالوا:آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)!

أليسوا يتلمسون الفتوى للاحتيال على الدين لا لتنفيذ الدين ? أليسوا يتمسحون بالدين احياناً لكي يقر لهم أهواءهم ويوقع بالموافقه عليها! فأما إن قال الدين كلمة الحق وحكم الحق فلا حاجة بهم إليه . . (يقولون:إن أوتيتم هذا فخذوه ; وإن لم تؤتوه فاحذروا)! إنه الحال نفسه . ولعله لهذا كان الله - سبحانه _يقص قصة بني إسرائيل بهذا الإسهاب وهذا التفصيل , لتحذر منها أجيال "المسلمين" وينتبه الواعون منها لمزالق الطريق .

والله سبحانه - يقول لرسوله في شأن هؤلاء المسارعين بالكفر , وفي شأن هؤلاء المتآمرين المبيتين لهذه الألاعيب:لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . فهم يسلكون سبيل الفتنه , وهم واقعون فيها , وليس لك من الأمر شيء , وما أنت بمستطيع أن تدفع عنهم الفتنه وقد سلكوا طريقها ولجوا فيها: (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً). .

وهؤلاء دنست قلوبهم , فلم يرد الله أن يطهرها , وأصحابها يلجون في الدنس: (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم). .

وسيجزيهم بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخره: (لهم في الدنيا خزي , ولهم في الآخرة عذاب عظيم). .

فلا عليك منهم , ولا يحزنك كفرهم , ولا تحفل بأمرهم . فهو أمر مقضي فيه . .

ثم يمضي في بيان حال القوم , وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك , قبل أن يبين لرسول الله [ ص ] كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين:

(سماعون للكذب , أكالون للسحت . فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط , إن الله يحب المقسطين). .

كرر أنهم سماعون للكذب . مما يشي بأن هذه أصبحت خصله لهم . . تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل , وتنقبض لسماع لحق والصدق . . وهذه طبيعة القلوب حين تفسد , وعادة الأرواح حين تنطمس . . ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفه , وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات . . وما أروج الباطل في هذه الآونه وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونه !

وهؤلاء:سماعون للكذب . أكالون للسحت . . والسحت كل مال حرام . . والربا والرشوه وثمن الكلمه والفتوى ! في مقدمة ما كانوا يأكلون , وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان! وسمي الحرام سحتاً لأنه يقطع البركه ويمحقها . وما اشد أنقطاع البركه وزوالها من المجتمعات المنحرفه . كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله .

ويجعل الله الأمر للرسول بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه - فإن شاء أعرض عنهم - ولن يضروه شيئاً - وإن شاء حكم بينهم . فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط , غير متأثر بأهوائهم , وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم . .

(إن الله يحب المقسطين). .

والرسول [ ص ] والحاكم المسلم , والقاضي المسلم , إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن ; وإنما يقوم بالقسط لله . لأن الله يحب المقسطين . فإذا ظلم الناس وإذا خانوا , وإذا انحرفوا , فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم . لإنه ليس عدلاً لهم ; وإنما هو لله . . وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام , في كل مكان وفي كل زمان .

وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر . إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتمياً . فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله . وأهلها جميعاً ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعه . مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام ; وهوألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام ; وعلى ما يختص بالنظام العام . فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم , كامتلاك الخنزير وأكله , وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم . ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم . وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقه لأنها وارده في كتابهم وهكذا . كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء , لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعاً:مسلمين وغير مسلمين . فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام . . .

وفي تلك الفتره التي كان الحكم فيها على التخيير , كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله [ ص ] ; مثال ذلك ما رواه مالك , عن نافع , عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -:"إن اليهود جاءوا إلى رسول الله [ ص ] فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا . فقال لهم رسول الله [ ص ] ما تجدون في التوراه في شأن الرجم ? فقالوا:نفضحهم ويجلدون . قال عبدالله بن سلام:كذبتم . إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها . فوضع أحدهم يده على آيه الرجم , فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال عبدالله بن سلام:ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم! . فقالوا:صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله [ ص ] فرجما . فرأيت الرجل يحني على المرأه يقيها الحجاره" . .

[ أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري ]

ومثال ذلك ما رواه الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس قال:

"أنزلها الله في الطائفتين من اليهود , وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهليه , حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا , وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي [ ص ] فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا , فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة:وهل كان في حيين دينهما واحد , ونسبهما واحد , وبلدهما واحد , دية بعضهم نصف دية بعض ? إنما أعطيناكم هذا ضميا منكم لنا , وفرقا منكم . فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ! فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله [ ص ] حكما بينهم . ثم ذكرت العزيزة , فقالت:والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم , ولقد صدقوا , ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم! فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه . . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه , وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ! فدسوا إلى رسول الله [ ص ] ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله [ ص ] فلما جاءوا رسول الله [ ص ] أخبر الله رسوله [ ص ] بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر), إلى قولهSadالفاسقون). . ففيهم والله أنزل , وإياهم عنى الله عز وجل . . [ أخرجه أبو داود من حديث أبى الزناد عن أبيه ] . . وفي رواية لابن جرير عين فيها "العزيزة " وهي بنو النضير "والذليلة " وهي بنو قريظة . . مما يدل - كما قلنا - على أن هذه الآيات نزلت مبكرة قبل إجلائهم والتنكيل بهم . .

وقد عقب السياق بسؤال استنكاري على موقف يهود - سواء كان في هذه القضية أو تلك فهو موقف عام منهم وتصرف مطرد - فقال:

وكيف يحكمونك - وعندهم التوراة فيها حكم الله - ثم يتولون من بعد ذلك ? . .

فهي كبيرة مستنكرة أن يحكموا رسول الله [ ص ] فيحكم بشريعة الله وحكم الله , وعندهم - إلى جانب هذا - التوراة فيها شريعة الله وحكمه ; فيتطابق حكم رسول الله [ ص ]
كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى