منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي رياض الصالحين
اهلا وسهلا بكل السادة الزوار ونرحب بكم بمنتديات رياض الصالحين ويشرفنا ويسعدنا انضمامكم لاسرة المنتدي
منتدي رياض الصالحين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير سورة الملك ايه 15 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب

اذهب الى الأسفل

تفسير سورة الملك ايه 15 الى  اخر السورة الشيخ سيد قطب Empty تفسير سورة الملك ايه 15 الى اخر السورة الشيخ سيد قطب

مُساهمة  كمال العطار الخميس يونيو 14, 2012 9:58 pm

من الاية 15 الى الاية 18

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)

والقرآن يعني بتقرير هذه الحقيقة في الضمير . لأن استقرارها فيه ينشئ له إدراكا صحيحا للأمور . فوق ما يودعه هناك من يقظة وحساسية وتقوى , تناط بها الأمانة التي يحملها المؤمن في هذه الأرض . أمانة العقيدة وأمانة العدالة , وأمانة التجرد لله في العمل والنية . وهو لا يتحقق إلا حين يستيقن القلب أنه هو وما يكمن فيه من سر ونية هو من خلق الله الذي يعلمه الله . وهو اللطيف الخبير . .
من الاية 19 الى الاية 20

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)

وحين يقبض , وهو معلق في الفضاء !

(إنه بكل شيء بصير). .

يبصره ويراه . ويبصر أمره ويخبره . ومن ثم يهيئ وينسق , ويعطي القدرة , ويرعى كل شيء في كل لحظة رعاية الخبير البصير .

وإمساك الطير في الجو كإمساك الدواب على الأرض الطائرة بما عليها في الفضاء . كإمساك سائر الأجرام التي لا يمسكها في مكانها إلا الله . ولكن القرآن يأخذ بأبصار القوم وقلوبهم إلى كل مشهد يملكون رؤيته وإدراكه ; ويلمس قلوبهم بإيحاءاته وإيقاعاته . وإلا فصنعة الله كلها إعجاز وكلها إبداع , وكلها إيحاء وكلها إيقاع . وكل قلب وكل جيل يدرك منها ما يطيقه , ويلحظ منها ما يراه . حسب توفيق الله .

الدرس العاشر:20 - 21 الله المالك الناصر الرازق

ثم يلمس قلوبهم لمسة أخرى تعود بهم إلى مشهد البأس والفزع من الخسف والحاصب , بعد أن جال بهم هذه الجولة مع الطير السابح الآمن . فيردد قلوبهم بين شتى اللمسات عودا وبدءا كما يعلم الله من أثر هذا الترداد في قلوب العباد:

(أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ? إن الكافرون إلا في غرور). .

وقد خوفهم الخسف وخوفهم الحاصب , وذكرهم مصائر الغابرين الذين أنكر الله عليهم فأصابهم التدمير . فهو يعود ليسألهم:من هو هذا الذي ينصرهم ويحميهم من الله , غير الله ? من هو هذا الذي يدفع عنهم بأس الرحمن إلا الرحمن ? (إن الكافرون إلا في غرور). . غرور يهيئ لهم أنهم في أمن وفي حماية وفي اطمئنان , وهم يتعرضون لغضب الرحمن وبأس الرحمن , بلا شفاعة لهم من إيمان ولا عمل يستنزل رحمة الرحمن .

ولمسة أخرى في الرزق الذي يستمتعون به , وينسون مصدره , ثم لا يخشون ذهابه , ثم يلجون في التبجح والإعراض:

(أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ? بل لجوا في عتو ونفور). .

ورزق البشر كله - كما سلف - معقود بإرادة الله في أول أسبابه , في تصميم هذا الكون وفي عناصر الأرض والجو وهي أسباب لا قدرة للبشر عليها إطلاقا , ولا تتعلق بعملهم بتاتا . فهي أسبق منهم في الوجود , وهي أكبر منهم في الطاقة , وهي أقدر منهم على محو كل أثر للحياة حين يشاء الله .

فمن يرزق البشر إن أمسك الماء , أو أمسك الهواء , أو أمسك العناصر الأولى التي منها ينشأ وجود الأشياء ? إن مدلول الرزق أوسع مدى وأقدم عهدا وأعمق جذورا مما يتبادر إلى الذهن عندما يسمع هذه الكلمة . ومرد كل صغيرة وكبيرة فيه إلى قدرة الله وقدره , وإرساله للأسباب وإمساكها حين يشاء .

وفي هذا المدلول الكبير الواسع العميق تنطوي سائر المدلولات القريبة لكلمة الرزق , مما يتوهم الإنسان أنها من كسبه وفي طوقه , كالعمل , والإبداع , والإنتاج . . وكلها مرتبطة بقيام الأسباب والعناصر الأولى من جهة ومتوقفة على هبة الله للأفراد والأمم من جهة أخرى . فأي نفس يتنفسه العامل , وأي حركة يتحركها , إلا من رزق الله , الذي أنشأه , ومنحه المقدرة والطاقة , وخلق له النفس الذي يتنفسه , والمادة التي تحترق في جسده فتمنحه القدرة على الحركة ? وأي جهد عقلي يبذله مخترع إلا وهو من رزق الله الذي منحه القدرة على التفكير والإبداع ? وأي إنتاج ينتجه عامل أو مبدع إلا في مادة هي من صنع الله ابتداء , وإلا بأسباب كونية

من الاية 21 الى الاية 22

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22)

وإنسانية هي من رزق الله أصلا ? . . (أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ?!). .

(بل لجوا في عتو ونفور).

والتعبير يرسم خدا مصعرا , وهيئة متبجحة , بعد تقريره لحقيقة الرزق , وأنهم عيال على الله فيه , وأقبح العتو والنفور , والتبجح والتصعير , ما يقع من العيال في مواجهة المطعم الكاسي , الرازق العائل وهم خلو من كل شيء إلا ما يتفضل به عليهم . وهم بعد ذلك عاتون معرضون وقحاء !

وهو تصوير لحقيقة النفوس التي تعرض عن الدعوة إلى الله في طغيان عات , وفي إعراض نافر , وتنسى أنها من صنع الله , وأنها تعيش على فضله , وأنها لا تملك من أمر وجودها وحياتها ورزقها شيئا على الإطلاق !

الدرس الحادي عشر:22 ضلال الكافر مقابل استقامة المؤمن

ولقد كانوا - مع هذا - يتهمون النبي [ ص ] ومن معه بالضلال ; ويزعمون لأنفسهم أنهم أهدى سبيلا ! كما يصنع أمثالهم مع الدعاة إلى الله في كل زمان . ومن ثم يصور لهم واقع حالهم وحال المؤمنين في مشهد حي يجسم حقيقة الحال:

(أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ? أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ?). . والذي يمشي مكبا على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلا لا على رجليه في استقامة كما خلقه الله , وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكب على وجهه , ثم ينهض ليعثر من جديد ! وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر , ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول ! وأين هي من حال الذي يمشي مستقيما سويا في طريق لا عوج فيه ولا عثرات , وهدفه أمامه واضح مرسوم ?!

إن الحال الأولى هي حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله , المحروم من هداه , الذي يصطدم بنواميسه ومخلوقاته , لأنه يعترضها في سيره , ويتخذ له مسارا غير مسارها , وطريقا غير طريقها , فهو أبدا في تعثر , وأبدا في عناء , وأبدا في ضلال .

والحال الثانية هي حال السعيد المجدود المهتدي إلى الله , الممتع بهداه , الذي يسير وفق نواميسه في الطريق اللاحب المعمور , الذي يسلكه موكب الإيمان والحمد والتمجيد . وهو موكب هذا الوجود كله بما فيه من أحياء وأشياء .

إن حياة الإيمان هي اليسر والاستقامة والقصد . وحياة الكفر هي العسر والتعثر والضلال . .

فأيهما أهدى ? وهل الأمر في حاجة إلى جواب ? إنما هو سؤال التقرير والإيجاب !

ويتوارى السؤال والجواب ليتراءى للقلب هذا المشهد الحي الشاخص المتحرك . . مشهد جماعة يمشون على وجوههم , أو يتعثرون وينكبون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق . ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات , مستقيمة الخطوات , في طريق مستقيم , لهدف مرسوم .

إنه تجسيم الحقائق , وإطلاق الحياة في الصور , على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير . .

من الاية 23 الى الاية 23

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (23)

الدرس الثاني عشر:23 نعمة الله على الإنسان في السمع والبصر والفؤاد وعلى ذكر الهدى والضلال , يذكرهم بما وهبهم الله من وسائل الهدى , وأدوات الإدراك ثم لم ينتفعوا بها , ولم يكونوا من الشاكرين:

(قل:هو الذي أنشأكم , وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة , قليلا ما تشكرون). .

وحقيقة أن الله هو الذي أنشأ الإنسان , حقيقة تلح على العقل البشري , وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده . فالإنسان قد وجد - وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق - وهو لم يوجد نفسه , فلا بد أن يكون هناك من هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده . . ولا مفر من الاعتراف بخالق . فوجود الإنسان ذاته يواجهه بهذه الحقيقة . والمماراة فيها نوع من المماحكة لا يستحق الاحترام .

والقرآن يذكر هذه الحقيقة هنا ليذكر بجانبها ما زود الله به الإنسان من وسائل المعرفة . .

(وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة). .

وما قابل الإنسان به هذه النعمة:نعمة الإنشاء ونعمة السمع والأبصار والأفئدة:

(قليلا ما تشكرون). .

والسمع والأبصار معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة . والأفئدة التي يعبر بها القرآن عن قوة الإدراك والمعرفة , معجزة أعجب وأغرب . ولم يعرف بعد عنها إلا القليل . وهي سر الله في هذا المخلوق الفريد . .

وللعلم الحديث محاولات في معرفة شيء عن معجزتي السمع والبصر نذكر منها لمحة:

"تبدأ حاسة السمع بالأذن الخارجية , ولا يعلم الا الله أين تنتهي . ويقول العلم:إن الاهتزاز الذي يحدثه الصوت في الهواء ينقل إلى الأذن , التي تنظم دخوله , ليقع على طبلة الأذن . وهذه تنقلها إلى التيه داخل الأذن .

"والتيه يشتمل على نوع من الأقنية بين لولبية ونصف مستديرة . وفي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس .

"فما طول القوس منها وحجمها ? وكيف ركبت هذه الأقواس التي تبلغ عدة آلاف كل منها تركيبا خاصا ? وما الحيز الذي وضعت فيه ? ناهيك عن العظام الأخرى الدقيقة المتماوجة . هذا كله في التيه الذي لا يكاد يرى ! وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية . وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة . دقة وعظمة تحير الألباب" .

"ومركز حاسة الإبصار العين , التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء , وهي أطراف أعصاب الإبصار . وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية . . وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية .

"وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة , والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات . ويقال:إن عدد الأولى ثلاثون مليون عود , وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط . وقد نظمت كلها في تناسب محكم بالنسبة لبعضها البعض وبالنسبة للعدسات . . وعدسة عينيك تختلف في الكثافة , ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة , ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة من جنس واحد كالزجاج مثلا " . .

فأما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا . وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف


عندئذ يتقي المؤمن النية المكنونة , والهاجس الدفين , كما يتقي الحركة المنظورة , والصوت الجهير . وهو يتعامل مع الله الذي يعلم السر والجهر , الله الذي خلق الصدور فهو يعلم ما في الصدور .

الدرس السابع:15 الأرض ذلول مسخرة للإنسان

ثم ينتقل بهم السياق من ذوات أنفسهم التي خلقها الله , إلى الأرض التي خلقها لهم , وذللها وأودعها أسباب الحياة:

(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا , فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه , وإليه النشور). .

والناس لطول ألفتهم لحياتهم على هذه الأرض ; وسهولة استقرارهم عليها , وسيرهم فيها , واستغلالهم لتربتها ومائها وهوائها وكنوزها وقواها وأرزاقها جميعا . . ينسون نعمة الله في تذليلها لهم وتسخيرها . والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة , ويبصرهم بها , في هذا التعبير الذي يدرك منه كل أحد وكل جيل بقدر ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول .

والأرض الذلول كانت تعني في أذهان المخاطبين القدامى , هذه الأرض المذللة للسير فيها بالقدم وعلى الدابة , وبالفلك التي تمخر البحار . والمذللة للزرع والجني والحصاد . والمذللة للحياة فيها بما تحويه من هواء وماء وتربة تصلح للزرع والإنبات .

وهي مدلولات مجملة يفصلها العلم - فيما اهتدى إليه حتى اليوم - تفصيلا يمد في مساحة النص القرآني في الإدراك .

فمما يقوله العلم في مدلول الأرض الذلول:إن هذا الوصفSadذلولا). . الذي يطلق عادة على الدابة , مقصود في إطلاقه على الأرض ! فالأرض هذه التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة , هي دابة متحركة . . بل رامحة راكضة مهطعة !! وهي في الوقت ذاته ذلول لا تلقي براكبها على ظهرها , ولا تتعثر خطاها , ولا تخضه وتهزه وترهقه كالدابة غير الذلول ! ثم هي دابة حلوب مثلما هي ذلول !

إن هذه الدابة التي نركبها تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة , ثم تدور مع هذا حول الشمس بسرعة حوالي خمسة وستين ألف ميل في الساعة . ثم تركض هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها بمعدل عشرين ألف ميل في الساعة , مبتعدة نحو برج الجبار في السماء . . ومع هذا الركض كله يبقى الإنسان على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنا معافى لا تتمزق أوصاله , ولا تتناثر أشلاؤه , بل لا يرتج مخه ولا يدوخ , ولا يقع مرة عن ظهر هذه الدابة الذلول !

وهذه الحركات الثلاث لها حكمة . وقد عرفنا أثر اثنتين منها في حياة هذا الإنسان , بل في الحياة كلها على ظهر هذه الأرض . فدورة الأرض حول نفسها هي التي ينشأ عنها الليل والنهار . ولو كان الليل سرمدا لجمدت الحياة كلها من البرد , ولو كان النهار سرمدا لاحترقت الحياة كلها من الحر . . ودورتها حول الشمس هي التي تنشأ عنها الفصول . ولو دام فصل واحد على الأرض ما قامت الحياة في شكلها هذا كما أرادها الله . أما الحركة الثالثة -فلم يكشف ستار الغيب عن حكمتها بعد . ولا بد أن لها ارتباطا بالتناسق الكوني الكبير .

وهذه الدابة الذلول التي تتحرك كل هذه الحركات الهائلة في وقت واحد , ثابتة على وضع واحد في أثناء الحركة - يحدده ميل محورها بمقدار 23 . 5 درجة لأن هذا الميل هو الذي تنشأ عنه الفصول الأربعة مع حركة الأرض حول الشمس , والذي لو اختل في أثناء الحركة لاختلت الفصول التي تترتب عليها دورة النبات بل دورة الحياة كلها في هذه الحياة الدنيا !

والله جعل الأرض ذلولا للبشر بأن جعل لها جاذبية تشدهم إليها في أثناء حركاتها الكبرى , كما جعل لها ضغطا جويا يسمح بسهولة الحركة فوقها . ولو كان الضغط الجوي أثقل من هذا لتعذر أو تعسر على الإنسان أن يسير ويتنقل - حسب درجة ثقل الضغط - فإما أن يسحقه أو يعوقه . ولو كان أخف لاضطربت خطى الإنسان أو لانفجرت تجاويفه لزيادة ضغطه الذاتي على ضغط الهواء حوله , كما يقع لمن يرتفعون في طبقات الجو العليا بدون تكييف لضغط الهواء !

والله جعل الأرض ذلولا ببسط سطحها وتكوين هذه التربة اللينة فوق السطح . ولو كانت صخورا صلدة - كما يفترض العلم بعد برودها وتجمدها - لتعذر السير فيها , ولتعذر الإنبات . ولكن العوامل الجوية من هواء وأمطار وغيرها هي التي فتتت هذه الصخور الصلدة , وأنشأ الله بها هذه التربة الخصبة الصالحة للحياة . وأنشأ ما فيها من النبات والأرزاق التي يحلبها راكبو هذه الدابة الذلول !

والله جعل الأرض ذلولا بأن جعل الهواء المحيط بها محتويا للعناصر التي تحتاج الحياة إليها , بالنسب الدقيقة التي لواختلت ما قامت الحياة , وما عاشت إن قدر لها أن تقوم من الأساس . فنسبة الأكسجين فيه هي 21 % تقريبا ونسبة الأزوت أو النتروجين هي 78 % تقريبا والبقية من ثاني أكسيد الكربون بنسبة ثلاثة أجزاء من عشرة آلاف وعناصر أخرى . وهذه النسب هي اللازمة بالضبط لقيام الحياة على الأرض !

والله جعل الأرض ذلولا بآلاف من هذه الموافقات الضرورية لقيام الحياة . . ومنها حجم الأرض وحجم الشمس والقمر , وبعد الأرض عن الشمس والقمر . ودرجة حرارة الشمس . وسمك قشرة الأرض . ودرجة سرعتها . وميل محورها . ونسبة توزيع الماء واليابس فيها . وكثافة الهواء المحيط بها . . إلى آخره . . إلى آخره . وهذه الموافقات مجتمعة هي التي جعلت الأرض ذلولا . وهي التي جعلت فيها رزقا , وهي التي سمحت بوجود الحياة , وبحياة هذا الإنسان على وجه خاص .

والنص القرآني يشير إلى هذه الحقائق ليعيها كل فرد وكل جيل بالقدر الذي يطيق , وبالقدر الذي يبلغ إليه علمه وملاحظته , ليشعر بيد الله - الذي بيده الملك - وهي تتولاه وتتولى كل شيء حوله , وتذلل له الأرض , وتحفظه وتحفظها . ولو تراخت لحظة واحدة عن الحفظ لاختل هذا الكون كله وتحطم بمن عليه وما عليه ! فإذا استيقظ ضميره لهذه الحقيقة الهائلة أذن له الخالق الرحمن الرحيم بالمشي في مناكبها والأكل من رزقه فيها: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).

والمناكب المرتفعات , أو الجوانب . وإذا أذن له بالمشي في مناكبها فقد أذن له بالمشي في سهولها وبطاحها من باب أولى . فمتى أذن له في الشموس منها فقد أذن له في الذلول !

والرزق الذي فيها كله من خلقه , وكله من ملكه , وهو أوسع مدلولا مما يتبادر إلى أذهان الناس من كلمة الرزق . فليس هو المال الذي يجده أحدهم في يده , ليحصل به على حاجياته ومتاعه . إنما هو كل ما أودعه الله هذه الأرض , من أسباب الرزق ومكوناته . وهي في الأصل ترجع إلى طبيعة تكوين الأرض من عناصرها التيتكونت منها , وطبيعة تقسيم هذه العناصر بهذه النسب التي وجدت بها . ثم القدرة التي أودعها الله النبات والحيوان - ومنه الإنسان - على الانتفاع بهذه العناصر .

وفي اختصار نشير إلى أطراف من حقيقة الرزق بهذا المعنى:

"تعتمد حياة كل نبات كما هو معروف على المقادير التي تكاد تكون متناهية في الصغر من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء , والتي يمكن القول بأنها تتنسمها . ولكي نوضح هذا التفاعل الكيماوي المركب المختص بالتركيب الضوئي بأبسط طريقة ممكنة نقول:"إن أوراق الشجر هي رئات , وإن لها القدرة في ضوء الشمس على تجزئة ثاني أكسيد الكربون العنيد إلى كربون وأكسجين . وبتعبير آخر يلفظ الأكسجين ويحتفظ بالكربون متحدا مع هيدروجين الماء الذي يستمده النبات من جذوره "حيث يفصل الماء إلى هيدروجين وأكسجين" . وبكيمياء سحرية تصنع الطبيعة من هذه العناصر سكرا أو سليلوزا ومواد كيمائية أخرى عديدة , وفواكه وأزهارا . ويغذي النبات نفسه , وينتج فائضا يكفي لتغذية كل حيوان على وجه الأرض . وفي الوقت نفسه يلفظ النبات الأكسجين الذي نتنسمه والذي بدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق .

"وهكذا نجد أن جميع النباتات والغابات والأعشاب وكل قطعة من الطحلب , وكل ما يتعلق بمياه الزرع , تبني تكوينها من الكربون والماء على الأخص . والحيوانات تلفظ ثاني أكسيد الكربون , بينما تلفظ النباتات الأكسجين . ولو كانت هذه المقايضة غير قائمة , فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأكسجين , أو كل ثاني أكسيد الكربون تقريبا . ومتى انقلب التوازن تماما ذوى النبات أو مات الإنسان , فيلحق به الآخر وشيكا . وقد اكتشف أخيرا أن وجود ثاني أكسيد الكربون بمقادير صغيرة هو أيضا ضروري لمعظم حياة الحيوان , كما اكتشف أن النباتات تستخدم بعض الأكسجين .

"ويجب أن يضاف الهيدروجين أيضا , وإن كنا لا نتنسمه . فبدون الهيدروجين كان الماء لا يوجد . ونسبة الماء من المادة الحيوانية أو النباتية هي كبيرة لدرجة تدعو إلى الدهشة ولا غنى عنه مطلقا" .

وهناك دور الأزوت أو النتروجين في رزق الأرض .

"وبدون النتروجين في شكل ما لا يمكن أن ينمو أي نبات من النباتات الغذائية . وإحدى الوسيلتين اللتين يدخل بها النتروجين في التربة الزراعية هي طريق نشاط جراثيم" بكتريا" معينة تسكن في جذور النباتات البقلية , مثل البرسيم والحمص والبسلة والفول وكثير غيرها . وهذه الجراثيم تأخذ نتروجين الهواء وتحيله إلى نتروجين مركب قابل لأن يمتصه النبات وحين يموت النبات يبقى بعض هذا النتروجين المركب في الأرض .

"وهناك طريقة أخرى يدخل بها النتروجين إلى الأرض . وذلك عن طريق عواصف الرعد . وكلما ومض برق خلال الهواء , وحد بين قدر قليل من الأكسجين وبين النتروجين , فيسقطه المطر إلى الأرض كنتروجين مركب "أي في الصورة التي يستطيع النبات امتصاصها لأنه لا يقدر على امتصاص النتروجين الخالص من الهواء ونسبته فيه حوالي 78 % كما أسلفنا" .

والأرزاق المخبوءة في جوف الأرض من معادن جامدة وسائلة كلها ترجع إلى طبيعة تكوين الأرض والأحوال التي لابستها . ولا نطيل شرحها . فالرزق في ضوء هذه البيانات السريعة أوسع مدلولا مما يفهمه الناس من هذااللفظ . وأعمق أسبابا في تكوين الأرض ذاتها وفي تصميم الكون كله . وحين يأذن الله للناس في الأكل منه , فهو يتفضل بتسخيره لهم وتيسير تناوله ; كما يمنح البشر القدرة على تناولها والإنتفاع بها: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه). .

وهو محدود بزمن مقدر في علم الله وتدبيره زمن الإبتلاء بالموت والحياة , وبكل ما يسخره الله للناس في هذه الحياة . فإذا انقضت فترة الإبتلاء كان الموت وكان ما بعده:

(وإليه النشور). .

إليه . . وإلا فإلى أين إن لم يكن إليه ? والملك بيده ? ولا ملجأ منه إلا إليه ? وهو على كل شيء قدير ?

الدرس الثامن:16 - 18 عدم أمن الكفار والعذاب لهم()

والآن - وبينما هم في هذا الأمان على ظهر الأرض الذلول , وفي هذا اليسر الفائض بإذن الله وأمره . . الآن يهز هذه الأرض الساكنة من تحت أقدامهم هزا ويرجها رجا فإذا هي تمور . ويثير الجو من حولهم فإذا هو حاصب يضرب الوجوه والصدور . . يهز هذه الأرض في حسهم ويثير هذا الحاصب في تصورهم , لينتبهوا من غفلة الأمان والقرار , ويمدوا بأبصارهم إلى السماء وإلى الغيب , ويعلقوا قلوبهم بقدر الله:

(أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ? أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ? فستعلمون كيف نذير ! ولقد كذب الذين من قبلهم . فكيف كان نكير ?). .

والبشر الذين يعيشون على ظهر هذه الدابة الذلول , ويحلبونها فينالون من رزق الله فيها نصيبهم المعلوم ! يعرفون كيف تتحول إلى دابة غير ذلول ولا حلوب , في بعض الأحيان , عندما يأذن الله بأن تضطرب قليلا فيرتج كل شيء فوق ظهرها أو يتحطم ! ويمور كل ما عليها ويضطرب فلا تمسكه قوة ولا حيلة . ذلك عند الزلازل والبراكين , التي تكشف عن الوحش الجامح , الكامن في الدابة الذلول , التي يمسك الله بزمامها فلا تثور إلا بقدر , ولا تجمح إلا ثواني معدودات يتحطم فيها كل ما شيد الإنسان على ظهرها ; أو يغوص في جوفها عندما تفتح أحد أفواهها وتخسف كسفه منها . . وهي تمور . . البشر ولا يملكون من هذا الأمر شيئا ولا يستطيعون .

وهم يبدون في هول الزلزال والبركان والخسف كالفئران الصغيرة محصورة في قفص الرعب , من حيث كانت آمنة لاهية غافلة عن القدرة الكبرى الممسكة بالزمام !

والبشر كذلك يشهدون العواصف الجامحة الحاصبة التي تدمر وتخرب , وتحرق وتصعق . وهم بإزائها ضعاف عاجزون , بكل ما يعلمون وما يعملون . والعاصفة حين تزأر وتضرب بالحصى الحاصب , وتأخذ في طريقها كل شيء في البر أو البحر أو الجو يقف الإنسان أمامها صغيرا هزيلا حسيرا حتى يأخذ الله بزمامها فتسلس وتلين !

والقرآن يذكر البشر الذين يخدعهم سكون الدابة وسلامة مقادتها , ويغريهم الأمان بنسيان خالقها ومروضها . يذكرهم بهذه الجمحات التي لا يملكون من أمرها شيئا . والأرض الثابتة تحت أقدامهم ترتج وتمور , وتقذف بالحمم وتفور . والريح الرخاء من حولهم تتحول إلى إعصار حاصب لا تقف له قوة في الأرض من صنع البشر , ولا تصده عن التدمير . . يحذرهم وينذرهم في تهديد يرج الأعصاب ويخلخل المفاصل .

(فستعلمون كيف نذير)!!!

ويضرب لهم الأمثلة من واقع البشرية , ومن وقائع الغابرين المكذبينSadولقد كذب الذين من قبلهم , فكيف كان نكير ?). .

والنكير الإنكار وما يتبعه من الآثار , ولقد أنكر الله ممن كذبوا قبلهم أن يكذبوا . وهو يسألهم: (فكيف كان نكير ?)وهم يعلمون كيف كان , فقد كانت آثار الدمار والخراب تصف لهم كيف كان هذا النكير ! وكيف كان ما أعقبه من تدمير !

والأمان الذي ينكره الله على الناس , هو الأمان الذي يوحي بالغفلة عن الله وقدرته وقدره , وليس هو الاطمئنان إلى الله ورعايته ورحمته . فهذا غير ذاك . فالمؤمن يطمئن إلى ربه , ويرجو رحمته وفضله . ولكن هذا لا يقوده إلى الغفلة والنسيان والانغمار في غمرة الأرض ومتاعها , إنما يدعوه إلى التطلع الدائم , والحياء من الله , والحذر من غضبه , والتوقي من المخبوء في قدره , مع الإخبات والاطمئنان .

قال الإمام أحمد - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت:"ما رأيت رسول الله [ ص ] مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته . إنما كان يبتسم . وقالت:كان رسول الله [ ص ] إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه . قالت:يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر , وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية . فقال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -:" يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ? قد عذب قوم بالريح . وقد رأى قوم العذاب وقالوا , هذا عارض ممطرنا "

فهذا هو الإحساس اليقظ الدائم بالله وقدره , وبما قصه القرآن من هذا في سيره . وهو لا ينافي الاطمئنان إلى رحمة الله وتوقع فضله .

ثم هو إرجاع جميع الأسباب الظاهرة إلى السبب الأول . ورد الأمر بحاله وكليته إلى من بيده الملك وهو على كل شيء قدير . فالخسف والحاصب , والبراكين والزلازل , والعواصف , وسائر القوى الكونية والظواهر الطبيعية ليس في أيدي البشر من أمرها شيء . إنما أمرها إلى الله . وكل ما يذكره البشر عنها فروض يحاولون بها تفسير حدوثها , ولكنهم لا يتدخلون في أحداثها , ولا يحمون أنفسهم منها . وكل ما ينشئونه على ظهر الأرض تذهب به رجفة من رجفاتها , أو إعصار من أعاصيرها , كما لو كان لعبا من الورق ! فأولى لهم أن يتوجهوا في أمرها إلى خالق هذا الكون , ومنشئ نواميسه التي تحكم هذه الظواهر , ومودعه القوى التي يتجلى جانب منها في هذه الأحداث . وأن يتطلعوا إلى السماء - حيث هي رمز للعلو - فيتذكروا الله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير .

إن الإنسان قوي بالقدر الذي وهبه الله من القوة . عالم بالقدر الذي أعطاه الله من العلم . ولكن هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه , ونواميسه من صنعه , وقواه من إمداده . وهذه القوى تسير وفق نواميسه في حدود قدره . وما يصيب الإنسان منها مقدور مرسوم , وما يعلمه الإنسان منها مقدور معلوم . والوقائع التي تحدث تقف هذا الإنسان بين الحين والحين أمام قوى الكون الهائلة مكتوف اليدين حسيرا , ليس له إلا أن يتذكر خالق هذه القوى ومروضها ; وإلا أن يتطلع إلى عونه ليواجهها , ويسخر ما هو مقدور له أن يسخره منها .

وحين ينسى هذه الحقيقة , ويغتر وينخدع بما يقسم الله له من العلم ومن القدرة على تسخير بعض قوى الكون , فإنه يصبح مخلوقا مسيخا مقطوعا عن العلم الحقيقي الذي يرفع الروح إلى مصدرها الرفيع ; ويخلد إلى الأرض في عزلة عن روح الوجود ! بينما العالم المؤمن يركع في مهرجان الوجود الجميل , ويتصل ببارئ الوجودالجليل . وهو متاع لا يعرفه إلا من ذاق حلاوته حين يكتبها الله له !

على أن قوى الكون الهائلة تلجئ الإنسان إلجاء إلى موقف العجز والتسليم سواء رزق هذه الحلاوة أم حرمها . فهو يكشف ما يكشف , ويبدع ما يبدع , ويبلغ من القوة ما يبلغ . ثم يواجه قوى الكون في انكسار الحسير الصغير الهزيل . وقد يستطيع أن يتقي العاصفة أحيانا ولكن العاصفة تمضي في طريقها لا يملك وقفها . ولا يملك أن يقف في طريقها , وقصارى ما يبلغ إليه جهده وعلمه أن يحتمي من العاصفة وينزوي عنها ! . . أحيانا . . وأحيانا تقتله وتسحقه من وراء جدرانه وبنيانه . وفي البحر تتناوحه الأمواج والأعاصير فإذا أكبر سفائنه كلعبة الصبي في مهب الرياح . أما الزلزال والبركان فهما هما من أول الزمان إلى آخر الزمان ! فليس إلا العمى هو الذي يهيئ لبعض المناكيد أن "الإنسان يقوم وحده" في هذا الوجود , أو أنه سيد هذا الوجود !

إن الإنسان مستخلف في هذه الأرض بإذن الله . موهوب من القوة والقدرة والعلم ما يشاء الله . والله كالئه وحاميه . والله رازقه و معطيه . ولو تخلت عنه يد الله لحظة لسحقته أقل القوى المسخرة له , ولأكله الذباب وما هو أصغر من الذباب ولكنه بإذن الله ورعايته مكلوء . ومحفوظ . وكريم . فليعرف من أين يستمد هذا التكريم , وذلك الفضل العظيم .

الدرس التاسع:19 آيات الله في تحليق الطير في الفضاء

بعدئذ ينتقل بهم من لمسة التهديد والنذير , إلى لمسة التأمل والتفكير . في مشهد يرونه كثيرا , ولا يتدبرونه إلا قليلا . وهو مظهر من مظاهر القدرة , وأثر من آثار التدبير الإلهي اللطيف .

(أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ? ما يمسكهن إلا الرحمن , إنه بكل شيء بصير). .

وهذه الخارقة التي تقع في كل لحظة , تنسينا بوقوعها المتكرر , ما تشي به من القدرة والعظمة . ولكن تأمل هذا الطير , وهو يصف جناحيه ويفردهما , ثم يقبضهما ويضمهما , وهو في الحالين:حالة الصف الغالبة , وحالة القبض العارضة يظل في الهواء , يسبح فيه سباحة في يسر وسهولة ; ويأتي بحركات يخيل إلى الناظر أحيانا أنها حركات استعراضية لجمال التحليق والانقضاض والارتفاع !

تأمل هذا المشهد , ومتابعة كل نوع من الطير في حركاته الخاصة بنوعه , لا يمله النظر , ولا يمله القلب . وهو متعة فوق ما هو مثار تفكير وتدبر في صنع الله البديع , الذي يتعانق فيه الكمال والجمال !

والقرآن يشير بالنظر إلى هذا المشهد المثير:

(أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ?). .

ثم يوحي بما وراءه من التدبير والتقدير:

(ما يمسكهن إلا الرحمن). .

والرحمن يمسكهن بنواميس الوجود المتناسقة ذلك التناسق العجيب , الملحوظ فيه كل صغيرة وكبيرة , المحسوب فيه حساب الخلية والذرة . . النواميس التي تكفل توافر آلاف الموافقات في الأرض والجو وخلقة الطير , لتتم هذه الخارقة وتتكرر , وتظل تتكرر بانتظام .

والرحمن يمسكهن بقدرته القادرة التي لا تكل , وعنايته الحاضرة التي لا تغيب . وهي التي تحفظ هذه النواميس أبدا في عمل وفي تناسق وفي انتظام . فلا تفتر ولا تختل ولا تضطرب غمضة عين إلى ما شاء الله: (ما يمسكهن إلا الرحمن). . بهذا التعبير المباشر الذي يشي بيد الرحمن تمسك بكل طائر وبكل جناح , والطائر صاف جناحيه


من الاية 23 الى الاية 23

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (23)

الدرس الثاني عشر:23 نعمة الله على الإنسان في السمع والبصر والفؤاد وعلى ذكر الهدى والضلال , يذكرهم بما وهبهم الله من وسائل الهدى , وأدوات الإدراك ثم لم ينتفعوا بها , ولم يكونوا من الشاكرين:

(قل:هو الذي أنشأكم , وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة , قليلا ما تشكرون). .

وحقيقة أن الله هو الذي أنشأ الإنسان , حقيقة تلح على العقل البشري , وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده . فالإنسان قد وجد - وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق - وهو لم يوجد نفسه , فلا بد أن يكون هناك من هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده . . ولا مفر من الاعتراف بخالق . فوجود الإنسان ذاته يواجهه بهذه الحقيقة . والمماراة فيها نوع من المماحكة لا يستحق الاحترام .

والقرآن يذكر هذه الحقيقة هنا ليذكر بجانبها ما زود الله به الإنسان من وسائل المعرفة . .

(وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة). .

وما قابل الإنسان به هذه النعمة:نعمة الإنشاء ونعمة السمع والأبصار والأفئدة:

(قليلا ما تشكرون). .

والسمع والأبصار معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة . والأفئدة التي يعبر بها القرآن عن قوة الإدراك والمعرفة , معجزة أعجب وأغرب . ولم يعرف بعد عنها إلا القليل . وهي سر الله في هذا المخلوق الفريد . .

وللعلم الحديث محاولات في معرفة شيء عن معجزتي السمع والبصر نذكر منها لمحة:

"تبدأ حاسة السمع بالأذن الخارجية , ولا يعلم الا الله أين تنتهي . ويقول العلم:إن الاهتزاز الذي يحدثه الصوت في الهواء ينقل إلى الأذن , التي تنظم دخوله , ليقع على طبلة الأذن . وهذه تنقلها إلى التيه داخل الأذن .

"والتيه يشتمل على نوع من الأقنية بين لولبية ونصف مستديرة . وفي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس .

"فما طول القوس منها وحجمها ? وكيف ركبت هذه الأقواس التي تبلغ عدة آلاف كل منها تركيبا خاصا ? وما الحيز الذي وضعت فيه ? ناهيك عن العظام الأخرى الدقيقة المتماوجة . هذا كله في التيه الذي لا يكاد يرى ! وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية . وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة . دقة وعظمة تحير الألباب" .

"ومركز حاسة الإبصار العين , التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء , وهي أطراف أعصاب الإبصار . وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية . . وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية .

"وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة , والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات . ويقال:إن عدد الأولى ثلاثون مليون عود , وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط . وقد نظمت كلها في تناسب محكم بالنسبة لبعضها البعض وبالنسبة للعدسات . . وعدسة عينيك تختلف في الكثافة , ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة , ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة من جنس واحد كالزجاج مثلا " . .

فأما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا . وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف

من الاية 24 الى الاية 26

قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26)

بها الإنسان في هذا الملك العريض . والتي حمل بها الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال . أمانة الإيمان الاختياري , والاهتداء الذاتي , والإستقامة الإرادية على منهج الله القويم ولا يعلم أحد ماهية هذه القوة , ولا مركزها , داخل الجسم أو خارجه ! فهي سر الله في الإنسان لم يعلمه أحد سواه .

وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى , فإنه لم يشكر: (قليلا ما تشكرون). . وهو أمر يثير الخجل والحياء عند التذكير به , كما يذكرهم القرآن في هذا المجال ويذكر كل جاحد وكافر , لا يشكر نعمة الله عليه ; وهو لا يوفيها حقها لو عاش للشكر دون سواه !

الدرس الثالث عشر:24 - 27 حقيقة البعث وقدومه المفاجيء وحسرة الكفار

ثم يذكرهم أن الله لم ينشئ البشر ويمنحهم هذه الخصائص عبثا ولا جزافا لغير قصد ولا غاية . إنما هي فرصة الحياة للابتلاء . ثم الجزاء في يوم الجزاء:

(قل:هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون). .

والذرء:الإكثار . ويحمل كذلك معنى الانتشار . والحشر:الجمع بعد النشر في الأرجاء . وهما حركتان متقابلتان من الناحية التصورية , تقابلهما من الناحية المعنوية . ذلك مشهد للإكثار من الخلق ونشرهم أو نثرهم في الأرض . وهذا مشهد لجمعهم منها وحشرهم بعد النشر والنثر ! ويجمعهما السياق في آية واحدة , ليتقابل المشهدان في الحس والتصور على طريقة القرآن . وليتذكر البشر وهم منتشرون في الأرض أن هناك غاية هم صائرون إليها , هي الجمع والحشر . وأن هناك أمرا وراء هذا , ووراء الابتلاء بالموت والحياة .

ثم يحكي شكهم في هذا الحشر , وارتيابهم في هذا الوعد:

(ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ?). .

وهو سؤال الشاك المستريب . كما أنه سؤال المماحك المتعنت . فإن معرفة موعد هذا الوعد وميقاته لا تقدم ولا تؤخر ; ولا علاقة لها بحقيقته , وهو أنه يوم الجزاء بعد الابتلاء . ويستوي بالقياس إليهم أن يجيء غدا أو أن يجيء بعد ملايين السنين . . فالمهم أنه آت , وأنهم محشورون فيه , وأنهم مجازون بما عملوا في الحياة .

ومن ثم لم يطلع الله أحدا من خلقه على موعده , لأنه لا مصلحة لهم في معرفته , ولا علاقة لهذا بطبيعة هذا اليوم وحقيقته , ولا أثر له في التكاليف التي يطالب الناس بها استعدادا لملاقاته , بل المصلحة والحكمة في إخفاء ميقاته عن الخلق كافة , واختصاص الله بعلم ذلك الموعد , دون الخلق جميعا:

(قل إنما العلم عند الله , وإنما أنا نذير مبين).

وهنا يبرز بجلاء فارق ما بين الخالق والمخاليق . وتتجرد ذات الله ووحدانيته بلا شبيه ولا شريك . ويتمحض العلم له سبحانه . ويقف الخلق - بما فيهم الرسل والملائكة - في مقامهم متأدبين عند مقام الألوهية العظيم:

(قل:إنما العلم عند الله . وإنما أنا نذير مبين). . وظيفتي الإنذار , ومهمتي البيان . أما العلم فعند صاحب العلم الواحد بلا شريك .

وبينما هم يسألون في شك ويجابون في جزم , يخيل السياق القرآني كأن هذا اليوم الذي يسألون عنه قد جاء ,

من الاية 27 الى الاية 28

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)

والموعد الذي يشكون فيه قد حان ; وكأنما هم واجهوه الآن . فكان فيه ما كان:

(فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا , وقيل:هذا الذي كنتم به تدعون)!

فقد رأوه قريبا مواجها لهم حاضرا أمامهم دون توقع ودون تمهيد . فسيئت وجوههم , وبدا فيها الاستياء . ووجه إليهم التأنيب: (وقيل:هذا الذي كنتم به تدعون). . هذا هو حاضرا قريبا . وهو الذي كنتم تدعون أنه لن يكون !

وهذه الطريقة في عرض ما سيكون تتكرر في القرآن , لمواجهة حالة التكذيب أو الشك بمفاجأة شعورية تصويرية تقف المكذب أو الشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه .

ثم هي في الوقت ذاته تصور حقيقة . فهذا اليوم كائن في علم الله ; أما خط الزمن بينه وبين البشر فهو قائم بالقياس إلى البشر . وهي مسألة نسبية لا تمثل الحقيقة المجردة كما هي في حساب الله . ولو أذن الله لرأوه اللحظة كما هو في علم الله . فهذا الانتقال المفاجئ لهم من الدنيا إلى الآخرة , ومن موقف الشك والارتياب إلى موقف المواجهة والمفاجأة , يشير إلى حقيقة قائمة لو أذن الله بها لانكشفت لهم . في الوقت الذي يصور لهم هذه الحقيقة تصويرا يهز مشاعرهم .

الدرس الرابع عشر:28 - 29 توكل المؤمن على الله ولا ناصر للكافرين

ولقد كانوا يتربصون بالنبي [ ص ] والحفنة المؤمنة التي معه أن يهلكوا فيستريحوا منهم ; وكانوا يتواصون بينهم بالصبر عليه حتى يوافيه الأجل , فتسكن هذه الزوبعة التي أثارتها الدعوة في صفوفهم . كما كانوا يتبجحون أحيانا فيزعمون أن الله سيهلك محمدا ومن معه لأنهم ضالون , ولأنهم يكذبون على الله فيما يقولون ! فهنا أمام مشهد الحشر والجزاء , ينبههم إلى أن أمنيتهم حتى لو تحققت لا تعصمهم هم من عاقبة الكفر والضلال . فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم قبل هذا الموعد الذي واجههم به كأنه واقع بهم:

(قل:أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا , فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ?). .

وهو سؤال يردهم إلى تدبر حالهم , والتفكير في شأنهم , وهو الأولى ! فما ينفعهم أن تتحقق أمانيهم فيهلك الله النبي ومن معه - كما لا ينقذهم بطبيعة الحال أن يرحم الله نبيه ومن معه . والله باق لا يموت . وهو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون . .

ولكنه لا يقول لهم:فمن يجيركم من عذاب أليم ? ولا ينص على أنهم كافرون . إنما يلوح لهم بالعذاب الذي ينتظر الكافرين: (فمن يجير الكافرين من عذاب أليم). . وهو أسلوب في الدعوة حكيم , يخوفهم من ناحية , ويدع لهم فرصة للتراجع عن موقفهم من ناحية . فلو جابههم بأنهم كافرون , وأنه لا مفر لهم من العذاب الأليم . . فربما جهلوا وحمقوا وأخذتهم العزة بالإثم أمام الاتهام المباشر والتهديد .

ففي بعض الحالات يكون أسلوب التلميح أفعل في النفس من أسلوب التصريح !

ثم يترقى من هذه التسوية بين الأمرين , إلى تقرير موقف المؤمنين من ربهم وثقتهم به وتوكلهم عليه , مع التلميح إلى اطمئنانهم لأيمانهم , وثقتهم بهداهم , وبأن الكافرين في ضلال مبين .

(قل:هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا . فستعلمون من هو في ضلال مبين). .

وذكر صفة(الرحمن)هنا يشير إلى رحمته العميقة الكبيرة برسوله والمؤمنين معه ; فهو لن يهلكهم كما يتمنى الكافرون أو كما يدعون .

من الاية 29 الى آخر السورة

قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (30)

ويوجه النبي [ ص ] إلى إبراز الصلة التي تربطهم بربهم الرحمن . صلة الإيمان (آمنا به). . وصلة التوكل (وعليه توكلنا). . عليه وحده . . والتعبير يشي بالقربى بينهم وبين الرحمن . والله - سبحانه - هو الذي يتفضل على رسوله وعلى المؤمنين فيأذن له بإعلان هذه القربى , ويوجهه إلى هذا الإعلان . وكأنما ليقول له:لا تخف مما يقوله الكفار . فأنت ومن معك موصولون بي منتسبون إلي . وأنت مأذون مني في أن تظهر هذه الكرامة , وهذا المقام ! فقل لهم . . . وهذا ود من الله وتكريم . .

ثم ذلك التهديد الملفوف: (فستعلمون من هو في ضلال مبين). . وهو أسلوب كذلك من شأنه أن يخلخل الإصرار على الجحود ; ويدعوهم إلى مراجعة موقفهم مخافة أن يكونوا هم الضالين ! فيتعرضوا للعذاب الذي سبق ذكره في الآية: (فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ?)وفي الوقت ذاته لا يجبههم بأنهم ضالون فعلا , حتى لا تأخذهم العزة بالإثم . وهو أسلوب في الدعوة يناسب بعض حالات النفوس . .

الدرس الخامس عشر:30 حتى الماء يعجزون عن إحضاره

وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة يلمح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة , وذلك بحرمانهم من سبب الحياة الأول وهو الماء:

(قل:أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ?). .

والماء الغور:الغائر الذاهب في الأرض لا يقدرون عليه . والمعين:النابع الفائض المتدفق . وهي لمسة قريبة في حياتهم , إن كانوا ما يزالون يستبعدون ذلك اليوم ويشكون فيه . . والملك بيد الله وهو على كل شيء قدير . فكيف لو توجهت إرادته إلى حرمانهم مصدر الحياة القريب !

ثم يدعهم يتدبرون ما يكون لو أذن الله بوقوع هذا المحذور !

وهكذا تنتهي هذه السورة , وينتهي هذا الحشد من الإيقاعات واللمسات , وهذه الرحلات والجولات . في آفاق وأغوار وأبعاد مترامية الأطراف . وكل آية على وجه التقريب كانت إيقاعا خاصا . أو كانت رحلة في عالم مجهول مغيب , أو منظور لا تلتفت إليه الأنظار والقلوب .

إنها سورة ضخمة . سورة أكبر من حجمها وحيزها وعدد آياتها . وكأنما هي سهام تشير إلى بعيد , ويكاد كل سهم يستقل بكشف عالم جديد !

وهي تبني من قواعد التصور الإسلامي جوانب رئيسية هامة ; فهي تقر في الضمير حقيقة القدرة المطلقة , وحقيقة الهيمنة المطلقة . وحقيقة الإبتلاء بالموت والحياة تمهيدا للحشر والجزاء . وحقيقة الكمال والجمال في صنعة الله . وحقيقة العلم المطلق بالسر والنجوى . وحقيقة مصدر الرزق . وحقيقة حفظ الله للخلائق , وحضوره سبحانه - مع كل مخلوق . . . وجملة من هذه الحقائق التي يقوم عليها تصور المسلم لربه . وتصوره للوجود وارتباطه بخالق الوجود . هذا التصور الذي ينبثق منه منهج حياة المؤمن كله . مع ربه . ومع نفسه . ومع الناس . ومع الأحياء . ومع الكون كله من أحياء وأشياء . والذي يتكيف به شعوره وضميره وشخصيته وقيمه وموازينه , واستقباله للحياة . . .

كمال العطار
كمال العطار
مدير المنتدي
مدير المنتدي

عدد المساهمات : 5682
تاريخ التسجيل : 11/05/2011

https://reydalsalhen.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى